أنا أؤمن بأنه توجـد عدالة سماويّة, وأن جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدنيا من مُنغصات انَّ هـو الاّ جـزاءٌ وفاق لِما أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور.ولهـذا يجب علينا أن نستقبلَ كلّ مـا يحـلّ بنـا من آلامِ الحياةِ ومآسيها غير مُتبرّمين ولا متذمّرين , بل قانعين بعدالةِ السماء ونُظمها السامية.

Highlighter
أحبُّ الكُتُبَ حبَّ السُكارى للخمر , لكنَّني كلَّما أزددتُ منها شرباً, زادتني صَحوا
ليس مّنْ يكتُبُ للهو كمَن يكتُبُ للحقيقة
الجمالُ والعفّــة فـردوسٌ سماويّ .
لا معنى لحياةِ ألأنسان اذا لم يقم بعملٍ انسانيٍّ جليل .
اعمل الخير , وأعضد المساكين , تحصل على السعادة .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقـوم بأعمالِ الخير نحـو ألأنسانيّة .
الموتُ يقظةٌ جميلة ينشُدها كل مَنْ صَفَتْ نفسه وطَهرت روحه , ويخافها كلّ من ثقُلت أفكاره وزادت أوزاره .
ان أجسامنا الماديّة ستمتدّ اليها يـد ألأقـدار فتحطِّمها , ثمّ تعمل فيها أنامل الدهـر فتتَّغير معالمها , وتجعلها مهزلةً مرذولة . أمّا ألأعمال الصالحة وألأتجاهات النبيلة السّامية , فهي هي التي يتنسَّم ملائكة اللّه عبيرها الخالد .
نأتي إلى هذا العالمِ باكين مُعولين، و نغادره باكين مُعولين! فواهً لك يا عالمَ البكاء والعويل!
جميعنا مُغترٌّ مخدوعٌ ببعضه البعض.
العدلُ كلمة خُرافية مُضحكة.
أمجادُ هذا العالم وهمٌ باطل، و لونٌ حائل، و ظلٌّ زائل.
لا باركَ الله في تلك الساعة التي فتحتُ فيها عينيّ فإذا بي في مكانٍ يطلقون عليه اسم العالم .
أنا غريبٌ في هذا العالم، و كم احنُّ إلى تلك الساعة التي اعود فيها إلى وطني الحقيقيّ.
الحياةُ سفينةٌ عظيمة رائعة تمخرُ في بحرٍ، ماؤه الآثام البشريَّة الطافحة، و امواجه شهواتهم البهيميَّة الطامحة، و شطآنه نهايتهم المؤلمة الصادعة.
كلّنا ذلك الذئبُ المُفترس , يردع غيره عن اتيانِ الموبقاتِ وهو زعيمها وحامل لوائها , المُقوّض لصروح الفضيلة , ورافع أساس بناءِ الرذيلة .
الحياةُ سلسلة اضطراباتٍ وأهوال , والمرءُ يتقلَّب في أعماقها , حتى يأتيه داعي الموت, فيذهب الى المجهولِ الرهيب , وهو يجهلُ موته , كما كان يجهلُ حياته .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقومَ بأعمالِ الخير نحو الانسانيّة .
المالُ ميزان الشرِّ في هذا العالم .
السعادةُ ليست في المال , ولكن في هدوءِ البال .
كلُّ شيءٍ عظيمٍ في النفسِ العظيمة , أمّا في النفسِ الحقيرة فكلُّ شيءٍ حقير .
الرُّوح نسمةٌ يُرسلها الخالق لخلائقه لأجل , ثم تعودُ اليه بعجل .
الرُّوح نفثةٌ الهيَّة تحتلُّ الخلائق , وكل منها للعودة الى خالقها تائق .
الرُّوح سرٌّ الهيٌّ موصَدْ لا يعرفه الاّ خالق الأرواح بارادته , فمنه أتتْ واليه تعود .
أنا أؤمن بأنه توجـد عدالةٌ سماويّة , وأنَّ جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدُّنيا من مُنغِّصاتٍ وأكدارٍ انَّ هـو الاَّ جـزاء وفاق لمِا أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور . ولهـذا يجب علينا أن نستقبل كلَّ مـا يحـلُّ بنـا من آلام الحياة ومآسيها غير م
الحرّيةُ منحة من السماءِ لأبناءِ ألأرض .
الموتُ ملاكُ رحمةٍ سماويّ يعطف على البشر المُتألّمين , وبلمسةٍ سحريّة من أنامله اللطيفة يُنيلهم الهناء العلويّ .
ما أنقى من يتغلّب على ميولِ جسده الوضيع الفاني , ويتبع ما تُريده الرُّوح النقيّة .
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
الراحة التامّة مفقودة في هذا العالم , وكيفما بحثت عنها فأنت عائدٌ منها بصفقةِ الخاسر المَغبون .
ليس أللّــه مع الظالم بل مع الحقّ.
ان الصديق الحقيقي لا وجود له في هذا العالم الكاذب.
ما أكثر القائلين بالعطف على البائسين وغوث الملهوفين والحنو على القانطين , وما أقلَّ تنفيذهم القول.
يظنُّ بعض ألأنذال ألأدنياء أنّهم يُبيّضون صحائفهم بتسويدِ صحائف الأبرياء , غير عالمين بأنَّ الدوائر ستدور عليهم وتُشهّرهم.
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السَّلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
رهبة المجهول شقاء للبشرِ الجاهلين للأسرارِ الروحيَّة , وسعادة للذين تكشّفت لهم الحقائق السماويَّة .
الموتُ نهاية كل حيّ , ولكنه فترة انتقال : امّا الى نعيم , وامّا الى جحيم .
الحياةُ خير معلِّمٍ ومُؤدِّب , وخيرَ واقٍ للمرءِ من الأنزلاقِ الى مهاوي الحضيض .
حين تشكُّ بأقربِ المُقرَّبين اليك تبدأ في فهمِ حقائق هذا الكون .
مَنْ يكون ذلك القدّيس الذي لم تخطرُ المرأة في باله ؟ لو وجدَ هذا لشبَّهته بالآلهة .
المرأة هي إله هذه الأرض الواسع السُّلطان. و هي تحملُ بيدها سيفاً قاطعاً لو حاولَ رجالُ الأرض قاطبةً انتزاعه منها لباؤوا بالفشلِ و الخذلان .

أَهمِّـيَّةُ الإرادة في الرُّقيِّ الروحيّ

      وفقًا لمَفهوم مُؤسِّس الداهشيَّة

بقلَم الدكتور غازي براكْس


من الكلمات التي دوَّنَها الدكتور داهش عام 1936، إذْ كانَ في السابعة والعشرين من عُمرِه، أي في عُنفُوانِ شبابِه وذُروةِ حيويَّتِه العاطفيَّة:

"أيَّتُها الإرادةُ الفولاذيَّةُ، ادْني منِّي كي أستطيعَ بواسطتِكِ أن أتغلَّبَ على ضَعفي من النَّاحية العاطفيَّة؛ فإنْ فعَلتِ، فالنَّجاحُ يكونُ حَليفي، وإلاَّ فالخُسرانُ لن يُفارقَ لي ظلاًّ." [1]

من تحليلِنا الكلمة السابقة نستشفُّ الأُمورَ التالية:

أَ- إستنجادُه بـ“الإرادة الفولاذيَّة” يَعني أنَّهُ كانَ تحتَ تأثيرِ دافعٍ عاطفيٍّ قويٍّ يخشى أن يستَسلمَ له.

ب - عقلُهُ الواعي كانَ عاملاً نشيطًا في استنجادِه بـ"إرادتِه الفولاذيَّة"، لأَنَّه، من جهة، كانَ مُدرِكًا وضعَه العاطفيَّ الضاغط، ومن جهة ثانية، واعيًا أنَّ تلكَ الرغبةَ القويَّةَ ليست في الواقع سِوى "ضَعف" عاطفيّ.

ج- لقد كان مُدركًا عواقبَ هذا "الضَّعفِ" العاطفيِّ، فهو يُسبِّبُ له الفشلَ والخسران؛ في حين أَنَّ التخلُّصَ منه يُسبِّبُ له النجاحَ والمجد.

د- وسيلةُ التخلُّص من هذا "الضَّعف" هي في نشاط "الإرادة الفولاذيَّة"، كناية عن الإرادة السامية.

وحياةُ الدكتور داهش الجهاديَّة المثاليَّة برهَنَت، بلا أيِّ شكّ، على قُوَّةِ إرادتِه الغلاَّبة حيالَ لا التجارب العاطفيَّة فحسب، بل إزاءَ التجارب الدُّنيويَّة بمُختلف وجوهها من تكنيز المال إلى المجدِ العالَميّ إلى الراحة والرفاهية. وإرادتُه تستَمَدُّ قوَّتها وغذاءَها من نزعاتِه السامية كما من حَدسِه الإلهاميّ المقرون بإدراكِه الواعي العميق للحقائق الروحيَّة.

إنَّ العناصرَ السيكولوجيَّة التي اشتملَ عليها مدلولُ الإرادة في كلمة الدكتور داهش الآنفة الذكر نراها مُنطوية تحت تعريف الإرادة الذي اصطلحَ عليه عُلماءُ النفس المُعاصرون. فكُلُّ عملٍ إراديٍّ يشتملُ على رغبةٍأو دافعٍتكونُ الأَقوى بين رغباتِ النفس قُبَيلَ القرار الحاسِم، كما على وعيٍ مُتبصِّرٍ للعمل ونتائجه ولتحمُّلِ مسؤوليَّته.[2] إذًا الإرادةُ في إنسانٍ ما تُمثِّلُ، بصورةٍ عامَّة، نشاطًا سيكولوجيًّا مُرَكَّبًا تشتركُ فيه الرغباتُ أَوالدوافعُ السائدة لدى اتِّخاذ القرار مع القِوى العقليَّة العاملة في ذلك الإنسان. فكيفَ تتمثَّلُ الإرادةُ في الإنسان الراقي روحيًّا؟ وكيفَ يظهرُ نشاطُها؟

 

الإرادةُ الراقية

أَ- الإرادةُ القويَّة، بالمفهوم الداهشيّ، هي إذًا الإرادةُ الراقية التي تستمدُّ قوَّةَ حَسمِها من النزعات الروحيَّة والإنسانيَّة الكُلِّـيَّة المبنيَّة على المُثُلِ العُليا التي تحدَّثنا عنها في الحلقتَن السابقتَين. وبذلك يختلفُ مفهومُها عن "إرادة الحياة" التي يرى شوبنهاور Schopenhauer (1788-1860) أَنَّها تتشكَّلُ من مجموع الدوافع التي تستهدفُ استمرارَ النوع بوسيلة النزاع الدائم. كما إنَّها تُغايِرُ "إرادةَ القوَّة" عند نيتشه  Nietzsche (1844-1900) التي تستهدفُ بناءَ "الإنسان الفائق" (superman) بالمُؤالفة بين النموذجِ الديونيسيّ (الذي يُمثِّلُ إعلاءَ شهوات الإنسان لا كبتَها أو القضاءَ عليها) والنموذجِ الأبولونيّ (الذي يُمثِّلُ الحكمة)؛ كما تختلفُ عن "إرادة القوَّة" عند آلفرِد آدلِر Alfred Adler (1870-1937) التي تنشطُ كتعويضٍ نفسيّ عن الشعور بالدونيَّة. كذلك لا علاقةَ للإرادة القويَّة، في المدلولِ الداهشيِّ، بمفهومها العامِّيِّ الشائع الذي يُقصَدُ به قوَّةُ الحَسم، سواءٌ كان القرار   لنُصرة الفضيلة والحقّ أو لنُصرة الرذيلة والباطل.

