أنا أؤمن بأنه توجـد عدالة سماويّة, وأن جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدنيا من مُنغصات انَّ هـو الاّ جـزاءٌ وفاق لِما أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور.ولهـذا يجب علينا أن نستقبلَ كلّ مـا يحـلّ بنـا من آلامِ الحياةِ ومآسيها غير مُتبرّمين ولا متذمّرين , بل قانعين بعدالةِ السماء ونُظمها السامية.

Highlighter
أحبُّ الكُتُبَ حبَّ السُكارى للخمر , لكنَّني كلَّما أزددتُ منها شرباً, زادتني صَحوا
ليس مّنْ يكتُبُ للهو كمَن يكتُبُ للحقيقة
الجمالُ والعفّــة فـردوسٌ سماويّ .
لا معنى لحياةِ ألأنسان اذا لم يقم بعملٍ انسانيٍّ جليل .
اعمل الخير , وأعضد المساكين , تحصل على السعادة .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقـوم بأعمالِ الخير نحـو ألأنسانيّة .
الموتُ يقظةٌ جميلة ينشُدها كل مَنْ صَفَتْ نفسه وطَهرت روحه , ويخافها كلّ من ثقُلت أفكاره وزادت أوزاره .
ان أجسامنا الماديّة ستمتدّ اليها يـد ألأقـدار فتحطِّمها , ثمّ تعمل فيها أنامل الدهـر فتتَّغير معالمها , وتجعلها مهزلةً مرذولة . أمّا ألأعمال الصالحة وألأتجاهات النبيلة السّامية , فهي هي التي يتنسَّم ملائكة اللّه عبيرها الخالد .
نأتي إلى هذا العالمِ باكين مُعولين، و نغادره باكين مُعولين! فواهً لك يا عالمَ البكاء والعويل!
جميعنا مُغترٌّ مخدوعٌ ببعضه البعض.
العدلُ كلمة خُرافية مُضحكة.
أمجادُ هذا العالم وهمٌ باطل، و لونٌ حائل، و ظلٌّ زائل.
لا باركَ الله في تلك الساعة التي فتحتُ فيها عينيّ فإذا بي في مكانٍ يطلقون عليه اسم العالم .
أنا غريبٌ في هذا العالم، و كم احنُّ إلى تلك الساعة التي اعود فيها إلى وطني الحقيقيّ.
الحياةُ سفينةٌ عظيمة رائعة تمخرُ في بحرٍ، ماؤه الآثام البشريَّة الطافحة، و امواجه شهواتهم البهيميَّة الطامحة، و شطآنه نهايتهم المؤلمة الصادعة.
كلّنا ذلك الذئبُ المُفترس , يردع غيره عن اتيانِ الموبقاتِ وهو زعيمها وحامل لوائها , المُقوّض لصروح الفضيلة , ورافع أساس بناءِ الرذيلة .
الحياةُ سلسلة اضطراباتٍ وأهوال , والمرءُ يتقلَّب في أعماقها , حتى يأتيه داعي الموت, فيذهب الى المجهولِ الرهيب , وهو يجهلُ موته , كما كان يجهلُ حياته .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقومَ بأعمالِ الخير نحو الانسانيّة .
المالُ ميزان الشرِّ في هذا العالم .
السعادةُ ليست في المال , ولكن في هدوءِ البال .
كلُّ شيءٍ عظيمٍ في النفسِ العظيمة , أمّا في النفسِ الحقيرة فكلُّ شيءٍ حقير .
الرُّوح نسمةٌ يُرسلها الخالق لخلائقه لأجل , ثم تعودُ اليه بعجل .
الرُّوح نفثةٌ الهيَّة تحتلُّ الخلائق , وكل منها للعودة الى خالقها تائق .
الرُّوح سرٌّ الهيٌّ موصَدْ لا يعرفه الاّ خالق الأرواح بارادته , فمنه أتتْ واليه تعود .
أنا أؤمن بأنه توجـد عدالةٌ سماويّة , وأنَّ جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدُّنيا من مُنغِّصاتٍ وأكدارٍ انَّ هـو الاَّ جـزاء وفاق لمِا أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور . ولهـذا يجب علينا أن نستقبل كلَّ مـا يحـلُّ بنـا من آلام الحياة ومآسيها غير م
الحرّيةُ منحة من السماءِ لأبناءِ ألأرض .
الموتُ ملاكُ رحمةٍ سماويّ يعطف على البشر المُتألّمين , وبلمسةٍ سحريّة من أنامله اللطيفة يُنيلهم الهناء العلويّ .
ما أنقى من يتغلّب على ميولِ جسده الوضيع الفاني , ويتبع ما تُريده الرُّوح النقيّة .
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
الراحة التامّة مفقودة في هذا العالم , وكيفما بحثت عنها فأنت عائدٌ منها بصفقةِ الخاسر المَغبون .
ليس أللّــه مع الظالم بل مع الحقّ.
ان الصديق الحقيقي لا وجود له في هذا العالم الكاذب.
ما أكثر القائلين بالعطف على البائسين وغوث الملهوفين والحنو على القانطين , وما أقلَّ تنفيذهم القول.
يظنُّ بعض ألأنذال ألأدنياء أنّهم يُبيّضون صحائفهم بتسويدِ صحائف الأبرياء , غير عالمين بأنَّ الدوائر ستدور عليهم وتُشهّرهم.
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السَّلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
رهبة المجهول شقاء للبشرِ الجاهلين للأسرارِ الروحيَّة , وسعادة للذين تكشّفت لهم الحقائق السماويَّة .
الموتُ نهاية كل حيّ , ولكنه فترة انتقال : امّا الى نعيم , وامّا الى جحيم .
الحياةُ خير معلِّمٍ ومُؤدِّب , وخيرَ واقٍ للمرءِ من الأنزلاقِ الى مهاوي الحضيض .
حين تشكُّ بأقربِ المُقرَّبين اليك تبدأ في فهمِ حقائق هذا الكون .
مَنْ يكون ذلك القدّيس الذي لم تخطرُ المرأة في باله ؟ لو وجدَ هذا لشبَّهته بالآلهة .
المرأة هي إله هذه الأرض الواسع السُّلطان. و هي تحملُ بيدها سيفاً قاطعاً لو حاولَ رجالُ الأرض قاطبةً انتزاعه منها لباؤوا بالفشلِ و الخذلان .

طريقُ الارتقاء الروحيّ

وفقًا لمَفهوم مُؤَسِّس الداهشيَّة

الارتداع عن الرذائل والشرور

بقلم الدكتور غازي براكْس

 


في أَعدادٍ سابقة من "صَوت داهش" أوضَحتُ مدلولَ الرقيِّ الروحيِّ وشروطَه وأبعادَه في مفهومِ مُؤسِّس الداهشيَّة. وخُلاصةُ ذلك أنَّ الرقيَّ الروحيَّ يعني رُقيًّا في مُجمَل النزعات والمدارك التي تشتملُ عليها السيَّالات، أَي تلك الوحَدات غير المحسوسة من طاقة الإنسان النفسيَّة. وهذا يقتضي:

أوَّلاً، أن تكونَ النَّزعاتُ ساميةً مبنيَّةً على القِيَمِ الروحيَّة التي هي ظلالٌ للحقائق الروحيَّة الخالدة الكائنة في عوالم الأَرواح القُدسيَّة، ومُنجذبةً إلى المُثُلِ العُليا التي يُمكنُ إجمالُ الرئيسة منها بالحقيقة، والعدالة (المُشتَمِلَة على الحرِّيـَّة والصدق في التعامل)، والعفَّة، والقناعة، والمحبَّة (المُشتمِلَة على عواطف الغَيريَّة والشَّفَقة والإحسان والتسامُح والتواضُع والتضحية). هذه المُثُلُ العُليا مصدرُها ثالوثُ الحقِّ والخَير والجمال المُتمثِّل في مُطلَقه السرمديّ بالقوَّة الموجِدَة، اللهِ عزَّ وجلَّ.

ثانيًا، أن يكونَ الإدراكُ راقيًا، أي واسعًا، شِبهَ شامل، ونافذًا إلى الأَسبابِ ونتائجها، وسريعًا في الربطِ بينها، ومُبدِعًا في حقلٍ، على الأَقلّ، من حقول المعرفة. وهذا نلقاهُ عادةً لدى العباقرة المُتمتِّعين بمواهبَ مُعيَّنة هي كنايةٌ عن سيَّالاتٍ عُلويَّةٍ تهبطُ من عوالمَ فردوسيَّة خاصَّة، فتقومُ بمهامَّ مُعيَّنة تُؤدِّي إلى تطوير الحضارة البشريَّة ودَفعِها صُعُدًا.

ثالثًا، أن تكونَ الإرادةُ راقية، أي تستمدُّ قوَّةَ حَسْمها من النزعات الروحيَّة والإنسانيَّة الكلِّـيَّة. وهذا الرقيُّ لا يستَوفي تمامَه إلاَّ بالتزام المُثُل العُليا، والتسلُّح بالعزيمة القويَّة والثقة بالله وبالنفس، والتدرُّع بالصبر والأَمل والثبات في الإيمان، والتحلِّي بالشجاعة المعنويَّة والإقدام على المُغامَرَة كما بالتحمُّل الواعي لمسؤوليَّة العمل.

