ترجمة مذكّرات الشهيدة ماجدا حدّاد
بالّلغـة العربيّـة
عن المعركة الرهيبة على درج منزلهم
بتاريخ 9 أيلول 1944
يوم السبت , بين الساعة التاسعة والنصف والعاشرة ليلاً, طرق بابنا؛ فأسرعت لأفتح, فشاهدت رجلين عند الباب الخارجي, في أسفل الدرج, فسألتهما :
ما تريدان ؟
فأجاب أحدهما :
نريد أن نكلّم أنطوانيت " شقيقة داهش " لأمر ضروري .
فلم أفتح لهما وقلت :
أنطوانيت ليست هنا .
وبعد دقائق عادت الطرقات, فنظرت وأنطوانيت من النافذة وسألنا :
من الطارق ؟
فأجاب صوت معروف منّا :
أنا الدكتور داهش .
وسرعان ما تبيّنا الدكتور داهش, وكان واقفاً بين مفوّضين من مفوّضي الأمن .
قال :
أنزلي يا أنطوانيت, أريد أن أكلّمك .
فشعرت بالخطر يهدّد النبيّ, فخلعت حذائي وهرعت هابطةً الدرج حافية, تلحق بي أنطوانيت وأمّي . وبلغنا أسفل الدرج, فوثبت أنطوانيت على أخيها تعانقه, وأنا أمسكت بيده وعانقته .
وبدرت منه حركة يروم بها النجاة من المفوّضين , فأدركت مرماه؛ ولأتيح له فرصة الصعود على الدرج وثبت على المفوّض محمّد علي فيّاض, وأكرهته بجميع ما أملك من قوّة على الوقوف بالباب ؛ بينما بذلت أنطوانيت جهدها في إنقاذ أخيها من المفوّض الآخر . فهدّدني محمّد علي فيّاض بمسدّسه وصاح بي :
دعيني, وإلاّ أطلقت عليك النار .
قلت :
إفعل .
فأطلق الرصاص في الجوّ إرهاباً, وتسنّى له فتح الباب , فانسلّ منه عدّة أفراد من رجال الأمن , ودحرجوا النبيّ على الدرج بأيديهم وأرجلهم وقد شهروا مسدّساتهم, واستطعت أن أمسك بالنبيّ , فضممته الى صدري بكلّ ما أوتيت من عزم, وعلا صوتي فيهم :
لن تمسكوه وأنا في قيد الحياة !
وأصبحت أنا وهو كتلة واحدة تتدحرج من درجة الى درجة حتى الرصيف, بل حتى قارعة الطريق . إذ ذاك وقفت أقاومهم, وكان عليهم أن يتألّبوا ستة ضدّي لإنتزاع النبيّ منّي, بعد أن أصيبوا بعدّة لكمات .
وحاولت أن أصعد الى السيّارة التي طرحوه فيها فرموا بي الى الأرض , وانطلقت السيّارة , فالتفتّ حولي, فإذا الطريق يمتلىء برجال الأمن والكتائب وغيرهم .فأمعنت بشتمهم في وجههم, وركضت وشقيقة النبيّ في الشارع حافيتين . وركبنا سيّارة وعدنا سائقها بأن ندفع له فيما بعد, واتّجهنا الى السراي .
وهناك ترجّلت وسألت :
أين رجال الأمن ؟
فأقبلوا هازئين بنا . قلت :
لقد أتوا في هذا الليل , بالدكتور داهش ليقتلوه , فإذا أصيب بسوء فإنّ خمسة عشر شخصاً مسؤولاً سيقتلون, غداً . خمسة عشر داهشيّاً سيقضون عليهم . جميع الداهشيّين لا يأبهون بالحياة . فأنذروا المسؤولين أنّ بشارة الخوري سيكون الضحيّة الأولى .
وعدنا الى السيّارة, فقلت لسائقها :
إندفع بنا الى سجن الرمل .
ومررنا أمام منزل النبيّ , فدعوت السائق الى الوقوف لأدخل المنزل وآتي منه بمدية من مدى المطبخ , على الأقل . ونزلت أنا وأنطوانيت . فإذا بقوّة من الجند تحرس المكان وتمنعنا من ولوج الباب . ولكنّنا إستطعنا , بعد جهد, الدخول . فهرعت الى المطبخ, وهناك لقيت منشاراً قديماً, فأخفيته في صدري وشددت عليه زنّاري دون أن يبصرني أحد .
وأراد الجند منعنا من ركوب السيّارة وحدنا, فبكت أنطوانيت وناحت, بينما عمدت أنا الى شتمهم, وشهّرت بالمسؤولين المجرمين, ونعتّهم بالجبناء, وهدّدت أعضاء الحكومة, وبشارة الخوري , والخائن محمّد علي فيّاض . ةإذ لم يحر الجنود جواباً عمدوا الى ضربي, ثمّ قادونا في سيّارتنا الى مخفر البسطة .