وقد تكونُ الرغبةُ الأَشَدُّ المُحرِّكة للنشاط الإراديّ الراقي مُساعَدَةَ البُؤَساء من فُقراء ويتامى وأرامل، أو نشرَ الحقيقة، أَوالدفاعَ عن الحرِّيَّة والعدالة المهضومة، أو فضحَ فظائع التعصُّب الدينيّ الأَعمى، أَوالذَّودَ عن المظلومين والمحرومين؛ كما قد تكونُ رغبةَ التواضُع أو التعفُّف أو التزهُّد والتقشُّف... لكنَّ تلكَ الرغبةَ الراقية، كيفما اتَّجَهَت، تبقى، من جهةٍ، مُخلِصَةً للحقيقة، مهما كلَّفَها الإخلاصُ من مشقَّةٍ وألَمٍ وتغييرٍ في الأَفكار والمواقف؛ ذلك لأَنَّ الحياةَ مُستمرَّةُ التصاعُد، ولأَنَّ الحقائقَ الجديدة، روحيَّةً كانت أم علميَّة، تتكشَّفُ أكثر فأكثر بالنسبة لارتقاء الحياة. فالراقي روحيًّا يتقبَّلُ الحقائق الجديدة، لأَنَّهُ بها يُنَمِّي نفسَه. فالتشبُّثُ بالماضي وأفكارِه هو أشبهُ بتشبُّث الإنسان بقيودِه المُرهِقَة.[3] ومن جهةٍ ثانية، تلتزمُ الرغبةُ السامية وسيلةً شريفةً لبلوغِ غايتها الشريفة؛ ذلك بأنَّ الوسيلةَ لا يُمكِنُ فصلُها عن الغاية.

بناءً على ذلك فالإرادة القويَّة يُحَدِّدُها سمُوُّ النَّزَعات والرَّغبات الأَشَدّ في الإنسان كما سُموُّ الحوافز التي تدفعُهُ إلى عملٍ ما. أَمَّا إذا كانت الرغبةُ الأَشَدُّ شرِّيرةً تتَّجِهُ للحسَد والإيذاء المادِّيّ أو المعنَويّ والفتنة والتسلُّط على الآخَرين، أو دُنيويَّة تنزعُ إلى الشُّهرة الفارغة والجاه واكتناز المال، أو يكونُ الحافزُ الأَشَدُّ مُجَرَّدَ دافعٍ بيولوجيٍّ يدفعُ الإنسانَ إلى أن يكونَ تِبْعَ نِساء... فعلى هذا الصعيد لا مجالَ للحديثِ عن إرادةٍ قويَّة، أي إرادة سامية.

ب- كذلك يُحدِّدُ مُستوى الإرادة في إنسانٍ ما مُستوى العقل فيه. فلدى تدخُّل العقل الواعي للمُقارَنَة والمُوازَنَة بين الرغبة المِلحاح وغيرها من الرغبات، أو الدافع الأَشَدّ وغيره من الدوافع، لا بُدَّ من وزن النتائج المُتَرَتِّبة على العمل. وبما أنَّ الذكاءَ أنواعمثلما رأينا في الحلقة السابقةفليس من المعقول أن تكونَ إرادةُ غَبيٍّ كإرادةِ عبقريّ. وللثَّقافة، على هذا الصعيد، دورٌ تنويريٌّ جليل. فمَن لا يفهمُ القوانينَ الطبيعيَّة، مثلاً، يستحيلُ عليه أن يُميِّزَ الشعوذة من المُعجزات الحقيقيَّة؛ ومَن لم يُحِط بتاريخ الأديان وكُتُبها المقدَّسة، مثلاً، يستحيلُ عليه أن يعرفَ الأَصيلَ من المُختلَق الدَّخيل في تعاليمها؛ ومَن لا يفهمُ القواعدَ الصحيحة لعِلم لمنطق، يعجزُ عن تمييز الخطإ من الصواب بل الحقّ من الباطل في أُمورٍ كثيرة... فلا عَجَب إذا كانَ مُؤسِّسُ الداهشيَّة يحضُّ أتباعَه باستمرار على المُطالَعة، ويسبرُ مدى ثقافتهم. وفي رأس الثقافة الداهشيَّة السعيُ الدائب لتفهُّم الحقائق الروحيَّة، من مِثل السَّبَبيَّة الروحيَّة، ونظام العدالة الإلهيَّة، والتقمُّص، وغير ذلك ممَّا كشفَت عنهُ التعاليمُ الداهشيَّة. فالعقلُ المُسَلَّحُ بثقافةٍ عاليةٍ وبِوَعيٍ للحقائق العلميَّة ولِما أُتيحَ معرفتُه من الحقائق الروحيَّة يُساعدُ جدًّا صاحبَهُ في اتِّخاذ القرار الصحيح عندما تتنازعُ الرغباتُ القويَّةُ المتناقضة في نفسِه، سواء كان القرار خاصًّا بالمبادئ والقضايا والمواقف الخطيرة أو بالشؤون اليوميَّة العاديَّة.

 

شروطُ الإرادة الراقية

من تأمُّلِنا في حياة الدكتور داهش الجهاديَّة المثاليَّة، وصراعِهِ مع قوى الطغيان، ومُعالجتِه وحَسمِه لمُختلف الأُمور، الكبيرة منها والصغيرة، اليوميَّة والاستثنائيَّة، يُمكنُنا أن نستخرجَ نهجًا أمثل يتَّبعُه الراقونَ روحيًّا. هذا المنهجُ اتَّبَعَهُ، بصورةٍ عامَّة، الهُداةُ الروحيُّون والمُصلِحون الإنسانيُّون في مُختلف العصور.

إنَّ التنفيذَ الإراديَّ الواعي لأَيَّةِ رغبةٍ أو دافعٍ أو قرارٍ لدى الراقين روحيًّا لا بُدَّ من أن يقترنَ بعدَّةِ شروط، بدونِها مُجتمِعَةً يفقدُ القرارُ سُمُوَّ معناه ويفقدُ تنفيذُه نتائجَه الخيِّرَة المُبتغاة أو تحقيقَه الكامل. أمَّا الشروطُ الضروريَّةُ فهي خمسة: التزامُ المُثُل العُليا وما تستَتبعُهُ من مبادئَ وأهدافٍ التزامًا عقلانيًّا وإيمانيًّا؛ التَّحلِّي بالعزيمة القويَّة والثِّقَة بالله وبالنفس؛ الصبرُ والأَملُ والثَّباتُ في الإيمان دونما تذمُّر؛ الشجاعةُ المعنويَّة وعدمُ الإحجام عن المُغامَرَة؛ أخيرًا، التحمُّل الواعي لمسؤوليَّة العمَل؛ هذه الشروطُ الخمسة سأتناولُها بالإيضاحِ تِباعًا.

 

أوَّلاً- إلتزامُ المُثُل العُليا التزامًا عقلانيًّا وإيمانيًّا

مَنْ يتأمَّلْ في مسيرة الحضارات، لا يصعُبْ عليه أن يكتشفَ أنَّ سيرَها التصاعُديَّ، أو قفزاتِها إلى عَلُ، أحيانًا، لا يتمُّ إلاَّ على أيدي عباقرةٍ وأفذاذٍ يلتزمون المُثُلَ العُليا التزامًا عقلانيًّا وإيمانيًّا. فالأَنبياءُ والهُداةُ الروحيُّون، والمُصلِحون الإنسانيُّون، والفلاسفةُ والأُدباءُ المُستَنيرون، جميعُهم كانوا يلتزمون المُثُلَ العُليا وما تشتملُ عليه من قِيَمٍ روحيَّةٍ وإنسانيَّةٍ كُلِّـيَّة، في رأسِها قضايا الحقيقة والعدالة والحُرِّيَّة والفضيلة والأُخُوَّة البشريَّة.

إنَّ التزامَ المُثُلِ العُليا المُؤسَّسة على القِيَمِ الروحيَّة يُملي موقفَ اللاحياد تجاهَ النزاع بين الحقِّ والباطل أو الخير والشرّ أو الفضيلة والرذيلة أَو الجحود والإيمان، بل تجاهَ النِّزاعِ بين واجبَين أحدُهما روحيّ والآخر دُنيويّ، أو أحدُهما خُلُقيٌّ وطنيٌّ اجتماعيّ والآخر مادِّيٌّ فرديٌّ أنانيّ. فالولاءُ لله وما يُمثِّلُهُ من قِيَمٍ روحيَّةٍ مُطلَقَة يجبُ أن يتقدَّمَ الولاءَ للوطَن أو للقوميَّة أو الحزب أو الطائفة أو العائلة أو الأَفراد أيًّا كانوا، وتنفيذُ العملِ الذي فيه منفعةٌ خُلقيَّة عامَّة أَولى من تنفيذ ما فيه منفعةٌ مادِّيـَّة شخصيَّة.[4] فخاسرٌ مَن يؤثِرُ حُظوةَ زعيمٍ دينيٍّ أو سياسيٍّ أو اجتماعيّ على التزامه القِيَمَ الروحيَّة الصحيحة؛ وخاسِرٌ مَن يُمالئُ أَيَّ مُتنفِّذ على حسابِ الحقيقة والعدالة والحرِّيـَّة والمحبَّة الشاملة. ولذلك يتعارَضُ التزامُ المبادئ السامية مع النرجسيَّة (انصباب عواطف الإنسان واهتمامه على شخصه) كما مع الأَنانيَّة، لِما تستَتبعُ الاثنتان من فوائدَ دُنيويَّة شخصيَّة وازدراءٍ أَو تجاهُل لمصالح الآخرين؛ فبينَ النرجسيَّة أَو الأنانيَّة والروحانيَّة المُنطوية حُكمًا على الغَيريَّة تناقُضٌ أساسيّ.[5]

كذلك إنَّ التزامَ القِيَمِ الروحيَّة والإنسانيَّة الكُلِّـيَّة يستَتبعُ ضرورةَ التَّسامُح الدينيّ، والحِوارَ المفتوح مع ذَوي الآراء المختلفة، والإيمانَ بنسبيَّة الحقائق الدينيَّة مثلما يعرفُها البشر؛ ذلك بأنَّ الحقيقةَ المُطلَقَة مُنحصِرَةٌ في الله تعالى، ولا قُدرةَ للإنسان على استيعابِ الله من حيثُ هو المعرفةُ المُطلَقَة. وبناءً على ذلك فالالتزامُ الدينيُّ أو العقائديُّ الذي يتجاهلُ الآخرين ويُسفِّه حقائقَهم وآراءَهم يستحيلُ أن يكونَ التزامًا لقضيَّةٍ سامية.

ومن صِفاتِ الالتزامِ الصادق لقضيَّةٍ ماأي الإيمان بها والاقتناع بضرورة تنفيذها الجهرُ بتلك القضيَّة، وذلك ليكونَ للإنسانِ فضلُ إعلان إيمانِه غيرَ خجِلٍ أو هيَّاب بِقِيَمٍ غير القِيَم التي يتبنَّاها سائرُ النَّاس.

وليس كمؤسِّس الداهشيَّة مَن جَهَرَ بالقِيَمِ التي يُؤمِنُ بها وقارَنَ بينها وبينَ قِيَمِ الآخرين.

يقولُ في قطعةٍ عنوانُها "أنا وأنتُم":

أنتُم تَعبُدونَ الجَسَد،

وأنا أحتقِرُه كُلُّ الاحتقار (...)

أنتُم موغِلون في ضُروب الشرور والآثام،

وأنا أبغي هدايتَكم، فلا تسمعون الكلام.

أنتم تستمعون إلى أقوال القُسُس والكُهَّان،

وأنا لا أستمعُ إلاَّ لصوتِ الوحيِ والإلهام.

أنتُم أبناءُ الظلمةِ والشقاء،

وأنا ابنُ النور ذي السطوع والبهاء.

أنتُم من أبناءِ المادَّة،

وأنا من أبناء الروح.[6]

ويقولُ في قطعةٍ أُخرى عنوانُها "لي ولكم":

لكُم أزهارُ الحياة، ولكنَّها أشواك!