هذا الرقيُّ الروحيُّ الشاملُ لمُجمَل قوى النفس أفضلُ ما نراهُ مُمَثَّلاً في الأَنبياء والرُّسُل والهُداة الروحيِّين الذين أحدَثوا تغييراتٍ بالغةً في مجرى التاريخ، ومَهَرَ كلٌّ منهم بطابَعِه الخَيِّر لا عصرَه وشعبَه فحسب، بل كثيرًا من العصور والشعوب.

فإذا كانَ هؤلاء القلائل همُ المُثُلَ العُليا في صُوَرِها المُجَسَّدَة بين البشر، وذُرى معارج الفضائل نحو الكمال الإنسانيّ، فما هي السبيلُ المُؤدِّيَةُ إليهم؟

 

الارتداعُ عن الرذائل والشرور

قبلَ أن يستطيعَ البشرُ البَدءَ في ارتقاء معارج الفضائل، وبالأحرى بلوغَ الكمال الإنسانيّ، عليهم أن يجتازوا المرحلةَ الأُولى التي لا بُدَّ منها، لئلاَّ ينزلقوا إلى ما دون الطبيعة الإنسانيَّة؛ وهي تقضي بارتداعهم عن مختلف أَنواع الرذائل والشرور، ولا سيَّما الظُّلم في جميعِ وجوهه، من قتلٍ واعتداءٍ على الشخص أو على حقوقه، وغيرِ ذلك مِمَّا انطَوَت عليه النواهي والمُحرَّمات التي نصَّت عليها الشرائعُ الدينيَّةُ أو المدَنيَّة. فما موقفُ مُؤسِّسِ الداهشيَّة من أبناء القرن العشرين في ضوءِ المُحرَّمات والنواهي؟

كتبَ الدكتور داهش وهو لمَّا يبلغ الرابعةَ والعشرين من عمرِه (1/4/1933):

فالحقيقةُ التي يجبُ أن تُذاع،

والتي لا يعتوِرُها أيُّ لَبْسٍ أو غُموض،

أنَّ البشريَّةَ قد أوغَلَت في الشرّ،

وانغمسَت بالأَعمال الدنيئة،

وخاضَت مُستَنقعاتِ الصغائر (...)

وأعتقدُ، بل أجزمُ وأُؤكِّدُ أنَّهُ لا عدالةَ في دُنيانا التاعسة،

بل ظلمٌ فادحٌ صارخٌ مِمَّا يأتيه البشرُ الأَدعياء...[1]

إنَّ التعاليمَ الداهشيَّةَ تُحظِّرُ إيذاءَ الآخرين مادِّيـًّا أَو معنويًّا، وترى فيه ظلمًا فادحًا يُجازى عليه مُرتكبُه جزاءً عظيمًا. وقد أعطَيتُ أمثلةً ممَّا أوضحَهُ الدكتور داهش في هذا الصَّدَد أوانَ بحثتُ في العدالة الإلهيَّة المبنيَّة على السَّببيَّة الروحيَّة والتقمُّص.[2]

فالإنسانُ الذي يستَسلمُ لطُغيانِ نزعاته الدُّنيا هو كالإنسان الذي يرفضُ إمارةَ العقلِ على تصرُّفاتِه. كلاهما يُسفِّلُ نفسَهُ إلى مستوًى دون الطبيعة البشريَّة السويَّة. من أجلِ ذلك يقولُ الدكتور داهش:

"تُحيقُ بنا نوبةُ جُنون، في بعض الأَحيان، فنغدو أقربَ إلى الوحوش منَّا إلى بني الإنسان."[3]

بل إنَّه، في معرض رَدِّه على الدكتور محمَّد حُسَين هَيكَل، رئيسِ مجلس الشيوخ المصريّ، يُعلِّقُ على فقرةٍ قرأَها في كتابه "ولَدي" عن "أَنَّ الإنسانَ أَخوفُ ما يخافُ منه الإنسان" بقوله:

إنَّ خبرةَ الأَجيال أَكَّدَت ما ذهبتَ إليه... وهنا خطرَ لي قولُ الشاعر الضرير البصير القائل:

"عَوى الذئبُ فاستأنستُ بالذئبِ إذْ عَوى

             وصَوَّتَ إنسانٌ فكدتُ أَطيــــرُ[4]

واستفظاعُ رجل الروح والخوارق للإيذاء جعلَهُ يبتهلُ إلى الله قائلاً عام 1936:

ربِّي، اجعَلني حمامةً وديعةً ضعيفةً يُعتَدى عليها، ولا تَجعَلني نَسرًا كاسرًا قويًّا يعتدي على مَن هم دونَه بالقوَّة.[5]

إِنَّ قتْلَ الإنسانِ حتَّى لو كانَ مُجرِمًا مُحرَّمٌ في التعاليم الداهشيَّة. فالله هو وحدَه مالكُ الحياة، ومالِكُ حقِّ استردادها. ولذلك يجبُ أَن يُستعاضَ عن قَتْل المُجرم، إذا كانَ خطيرًا أو يستحقُّ عقابًا عظيمًا، بسَجنٍ مُؤبَّدأو لمُدَّةٍ طويلةمقرونًا بالتعليم والتهذيب والإرشاد والإصلاح الروحيّ المُرافَق بإيضاح العدالة الإلهيَّة المَبنيَّة على السببيَّة الروحيَّة.[6]

وقاعدةُ تحريم القَتل لها استثناءٌ واحدٌ هو الدفاعُ عن النفس سواءٌ على صعيد الفرد أو الجماعة. ولذا فكلُّ حربٍ عُدوانيَّةٍ هي حربٌ ظالمة. أمَّا دفاعُ الشعب عن نفسِه وأرضِه، إذا تأكَّدَ له أنَّ أعداءَهُ سيُذلُّونَه ويغتصِبونَ أرضَه وخيراتِها، فهو "فرضٌ مُقدَّس" و"أمانةٌ قلَّدتها السماءُ أعناقَنا."[7]

أمَّا الأَعمالُ الإرهابيَّةُ فهي مُنافية للتعاليم الداهشيَّة؛ وقد وردَ النفيُ صريحًا في رسالة الدكتور داهش إلى ماجْدا حدَّاد،[8] يومَ اعتزمَت أن تنتقمَ لاضطهاده وتشريده من قِبَلِ أنسبائها، فصمَّمَت على أن تُطلِقَ النارَ على بشاره الخوري، رئيس الجمهوريَّة اللبنانيَّة الطاغية، وهو زوج خالتها.

وهذه هي الرسالة:

عزيزتي ماجْدا،

أيَّتُها الصديقة النبيلة، حيَّاكِ الله وأبقاكِ رمزًا للشهامة والإخلاص.

وبعد، فقد بلَغَني أنَّكِ تأثَّرتِ لفداحةِ ما أصابني على يَدِ زوج خالتِك بشاره الخوري من سَجْنٍ وتجريدٍ ونفيٍ وتشريد، بإيعازٍ من خالتِك وخالِك ميشال شيحا. ولم يكتفوا بذلك، بل طاردوا شقيقتي واضطهدوها، ثمَّ زجّوها في أعماق السجون، لأّنَّها أرسلَت إلى الشيخ بشاره برقيَّةً تسألُهُ عن مقرِّي كي تستطيعَ السَّفرَ حيثُ أُقيم. لقد جُنَّ جنونُه عندما حَكَمَ القُضاةُ عليها بالسَّجن مدَّةَ عشرة أيَّام، فاستَأنفَ عليها الحُكمَ بأمَلِ أن تُسجَنَ سنوات! فيا لَلظُّلم العظيم!

جميعُ هذه العوامل أثَّرَت بنفسيَّتِك وإحساسِك المُرهَف، فإذا بكِ تبعثين برسالةٍ صاخبةٍ مملوءةٍ بالتهديد والوعيد للشيخ بشاره وزوجته. ثمَّ صمَّمتِ على اغتياله انتقامًا لِما حَلَّ بي وبسُمعتِك شخصيًّا من تلكَ الأَكاذيب الحقيرة التي نشرَتْها جريدَتا "العمَل" و "الديار"، إذْ لفَّقوا التُهَمَ الدنيئةَ بإيعازٍ من بشاره ولور وخالك ميشال شيحا وهنري فرعَون.

والآن، إنَّني أبعثُ برسالتي هذه إليكِ كي أُنبِّهَكِ وأنهاكِ عن الإقدامِ على أيِّ عملٍ عِدائيٍّ ضدَّ الشيخ بشاره أو سواه. واعلَمي، يا عزيزتي ماجْدا، أنَّ الشيخ المُرتكب للجريمة سينالُ جزاءَه قريبًا، إذْ ستُكسَر يدُه كجزاءٍ روحيّ.

وسبَقَ لي أن تنبَّأتُ عن كَسرِ يدِه عندما زارَني إسكندر رياشي في منزلي وقال لي:

- إذا جرَّدَك بشاره الخوري من جنسيَّتِكَ بطريقة الظُّلم، فماذا سيكونُ موقفُك؟

فأجَبتُه:

- إذْ ذاكَ ستُكسَر يدُه التي سيُوقِّعُ بها المرسومَ من العُنُق.

وقد نشرَ إسكَندر رياشي نبوءَتي في جريدة "الصحافيّ التائه"، وذلك في العدد الصادر بتاريخ 20 شباط 1944.