وهناك نزلنا وأنا أعترض وأحتج عالياً على الظلم والعدوان, وأهدّد بالإنتقام . فاحتشد جمع من الناس, وأمامهم جميعاً رحت أشتم بشارة الخوري, ولور شقيقة المجرمين والأفاعي لا شقيقة أمّي .
فقادني شرطيّ الى حجرة سوداء نتنة قائلاً لي "
سأحبسك مع الجرذان, هنا, طوال الليل .
فأجبت :
الجرذان عندي خير من مجتمعكم, مجتمع هؤلاء المجرمين, إنّها أشرف منكم جميعاً, وليلة أمضيها في هذه الزنزانة لأحلى عندي من ليلة أمضيها في رئاسة الجمهوريّة عند المجرمة خالتي . وإنّي أكرّر تحذيري : إذا أصيب الدكتور داهش بأيّ أذى فأنّ خمسة عشر شخصاً سيقتلون غداً .
فعادوا الى ضربي, وقال أحدهم :
ما داهش غير سافل قذر !
فقلت :
عليك أن تطهّر شفتيك – أنت وغيرك – قبل أن تتلفّظ باسم داهش المقدّس . فأنتم مجرمون تضطهدون هذا الرجل مثلما اضطهد جدودكم موسى ويسوع وحمّداً , وجميع الأنبياء الآخرين .
فانبرى أحد رجال الأمن يقول :
هذه شقيقته, لكن أنت من تكونين حتى تدافعي عنه ؟
وانهالت شتائمهم عليّ .
فأجبت :
إن حقارتكم لشديدة فلن تستطيعوا فهم معنى النبل , وإنّ قذارتكم لكبيرة فلن تستطيعوا أن تدركوا أنّ بوسع الإنسان أن يدافع عن قضيّة العدالة وقضيّة رجل بريء إضطهد بظلم وجبانة , دفاعاً لا تسيّره الأغراض الدنيئة .
وبعد عدّة مكالمات هاتفيّة من هنا وهناك, وبعضها الى رئاسة الجمهوريّة, أخلوا سبيلنا, وجعلوا السائق ورفيقاً له كان بجانبه مسؤولين عنّا .
وطلبت من السائق أن يسير بنا الى جونية, فرفض وقادنا الى منزلنا وقد طوّقه الجند . فأوعزت إليه تكراراً بمواصلة المسير, فتابع تقدّمه غير راض , حتى إجتاز رجال الأمن, ثمّ توقّف رافضاً متابعة السير .
فقلت له :
إذهب الى المنزل مع أنطوانيت, فهناك تدفع لك أجرتك .
فمانع ورفيقه وحالا دون نزولي . وعبثاً خاطبتهما وحاولت إقناعهما . وإذا بأربعة من الجند يقتربون منّا , فتملّصت فجأةً, وانطلقت في ركض حثيث, واهتديت الى سيّارة تقودني الى جونية .
وبدت لي الطريق طويلة, طويلة. وكنت أسائل نفسي : ترى, ما الذي فعلوه بالنبيّ الحبيب؟ لقد أرهقه المجرمون الأنذال على الدرج ! هل أصيب بجروح ؟ لكن من المؤكّد أنّه أصيب برضوض . إنّ العقاب الذي ينتظرهم لن يكون كافياً مهما عظمت ويلاته .
وشعرت بأنّي عاجزة, وتراءى النبيّ لي مضنىً, جريحاً, مريضاً, فوددت أن أمزّق جسمي بأظفاري, وتمنّيت أن تنقضّ نيران السماء على مدينة بيروت فتحرقها .
ولم أكن أعرف منزل الدكتور خبصا, لكنّ أمراً عجيباً حدث : فقد وقفنا أمامه لنسترشد إليه َ
وصعدت اليه بقوى خائرة, واستعدت عزيمتي بشربي النبيذ الخالص مع الدكتور خبصا وعقيلته أوديت .
ثمّ ركبنا سيّارة الطبيب , وشخصنا الى منزل الأستاذ إدوار نون في عاليه , فبلغناه لدى الساعة الثانية والنصف صباحاً .
وايقظ الدكتور خبصا الأستاذ نون, فارتدى ثيابه, وعند الساعة الثالثة كنّا في دار فؤاد الخوري شقيق بشارة الخوري .
فكلّفته أن ينقل الى أخيه رسالتي الشفهيّة هذه :
" إذا لم يطلق سراح الدكتور داهش فإنّ ويلات لا تحصى ستنقضّ عليه وعلى أسرته " .
وقلت له أيضاً : " يزعمون أنّ الدكتور داهش يعاشر نساء السوء . حتى لو كان زعمهم صحيحاً فعلى بشارة الخوري أن يبدأ فيهتمّ بنساء السوء اللواتي في عائلته , أولاً " .
ماجــدا حــدّاد
9 أيلول 1944