ولي أشواكُ الموت، ولكنَّها أزهار!

لكم أعباؤكُم الخفيفة، ولكنَّها ثقيلة!

ولي أعبائي الثقيلة، ولكنَّها خفيفة!

لكُم النساءُ والخمرُ، والجاهُ والمال،

والنفوذُ والسلطانُ والحياة...

ولي الله، والسماء، والحقُّ، والمعرفة، والعدالة،

والمجهول، والاندماجُ بـ (القُوَّة الموجِدَة).[7]

وفي مُقدِّمتِه لـكتاب "بروق ورُعود" الذي أدلى فيه برأيِه الواضِح الفاضِح في رجال الدين والمرأة والمال والعدالة والحياة والأرض والسعادة وغير ذلك من أُمورٍ يقول:

"هذا رأيي أُعلِنُهُ على رؤوسِ الأَشهاد غيرَ هيَّابٍ ولا وَجِل من نَقدِ النَّاقدين وألسنةِ المُتخرِّصين المُتطاولين..."[8]

إنَّ المؤمنَ بالمُثُلِ العُليا والقِيَمِ الروحيَّة إيمانًا صادقًا لا يهتمُّ لأَقوال الناس ولا لمواقفهم منه، ذلك بأنَّ كلَّ همِّه يكونُ محصورًا بطاعة الخالق والحُظوة برضاه،، لأَنَّه عَزَّ وجَلَّغايةُ الغايات في ما يسعى إليه. يقولُ مُؤسِّسُ الداهشيَّة، بعدَ أن يُعلِنَ أنَّ النَّاسَ سيكونونَ فريقَين مُتناقضَين في موقفهم منهُ بعدَ موتِه، وأنَّهُ لا يُبالي بما سيقولونَ عنه:

أمَّا أنا فحَسبي أن أكونَ عندئذٍ بينَ يَدَي الديَّان لِعَرضِ أَعمالي.[9]

 

ثانيًا- العزيمةُ القويَّةُ والثقةُ بالله وبالنفس

إنَّ الإنسانَ الخالي من الطموح الروحيِّ أو الدُّنيَويِّ يستحيلُ أن يكونَ ذا عزيمةٍ قويَّة. فالعزيمةُ القعساءُ تُمليها المطامحُ العالية التي تتطلَّبُ مُصارَعَةً ومُغالَبَةً للعقبات والأَحداث. ولذلك من المُحال أن يكونَ أحدٌ من الراقين روحيًّا خاملَ العزيمة.

والطَّموحُ العَزومُ يعرفُ أنَّ النَّجاحَ لا يُمكنُ أن يكونَ مُتواصلاً؛ فالحياةُ سلسلةٌ من الانتصارات والنكَسَات. ولذلك يستمدُّ من الفشلِ عزمًا جديدًا لجولةٍ جديدةٍ في حلبة العِراكِ مع الدهرِ وغِيَرِه، ومع تقلُّباتِ الناس.

يقولُ الدكتور داهش في إحدى كلماتِه التي دوَّنَها عام 1936:

أيُّها الفشَل، إنَّني لا أعبَأُ بكَ ولا أهتمُّ لك؛ إنَّني طَموح، وسأبقى على طُموحي مهما حاوَلتَ إحاطَتي بالرزايا والبلايا والإِحَن، إلى ساعةِ تحقيقِ حُلُمي الذهبيّ الذي لم يُبارحْني ساعةً واحدة.[10]

إذًا ثمَّةَ هدَفٌ واضح يجبُ الوصولُ إليه لدى أُولي العزم، حتَّى لا يكونَ السعيُ عشوائيًّا. وهو هدفٌ أصبح، لدى الدكتور داهش، حُلمًا ذهبيًّا مُلازِمًا له.

وتصميمُهُ على الإقدام لا يستمدُّهُ من فورةٍ شُعوريَّةٍ أو حَميَّةٍ عارضة، بل من وعيِهِ لحقيقةِ الحياة والبشر. فمُخطئٌ، برأيه، مَن يظنُّ أنَّ الحياةَ ستُصبحُ يومًا روضةً زاهرةً يعيشُ فيها الإنسانُ بطُمأنينةٍ وهناء. فالحياةُ مُفاجآتٌ مُستمرَّةٌ من المُكدِّرات، وتقلُّباتٌ دائمة، ونُذُرٌ بإغراقِ الإنسان في بحرٍ من الشقاء، لأَنَّ أَرضَ البشر ذاتُ درجةٍ روحيَّةٍ خفيضةٍ تُعرِّضُها لفورات الجحيم، إذْ هي على عتَبتِه. يقولُ الدكتور داهش:

نحنُ أمواجٌ زاخرةٌ نُلاطِمُ بعضُنا بعضًا في بحر هذه الحياة المُضطَرِمَة المُضطَرِبَة، وسفينتُنا هي الحوادثُ التي ما فتِئَت تمخرُ البحرَ الصاخبَ الجيَّاش، فإلى الأَمام وإيَّاكُم والتَّقاعُس.[11]

إنَّ سِلاحَ العزيمةِ القويَّةِ سيفٌ ذو حدَّيْن: حَدِّ الثِّقَة بالله وحَدِّ الثِّقَةِ بالنفس. فالراقي روحيًّا لا يَغيبُ عن بالِه أنَّ مصدرَ قُوَّتِه الأَوَّل هو عَينُه مصدرُ نزعاتِه السامية وعقلِه النيِّر، المُبدِعُ الأَعظم. ولذلك فالإيمانُ بالقُوَّةِ الموجِدَة التي هي مصدرُ القِيَمِ العُليا لا غِنى عنهُ لدى الراقين روحيًّا. فاللهُ هو مصدرُ الحياة، وهو مصدرُ الأَنظمة الروحيَّة الشَّاملة، وبينها ناموسُ السَّببيَّة الروحيَّة. فلكلِّ سببٍ نتيجة، ولكلِّ زَرعٍ حصاد؛ ومتى تمَّ ذلك واستُوفِيَ الأَجر، يُرفَعُ العِبءُ عن كاهل الإنسان. من كلمات مُؤسِّس الداهشيَّة:

لِيَكُنْ إيماني بالله وطيدًا، فإنَّ لكُلِّ شِدَّةٍ مُدَّة، ويزولُ كلُّ شيء؛ لأَنَّ دوامَ الحال من المُحال، وليس بعد التَّعَب والنَّصَب إلاَّ الراحة التامَّة.[12]

إِنَّ الله لا يتركُ مظلومًا، فهو إلهُ الحقِّ لا إلهُ الباطل. ولِذا فمَن تمسَّكَ بحقِّه، فالله نصيرُه ومُجيرُه. لقد خاضَ مُؤسِّسُ الداهشيَّة معمعةً رهيبةً ضدَّ أرباب الباطل في لبنان طوال عشر سنوات (1942-1952). لكنَّه لم يلِن، بل ازدادَت قناتُه صلابة، وشوكتُه حدَّة، لأَنَّهُ كانَ يؤمنُ بأنَّهُ صاحبُ حقّ، وبأنَّ اللهَ معهُ. قال وهو في ذُروةِ احتدامِ المعركة بينه وبين الرئيس اللبنانيّ الأَسبق، الطاغية بشاره الخوري:

إنَّ صاحبَ الحقِّ الصريح المَدوس بأقدامِ الأَنذال يحتاجُ إلى قلبٍ أصلبَ من الحديد، وأعصابٍ أصلدَ من الفولاذ، كي يُقاومَ بها عواصفَ المُجرِمين، وزوابعَ الخائنين، ومُؤامرات المُماذقين. فإن لانَ، فإنَّهُ سيُذَلُّ ويُهان؛ وإنْ قاومَ عواملَ الشرِّ وصمَد، فإنَّهُ يسحقُهم برعاية ربِّ السماءِ الصَّمَد.[13]

لكنَّ الاعتمادَ على الله، مصدرِ القوَّة الأَزَليّ، لا يعني التخلِّي عن الثِّقَة بالنفس والاعتماد على مُقدَّراتِ الإنسان العقليَّة. ففي المفهومِ الداهشيّ أنَّ اللهَ لا ينصرُ إلاَّ مَن ينصرُ نفسَه، وأنَّ المُساعدَةَ لا تأتي إلاَّ لِمَن جاهدَ ليستحقَّ الحصولَ عليها.

إنَّ المصائبَ والمصاعبَ التي تعترضُ الإنسانَ هي من صُنعِ يدَيه، إنْ لم يكُن في حياتِه الراهنة، ففي حياته السابقة. ولذا فالقَدَرُ الشخصيُّ يصنعُه الإنسانُ نفسُه بإرادتِه الحُرَّة في سلسلةِ حيواتِه المُتتابِعَة الحلَقات. وبما أنَّهُ هو مَن صاغَ قيودَه، فإنَّهُ هو مَن يستطيعُ تحطيمَها. هو يصنعُ قَدَرَهُ، وهو يُعيدُ صياغتَه بعزيمتِه الجبَّارة المُستمَدَّة من ثِقَتِه بالله وبمُقَدَّراته الروحيَّة أيضًا.

يقولُ الدكتور داهش:

عظيمةٌ أنتِ، يا أحزانَ روحي، وعميقةٌ كلَّ العُمق؛ وعبثًا ترقبين بزوغَ فجرِكِ الجميل، يا نفسي، لأَنَّ الأَحداثَ أحاطَت بكِ، ولا مفرَّ لكِ منها. لكنْ لا تيأَسي، وليكُن إيمانُكِ بذاتِكِ راسخًا، وقوَّتُكِ المعنويَّة عظيمة كيما يُكتَبَ لكِ الفوزُ والفلاح.[14]

إنَّ قُدرةَ الإنسان الفائق على إعادةِ صُنعِ قَدَرِه تبدو بأجلى صُوَرِها وأروعِها في وِقفةٍ عَزَّ نظيرُها لمُؤسِّس الداهشيَّة. وهي توحي للراقين روحيًّا من الأَفذاذ والمُصلِحين الإنسانيِّين بمدى استطاعتهم على عَكْسِ مجرى الأَحداث وتغيير مسيرة التاريخ. يقولُ رجلُ الروح المُؤيَّد بالخوارق:

أنا القويُّ الجبَّارُ والعنيفُ البتَّار. فمهما حاولَت الأَحداثُ أن تتغلَّبَ عليَّ، أو تُخضعَني لجبروتها، فإنَّها لن تعودَ إلاَّ بصفقة الخاسر المغبون، ولن تتمكَّنَ من إماتةِ ما يَجيشُ في نفسي من نزعاتٍ تبغي الانطلاقَ من هذه القيود.

كلاَّ، أنا لن أتقاعسَ عن نَيلِ أهدافي وبلوغِ اتِّجاهاتي التي أطمحُ إليها.

وسأُحقِّقُ أمانيَّ عاجلاً أم آجلاً.

وسأسحقُ ما يقفُ في طريقي من عقباتٍ كأداء، وسأُردِّمُها ترديمًا...

وسأهزأُ بالإنسان، وبالطبيعة، وبالقَدَر.

وسأبلغُ آمالي وأُحقِّقَ أحلامي وأَنفُ الحياةِ في الرَّغام.[15]

إنَّ الدكتور داهش كان مُؤيَّدًا بقوَّة الروح العَليِّ الذي يصنعُ العجائبَ على يَدَيه، ويوحي إليه بالحقائق الروحيَّة، ويمدُّه بالمعرفة العميقة الواسعة لأتباعه وأصدقائه وزائريه وأعدائه ولأسباب ماجريات الأحداث حوله وفي العالَم؛ لكنَّه على قُدرته ومعرفته الفائقتَين، كان عصاميًّا في تحصيل ما تزوَّد به من ثقافةٍ واسعة سواءٌ من خلال مُطالعته للكُتُبِ النفيسة القديمة والحديثة أو من رحلاته حول العالَم. فضلاً عن ذلك فقد كان ينهضُ باكرًا ومعظمُ الناس ما يزالون نائمين حتَّى في منزل الرسالة الداهشيَّة حيثُ يُقيم، فيقرأُ عشراتِ الصُّحُف اليوميَّة والمجلاَّت الأُسبوعيَّة أو الشهريَّة بسرعةٍ فائقة، ثمَّ ينصرفُ إلى الكتابة أَو استقبال الزائرين. وهذا النهجُ اتَّبعَه مُعظمَ حياته دونما كلال أو فتور.