وبما أنَّ بشاره الخوري جرَّدَني من جنسيَّتي فستُكسَر يدُه من العُنق وستتحقَّقُ نبوءَتي بحذافيرِها.[9]

وسيُجازى؛ أيضًا، روحيًّا، فيُصاب بخَبَلٍ وجنون.[10]

وفي النهايةِ سيطردُهُ الشعبُ من كرسيِّ حُكمه[11]، فيُغادره مُهانًا ذليلاً، مُنكَّسَ الرأس. وسيكونُ أوَّلَ رئيسٍ لبنانيٍّ يُطرَد بإجماع رغبة الشعب.

إنَّ في السماءِ عينًا مُراقِبَة تُجازي المُعتَدي الذي أنزلَ بي محنةً هائلةً دونَ ذنبٍ جنَيتُهُ أو جريرةٍ ارتكَبتُها.

أعودُ فأُكرِّرُ عليكِ الوصيَّةَ بأن لا تُقْدِمي على أيِّ عملٍ إرهابيٍّ لا أنتِ ولا أيّ أخٍ أو أُختٍ داهشيَّة...

أختمُ تحريري بتوديعكم بقلبٍ مملوءٍ بالشوق لمُشاهدتِكم. واسلَمي لِمَن لا ولن ينساكِ. والسلام.

في 15/1/1945

الدكتور داهش

والجديرُ بالذكر أنَّ هذا المنعَ للعمل الانتقاميّ الذي لا يوصي به إلاَّ مَن كانَ بمُستوى الأَنبياء والهُداة الروحيِّين أحدثَ تأثيرًا بالغًا في نفس ماجْدا حدَّاد، فنشبَ صراعٌ حادٌّ في نفسِها بين عاطفتِها وواجبها أشعلَ أعصابَها، وهدَّمَها، فأقدَمَت على الانتحار في 27/1/1945، ليكونَ موتُها صوتَ احتجاجٍ يُدوِّي في مسامع الرأي العامّ ضدَّ البُغاة الذين اضطَهَدوا مُؤسِّسَ عقيدتها.

ذلك هو موقفُ مُؤسِّس الداهشيَّة من شرور البشر المُتفشِّية والمُستَشرِيَة. فما هي الدوافعُ النفسيَّةُ التي تحضُّهم على ارتكاب مظالمهم ومُنكراتهم؟

الدوافعُ النفسيَّةُ للشرور

إذا تابَعنا ما تنشرُهُ وسائلُ الإعلامِ عمَّا يُرتَكَبُ من جرائمَ وفظائعَ في مُختلِف أرجاءِ العالَم، لَتَأَكَّدَ لنا صوابُ ما يُعلنُهُ الدكتور داهش من إيغالِ البشريَّةِ في الشرِّ والرذيلة. وبما أنَّ هذا الأَمرَ باتَ حقيقةً واضحةً فاضحة، فحَسبي أن أُورِدَ بيِّنَتَين: الأُولى أَنَّ القرنَ العشرين الذي انتشرَ فيه التمدُّنُ في أرجاء العالَم قاطبةً، وعمَّت وسائلُ الإعلام، وتكاثرَت الاكتشافاتُ والاختراعاتُ، وأُقيمَت الجامعاتُ في جميع البلدان- شهدَ حربَين عالَميَّتَين سقطَ فيهما عشراتُ الملايين من الضحايا؛ كما شهدَ في أُوروبَّا، أَرقى أَقطار الأرض، إحدى عشرةَ حربًا أُخرى بين دُوَلِها، وأَربعَ عشرةَ ثورةً أَو حربًا أَهليَّةً ارتُكِبَت فيها أَفظعُ المجازر، وكانت مجازر كوسوفو في صربيا آخرها. ولن أُعدِّدَ الضحايا في كلٍّ منها، فحسبي أَن أَذكرَ أَنَّ عددَ ضحايا الطغيان داخلَ الاتِّحاد السوفياتيّ وحده بين 1917 و1987 بلغَ حوالى عشرين مليون ضحيَّة.[12] أَمَّا البيِّنة الثانية فهي   خُلاصةٌ لإحصاءات الجرائم التي جمعَها مكتبُ التحقيق الفِدرالي FBIفي الولايات المتَّحدة، عام 1996.[13] فالعامُ المذكورُ اعتُبِرَ الحدَّ الأَدنى في نسبة اقتراف الجرائم بأمريكا، بعد ستّ سنوات من انحدارها المتوالي. ومع ذلك وقعَت، في ذاك العام، 19645 جريمة قَتْل، و95769 جريمة اغتصاب، وأكثر من مليون اعتداءٍ مُسَلَّحٍ، و537550 جريمة سَطْوٍ على الأملاكِ شملَت سرقةَ ما يُقدَّرُ قيمتُه بخمسمئةمليون دولار.

وبين عامَي 1996 و1999 وقعَت في الولاياتِ المُتَّحِدَة سبعُ حوادثَ كبيرة في المدارس كان المُجرمونَ فيها طُلاَّبًا مُراهقين، والضحايا زُملاءَ لهم وأساتذة؛ وكانت حصيلتُها 28 قتيلاً وأكثر من 72 جريحًا.[14]

إنَّ ما يحدثُ في أمريكا من شرورٍ يحدثُ مثيلُهُ في مُختلِفِ أنحاءِ العالَم. وقد تخفُّ نسبةُ نوعٍ من الجرائم هنا أو هُناكَ لترتفعَ نسبةُ نوعٍ آخر. ومُنذُ فجر التاريخ الجَليّ والدولُ جميعُها تسجنُ مُختلفَ أنواع المُجرمين، وتُعذِّبُهم وتُعدمُهم شنقًا أو حَرْقًا أو قطعًا للرأس أو طَعنًا للصدر أو رَميًا بالرصاص أو صَدْمًا بالكهرباء؛ لكنَّ الإجرامَ ما يزالُ مُتفشِّيًا، حاضرًا حضورَ الليل في ربوعِ الكُرَة الأَرضيَّة. فلا الشرائعُ المدَنيَّةُ ولا النواهي والمُحرَّماتُ الدينيَّةُ استطاعَت أن تستَأصلَه من الأَرض، بل حتَّى أن تُخفِّفَ حِدَّتَه. وما على الراغبِ في التحقُّق إلاَّ أن يستقرئَ عواقبَ الحروب العِرقيَّة والفِتَنِ الدينيَّةِ عبرَ العصور، بل حتَّى في القرن العشرين نفسه، ليترنَّحَ رأسُهُ من هَوْل الفظائع المُرتَكَبَة. فما هي الدوافعُ النفسيَّةُ، يا تُرى، لهذه الشرور الدائمة الحضور؟

يرى الدكتور داهش أنَّ الدوافعَ النفسيَّةَ للشرور البشريَّة المُستَشرِيَة كثيرة. لكن يُمكنُ إجمالُ أهمِّها بستّ: شهوةِ المال، شهوةِ الجنس، شهوةِ السلطة، نزعةِ الحسَد، نزعةِ الكبرياء، نزعةِ الرياء. إليها تُزادُ رذيلتان تُشجِّعان على انتشار الشرِّ والباطل وانتصارهما هما الجبانةُ والغباء.

وحملةُ الدكتور داهش على الشرِّ مُنبثَّةٌ في أكثر ما أُلهِمَ كتابتَه، ومُنبسِطَة على مدى نصف قرن. فسواءٌ أدلى برَأْيِه في الإنسانِ عامَّةً من خلالِ قِطَعِه الوجدانيَّة، أم عَرَضَ أحداثًا قَصَصيَّةً من خلال "قِصَص غريبة وأساطير عجيبة" أو "مُذكِّرات دينار"، أم وصفَ أنواعَ العذاب الذي يُصابُ به الأَشرارُ في دركات "الجحيم" -فالإنسانُ يبدو، في مُجمَلِ كتاباته، شِرِّيرًا، كثيرَ المفاسِد والنقائص؛ ولا أَملَ في أَيِّ ارتقاءٍ روحيٍّ له إلاَّ بَدءًا بارتداعه عن الشرور وإصلاح مفاسده ونقائصه.

 

1- شهوةُ المال

إنَّ مُؤسِّسَ الداهشيَّة، بعدَ ثلاث سنواتٍ من التجوال في مُدُنِ الشرق والغرب، واختبار الناس، وحَكِّ معدنِهم، كتبَ في 18 حزيران (يونيو) 1972 يُخاطبُ النُّضار:

إنَّ مُخترِعَكَ، أيُّها النّضار، إنْ هو إلاَّ الشيطانُ الرجيمُ بعَينه. لقد أوجدَكَ ليوجِدَ الشرَّ في الدنيا.

أوجَدَكَ كسلاحٍ يُحارَبُ به الله، عزَّ وجلّ؛ وقد نجحَ هذا الشيطانُ الأَثيم.

فالبشرُ قد عبَدوا النُّضار، وتخلَّوا عن الله، خالقِ الليلِ والنهار.

أوجَدَكَ ليُحاربَ الأَخُ أخاهُ، والابنُ أَباه، والحبيبُ حبيبَه.

أوجَدَكَ ليوجَدَ الشِّقاق، وليعمَّ الكذبُ ويعظمَ النِّفاق.

أوجَدَكَ ليضمَّ كلَّ أهل الكُرَة الأَرضيَّة إلى جهنَّمِه المُتَّقِدَة بالنيران ذاتِ التأجُّج الأَبَديّ.[15]

وبعدَ ثمانية أعوامٍ أُخرى من التَّرحالِ والتجوالِ واختبارِ الناس، وجدَ -

أنَّ الجميعَ سواسِيَة.