إنَّ الموهبةَ وحدها لا تكفي لبناءِ إنسانٍ مُتفوِّق إذا لم تُؤيِّدها العزيمةُ القعساء والعصاميَّة. ومَن يستعرضْ سِيَرَ العباقرة يحصلْ على البرهان الحاسم على صحَّة ما أُبديه. يقول السير جاشوا رينولدز (J. Reynolds) في "مباحث في الفنّ" (Discourses on Art) : "عليكَ أَلاَّ تتَّكلَ على موهبتك. إذا تمتَّعتَ بمواهبَ عالية، فالجدُّ في العمل يُحسِّنُها؛ أَمَّا إذا لم تملك إلاَّ استعداداتٍ مُعتدلة، فجهدكَ يُعوِّضُ عمَّا تفتقرُ إليه." [16]

وقد بحثَ كثيرون من المُفكِّرين في النتائج الإيجابيَّة التي تُولِّدُها الثقةُ بالنفس في مُعالجة الأُمور وحَسمِها. ولعلَّ من أهمِّهم الدكتور نورمان فِنسِنت بيل (Norman Vincent Peale) الذي عالجَ هذا الموضوع في كُتُبٍ متعدِّدة كانت من الكُتُب الأكثر مَبيعًا؛ وقد يكون أهمَّها كتابُه المُعنوَن "تستطيعُ إذا اعتقدتَ أنَّكَ تستطيع".[17]

 

ثالثًا- الصبرُ والأَمَلُ والثَّباتُ في الإيمان

إنَّ سِيَرَ أبطال التاريخ وسِيَرَ الهُداةِ الروحيِّين والمُصلِحين الإنسانيِّين هي ملاحمُ للصبر والأَناة تنهزمُ فيها المصاعبُ والمصائبُ أمامَ عظمةِ النفس الراقية وتجمُّلِها في تحمُّل المِحَن. فالراقون روحيًّا لا يستعجِلون الأُمور، لأَنَّهم يعلمونَ أنَّ الأحداثَ محكومةٌ بناموسٍ روحيّ والأُمورَ مرهونةٌ بأوقاتها.

في كتاب الدكتور داهش "مُذكِّرات يسوع الناصريّ" يقولُ يسوعُ، ابنُ الثالثة عشرة، لأَشقَّائه المُتذمِّرين من اضطهاد أهل قريتهم لهم بسبب تعاليمه:

طوباكُم إذا صبرتُم،

لأَنَّ مَن يصبر إلى النهاية فذاكَ يخلص.[18]

وما كانَ يسوع ليوصيَ إخوتَه بالصبر على الشَّماتة والاضطهاد لو لم يكن واعيًا ضرورةَ الصبر على الشدائد للفوزِ بالغايةِ من رسالتِه التي هي إنارةُ العالَم بضياءِ الحقيقةِ الروحيَّة. ولذا قالَ وهو واعٍ مسؤوليَّته منذُ فجرِ حداثتِه:

فمهما اضطُهدتُ، ومهما عُذِّبتُ،

ومهما شَقيتُ، ومهما بكَيتُ،

ومهما أصابَني من رزايا وكُروب،

فلن أتركَ من يميني مشعلَ الحقيقة

المُعطى من أبي السماويّ،

كي أُنيرَ جَنَباتِ هذا العالَمِ الكثيرِ الظلام. [19]

ومُهمٌّ، في مفهومِ الرُقيِّ الروحيّ الداهشيّ، أن يصبرَ الإنسانُ على المكاره غيرَ مُتذمِّر ولا شاكٍ، ثابتًا في إيمانِه لوَعيِه بأنَّ ما يلقى من عذابٍ أيًّا كانَ مصدرُه، مردُّهُ إلى أَحَدِ أمرَين: إمَّا إجراءٌ للعدالة الإلهيَّة لاستحقاقه ذلك العذابَ نتيجةً لأَعمالٍ قامَ بها أو رغباتٍ رغبَها في حياتِه الراهنة أو حياته السابقة؛ وإمَّا امتحانٌ لإيمانِه وصبرِه على المكارِه من أجلِ ذلك الإيمان.

إذْ يعلمُ يسوع بالحُكم على سمعان (بطرس) بالسَّجن عامًا كاملاً من جرَّاءِ موت قائد الشرطة الذي كانَ يستجوبُ يسوع قبلَ مُدَّةٍ قصيرة، يقولُ لشقيق بطرس:

ليكُنْ إيمانُكَ بالله وطيدًا؛

فإنَّ هذا الأَمرَ قد تمَّ كتجربة

لتُعجَمَ بواسطتِه صلابةُ إيمان سمعان.

فإذا لَجَّ وتذمَّر، يكونُ الخُسرانُ حليفَه،

وإنْ صبَر واستَسلَمَ لإرادة الباري تعالى،

فالفوزُ سيسيرُ في رِكابِه.

ويا لَسعادتِه![20]

على هذا الغرار يكونُ موقفُ مُؤسِّسِ الداهشيَّة منذُ بدأت تُحيطُ به الشدائدُ من خيانةِ بعضِ أصدقائه له، ونَشرِهم الافتراءات الرخيصة ضدَّه في الصُّحُف، وتأليبِهم أولياءَ الأَمر عليه. يقول:

سأصبرُ على النازلات التي داهمَتني وقوَّضَت أحلامَ عُمري. وسأُوطِّنُ النفسَ على احتمال الويلات القاصمة دونَ وَجَل...[21]

وبوَعيٍ نافذٍ لحكمة الله ولأَسباب المحنة التي يمرُّ فيها، يقولُ في "استقبال عام 1937":

ما أكبرَ حكمتَك، يا خالقَ الأَرض وباسطَ السماء!

ما يُدريني أنَّكَ لا تُريد أن تمتحِنَ قوَّةَ صبري.

وهل أتقاعسُ إذا وجَدتُ مُناكفاتٍ ومُشاكساتٍ وكتاباتٍ كاذبة![22]

وما توقَّعَهُ مُؤسِّسُ الداهشيَّة حصَل. فالأَحداثُ التي بدأَت تُكدِّرُ حياتَه منذُ 1936 ما لبثَت أن تفاقمَت وتأزَّمَت حتَّى استَعانَ بها عليه أعداؤُهُ في لبنان، أيَّامَ حُكم الطاغية الخوري، فلاقى العَنَتَ والرفضَ والمُقاومَة والافتراءَ والتشهيرَ والتشنيع، ثُمَّ السَّجنَ دونما مُحاكمة والإبعادَ الاعتسافيَّ والاضطهاد. فما نكصَ ولا وهَن، ليقينِه بأنَّها امتحانٌ لصبرِه وثباتِه في تحمُّل مسؤوليَّة رسالته. يقولُ في "وداع عام 1944":

لقد تكاتفَت عليَّ قُوى الشرِّ بأكملِها تُريدُ هلاكي (...)

فقيَّضَ اللهُ لجميعِ هؤلاء الفشلَ الذريع،

وفُزتُ بالحياة بإذن الله وإرادته،

وجريمتي الوحيدة هي أنَّني أدعو الجميعَ لنُشدان الحقيقة

والسَّير على الطريق العادلة، والتمسُّك بالفضيلة.

ولكنَّهم البشر! (...)

وحانَت (الساعةُ المُخيفة): ساعةُ (المحنة والامتحان).

ويا لَلّه ممَّا لاقيتُه من ذُلٍّ وإرهاقٍ وآلامٍ وامتهان!

فتجلَّدتُ على الكارثة التي دهَمَتْني لتيقُّني بأنَّها إرادتُه العُلويَّة...[23]

والمحنةُ والامتحانُ لم يكونا لمُؤسِّس الداهشيَّة فحَسب، بل لأَتباعِه أيضًا. فبعضُهُم قد هلَع، لأَنَّهُ لم يبلغ من معراج الرُقيِّ الروحيِّ إلاَّ عتبتَه؛ لكنَّ الأَكثريَّةَ صمَدوا، وترسَّخَ إيمانُهم، وتجَوهرَت نفوسُهم. وقد خصَّ رجلُ الروح منهم بالتَّنويه المُجاهدَين الكبيرَين الدكتور جورج خبصا والأَديبةَ الفنَّانة ماري حدَّاد.

إنَّ الثَّباتَ في الإيمان توسُّلاً لتحقيق هدفٍ مُعَيَّنٍ لا بُدَّ لهُ من غذاءٍ سيكولوجيٍّ هو الأَمَل. فالأَملُ يُنضِّرُ الحياة. إنَّهُ حُلُمُ الأَرض بالربيع وهي تُقاسي صقيعَ الشتاء، وحُلمُ الأَشجار بالثِّمار وهي ترفعُ أغصانها عاليةً جرداء؛ وهو حلمُ الإنسان المُجاهِد بأنَّ مُثابرتَهُ على عملِه وكفاحِه، رغمَ العراقيل والمصاعب والمتاعب، لا بُدَّ من أن يُؤدِّيَ إلى تحقيق ما يسعى إليه.

لقد أدركَ الدكتور داهش أهمِّـيَّةَ الأَمَل منذُ شبابِه، ووعى خُطورتَهُ بالنسبة لذوي الإقدام والعزيمة. فقال في كلماته:

لا تَدَع اليأسَ يتطرَّقُ إليك، أو يغزو فُؤادَك، ولا تهتمَّ لعواصف الحياة الهوجاء، وكُنْ كالطَّودِ الراسخ لا تُزَعزِعُهُ طوارقُ الأَيَّام وويلاتُها. لئِنْ فعلتَ فأنتَ الرجلُ حقًّا؛ ولا تُعرَفُ الرجولةُ بغيرِ هذا.[24]

في قولٍ مأثور "إنَّ المصائبَ مِحَكُّ الرجال"؛ بها يُعرَفُ جوهرُهم، ويُمَيَّزُ الزائفُ من الصحيح. وكأَنِّي بمُؤسِّس الداهشيَّة يُريدُ أن يُزيلَ المفهومَ الشائعَ للرجولة الذي تُضمِّنُه عامَّةُ النَّاس القوَّةَ الجسديَّة والقوَّةَ على الإخصاب الكثيرفيحصرهُ بالقوَّةِ المعنويَّة، أي قوَّة الإرادة التي تنطوي على الصبر والمُغالَبَة والثَّبات، وعدمِ تنكيس الهامة لحَدَثان الأَيَّام، مع الإبقاء على الأَملِ مُشِعًّا مهما امتدَّت طريقُ الكفاح وأظلَمَت. وهذه الناحية تظهرُ على أتَمِّ جلائها في كلمةٍ أُخرى للدكتور داهش يقولُ فيها:

لا تيأسْ إذا صدَمَتْكَ أحداثُ الأَيَّام القاسية، واشهَرْ عليها الحربَ العَوان، دونَ هوادةٍ ولا لين، بقوَّةِ إرادتِك، واطلُبْ مُبارزَتَها مُرسِلاً إليها شاهدَيك: الأَمَلَ اللانهائيّ، والعملَ قدرَ استطاعتِك.[25]

إنَّ الباحثين في قُوَّة الإرادة يرَونَ أنَّها أهمُّ للنجاح في الحياة من مُستوى الذكاء. وقد أيَّدَ الدكتور بول ج. شتولْتز (Paul G. Stoltz) هذا الرأيَ ببراهينَ كثيرةٍ في كتابه "حاصلُ الشدائد: تحويل العقَبات إلى فُرَص"، [26] فأظهرَ أنَّ بين النَّاس مَن يُرحِّبون بالمصاعب واجدين فيها فُرَصًا لابتكارِ حُلولٍ جديدةٍ لمُشكلاتٍ جديدة؛ وقُدرتُهم هذه في مُواجهة المُفاجآت المُزعِجَة تقومُ على قوَّة إرادتهم التي تتحكَّمُ فيها بالتخطيط والعمل الدائب والصبر، كما بسَعيِهم لحَصر النتائج السلبيَّة في تغيير مجرى الأُمور. وهم في كلِّ ذلك يتحمَّلون مسؤوليَّةَ ما يعملون، ويُبقون على شُعلة الأَمَل مُضيئةً في نفوسهم.