فجميعُهُم يتساوَونَ بحُبِّ المال والسَّعيِ في سبيلِه، والاستماتةِ للحُصولِ عليه واكتنازِه؛

لا فرقَ بذلك بينَ غنيِّهم وفقيرِهم.[16]

إذًا دافعُ الطمَع هو الذي يحثُّ الناس على الاستماتة من أجل المال، وليس دافع التخلُّص من الفقر. هذا الرأيُ الذي أعطاهُ الدكتور داهش عن خبرةٍ طويلةٍ بالبشر كان قد أدلى بمثيلِه، عن إلهام، وهو في إبَّانِ شبابه، في الخامس من كانون الثاني (يناير) عام 1935، حينما كتبَ قطعتَه الشهيرة "المال... المال"[17] التي أظهرَ فيها سطوةَ المال الهائلة على النَّاسِ طُرًّا، عُظَماءَ وصعاليك، حُكَماءَ وأرذالاً، أولياءَ وفُجَّارًا، عُلماءَ وجُهَّالاً، وأَبرزَ فيها قَلْبَ المال للمفاهيم والقِيَمِ والمقاييس، وتسبيبَه للمآسي المُتنوِّعة الكثيرة. ولا عَجَب، فالمالُ هو "الوحشُ الباطشُ" الذي تُسبِّحُ باسمِه شعوبُ الأَرضِ كافَّةً، والقادرُ الوحيدُ الذي "جمعَ الشعوبَ تحتَ رايةٍ واحدة،" بعدَ أن عجزَ حتَّى الأَنبياءُ عن جَمْعهم، وذلك لأَنَّ المال هو "إلهُ هذه الكُرَة، هذه الأَرض."

وليتَ التهالُكَ على تكنيز المال ينفعُ صاحبَه. فالطمَّاعُ كالبخيل، كلاهما يجمعُ لسواه:

يا جامعَ المال، هل عرَفتَ لِمَنْ سيكونُ نصيبُه؟

سهرتَ وتعبتَ وشقيتَ بِجَمعِه وأنتَ تجهلُ مَن سيُصيبُه![18]

وقد تكونُ للأقدار سُخريةٌ جدُّ موجِعَة إذا كانَ في نظامِ العدالة الإلهيَّة أن يرثَ المالَ أو يستَوليَ عليه عدوُّ جامعه.

وإذا كانَ كانزُ المال مُصابًا بنزعة البُخل القميئة، فإذْ ذاكَ يعيشُ عيشةَ البهائم الحوَّامة على المزابل، مانعًا الطعامَ حتَّى عن نفسه وعن أولاده تكثيرًا لأَموالِه التي سيُخلِّفُها لغيره متى دعاه داعي الموت؛[19]فتكون مُصيبتُه مُثلَّثة: عيشة زَرِيَّة، وثروةً جمعَها بالكَدحِ والتَّقتير لينعمَ بها غيرُه، ثُمَّ عذابًا جحيميًّا. هذا العذابُ يراهُ مُؤسِّسُ الداهشيَّة نتيجةً حتميَّةً لِجَعلِ البُخلاء سيَّالاتِهم في جاذبيَّة الدَّركاتِ السُّفليَّة، بعدَ تنصيبهم المالَ ربًّا معبودًا إليه يصرفونَ همَّهم، وفيه يُفنونَ حياتَهم، وعليه يُعلِّقونَ آمالَهم وخلاصَهم. من أروعِ ما قالَهُ في ذلك:

ألا فلْيَعلَم البُخلاء أنَّهم سيُطرَحونَ في قعرِ الجحيم مُسَلسَلين مُغَلَّلين، وأنَّهم سيُسامون الخَسفَ والذلَّ والهوان، وسيُطعَمون المُرَّ والصَّابَ والغِسلين، وسيُساطون آلافًا من السنين بسياطٍ محبوكةٍ بدنانيرِهم الدُّنيويَّة التي كانوا يكتنزونَها ودونَ ربِّهم يعبدونها، فتُمزِّق تلك الدنانيرُ البرَّاقة جُلودَهم، ثمَّ تنثرُ لحومَهم في أرجاء الهاوية التي تضجُّ بأنينهم الرهيب وخُوارهم العجيب؛ ولكنْ عبثًا ستمضي توسُّلاتُهم، وهباءً ستفنى آهاتُهم. وسيشرحُ جزاؤهم المُخيفُ العادلُ صدرَ كلِّ مَن كانَ لهم عاذلاً. فلْيتَّعظ البُخلاء، ولْيستغفروا ربَّهم! إنَّهُ توَّابٌ رحيم.[20]

وبيانُ الدكتور داهش الرائع عن مصير البُخلاء المشؤوم يُذكِّرُنا بالآيات القرآنيَّة القائلة:

{"أيُّها الذين آمَنوا، إنَّ كثيرينَ من الأَحبار والرُّهبان لَيَأكُلون أموالَ الناس بالباطلِ ويصُدُّون عن سبيلِ الله، والذين يكنِزون الذهبَ والفضَّةَ ولا يُنفقونَها في سبيل الله، فبشِّرهم بعذابٍ أليم، يومَ يُحمى عليها في نارِ جهنَّم فتُكوى بها جباهُهم وجنُوبُهم وظُهورُهم -هذا ما كنَزتُم لأَنفُسكم، فذوقوا ما كنتُم تكنِزون.} (سورة التوبة: 34-35)

وقد أعطى الدكتور داهش أمثلةً قَصَصيَّةً مُتنوِّعةً على عواقب الطمَع. ففي "أرهَب قصَّة وأرعَب مصير"[21] يُنكَبُ أبٌ باختطافِ طفلِه. ويترعرعُ الطفلُ فيُصبحُ شابًّا، فيقودُهُ القدَرُ إلى نَزْلٍ يُغري الطمعُ صاحبَه بِقَتلِه للحُصولِ على خاتمِه الماسيّ وساعتِه الذهبيَّة وما في حقيبتِه من مال. وسرعانَ ما يكتشفُ القاتلُ أنَّ الشابَّ الذي ذبحَهُ إنَّما هو وحيدُه المخطوف؛ فتُصيبُهُ نوبةُ جنون، فيقتُلُ زوجتَهُ وابنتَهُ ثمَّ ينتحر.

كذلك في قِصَصه "جامعُ المال يترُكُه لسِواه" و"ملياردير يموتُ جوعًا"[22] و"حقيقة أَغربُ من الخيال"[23] يُظهرُ عواقبَ الطمَع الوخيمة.

وقُصارى القَول إنَّ الطمعَ، إذا اشتدَّ، قد يدفعُ صاحبَه إلى اقتراف مُختلف الجرائم من أجل إشباعِ نَهَمِه إلى المال، فيسرق، أو يقتل، أو يُهرِّب المُخدِّرات، أو يغشّ في بَيع السِّلَع، أو يُخادعُ في المُعاملات التجاريَّة، أو يُزوِّرُ العملات، أو يُزَيِّفُ المصنوعات إلخ، هذا على صعيد الأَفراد والجماعات الصغيرة. أَمَّا على الصعيدِ الدوليّ فيدفعُ الطمَعُ الدُّوَلَ القويَّةَ إلى الحروب للسيطرة على الدوَلِ الضعيفة. وهذا ما أوضحَهُ مُؤسِّسُ الداهشيَّة في خلالِ عَرضِه لدافع الحربَين العالميَّتين بكتابه الفذّ "مُذكِّرات دينار".

 

الحسَد

إنَّ شهوةَ المال فرعٌ من نزعة الطمَع العامَّة في الإنسان؛ والطمعُ إذا تحوَّلَ إلى شهوةٍ لِما يحوزُه الآخرون من مُمتلَكاتٍ أو منصبٍ أو شُهرة، أو ما يتمتَّعونَ به من مواهبَ أو صحَّة أو نعمة، ولَّدَ الحسَد، تلك النزعة الشرِّيرة التي يتمنَّى صاحبُها أن يستلبَ الآخرين ما ينعمونَ به أو يملكون، والتي تتحوَّلُ إلى نارٍ آكِلَةٍ في نفسِ الحَسود، تلذعُهُ وتدفعُهُ إلى إيذاءِ الآخرين، وفي إيذائها تُصيبُ الحسودَ أكثرَ ممَّا تُصيبُ المحسود. وقد أظهرَ مُؤسِّسُ الداهشيَّة بشاعةَ الحسَد في قصَّتَين مُتكاملَتَين من قِصَصِه: "صداقة حَميمة فعداءٌ مُبيد"، و"الأَعمى".[24] يعرضُ في الأُولى صداقةً مِثاليَّة لشابَّين هما جودي وأَلفرِد. لكنْ ما إن دخلَت ابنةُ مُضيفِهما، الحسناء سوزي، في حياة جودي، غيرَ مُعيرةٍ صديقَه ألفرِد أيَّ اهتمام، حتَّى داخلَه النفورُ منه، ثمَّ تحوَّلَ إلى حقدٍ عليه وحسَدٍ له على نعمتِه. وما لبِثَ الحسَدُ أن تأجَّجَت جمراتُه في قلبِه، فاستَدرجَ جودي إلى منزله، وخدَّرَهُ بمُنوِّمٍ سكَبَه في كأسِه، ثمَّ قيَّدَ يدَيه ورجلَيه، وفقأَ عينَيه بسيخٍ مُحَمًّى. وكانت عاقبةُ ذلك قتلَ الحَسود بمُسدَّسِ شقيق المحسود.

أمَّا القسمُ الثاني من القصَّة فيعرضُ فيه مُؤسِّسُ الداهشيَّة العقابَ الإلهيَّ العادل الذي جُوزِيَ به ألْفرِد، إذْ إنَّهُ في تقمُّصٍ لاحق وُلِدَ أعمى، كما وُلِد ألفرِد ثانيةً باسم جيرار. وتِبعًا للنظام الإلهيّ القاضي بإجراء العدالة الروحيَّة، عادَتِ الصداقةُ إلى الاثنَين، وعادَت أيضًا المرأةُ لتَلعَبَ لعبتَها بينهما؛ ومالَ قلبُها مرَّةً أُخرى إلى جيرار عازفةً عن الأَعمى الذي كانَ يتحرَّقُ غيظًا ويستشيطُ تشكِّيًا وتظلُّمًا من الأَقدار. وإِذا به يحلُمُ، ذاتَ يوم، بِفِعلتِه الشنيعة لصديقه وفَقْئِه لِعَينَيه، ويرى شيخًا يهبطُ من الفضاء قائلاً له:

إنَّ اللهَ لا يظلمُ أحَدًا. فطالَما سمعتُكَ تُردِّدُ: ما ذَنبي لكَي يخلقَني اللهُ ضريرًا! وها قد شاهدتَ الآنَ نفسَك، طبعًا بدورٍ سابق من أدوارِ حياتِك، وأنتَ تفقأُ عينَي صديقِك الذي كان اسمُه، في دورِه السابق، جودي. وما إقدامُك على هذه الجريمة المُنكَرَة إلاَّ لأَنَّ سوزي قد فضَّلَتهُ عليك. وهكذا وُلدتَ أعمى لأَنَّكَ اعتَدَيتَ على صديقِك فأفقَدتَه بصرَه. فإذا العدالةُ الإلهيَّةُ تقتصُّ منكَ. فالعينُ بالعَينِ والسنُّ بالسنّ.

وعرفَ الأَعمى أنَّ الفتاةَ التي أعرضَت عنهُ مُفضِّلَةً جيرار عليه إنَّما هي الفتاةُ نفسُها التي فقأَ عينَيْ صديقه من أجلِها حَسَدًا في دورةٍ سابقة. فأصابَته نوبةُ جُنون، فانتحرَ بالسُّمّ، بعدَ أن قتلَ أُمَّه.

كذلك أَوضحَ الدكتور داهش عواقبَ الحسَد الوخيمة في قصَّة "التقمُّص والتناسُخ أَو عَظُمَ ذَنْبُه فقُطِعَ ذنَبُه"[25]. وفحواها أَنَّ شقيقَين يتدلَّهان بفتاةٍ خُلاسيَّة؛ لكنَّها تُفضِّلُ أحدَهما، غَضوبًا، على الآخَر، شِبل. وما إنْ تعلمُ الوالدة باعتزام ابنها الاقترانَ بالفتاة حتَّى تُعنِّفَه مُستهينةً بحبيبته، كما يتأَجَّجُ أخوه غَيظًا وحسَدًا. فينتفضُ غَضوب لكرامة مَن يُحِبُّ ويدفعُ أُمَّه بعُنف، فتسقطُ ويُشَجُّ رأسُها. فيغلي الحسَدُ والانتقامُ في نفس شِبل، فيُهوي بسَيفٍ على مُؤَخَّرة شقيقه ويبترُ ساقَه؛ وما يلبثُ غضوب أَن يلفظَ أَنفاسَه. وتنتهي المأساةُ بأَن يُجَنَّ القاتل الحًسود ثمَّ ينتحرُ بالسيف نفسه.

ويُرينا الدكتور داهش عقابَ جميع أَفراد العائلة مع الفتاة الخُلاسيَّة في دورةِ حياةٍ لاحقة، إذْ تتقمَّصُ الأُمُّ قطَّةً لكبريائها واستهانتها بالفتاة؛ وهذه مع الشابَّين يتقمَّصون أَولادًا للقطَّة، لارتباط سيّالاتهم بعضها ببعض. أَمَّا القطّ الذي كان شبلاً، فتجتاحه سيَّارة تُسبِّبُ "قَطعَ ذَنَبِه وكَسْرَ رجلِه؛ فالعدالةُ الروحيَّة تقتضي أَن أَن يُصابَ بما أَصابَ به شقيقَه."

 

3- الشهوةُ الجنسيَّة

إِنَّ مُؤسِّسَ الداهشيَّة يرى أنَّ خطرَ الانجراف بتيَّار الشهوة الجنسيَّة الطاغي في العالَم ليسَ أقلَّ على مصير الحضارة البشريَّة من خطَر الطمَع، بل إنَّ السببَ المُباشَرَ في تفكيك الأُسَر التي هي أحجارُ البناء الاجتماعيّ هو في إطلاقِ الأَعنَّة للشهوة الجامحة دونما رادعٍ دينيٍّ أو مَدَنيٍّ. ففي كلِّ عام تحدثُ مئاتُ الأُلوف من جرائم الاغتصاب في الغرب المُفاخِر برُقيِّه الحضاريّ، وتقعُ ملايينُ حوادث الطلاق من جرَّاء الخيانات الزوجيَّة، الأَمر الذي يُؤكِّدُ الخطأَ والخطَر في عدَم إيلاء المُفكِّرين والحكومات جموحَ النزعة الجنسيَّة الاهتمامَ الكافي. بيدَ أَنِّي سأَكتفي، هنا، بهذه الإشارة، مُرجئًا البحثَ المُفصَّلَ في هذا الأَمر إلى عددٍ لاحقٍ حينما أتناولُ بالدرس الأُسرةَ والحبَّ الصحيح وفقًا للمفهوم الداهشيّ.

 

4- شهوةُ السلطة

إِنَّ شهوةَ الإنسانِ للسطلة لا تقلُّ كثيرًا عن شهوتِه الجنسيَّة في عُنفِها. فتاريخُ البشريَّة يكادُ يكونُ كلُّهُ تاريخَ الحروب والثورات. ومَن أوقَدوا هذه وتلك، في سِياق العصور، كانوا مدفوعين بالمطامع الأَشعبيَّة كما بشَهوة السلطة. وما نشأَ حُكمٌ ثَوريٌّ أو تنظيمٌ حزبيٌّ إلاَّ اقتَتَلَ أبناؤه على السلطة، وبرَّروا تنازُعَهم بانحراف الفريق الآخر أو ضعفِه أو فشَله أو بغيرِ ذلك من التبريرات الإيهاميَّة.

والدكتور داهش عرَّضَ بانتشار شهوة السلطة في الناس، رجالاً ونساءً.[26] وفي قطعة "الضباب"[27] الموحاة تقولُ الروحُ مُعرِّضةً بعدَّة نزعات دُنيويَّة:

يا أبناءَ الأَرض المساكين!

منذُ عشراتِ الآلاف من السنين

وأنا أُشاهدُ أعمالَكم، وأسمعُ أقوالَكم،

وأُراقبُ أفعالَكم، وأقرأُ ما يَجولُ في أفكاركم،

وإذا هي هي لا تتغيَّر!

فأنتم تفنَونَ في حبِّ (المرأة)!

وتتهالكون على (المادَّة)!

وتعبدون (السلطة)!

وتُقدِّسونَ (السطوة)!...

كذلك يتكرَّرُ تعريضُه بِشَهوةِ السلطة والسيطرة في غيرِ قليلٍ من قِطَعِهِ الوجدانيَّة،[28]كما في أثناءِ عرضِه لِمآسي الحربَين العالميَّتَين في كتابه "مُذكِّرات دينار". تقولُ روحُ جِلبرت الذي قُتِلَ في الحرب الأُولى:

إنَّ الملوكَ والورزاء والقُوَّادَ والسَّاسة، بعدما دفعونا إلى خنادقِ الموتِ الزؤام، نبَذوا مَن كُتِبَت له الحياةُ نَبذًا شنيعًا. فما يكادُ الجنديُّ يطلبُ مُقابلَةَ أحدِهم حتَّى يجدَ إعراضًا مُخجِلاً، فضلاً عن الخدود المُصَعَّرَة والأُنوفِ العالية صَلَفًا وكبرياءً.[29]

وفي خلالِ حُكمِ الإنكليز للهند ولِمصر أبرزَ شهوتَهم للسلطة والسطوة فضلاً عن مطامعهم الأَشعبيَّة. فالقانونُ يُطبِّقونَه على الوطنيِّين دونَ الإنكليز الحاكمين، بل إنَّهم اعتبروا أنَّ الهنودَ ليس لهم حقوقٌ إنسانيَّة.[30] كما اسْتَغلُّوا حادثًا فرديًّاقد يكونُ مُدَبَّرًا من قِبَلِهم للتسلُّط على مصر والسودان وفرض سيطرتهم المُطلَقَة.[31]

وفي الحرب العالَميَّة الثانية كانَ لِشَهوةِ السلطة والسيطرة دورٌ بارزٌ لدى جميع الدول المُتصارِعَة. وقد لخَّصَهُ هتلر بِقَولِه، إذ اتَّهمَ البريطانيِّين بما كان به مَهووسًا أَيضًا: "فالشعبُ الأَلمانيُّ لم يعُد بإمكانِه الصبر على ابتلاعِ حُقوقِه، وحرمانِه من مجالِه الحَيَويِّ الذي سيطرَ عليه هؤلاء البريطانيُّون الذين أُصيبوا بجنون الكبرياء والسيطرة على كافَّةِ أنحاء المعمور."[32] وفي ظرفٍ آخر يقول الفوهرر: "إنَّ ألمانيا هي التي ستكونُ سيِّدَةَ العالَم. فهي فوقَ الجميع، وإنَّ انتصارَها سيتمُّ أخيرًا، وسيكونُ انتصارًا حاسمًا."[33]

وبعدَ طوفانٍ من الكوارث لم يشهد التاريخُ لهُ مَثيلاً وضعَت الحربُ أوزارَها، وأُنشئَت المُنظَّمةُ العالَميَّةُ، وعُقِدَت المؤتمراتُ الدوليَّةُ، وأُلقِيَتِ الخُطَبُ الطنَّانة الواعدة بالسلام والمُساواة والحرِّيـَّة والرخاء؛ ولكنَّ "الدينار"، بطلَ القصَّة الفذَّة وصوت الدكتور داهش، كان بالمِرصاد، فهو يُخاطبُ المُؤتمرين:

يا مَنْ بأَيديكم القوَّاتُ الماديَّة،

ويا مَنْ تُسيطرون على الطاقة الذرِّيـَّة،

ويا مَنْ تدَّعونَ بحبِّكم للبشريَّة (...)