 

رابعًا - الشجاعةُ المعنويَّةُ والإقدامُ على المُغامَرَة

إنَّ ذَوي النَّزَعات الشريفة تستهويهم المبادئُ السامية والقِيَمُ الإنسانيَّةُ الكُلِّـيَّة؛ لكنَّ الثَّباتَ في إيمانهم بها، إذا اعترضَتهم مصاعبُ ومُقاوماتٌ وسَوراتُ اضطهاد، يتطلَّبُ منهم شجاعةً معنويَّةً فائقة. فليسَ أمرًا سهلاً أن يجبهَ المؤمنُ جلاَّديه ومُضطهِديه ويبقى ثابتًا في إيمانِه. فغيرُ قليلين من المسيحيِّين تخلَّوا عن إيمانِهم في فترة الاضطهاد الرومانيّ ثمَّ العبّاسيّ المتأخِّر فالفاطميّ، عهدَ المُتوكِّل ثمَّ الحاكم بأمر الله، مُمالأَةً للسلطة الحاكمة! وغيرُ قليلين من الأعراب المُشرِكين آمَنوا بالإسلام خوفًا من السيف المُصلَت فوقَ رؤوسِهم! ولِذا جاءَ في القرآن الكريم {قالت الأَعرابُ آمَنَّا. قُلْ: لن تُؤمنوا، ولكن قولوا: أسلَمنا ولمَّا يدخل الإيمانُ في قُلوبِكم... إنَّما المؤمنون الذين آمَنوا بالله ورسولِه ثمَّ لم يرتابوا، وجاهدوا بأموالهم وأنفُسهم في سبيل الله؛ أولئكَ هم الصادقون.} (الحُجُرات: 14-15).

إِنَّ واقعَ الأَرض ما تزالُ تحكمُه شريعةُ الغاب بصورةٍ عامَّة. فذو المبادئ السامية عليه أن يتسلَّحَ بالشجاعة التي تمنحُه بأسًا معنويًّا ليُقاوِمَ أعداءَ الحقيقة التي يُكافحُ من أجلِها. ومُؤسِّسُ الداهشيَّة كانَ واعيًا واقعَ الحياة البشريَّة المُخزي، لا سيَّما في لبنان، عهد الباغية الخوري، وكان يتوقَّعُ الاضطهادَ قبل بدئه، ولذلك رفعَ إلى الله، عام 1942، صلاةً بعُنوان "ابتهال" قال فيها:

إجعَلْ فتاكَ، يا إلهي، نَسْرًا قويًّا مُحَلِّقًا في الفضاءِ قبل انتهاءِ المَلحَمَة

ولا تدَعْهُ حَمَلاً وادِعًا يَنهَشُ الذئبُ الشِّرِّيرُ جَنانَهُ وجُثمانَه

فالقويُّ يَسودُ هذا الكون، ويَبسطُ عليه سُلطانَه

ويتمتَّعُ بخَيراتِه العديدةِ دونَ أن يردَعَهُ رادِع

أمَّا ذلك الضعيفُ المسكينُ الوادِع

فيُعتَدى عليه وهو لا يذكُرُ للنَّاسِ سِوى المَرحَمَة.[27]

وفي العامِ نفسِه رفعَ مُؤسِّسُ الداهشيَّة صلاةً إلى السيِّد المسيح بعُنوان "إلى معدنِ الطُّهر والنَّقاء" يُخاطبُه فيها بـ"الخروف الذَّبيح." [28]

إِنَّ الوداعةَ التي أتى بها السيِّدُ المسيحُ لم يستفد المسيحيِّون منها ولا اتَّعظوا بها في خلالِ ألفَي سنة. فإنَّهم بمُعظمهم، رجالَ دينٍ ودُنيا، تحوَّلوا إلى ذئابٍ تنهشُ الآخرين،كما ينهشُ بعضُها بعضًا. وكُلُّ مُطَّلِعٍ على التاريخ يعرفُ الدوافعَ الدُّنيَويَّة التي أشعلَت الحروبَ الصليبيَّة، كما يعرفُ المآسي التي خلَّفَتها الحروبُ التي نشبَت بين الكاثوليك والبروتستانْت، وفواجعَ حملات الاضطهاد التي شنَّتْها السلطاتُ الدينيَّة الكاثوليكيَّة على مَن يُخالفونها بالرأي منذُ الربع الأَوَّل من القرن الرابع. لكن مع كلِّ ذلك، بقيَت المحبَّة، شريعةُ المسيح، هي القاعدة في تعاليم مُؤسِّس الداهشيَّة. فهو في "ابتهاله" لا يطلبُ أن يكونَ ذئبًا ينهشُ الحملانَ أو سائرَ الحيوان، بل أن يكونَ نسرًا ليُحلِّقَ بعيدًا عن الذئاب، ويُشرفَ عليها من عَلُ.

بعدَ عودتِه الخفيَّة إلى لبنان، على أثرِ إبعادِه التعسُّفيِّ عنه، لم يشعر أنَّ السلطةَ الغاشمةَ الجانيةَ قد تغلَّبَت عليه، بل كان شعورُه بأنَّها مُجَرَّدُ نكسة أو عثرة تعرَّضَ لها، لأَنَّ الحياةَ بطبيعتها صراع، ولذا قال:

سأنهضُ، وأُحطِّمُ قيودي، وأجتازُ جحيمَ هذه الحياة بقلبٍ جريءٍ وإرادةٍ جبَّارة، وأتمكَّنُ من المجد والانتصار. [29]

أَجل، نهضَ من كَبوتِه، ومرَّغَ وجوهَ أعدائه بوحل فضائحهم، وداسَ رقابَهم بقوَّة الحقيقة التي زُوِّدَ بها. وكلمتُه هذه التي اختصرَت موقفَه وسيرتَه بعد انتصاره تُذكِّرُنا بالنبوءة الواردة في سِفْرِ أشعيا النبيِّ: "أُنهِضُه من الشمال فيأتي، ومن مشرقِ الشمسِ أُنادي باسمه. يطأُ الحُكَّامَ كأَنَّهم وحل، ومثلَ الخزَّاف يدوسُهم كالطين." (41: 25)

إنَّ أُمثولةَ الشجاعة أرادَ الدكتور داهش أن يستفيدَ منها كلُّ داهشيّ وكلُّ أنوفٍ أبيّ. فكانَ بمواقفِه المُتناهية في جرأتها ينفخُ روحَ الشجاعة في أتباعِه. فمَن يُبادرُكَ بالعداء، فلكَ الحقُّ والواجبُ في أن تُدافعَ عن نفسِك برَدِّ كَيده إلى نحرِه؛ لكنَّ الهجومَ الدفاعيَّ لم يشأْه يومًا هُجومَ عُنفٍ مادِّيٍّ يُؤذي المُعتدين بأجسامهم، بل هو هجومٌ أدبيٌّ مُستوحًى من الحملة الإعلاميَّة التأديبيَّة التي شنَّها على خصومه الأَقوياء في عُقرِ دارهم. يقولُ في "المُهنَّد الباتر":

وإذا انكَفَأَ الداهشيُّ على أعدائه سحقَهم سَحقًا ومَحَقَهم محقًا بزلازلِ آياته.[30]

هذا البأسُ الأَدبيُّ المعنويُّ أرادَهُ مُؤسِّسُ الداهشيَّة أن يستهدفَ لا الضعفاءَ من الناس بل البُغاةَ من أولياءِ الأُمور مِمَّن لا خشيةَ لله في قلوبهم، ولا كرامةَ للإنسانِ عندهم. هؤلاء الذين يُعادونَ الحقيقةَ والعدالةَ والحرِّيـَّةَ يجبُ أن يُعادَوا بتشهيرهم وتأديبهم معنويًّا:

أيُّها الداهشيُّون، اشرَعوا أقلامَكم وأَعِدُّوها كي تُغمدوها في قلبِ كلِّ عاتٍ ظالمٍ لا يهابُ الباري، ويهزأُ بالحقِّ، ويُحاربُ العدالة. ومَن لا يجرؤ منكم على هذا الأَمر، فليُغمدْ مُهنَّدَه في قلبِه، وليتوارَ عن هذه الحياة، فهي لم تُخلَق للجُبناء الرعاديد.[31]

مُذْ يولَدُ الإنسانُ يُرمى في حلبةِ نزاعٍ وصِراع. هذه هي الحياةُ بمفهوم الدكتور داهش. الجُبناءُ يُذَلُّون ويُستَعبَدونَ أفرادًا وشُعوبًا، والشجعانُ تدينُ لهم الحياة. ولِذا فالشجاعةُ شرطٌ ضروريٌّ للبقاءِ لكلِّ إنسان، وبالأَحرى للأحرار الذين يلتزمون المُثُلَ العُليا ويُدافعونَ عن حقوق الإنسان، وبرأسها الحرِّيـَّة:

الجبانُ، في شريعتي، ليسَ أهلاً للحياةِ مُطلَقًا. فإمَّا أن نجبُنَ فيستَعبدَنا القويُّ الغاشم، وإمَّا أن نُظهرَ شجاعتَنا، ونُطلِقَ بطولتَنا، فننتزعَ بواسطتهما حُرِّيـَّتَنا المُقدَّسة الخالدة.[32]

موقفُ الدكتور داهش من السلطة الغاشمة اقتَدى به أركانُ الداهشيَّة في عهد الطاغية الخوري. فماري حدَّاد تبنَّتِ "الكتُبَ السوداء" التي كان يكتبُها مُؤسِّسُ الداهشيَّة ويَفضحُ بها رجالَ الحُكم والمتورِّطين معهم في مُؤامرة الاضطهاد ضدَّه، وتحدَّتِ السلطات أن تُحيلَها على المحاكَمَة. كما أرسلَت سَيلاً من الرسائل بلُغتها الفرنسيَّة البليغة المُشرِقَة إليهم وإلى سُفراء الدول ومُنظَّمة الأُمم المتَّحدة تشرحُ فيها تفاصيلَ المُؤامَرة. ومَن يُطالعْ كتاب "صواعق داهشيَّة"[33] الذي اشتملَ على رسائلها تلك وعرائضها وبياناتها، يعجبْ للجُرأة النادرة التي كانت تتمتَّعُ بها؛ فكأنَّ الخوفَ لا وجودَ لمعناه في قاموسِها. وحسبي نموذجٌ واحدٌ على شجاعتها الأَدبيَّة أَقتبسُهُ من رسالةٍ وجَّهَتها إلى النائب الاستئنافيّ العامّ، يوسف شربل، في 8 أيَّار (مايو) 1945. تقول:

إنِّي لا أكتبُ إليك، يا شربل، مُتَكتِّمَةً على اسمي؛ فقدِّمْ هذه الرسالةَ إلى المَحكمَة، وليكُن لدَيكَ الشجاعةُ الكافية لتتَّهمَني. فإذْ ذاكَ سأُبرهِنُ أنَّ سلوكَكَ ممهورٌ بخاتَمِ العبوديَّة، وأنَّهُ سلوكٌ سافل. وسأفضحُ أكاذيبَكَ، وأشهدُ بالحقِّ ضدَّك.