أَعيدوا لكلِّ ذي حقٍّ حقَّه، وحرِّروا المُستَعبَد من رِقِّه، والمغبونَ من غَبنِه، فربُّ البيتِ أدرى بالذي فيه (...)

قلتُم إنَّ (العدوَّ) قسَّمَ البشرَ إلى أنواعٍ وأجناس، ورقَّمَهم، وأعلنَ للنَّاس أنَّهم أنجاس؛ وهو أرقمُهم.

لقد دارَت على هذا العدُوِّ الدوائر، فأضحى خائرَ العزيمة، وأصبحَ وهو بأمره حائر.

والآن، فهل ساوَيتُم أصحابَ الأَرقامِ بأنفُسِكم، وأحلَلتُموهم مرتبتكَم، وأنزَلتُموهم، أيُّها المُسيطرون، منزلتكم؟[34]

 

الغرورُ والكبرياء

الغرورُ هو انخداعُ الإنسان بقيمةِ نفسِه الحقيقيَّة، ولا سيَّما بقَدر عقلِه ومعرفتِه ومنزلتِه بين الناس، وبالتالي هو تضخيمٌ مُفرِطٌ للذات. فإذا رافقَهُ التحقيرُ للآخرين والاستهانةُ بهم، أصبحَ كبرياء، الرذيلة التي تُعتَبرُ في الأَديان خطيئةً، وفي علمَي النفس والاجتماع نقيصةً نفسيَّةً واجتماعيَّة.[35]

إنَّ واقعَ الغرور والكبرياء في أكثر الناس اكتشفَهُ الدكتور داهش قبلَ أن يبلغَ الثلاثين من عُمره. ففي 15 تمُّوز (يوليو) 1938، كتبَ قطعةً سمَّاها "غرورُ الإنسان"، قالَ فيها:

فهو يظنُّ أنَّهُ فارسُ الميدان الأَوحَد،

وبطلُهُ الذي لا يُشَقُّ له غُبار في كلِّ مضمار.

فهو خَدينُ الحكمة، وربُّ المعرفة،

وصِنوُ العُلماء الأَفذاذ، ومُختزنُ الفلسفة (...)

وغُرورُهُ السَّمج وكبرياؤُه القَذِرَة

يجعلانِه يظنُّ أنَّهُ اكتشفَ أسرارَ الحياة،

وفضَّ مغاليقَ الموت المُبهَمَة،

وافتَضَّ مُعَمَّيات الخلود (...)

ويركبُهُ الغرورُ الجامح،

فيظنُّ أنَّ الكُرَةَ الأَرضيَّةَ قد كُوِّنَت لأَجلِه (...)

وهي مُسَخَّرة لمصلحتِه، وتأتمرُ بأمرِه.

فيروحُ، وبسمةُ الانتصار تعلو ثغرَه الأَبلَج،

رافعًا عقيرتَه لأَبناءِ بجدتِه، مُوزِّعًا عليهم عِظاتِه،

شارحًا لهم مُعمَّياتِ الأَسرار المـَوصودة،

نافحًا إيَّاهم بنعمةِ معرفتِه المزعومة...

وحقيقةُ الأَمر أنَّهُ عامهٌ بالجهالة،

سادرٌ بدروب الضلالة...[36]

إِنَّ تعريضَ الدكتور داهش بالكبرياء والغرور تكرَّرَ في كتاباته، خُصوصًا لدى ذِكرِه الفاتحين والحُكَّام المُتجبِّرين، سواءٌ في قِطَعه الوجدانيَّة [37] أم في "مُذكِّرات دينار" في أثناءِ حديثه عن صَلَف الحُكَّام الإنكليز وتجبُّرهم وتكبُّرهم على الشعوب التي حَكَموها. وجاءت نصيحتُه للمُتَكبِّر في غاية البساطة إذْ قال يحثُّه على الاعتبار:

فلَيتَه علمَ أنَّ أحقرَ الكائنات يُمكنُها أن تقضيَ على وجوده مورِدَةً إيَّاه مواردَ التهلكة، مُعفِّرَةً أنفَه في الرّغام.[38]

وقولُهُ هذا يُذكِّرُنا بِقَول الإمام عليّ: "ما لابنِ آدمَ والفخر: أوَّلُهُ نُطفة، وآخرُه جيفة، ولا يرزق نفسَه، ولا يدفعُ حتفَه."[39]

إِنَّ الكبرياءَ والغرورَ هما أكثرُ الرذائل تسبيبًا لعَمى البصيرة وضلال الإنسان، ولِرَفضِه هدايةَ الأَنبياء.

 

6- الرياء

بِقَدرِ ما يزدادُ صفاءُ النفس ويتَّحدُ ظاهرُ الإنسان بباطنِه، يزدادُ نُفورُهُ من الرياء، لأَنَّ أهلَ الرياء يعيشون حياتَين: واحدةً علَنيَّةً مُقَنَّعَة بالفضيلة والصلاح والشرف والنزعة الإنسانيَّة، وأُخرى خاصَّة خفيَّة تنطلقُ فيها سجاياهم على حقيقتِها من غير رقابة، فإذا هي على النقيض ممَّا يُعلِنون.

لقد رأى الدكتور داهش، ببصيرتِه النيِّرة المُلهَمَة، أنَّ الناسَ جميعًاإلاَّ قلائل منهم على رأسهم المهاتما غاندي في القرن العشرينيعيشون حياةَ الرياء. ففي قطعةٍ عنوانُها "ندَّعي الفضيلة وتحتلُّنا الرذيلة"[40] يقول:

كلٌّ منَّا يدَّعي بالفضيلة وهو غارقٌ في الرذيلة! (...)

يدَّعي بأنَّهُ يعطفُ على البُؤَساء، ولو استطاعَ سَلْبَهم لَما تأخَّرَ عن ذلك!

يدَّعي بأنَّهُ تقيٌّ وَرِع، بينما الجريمةُ تسري في دمائه!

يدَّعي بأنَّه مُرشِدٌ نزيه، وحقيقتُهُ ذئبٌ شَرِسٌ بِجِلْدِ إنسان!

يدَّعي بالرأفة والشَّفقة، والحقدُ يتمشَّى في أعصابِه، والضغينةُ تنهشُ فُؤادَه! (...)

يدَّعي بأنَّهُ مُتقشِّفٌ يرضى بِشَظَفِ العيش، وسِرًّا يُرفِّهُ عن نفسِه باللذاذات! (...)

جميعُنا ندَّعي ظاهريًّا بالفضل والفضيلة، وباطنيًّا تُعَشِّشُ الأَفاعي فينا، وتَلِدُ العقاربُ السامَّةُ بداخلِنا أفانينا!

فمتى متى نتَّعظُ قبل أن يأتيَ الموتُ حاصدُ الأَرواحِ فيُفنينا!

والرياءُ يجعلُ التعاملَ بين الناس صعبًا، لأَنَّ ظاهرَه الصدقُ وحَشوَهُ الكذبُ والخداع. ولذا ينصحُ الدكتور داهش أصحابَه بالتسلُّح بالحَذَر الدائم في تعامُلهم مع الآخرين:

يدَّعونَ محبَّتَكَ وصداقتَك،

وبوُدِّهم أن يستَولوا على أموالِك.

الضغينةُ تسيرُ في رِكابِهم،

والغدرُ ما هو إلاَّ جلبابهم.

فكُنْ، يا صاحبي، على حَذَرٍ شديدٍ منهم؛

إِنَّهم قطيعٌ من الذئاب المُفترِسَة، فاحذَرْهم،

وإيَّاكَ أن تطمئنَّ لمظهرهم الكاذب...[41]

ويرى الدكتور داهش أنَّ مسؤوليَّةَ الرياء والكذب والخداع تعظمُ بقَدْر ما يعظمُ دورُ الإنسان في التوجيه والإرشاد ولا سيَّما الروحيّ. فخداعُ الحُكَّامِ لشعبِهم أعظمُ تبعةً عليهم من خداع المُواطنين العاديِّين بعضهم لبعض. وخداعُ رجال الدين للمؤمنين أعظمُ تبِعةً عليهم من أيِّ خداعٍ آخر، لأَنَّهم ينصبونَ أنفسَهم حُماةً للقِيَم الروحيَّة، ورُعاةً للفضيلة، وحمَلَةً لراية الحقيقة، فإذا هم عاشوا حياةَ رياءٍ وخَتلٍ ونِفاق، فإنَّهم يكونون قد خانوا الأَمانةَ التي حملوها، وخانوا ربَّ السماء. ولذا يُشهِّرُ مُؤسِّسُ الداهشيَّة بالمُرائين منهموما أكثرهم!ويزجُّ بهم في الدَّرَك الثامن والأَربعين من دَرَكات الجحيم حيثُ يُسامونَ عذابًا رهيبًا على تدليسهم وخداعهم. ومُجَرَّدُ عرضٍ لعناوينِ بعضِ القِطَع التي يُعرِّضُ فيها بهم يُنبئُ عن مدى غضبته المقدَّسة عليهم: "ثعالب"،[42] "الكاهن المُنافق"،[43] "خسئَ كاهنٌ كَذوب"، [44] "ذئابٌ يرتدونَ أثوابَ الحملان"[45] إلخ.

كما يُشهِّرُ في كتاب "الدهاليز" بتَدجيل المعلِّمين والأَطبَّاء والمُحامين والقُضاة والتجَّار...[46]

وفضلاً عن كتابة القِطَعِ الوجدانيَّة أو الوصفيَّة التصويريَّة في التعريضِ بأهل الرياء والكذب، استَخدمَ الدكتور داهش القالَبَ القَصصيَّ أيضًا. فعندما كانَ في الرابعة والعشرين من عُمره كتبَ قصَّة "الأَب أنطون والشيطان"[47] التي يُصوِّرُ فيها الكَهَنَةَ يهتمُّون بمُعالجة جراح الشيطان حرصًا على شفائه، لأَنَّ في بقائه سليمًا بقاءَ وجودِهم وسيطرتهم على سُذَّجِ المؤمنين.

كذلك في "مُذكِّرات دينار" يفضحُ حياةَ الرياء التي يعيشُها أفرادُ الطبقة الأَرستقراطيَّة من الإنكليز، وسياسةَ الخداع التي يتوسَّلُ بها الحُكَّامُ لِجَرِّ شعوبهم إلى ويلاتِ الحروب إشباعًا لِشَهوةِ الطمع والسيطرة. كما يفضحُ رياءَ الكَهَنَة والأَساقفة والراهبات في تعامُلهم بعضهم مع بعض ومع المؤمنين البُسطاء.[48]

وفي كثيرٍ مِمَّا رواهُ في "قِصَص غريبة وأساطير عجيبة" يهتكُ قِناعَ الرياء الذي تتنكَّرُ به النساءُ تظاهُرًا بالفضيلة أو إيقاعًا للرجال في حبائلهنَّ قبلَ أن يُسفِرنَ عن وجوههنَّ الحقيقيَّة.[49]

إنَّ الرياءَ في التعامُل ينسفُ أُسُسَ الحياة الروحيَّة التي من أهَمِّ قِيَمِها الحقيقة والعدالة والمحبَّة. فعندما تكذبُ على أحدٍ استهانةً به أَو قصدَ ابتزازِه أو إيذائه، فأنتَ تُضلِّلُه وتحتقرُهُ وتظلمُه. والتضليلُ نَضحُ الباطل، والاحتقارُ نضحُ الكبرياء، والظلمُ نَضْحُ الشرّ.

ذلك فضلاً عن أنَّ المُرائي يستحيلُ أن يُخلِصَ ولاءَه لله أو لعقيدةٍ ما، لأَنَّ طبيعتَهُ المُتلوِّنَة تجعلُهُ يلبسُ لكلِّ حالةٍ لَبوسَها؛ وهكذا يُحوِّلُ ولاءَهُ مُجامَلَةً أو تزلُّفًا أو تملُّقًا أو مُماذَقَةً إلى كلِّ مَن يستطيع أن يجنيَ فائدةً منهُ مادِّيـَّةً كانت أم معنويَّة، وخُصوصًا إلى مَن تكونُ بيَدِه القوَّةُ أو السيادةُ وإن تكُن إلى حين. وبينما يكونُ شِعارُ المؤمِن الحقِّ "لا طاعةَ لمخلوقٍ في معصية الخالق،" يكونُ شعارُ المُرائي: أَطِعْ مَن تستفيدُ منه مادِّيًّا أو معنويًّا وإن يكُنْ على حساب الحقيقة والعدالة والفضيلة.

والعَبَثُ بالصدقِ والحقيقة قولاً أو عملاً قد يُؤدِّي إلى أمرٍ خطيرٍ هو الحَلَفُ بالله بالباطل أو الحَنَثُ بالقَسَم أو الشهادةُ بالزور؛ وجميعُها مُدرَجة في وصايا الله العشر كما في النواهي الدينيَّة في مُختلف الأَديان. بل إنَّ القوانينَ المدَنيَّةَ تُعاقبُ عليها إذا حدثَت في المحاكم. وقد رتَّبَ مُؤسِّسُ الداهشيَّة على مَن يقومُ بها تبعاتٍ خطيرةً وعواقبَ مشؤومةً يُمكنُ الوَقوفُ على أمثلةٍ منها في ما رواهُ من قِصَصٍ عن الرياء، ولا سيَّما الخيانة الزوجيَّة.[50]

زِدْ إلى ذلك أنَّ الإيمانَ الذي يُخالطُهُ الرياء هو إيمانٌ باطلٌ ندَّدَت به جميعُ الكتُبُ المُقدَّسة. فعبادةُ الله يجبُ أن تكونَ في مُنتهى الإخلاص له. فمَن يصرفُ قلبَه وهمَّهُ إلى كائنٍ أرضيٍّ ويُعلِّقُ عليه أملَه وخَلاصَه، فكأنَّهُ عَبَدَه دونَ الله. ولذلك قال الإمامُ عليّ بن أبي طالب: "هَلَكَ فيَّ رجلان: مُحِبٌّ غالٍ [أي مُغالٍ] ومُبغِضٌ قالٍ [أي حقود]". فوَضعَ المُتطرِّفَين الاثنَين في منزلةٍ واحدة، لأَنَّ المُغالاةَ تنطلقُ من هَوَسٍ وانفعالاتٍ هائجة وعواطفَ مائجة لا من عقلٍ هادئٍ صافٍ وتبصُّرٍ منطقيٍّ بعواقبِ الأُمور وبالأَسبابِ ونتائجها. إنَّ الإيمانَ الذي يُسيِّرُهُ الهَوَى كالسفينة التي تتقاذفُها الأَنواءُ وهي بلا رُبَّان، إذْ إنَّ الهوى الجارفَ لا بُدَّ من أن يحيدَ بصاحبِه عن وجهة الحقيقة والعدالة والفضيلة، فيضلُّ، ويتيهُ في ضلالِه وهو ماضٍ في إقناعِ نفسِه، بوسيلة التبريرات الإيهاميَّة، بأنَّهُ لم يَزِغْ عن جادَّةِ الصواب.

وإذا اجتمعَ الرياءُ بالغرور والكبرياء في النفس الواحدة، فالإنسانُ، إذْ ذاك، يُصِمُّ أُذنَيه عن أيِّ رأيٍ أو مَشورة، بل يرفضُهما مُقدَّمًا مُعتبِرًا أنَّ المعرفةَ الحقيقيَّةَ بين يدَيه. فإذا كانَ زعيمًا عقائديًّا، دينيًّا أو سياسيًّا، يُزيِّنُ له غرورُه بأنَّهُ معصومٌ من الخطإ، فيُحاربُ كلَّ مَن خالفَه في الرأي، ولا يتحرَّجُ من التنكيل والتفظيع بِمَن يُقاوِمون منهجَه وموقفَه. هكذا حدثَت الحروبُ الدينيَّةُ، وعُبِّئَتِ الحَمَلاتُ الصليبيَّة. وهكذا سقطَ عشرون مليون ضحيَّة من أهل الريف داخل الاتِّحاد السوفياتيّ، لأَنَّهم قاوَموا المنهجَ الستالينيّ. ولا يهمُّ أهلَ الرياء أن تُدَمَّرَ المنازل ويُقتَل الأَبرياء، ويُيَتَّم الأَطفال، وتُثكَل النساء ما داموا يَرَونَ أنَّ غايتَهم شريفة. فالوسيلةُ مهما بلغَت من الدناءة لا تعنيهم، لأَنَّ إيمانَهم بالقِيَم الروحيَّة أو الإنسانيَّة الكُـلِّـيَّة غير صحيح؛ فهو مبنيٌّ على المُراءَاة وعلى انتهازهم للفُرَص ومعرفتِهم من أَين تُؤكَلُ الكتِف.

لذلك تُؤَدِّي المُغالاةُ في الإيمان العقائديِّ إلى نشوءِ الحركات الإرهابيَّة المُعادِيَة لكلِّ مَن كانَ خارج دائرتها. وهكذا ليس في نظر هذه الحركات ضحايا بريئة لعمليَّاتها الإجراميَّة؛ فكلُّ مَن لم يأخُذ بمفهومها للحقيقة والعدالة والاستقامة هو هدفٌ لحربِها.