إنَّ ساعتَنا قد أزِفَت، وستندمون ندَمًا مريرًا على مُعاملتِكم للدكتور داهش، لأَنَّكم غيرُ جديرين بلَمسِ غُبار قدَمَيه.[34]

ومَن يُطالعْ سلسلة "وثائق تتكلَّم" التي تروي قصَّةَ اضطهاد مُؤسِّس الداهشيَّة وأركانها في عهد الخوري، يعجبْ أيضًا لشجاعة جورج حدَّاد، عقيل ماري، وصُهر بشاره الخوري، ولبطولة كريمتهما ماجدا، ولموقفهم الجريء الصامِد بوَجه السلطات ورجالها، كما لمواقف غيرهم؛ منهم الدكتور فريد أبو سليمان، وجوزف حجَّار، والسيِّدة أنتوانِت، شقيقة الدكتور داهش.

إنَّ الشجاعةَ الحقيقيَّةَ، في رأيِ الدكتور داهش، هي التي لا تتأبَّى المغامرة والمُجازَفَة بالنفس دفاعًا عن الحقيقة والعدالة والحريَّة؛ وذلك يفرضُ على المُجاهِد أن يُقاومَ الطغيانَ في عُقرِ داره حتَّى لو أدَّت به هذه المُقاوَمة إلى المتاعب والمصاعب والمصائب حتَّى السجن والاضطهاد والاستشهاد. أمَّا مَن يُهاجمُ البُغاةَ بعد ضعفهم، أو زوالِ سُلطتهم، فلا يملكُ شجاعةً حقيقيَّة.

يقولُ مُؤسِّسُ الداهشيَّة في 30 آب (أُغُسطُس) 1945 في مُذكِّراته التي جعلَها بعُنوان "يوميَّات الذُّعر والرُّعب والهَول الطاغي":[35]

لأَتشبَّثْ بناصية الكدِّ والجدِّ، فلن يفوزَ باللذَّة سوى الجَسور، ولن يبلغَ القمَّةَ سوى المُغامِر.

المُغامرةُ لا تعني حذفَ الحكمة من تصرُّفات الإنسان، بل تعني حذفَ الخوف، بعد وضع الخُطَّة الحكيمة ورَسم الهدَف الواضح. وهذا ما فعلَهُ الدكتور داهش في أثناءِ حَملتِه الإعلاميَّة التشهيريَّة على السلطة الحاكمة وزبانيتها من رجال دُنيا ودين. فما انفكَّ يُهاجمُهم حتّى أَثار الشعبَ ضدَّهم، فقضى على عهدهم.

هذا الموقفُ المُغامِر جعلَ بعضًا من معارفه يتخوَّفون عواقبَه وينصحونَه بالابتعاد عن مكامن الخطر؛ فكتبَ قائلاً:

يسألونني: "لماذا تُعرِّضُ نفسَكَ للأخطار بمُهاجمة شراذمِ الأَشرار من أعدائِك؟"

فأُجيبُهم: "إنَّ حُبَّ المُجازَفَة، والولوجَ إلى مواطنِ الخطر لَمِن أقوى بواعثِ النشاط لأَعصابي. وإذا كانت حياتي خاليةً من الأَخطار، فإنَّني أسعى إليها برغبةٍ مُلحَّةٍ حتَّى أفوزَ ببُغيتي وأحصلَ على أُمنيتي، أَلا وهي البطشُ بكلِّ نَذْلٍ وكلِّ خائنٍ لئيم.[36]

لقد سمعتُ مُؤسِّسَ الداهشيَّة مرارًا وهو يتحدَّثُ بإعجابٍ عن المُغامرين المُجازفين بأنفسِهم ليسَ من أجلِ الحقائق الروحيَّة فحَسب، بل من أجلِ اكتشاف الحقائق العلميَّة، وبينهم الرحَّالة الذين كان يُحبُّ قراءةَ سِيَرِهم. وقد خصَّ بولس الرسول بإعجابٍ خاصّ، فدوَّنَ في رحلتِه إلى مدينة أَفَسُس في تركيَّا عام 1971:

إلى هذه المدينة -أَفَسُس- أتى بولسُ الرسول مُبشِّرًا أبناءَها بالسيِّد المسيح. فكيفَ، كيفَ استطاعَ أن يصلَ إلى هذه المدينة هذا الرسولُ العظيمُ الإيمان، العظيمُ الشجاعة، المتوقِّدُ بالحماسة، الجبَّارُ في إقدامِه على المخاطر والأَهوال؟[37]

يرى الطبيبُ النفسيُّ مارتن غْرودر (Martin G. Grooder) أنَّ الحياةَ المصحوبةَ بالمُغامَرَة تبقى رهنَ الشدَّة النفسيَّة، لكنَّها الحياةُ الفُضلى للنجاح ولنُمُوِّ الإنسان؛ والذين يبتعدون عن المُغامَرَة يعيشونَ حياةً بليدةً راكدة.[38]

كذلك الطبيبُ النفسيّ توماس مور (Thomas Moore) يرى، باستلهامه الأَساطير اليونانيَّة، أنَّ عوليس (Ulysses) رمزٌ لمعاني الرجولة والبُطولة وفضِّ المجاهيل التي تأتي بها المُغامَرَة، وأنَّ النموَّ الروحيَّ لا يكتملُ إلاَّ بها.[39]

 

خامسًا- التحمُّلُ الواعي لمسؤوليَّة العمل

كثيرون من المُتفوِّقين والعباقرة، وفي طليعتهم الأَنبياءُ والهُداةُ الروحيِّون، تعرَّضوا للعَنَتِ والصدود والمُقاوَمة، وأحيانًا للاضطهاد، بسببِ أفكارهم واتِّجاهاتهم وأعمالهم. وكانَ بإمكانهم أن يتراجَعوا عن التزامهم لقضاياهم ليسلموا ويرتاحوا. لكنَّ يقينَهم بما التزَموهُ ووَعيَهم للنتائج المُؤلِمَة التي قد يتعرَّضونَ لها دفعاهم إلى تحمُّل مسؤوليَّة مواقفهم وأعمالهم، فلم ينكُصوا، بل بقِيَت قضاياهم كالنار المُقدَّسة تتوهَّجُ في صُدورهم، فتحفزُهم إلى إنجاز ما اعتزَموه، ولا تدعُهم يطمئنُّون إلاَّ بتحقيقه.

فالتاريخُ يذكر أنَّ تلاميذَ سُقراط وأصحابَه حرَّضوهُ على الفِرار، بعدَ أن حكمَ عليه مجلسُ الشيوخ بالإعدام بشُرب سُمّ الشوكران، وكان بإمكانِه التخفِّي فالهروب. لكنَّهُ فضَّلَ أن يتحمَّلَ مسؤوليَّةَ إيمانِه بأفكارٍ يُبشِّرُ بها. فشربَ السُّمَّ وخلَّدَهُ التاريخ شِبهَ نبيّ.

يقولُ جون ستيوارت ميل (John Stuart Mill) في كتابه "الحُرِّيـَّة" عن سقراط: "كان بشهادة أَعلم الناس به وبعصره أَطهرَ أَهل زمانه خلالاً، وأكرمَهم خصالاً. وليس منَّا مَن يجهلُ أَنَّ هذا الرجلَ هو الرأسُ والقُدوة لكلِّ مَن أَتى بعده من دُعاة الفضيلة وأَنصار الحكمة، وأَنَّه هو الذي أَلهمَ أَفلاطون تلك الروحَ الشريفة العالية، وعلَّمَ أَرسطاليس تلك الفلسفة العادلة الصادقة." [40] كذلك إميل زولا والمهاتما غاندي وسافونارولا وكثيرونَ آخرون من المُصلحين، فقد كان بإمكانهم أن ينكصوا عن مواقفهم التي أفضَت بهم إلى النَّفيِ أو السَّجن أو القتل أو الاضطهاد أو مُجَرَّد تحمُّل العذاب والمتاعب، لكنَّهم أَصرُّوا على تحمُّل مسؤوليَّة ما قاموا به.

بعدَ أن اتَّهمَ النائبُ العامُّ الإنكليزيُّ المهاتما غاندي بأنَّهُ مسؤولٌ عمَّا يقعُ في الهند من حوادث الفتنة ضدَّ الإنكليز بسببِ موقفِه منهم ومقالاتِه ضدّ الاحتلال، طلبَ المهاتما أن يتكلَّم. مِمَّا قالهُ في مُرافعتِه العجيبة:

إنِّي أُقِرُّ، أيضًا،كلَّ اللوم الذي ألقاهُ عليَّ النائبُ العامُّ العالِمُ لحوادثِ بومباي ومدراس وشوري شورا. فبعدَ التفكير العميق في هذه الحوادث، ليلةً بعد ليلة، لا أستطيعُ أن أدَّعي أن لا صِلَةَ بيني وبين هذه الحوادث الشيطانيَّة في شوري شورا، ولا الهياج الجُنونيّ في بومباي. وإنَّهُ جدُّ مُحِقّ إذْ قال إنَّهُ كان يجدرُ بي أن أعرفَ نتائجَ كلِّ عملٍ من أعمالي، وأنا الرجلُ المسؤولُ الذي نالَ نصيبًا من التربيةِ ونصيبًا من الدراية الدنيويَّة. أنا أعلمُ أنَّني كنتُ ألعبُ بالنار، ولقد وقعتُ في الخطر. ولكنْ، إذا أفرَجتُم عنِّي، سأفعلُ ثانيةً ما من أجلهِ أُحاكَم. ولقد أحسَستُ، هذا الصباح، بأنِّي أكونُ فاشلاً إن لم أقلْ لكم هذا الذي قلتُه الآن.

لقد أردتُ أن أتحاشى العنفَ، ولا زلتُ أُريدُ أن أتحاشى العُنف. فإنَّ عدمَ العُنف هو أوَّلُ بندٍ من بنودِ إيماني، ثمَّ إنَّهُ آخرُ بندٍ من بنودِ عقيدتي. ولكنِّي كنتُ بين اثنتَين: إمَّا أن أَخضعَ للنظامِ الذي أَعدُّهُ أنَّهُ أضرَّ ببلادي ضررًا لا سبيلَ إلى إصلاحه؛ وإمَّا أن أتعرَّض لخطرِ هياجِ مُواطِنيَّ حينما يسمعون الحقيقةَ منِّي. أنا أعرفُ أنَّ مُواطنيَّ يفقدونَ عقولَهم، أحيانًا، وإنِّي لشديدُ الأَسف على ذلك. ولذلك، فإنِّي هنا لأَتلقَّى، لا عقوبةً خفيفة، بل أقسى العقوبات. لستُ أطلبُ الرحمة، ولستُ أدَّعي وجودَ أيِّ ظرفٍ مُخَفَّف. وإنِّي لأَطلبُ، هنا، أقسى عقوبةٍ يُمكنُ أن تقعَ عليَّ باعتباري مُرتَكِبًا لجريمةٍ عَمْديَّة، لأَتحمَّلَ هذه العقوبةَ سعيدًا، وهو ما أَعُدُّهُ أسمى واجبات المواطن الحقّ. والطريقُ الذي لكَ أن تسلكَه، يا حضرة القاضي، هو إمَّا أن تستقيل، وإمَّا أن توقِعَ أقسى عقوبةٍ مُمكِنَة، إذا كنتَ مُعتقِدًا أنَّ النظامَ الذي تُدافعُ عنهُ صالحٌ للشعب...[41]

هذا هو نموذجُ الإنسان السامي القويِّ الإرادة، المُدرِك لمسؤوليَّتِه، والمُتحمِّل تبعةَ أعماله.

إنَّ السيِّدَ المسيح كانَ مُدرِكًا تمامًا نتائجَ وِقفتِه التأديبيَّة الشهيرة في باحة هيكل سُليمان وعواقبَ طَرده الباعة والصَّيارفة بالسَّوط، وقلبِه موائدهم، وهم الذين كانوا يتقاسمون الفوائدَ الماليَّة مع كهَنَة الهيكل والأَحبار، لكنَّهُ مع ذلك أقدمَ على ما قامَ به، لأَنَّ همَّهُ كان الحقيقةَ التي أتى من أجلِها.