إنَّ الحروبَ والفِتَنَ الدينيَّةَ والطائفيَّةَ ما تزالُ تقعُ في الشرق والغرب؛ والقارئُ لا يحتاجُ إلى ذكرها، لأَنَّ أخبارَها تملأُ وسائلَ الإعلامِ يوميًّا. والبراهينُ التاريخيَّةُ والعلميَّةُ تُؤكِّدُ أنَّ الحروبَ التي تُثارُ باسم الدين كانتوما تزالأقذرَ الحروب وأفظعَها؛ لأَنَّ أصحابَها يكونونَ مأخوذين بِهَوَسِ أنَّهم مُختارون لِعَمَلٍ مُقدَّسٍ ومُبارَكٍ سينالون عليه ثوابًا في الفراديس أو السماوات. لذلك يُسمِّي الغُلاةُ الدينيُّون حربَهم "حربًا مُقدَّسة" و"جهادًا مُقدَّسًا"، يُسقطونَ فيه القوانينَ الدوليَّة التي تحكمُ التعامُل بين المُتحاربين أو التعاطي مع الأًسرى والمدنيِّين المُسالمين.[51]

مع هذه النظرة السوداء للطبيعة البشريَّة، يبقى الإنسانُ جبلةً من خَيرٍ وشرّ في المفهوم الداهشيّ. فما مصدرُ دوافعه النفسيَّة الخبيثة؟ وما السبيلُ إلى ارتقائه الروحيّ لتغليب الخير فيه على الشرّ؟ هذا نراه في بحثٍ مُقبل.

 

 


 



[1]الدكتور داهش، "ذكرياتُ الماضي" (بيروت: دار النسر المُحلِّق، 1980)، ص 32-33.

[2]انظر "صوت داهش"، كانون الأَوَّل (ديسمبر) 1995 وآذار (مارس) 1996.

[3]الدكتور داهش، "كلمات" (بيروت: دار النار والنور، 1983، ط2)، ص 146.

[4] "الرسائل المُتبادَلة بين الدكتور داهش... والدكتور حسين هيكل باشا" (بيروت: دار النسر المُحلِّق، 1981)، ص 43.

[5] المصدر السابق، ص 181.

[6]وردَ أمرُ تحظير الإعدام في الأَجوبة الروحيَّة التي رُسِمَت بصورةٍ عجائبيَّةٍ تحت الأَسئلة التي كتبَها الوزيرُ اللبنانيُّ السابق، إدوار نون، ووضعَها في ظرفٍ مُلصَق. وقد تمَّتِ المعجزةُ بمُجَرَّد لمس الدكتور داهش للظرف قائلاً لِنون: "أتَتْكَ الأَجوبة."

[7] الدكتور داهش، "مُذكِّرات دينار" (نيويورك: الدار الداهشيَّة، 1986)، ص 107. انظر مقال "العدالة بين الشعوب"، في "صوت داهش"، عدد حَزيران (يونيو) 1998.

[8] "الرسائلُ المُتبادَلة بين الدكتور داهش... والدكتور حسين هيكل باشا"، ص 71-73.

[9]كُسِرَت يدُه من العُنُق، وتحقَّقَت النبوءةُ تمامًا. وقد اضطُرَّ إلى قَصد القُدس للاستشفاء في 15 شباط 1945.

[10]وجُنَّ أيضًا وكانَ جُنونُه مُطبقًا.

[11]طرَدَهُ الشعبُ طردًا شائنًا بتاريخ 18 أيلول 1952.

[12]VFW (Veterans of Foreign Wars), June-July 1999/A Statistical Reference, Vol. II (1992) by M. Clodfetter.

[13]FBI, Crime in the US, 1996. Departmant of Justice, 1996.

[14]انظر تفصيلَ ذلك في مجلَّة: Time, May 31, 1999.

[15]الدكتور داهش، "الرحلاتُ الداهشيَّة حول الكُرة الأَرضيَّة"، ج 6 (نيويرك: الدار الداهشيَّة،1990)، ص273-274.

[16]الدكتور داهش، "غاب البنفسج" (بيروت: دار النسر المُحلِّق، 1980)، ص 126؛ "الرحلاتُ الداهشيَّة حول الكُرة الأرضيَّة"، ج 16 (الدار الداهشيَّة، نيويورك، 1992)، ص 55-56.

[17]الدكتور داهش، "القلبُ المُحطَّم" (نيويورك: الدار الداهشيَّة، 1984)، ص 61-79.

[18]الدكتور داهش، "المُهنَّدُ الباتر" (نيويورك: الدار الداهشيَّة، 1991)، ص 182.

[19]المصدر السابق، 169.

[20]الدكتور داهش، "كلمات"، ص 180.

[21]الدكتور داهش، "قصص غريبة وأساطير عجيبة"، ج1 (بيروت: دار النسر المحلِّق، 1979)، ص 65-69.

[22]المصدر السابق، ص 185-189.

[23]الدكتور داهش، "قصص غريبة وأساطير عجيبة"، ج3 (قيد النشر).

[24]الدكتور داهش، "قصص غريبة وأساطير عجيبة"، ج2 (بيروت: دار النسر المحلِّق، 1979)، ص 196-220.

[25]المصدرُ السابق، ص 31-39.

[26]أنظر مثالاً بارزًا على طمع النساء بالسيادة والسيطرة في قصَّة "اللُغز المُحيِّر أو مرارةُ الموت حلاوتُها شهديَّة" في الجزء الرابع من "قِصص غريبة وأساطير عجيبة" (بيروت: دار النار والنور، 1983)، ص 97.

[27] الدكتور داهش، "جحيمُ الذكريات" (نيويورك: الدار الداهشيَّة، 1984)، ص 265.

[28]انظُر مثالاً على ذلك قطعة "مُلوك" في "القلب المُحَطَّم"، ص 111، وقطعة "فقاقيع" في "التائه في بيداء الحياة" (بيروت: دار النسر المحلِّق، 1980)، ص 40.

[29]الدكتور داهش، "مُذكِّرات دينار"، ص 127.

[30]المصدر السابق، ص 137 و 191-195.

[31]المصدر السابق، ص 210-217.

[32]المصدر السابق، ص 276.

[33]المصدر السابق، ص 340.

[34]المصدر السابق، ص 376.

[35]ديديه جوليا، "قاموس الفلسفة". نقلَهُ إلى العربيَّة فرنسوا أيُّوب، إيلي نجم، ميشال أبي فاضل. (بيروت: مكتبة أنطوان/باريس: دار لاروس، 1992)، مادَّة "الكبرياء"، ص 428.

[36]الدكتور داهش، "ذكرياتُ الماضي"، ص 74-76.

[37]انظر مثلاً على ذلك في الدكتور داهش، "بروق ورعود" (بيروت: مطابع روطوس، 1946)، "غرور"، ص 107، وفي "قصائد مُجَنَّحة" (بيروت: دار النسر المُحلِّق، 1980) قطعة "أينَ جَمشيد وداريوس"، ص 20.

[38]الدكتور داهش، "ذكريات الماضي"، ص 76.

[39]عليّ بن أبي طالب، "نهج البلاغة"، ضبطَ نصَّه د. صُبحي الصالح (بيروت: دار الكتاب اللبنانيّ،1980)، ص 555.

[40]الدكتور داهش، "تُراب وسراب" (بيروت: دار النسر المُحلِّق، 1980)، ص 38.

[41]الدكتور داهش، "آمالُنا أوهام" (بيروت: دار النسر المحلِّق، 1980)، ص 92.

[42]الدكتور داهش، "بروق ورعود"، ص 94. انظر أيضًا في المصدرِ نفسِه "ذئابٌ مُفترِسَة"، ص 11.

[43]الدكتور داهش، "أفراح وأتراح" (بيروت: دار النسر المُحلِّق، 1980)، ص 68.

[44]الدكتور داهش، "روح تُغنِّي" (بيروت: دار النسر المُحلِّق، 1980)، ص 95.

[45]الدكتور داهش، "أناشيد البُحيرات" (بيروت: دار النسر المُحلِّق، 1980)، ص 70. انظر أيضًا "وكاهن ضحكتُه رطل" في "قصائد مُجَنَّحة"، ص 16.

[46]أنظر الدكتور داهش، "شاعر وناثر" (بيروت: دار النار والنور، 1983)، ج 2، 179-203.

[47]الدكتور داهش، "أسرار الآلهة"، ج2، (بيروت: دار النسر المُحلِّق، 1980)، ص 162-186.

[48]الدكتور داهش، "مُذكِّرات دينار"، ص 43-52؛ 80-95؛ 103-129؛ 309-334.

[49]الدكتور داهش، "قصص غريبة وأساطير عجيبة"، ج1: "والدة طاهرة الذيل وشقيقة تقيَّة نقيَّة"، ص 37؛ "حبٌّ وغرام وعشقٌ وهيام"، ص 134؛ "قَسَمٌ جبَّارٌ عصفَت به شهوةُ الحبِّ فانهار"، ص 157؛ "حديثٌ بينَ أُفعُوانتَين"، ص 197؛ ج2: "مقبولة مرفوضة أو هي المرأة فاحذروها"، ص 20؛ "تزوَّجَت ميتًا"، ص 94؛ "المرأةُ دينُها الحبُّ من المهد حتَّى اللحد"، ص 100.

[50]انظر الحاشية السابقة.

[51] Roy F. Baumeister, Evil: Inside Human Violence and Cruelty. (Ney York: W. H. Freeman & Co., 1999), p. 174.

  Back to التعاليم الداهشيَّة بقلم الدكتور غازي براكس 

 

Developed by Houssam Ballout        Copyright 2019 This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.nfo All Right Reseved This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.