والرسولُ العربيُّ كانَ مُدرِكًا مسؤوليَّةَ ما يقومُ به من تغييرِ مجرى التاريخ في شبه جزيرة العرب، وما يستتبعُ ذلك من مُقاومةٍ له واضطهاد، لكنَّهُ لم ينكُص بل قال:

"والله لو وضعوا الشمسَ في يميني والقمرَ في يساري على أن أتركَ هذا الأمر حتَّى يُظهرَه الله أَو أهلكَ فيه ما ترَكتُه..."

إنَّ تاريخَ الأَديان حافلٌ بالعذاب والآلام. وما من دينٍ حقٍّ انتشرَ بدونَ أن يُكوى أصحابُه بنار الاضطهاد. بل إنَّ تاريخَ الحضارات البشريَّة حافلٌ أيضًا بأفذاذٍ ذاقوا مرارة العذاب من أجل قضايا نبيلةٍ يُدافعون فيها عن الحقيقة والفضيلة والعدالة والحريَّة. ومُؤسِّسُ الداهشيَّة الواعي لذلك يقولُ في قطعةٍ عنوانها "سلام":

سلامٌ على مَنِ اضطُهِدوا وعُذِّبوا في سبيلِ عقيدتهم الثابتة الحقَّة.

سلامٌ على مَن ذاقوا الهوانَ وشربوا كأسَه المريرةَ حتَّى ثُمالتها.

سلامٌ على أرواحهم السعيدة من الأَزل إلى الأَبد.[42]

وقد أدركَ الدكتور داهش منذُ ريعانِ شبابِه عِظَمَ المسؤوليَّة المُلقاة على عاتقه، والعَنتَ والرفضَ والاضطهاد التي سيلقاها في طريقه، ولكنَّهُ مع ذلك، أعلنَ تحمُّلَ مسؤوليَّة القضيَّة التي يحملُها إلى العالَم وهو في السابعة والعشرين من عمره، فقال في قطعةٍ يستقبلُ فيها عام 1937، بعدَ أن خانَتهُ جماعةٌ من أصدقائه وأخذوا يفترون الأَكاذيبَ عليه ويُشوِّهون سمعته:

أُقسِمُ بكَ يا خالقي أنَّهُ لو وُجِدَ ملايين

من الأَغبياء المارقين أو الخَوَنَة المُماذقين،

وملأُوا طروسَ الأَرض،

لا بل، لو نقشوا حجارةَ هذا الكون بأسره قائلين بها:

"إنَّ رسالتي هذه غيرُ صادقة"،

لَمَشَيتُ رافعَ الرأس، موفورَ الكرامة.

وسأبقى على تبشيري وإذاعةِ رسالتي

حتَّى تعمَّ الأَرضَ وتنتشرَ في السماءِ أيضًا.

ولن تَثنيني البرايا بأسرها عن أدائها، يا ألله،

ما دمتَ أنتَ تمدُّني بقوَّتِكَ الإلهيَّة.

وهذه يميني، يا خالقي،

أرفعُها لكَ من أعماقِ قلبي

الذي لا يخفقُ إلاَّ بذكرِ اسمِكَ القدُّوس

برهبةٍ وخُشوعٍ كلِّيَّين.[43]

وكانت حياةُ مُؤسِّس الداهشيَّة مِصداقًا لِما جهرَ به في قسَمِه العظيم. فتحمَّلَ من العذابِ أهوالاً، وحملَ من المتاعبِ جبالاً. وقصَّةُ آلامِه واضطهادِه ووعيِه لمسؤوليَّته وتحمُّله إيَّاها كاملة جعلَت الدكتور محمَّد حسين هيكل، رئيس مجلس الشيوخ المصريّ ورئيس الحزب الدستوريّ يقولُ له في رسالةٍ أُولى إليه:

ألَم تذكُر في رسالتِك ما أصاب (سقراط) هذا الفيلسوف الضخم والمعلِّم الأَوَّل الذي أُعدِمَ مظلومًا، فزادَ الظلمُ ذكرَه رفعةً على رِفعة، على مدى الأَجيال. فهنيئًا لكَ، يا أخي، ما نزلَ بكَ من ظُلم، لأَنَّكَ حاولتَ أن تُحاربَ التعصُّبَ المذموم، فحاربوك، وحاولتَ أن تجمعَ كلمةَ بني الإنسان في ظلِّ الأُخوَّة بين أهل الأَديان جميعًا، فاضطهدوكَ وشرَّدوك...

ومن حقِّكَ، وأنتَ في منفاك، أن تتمثَّلَ بقولِ السيِّد جمال الدين الأَفغاني:

أنا إنْ عشتُ لستُ أَعدَمُ قوتًا                            وإذا متُّ لستُ أَعدَمُ قبرا

هِمَّتي همَّةُ المُلوكِ ونفسي                       نفسُ حُرٍّ لا ترتضي الأَسْرَ قَسْرا[44]

إنَّ مُعاناةَ الأَلم تركَت تأثيرَها البالغَ في معظمِ ما كتبَ مُؤلِّفُ الداهشيَّة، ففجَّرَت قريحتَه ووشَّحَت كتابتَه بوشاحِ الأَسى الجميل الذي يُثيرُ المشاعر، وأسهمَت في تقريبِ المُعذَّبين والمحرومين والبؤساء والمُضطَهَدين إلى قلبِه. فكانَ شأنُهُ في ذلك شأنَ معظم العباقرة والمُبدعين الذينَ كانت آلامُهم مهمازًا لهم لمزيدٍ من الإبداع ولِسَبرٍ أعماق الحياة وأَغوار القلبِ الإنسانيّ.[45]

والداهشيُّون الراسخون في إيمانهم، الواعون للحقائق الروحيَّة التي آمَنوا بها، يتَّخذون حياةَ هاديهم بكلِّ ما فيها من شجاعةٍ وجهادٍ حتَّى الاستشهاد قُدوةً لهم، وفقًا للسُّنَّة التي وضعَها المُؤَسِّس: "إنَّ الجهادَ والاستشهادَ هما شِعارُ الداهشيَّة الأَوحَد." [46]

بل إنَّهم يَعون أنَّ حياتَهم تكتسبُ معناها من القِيَمِ الروحيَّةِ العُليا المُتمثِّلة في الرسالة الداهشيَّة. ولذلك فالحياةُ والقِيَمُ المادِّيـَّةُ كلُّها تهونُ من أجلِ رَفعِ القِيَمِ الروحيَّة التي مصدرُها الله عزَّ وجلّ. والجماعةُ التي يكونُ هذا هدفَها في الحياة لا يُمكنُ دَحرُها، لأَنَّ الأَجسادَ تَبلى، لكنَّ المبادئَ السامية لا تموت، إذْ هي ملامحُ من المشيئة الكُلِّـيَّة الأَزليَّة. يقولُ الدكتور داهش:

في سبيل الداهشيَّة تَهونُ الحياةُ ويُستطابُ الممات. فالداهشيُّ يبذلُ كلَّ ما يملكُهُ من مال، ووقت، ومجهودٍ مُتواصل الحلقات، ثمَّ يجودُ بروحِه لأَجلِ نُصرةِ عقيدتِه الداهشيَّة. فعبثًا يُحاربُها أعداؤها الأَلدَّاء.[47]

 

الشهرةُ والعبقريَّةُ والعَظَمَة

للدِّعايةولا سيَّما بعد انتشار وسائل الإعلام وتطوُّرها في القرن العشرينتأثيرٌ بالغٌ في تعريفِ شخصٍ ما إلى الناس، والمالُ قد يُؤدِّي دورًا مهمًّا في تذييع الشُّهرة. كذلك للظروفِ السياسيَّة والاجتماعيَّة الطارئة تأثيرُها في وضعِ شخصٍ ما في واجهة الإعلام محلِّـيًّا وعالميًّا. لكنَّ هذه الشهرةَ لا ترفعُ صاحبَها إلى سُدَّةِ العباقرة ما لم تكُن فيه شروط العبقريَّة.

ومن المشاهير مَن ارتفعَ اسمُه في عصر، ثُمَّ سقطَ في سائر العصور، لأَنَّ شُهرتَه كانت عارضة. ومنهم مَن ذاعَ اسمُهُ لاقترانِه بأسماء عُظماء أو عباقرة، كاسماء هيرودُس ونيرون ويهوذا وجوداس، قاتل المهاتما غاندي، وحُسني الزعيم، قاتل أَنطون سعاده، وبشاره الخوري، مُضطهِد داهِش. فخلودُ هؤلاء هو خلودُ نماذجَ للخيانة والشرّ والرذيلة والاضطهاد، ليلعنَهم الناسُ ويتَّعظوا؛ وهم يُذكَرون كلَّما ذُكِرَ العظماءُ والعباقرة كنقيضٍ لهم، مثلما يُذكَر القبحُ مِلءَ نشوة الجمال، أو الظلامُ مِلءَ مُتعة النور.

أمَّا العبقريَّةُ فهي مرتبةٌ لا يحوزُها إلاَّ المُبدِعون الذينَ يُخلِّفونَ من الأَعمال ما يُغيِّرُ بعضًا من مجرى التاريخ، أو يُحدثُ تأثيرًا بالغًا في نفوسِ كثيرين فيُغيِّرون مجرى حياتهم ونَمَطَ سُلوكهم. وقد أوضَحتُ سابقًا شروطَ العبقريَّة، وأهمِّـيَّةَ الإدراك الواسع والموهبة المعيَّنة والإرادة القويَّة في تكوينها وعطائها.

وقد حاولَ كثيرونَ من الباحثين السيكولوجيِّين، لا سيَّما في العقدَين الأَخيرَين، أن يُحلِّلوا العبقريَّةَ وينفذوا إلى شخصيَّات المُبدِعين، عُلماءَ كانوا أم أُدباء وشعراء أم فنَّانين أم سياسيِّين أم عسكريِّين. ولعلَّ من أهمِّهم دين كايْث سايْمنتُن (Dean Keith Simonton)، أُستاذَ علم النفس في جامعة كاليفورنيا بدايفِس، وميهالي تشيكزنتميهالي (Mihaly Csikszentmihalyi)، أُستاذ علم النفس في جامعة شيكاغو. وللأوَّل مؤلَّفاتٌ كثيرة في الموضوع المذكور، من أَهمِّها "العَظَمَة" و"العبقريَّة والإبداع والقيادة".[48] وللثاني عدَّةُ مُؤلَّفاتٍ أيضًا، منها "أعمالُ 91 شخصًا بارزًا وسِيَرُهم" و"الإبداع: السيَّال وسيكولوجيا الاكتشاف والاختراع". [49] وينسبُ تشيكزنتميهالي لحظاتِ الإبداع إلى سيَّال (flow) من الإدراك والشعور يحملُ من الحيويَّة ما لا تحملُ الحالاتُ النفسيَّةُ العاديَّة. ويرى أنَّ العباقرةَ أو المُبدِعين يشتركون بمعظمهم في عشرِ سِماتٍ هي:

1- يتمتَّعونَ بطاقةٍ على العمل جبَّارة؛ فهم يعملون ساعاتٍ مُتواصِلَة بتَركيزٍ شديد على أعمالهم.

2- يمتازونَ بنَفسٍ تجمعُ الحكمةَ إلى البراءة الطفوليَّة، وغزارةَ الأَفكار وجِدَّتَها إلى المُرونة.

3- يتَّصِفون بطَبعٍ يجمعُ حُبَّ النظام إلى حُبِّ المَرَح، وسُرعةَ الخاطر إلى الثباتِ الفكريّ.

4- يجمعونَ بين قُوَّة الخيال والتعلُّق بالواقع؛ ومن الخيال يُبدعون واقعًا آخر، سواء أكانوا فنَّانين أم سياسيِّين أم عُلماء أم أُدباء أم هُداةً روحيِّين.

5- على نقيضِ مُعظمِ الناس الذين يكونون إمَّا انطوائيِّين أو انبساطيِّين، يجمعُ المُبدِعون السِّمَتَين النفسيَّتَين في شخصيَّاتهم؛ فهم يستغرقون في التأمُّل كما لا يأنفون من عشرة الناس.

6- يجمعونَ التواضع من جرّاء معرفتهم بأنَّ كثيرين سبقوهم في حقل الإبداع الذي أسهموا فيهإلى الزهوِ بالنفس لأَنَّهم أضافوا شيئًا إلى ذلك الحقل.

7- يجمعون فيهم المزايا النفسيَّة للرجولة والأُنوثة بِغَضِّ النظر عن جنسهم. ولا علاقةَ لذلك بأيِّ ميلٍ جنسيٍّ مادِّيّ.

8- يتَّصفون بروح الثورة والتمرُّد على التقاليد كما بروح المُحافظة والاستمرار ضمنَ حقولهم.

9- هم ذاتيُّون بقَدر ما هم موضوعيُّون. ففي حين أنَّهم يضعونَ ذواتهم في أعمالهم، فهم ينظرون إليها بتجرُّد وموضوعيَّة.

10- يفرحونَ بما يُحقِّقون، وبه يستمتعون؛ لكنَّهم يُعانونَ ألَمًا شديدًا إذا قاموا بعملٍ لم يَحُز رضاهم أو أعرضَ الناسُ عنه.

وقُصارى القول إنَّ العباقرة يجمعون في شخصيَّاتهم أطرافَ الأَشياء بما يُشبه المتناقضات، ويوحون بأنَّ الواحدَ منهم هو جماعة لا فرد، بسبب خصب عطائهم الإبداعيّ واتِّساع آفاقهم الفكريَّة وتواصُل عملهم البليغ التأثير.

إنَّ العباقرةَ بالنسبة للمقاييس العامَّة هم عُظماء التاريخ؛ لكنَّ الدكتور داهش يضعُ معاييرَ جديدةً للعظَمَة الحقيقيَّة. إنَّها معاييرُ تسمو بالعظَمَة إلى مُستوًى جديدٍ لم يصل إليه إلاَّ قليلونَ جدًّا مِمَّن وطِئوا الأَرض. العظَمةُ الحقيقيَّةُ تُستَمَدُّ لا من يُنبوعٍ أرضيّ، مهما غَزُرَ دفقُه وطابَ ماؤه، بل من مَعينٍ أزَليٍّ أبديٍّ هو مَعينُ الروح. وعلى هذا الصعيد لا يثبتُ إلاَّ قلائلُ، في طليعتهم مَن أسَّسوا الأَديانَ أو جاهدوا في سبيل القِيَم الروحيَّة والإنسانيَّة الكُلِّـيَّة أو هَدَوا الناسَ إلى التفكيرِ السليم والسلوك القويم. بتَعبيرٍ آخر إنَّ العظيمَ هو عبقريٌّ سَمت نزعاتُه مثلما تفوَّقَ عقلُه وتفولذَت إرادتُه.

يذكرُ مايْكِل هارْت (Michael Hart) في كتاب "المئة: تراتُبٌ للأشخاص الأَبلغ تأثيرًا في التاريخ"[50] مئةَ عبقريٍّ في مُختلِف المجالات، من العلم والاختراع، إلى الفلسفة، إلى الهداية الروحيَّة والزعامة الدينيَّة، إلى الأَدب والفنّ، إلى الرحَّالة المُكتشفين. ويعترفُ بأنَّهُ قد يُضافُ إلى الأَسماء المذكورة مئةٌ أُخرى أو مئتان، وقد يُخالفُهُ غيرُهُ في تراتُبها؛ لكنَّهُ يُدلي ببراهينِه على اختياره الأَسماء، وعلى التراتُب الذي ارتآه. ومع أنَّ مقاييسَهُ لم تعتمد القِيَمَ الروحيَّةَ التي تُبنى عليها العظمةُ الحقيقيَّة، بل على مدى التأثير في مجرى التاريخ وتغيير حياة الناس وأفكارهم ومواقفهم، فإنَّهُ خصَّصَ المرتبةَ الأُولى للنبيّ محمَّد والثالثة حتَّى السادسة للمسيح وبوذا وكونفوشيوس وبولس الرسول، وخصَّ المرتبةَ الثانية بإسحاق نيوتن. وهذا يُؤكِّدُ أنَّ العظَمة الروحيَّة تتخطَّى العبقريَّة حتَّى على صعيد التأثير وتغيير مجرى التاريخ الأرضيّ.

لقد أعلنَ الدكتور داهش أَنَّ الأَنبياءَ والرُّسُلَ والهُداةَ الروحيِّين هم العُظَماءُ الحقيقيِّون في العالَم، لأَنَّ حياةَ كلٍّ منهم كانت تتَّفقُ مع تعاليمه وشهادةً لها، فجسَّدوا القِيَمَ الروحيَّةَ والمُثُلَ الإنسانيَّةَ العُليا أفضلَ تجسيد، ولم يكن لدَيهم ظاهرٌ وباطن، أو حياةٌ عامَّةٌ علَنيَّةٌ وحياةٌ خاصَّةٌ خفيَّة. لقد كانوا الحُكَماءَ الحقيقيِّين، والمشاعلَ الحيَّة الوهَّاجة التي قادَت جُموعَ الساعين إلى الرقيِّ الروحيّ في سِياق التاريخ.

في قطعةٍ بعنوان "فقاقيع" [51] يستعرضُ الدكتور داهش أسماءَ الفاتحين والقادة العسكريِّين "الذين يُطلِقون عليهم في عالمِنا الفاني لقَبَ (العُظَماء)"، ثمَّ يقولُ عنهم:

وأنا أَشبِّهُهم بالفقاقيع التي تطفو إحداها على سطح الماء لفترةٍ ثمَّ يُفجِّرُها الهواء فتتلاشى بلحظةٍ عابرة... وماذا لو تملَّكوا الأَرضَ وما فيها بمَن فيها ما دامَ مصيرُهم إلى فناء ووجودُهم إلى زوال!

إنَّ المادَّةَ قد أخفَت الحقيقةَ عنهم؛ وأطماعُهم كانت سِتارًا حديديًّا تحتجبُ الحقيقةُ وراءَ حديده الرهيب.

إنَّ ذكرى هؤلاء الذين دوَّنَ التاريخُ أسماءَهم كعُظماءٍ تضمحلُّ، وتتلاشى معها هذه العظمةُ الكاذبةُ فورًا عندما يُذكَرُ اسمُ المسيح أو مُحمَّد أو موسى أو بوذا... هؤلاء الأَنبياء والهُداة، مُؤسِّسي الأَديان، والمُبشِّرين بالأُخُوَّة الإنسانيَّة.

فلا رصاص حاصد للأرواح، ولا مَدافعَ تُمزِّقُ الأَشلاء، فيعلو النحيبُ ويتصاعدُ النُّواحُ، ولا طائرات حربيَّة تذهبُ بالرجال إلى عالَم الأَشباح... بل حبٌّ شامل، وعطفٌ كامل، وأيدٍ تُصافحُ أيدِيًا بالأَكُفِّ والأَنامل...

إذًا العُظماءُ الحقيقيُّون هم الذين ينتصرون على تجارب العالَم وقِيَمِه وعلى شهواتِ الجسد وإغواءاته، بمُغالبتِهم لها مُغالَبةً أليمةً دائبة، ويُقدِّمونَ إلى البشر فائدةً روحيَّةً عظيمةً بسَعيهم المتواصل الصامد إلى نشر الحقيقة والهداية بينهم على المشقَّة والعذاب والاضطهاد التي يُكابدونها. بذلك فقط تتخطَّى نفوسُهم عالَمَ الأَرض إلى عالَمٍ عُلويٍّ تتَّسِعُ فيه القُدرةُ والمعرفةُ ويعظمُ الهناءُ ويكونُ المجدُ الحقيقيّ.

 



[1] الدكتور داهش: "كلمات" (دار النَّار والنُّور، بيروت، 1983)، ص 175.

[2] ديديه جوليا، "قاموس الفلسفة" (نقلَهُ إلى العربيَّة د. فرنسوا أيُّوب، إيلي نَجم، ميشال أبي فاضل (مكتبة أنطوان-بيروت/دار لاروس-باريس، 1992)، مادَّة "الإرادة"، ص 25.

[3] انظر Dr. Scott Peck, The Road less Traveled (Touchstone / S & S, NY, 1984), pp. 44-58.

[4]Rushworth M. Kidder, How Good People Make Tough Choices: Resolving the Dilemmas of

Living. Simon & Schester, New York,1995.Ethical

في الكتاب عرضٌ لكثير من القرارات الصعبة التي كان على أصحابها أن يختاروا بين الحقِّ والباطل أو بين واجبَين شريفَين.

[5] قاموس الفلسفة، مادَّة "الأَنانيَّة"، ص 59.

[6] الدكتور داهش: "القلبُ المُحَطَّم"، (دار النَّسر المُحلِّق للطباعة والنشر، بيروت، 1984)، "أنا وأَنتُم"، ص 79-99.

[7] المصدر السابق، "لي ولكم"، ص 100-103.

[8]الدكتور داهش، "بروق ورعود"، مطابع روطوس، بيروت، 1946.

[9] المصدرُ السابق، "لا أُبالي"، ص 16.

[10]   الدكتور داهش، "كلمات"، (دار النار والنور، بيروت، 1983)، ص 167.

[11] المصدر السابق، ص 168.

[12] المصدر السابق، ص 100.

[13] المصدر السابق، ص 96.

[14] المصدر السابق، ص 173.

[15] المصدر السابق، ص 88-89.

[16]Dean Keith Simonton, Greatness, (The Guilford Press, NY/London, 1994), p.138.

[17]Norman Vincent Peale, You Can if You Think You Can. Fawcett Crest, New York, 1974.

[18] الدكتور داهش، "مُذكِّرات يسوع الناصريَ" (الدار الداهشيَّة، نيويورك، 1991)، ص 82.

[19] المصدرُ السابق، ص 22-23.

[20] المصدرُ السابق، ص 68.

[21] الدكتور داهش، "كلمات"، ص 99.

[22] الدكتور داهش، "ذكرياتُ الماضي" (دار النسر المُحلِّق، بيروت، 1971)، ص 57.

[23] الدكتور داهش، "نبال ونصال" (دار النسر المُحلِّق، بيروت، 1971)، ص 63-69.

[24] الدكتور داهش، "كلمات"، ص 169.

[25] المصدر السابق نفسُه.

[26]Paul G. Stoltz, Adversity Quotient: Turning Obstacles into Opportunities, John Wiley & Sons.

[27] الدكتور داهش، "إبتهالات خُشوعيَّة" (دار النار والنور، بيروت، 1983)، ص 95.

[28] المصدر السابق، ص 94.

[29] وردَت الكلمةُ المذكورةُ في ردّ ماري حدَّاد على مجلَّة "الصيَّاد، المنشور فيها بتاريخ 2/4/1953.

[30] الدكتور داهش، "المهنَّدُ الباتر" (الدار الداهشيَّة، نيويورك، 1991)، ص 81.

[31] الدكتور داهش، "كلمات"، ص 100.

[32] المصدر السابق، ص 91.

[33] قَيد النشر.

[34] من مخطوطة "صواعق داهشيَّة" المُعَدَّة للنشر.

[35] مخطوطة مُعَدَّة للنَّشر.

[36] الدكتور داهش، "كلمات"، ص 99.

[37] الدكتور داهش، "الرحلاتُ الداهشيَّة حول الكُرَة الأَرضيَّة"، الجزء الخامس (الدار الداهشيَّة للنَّشر، نيويورك، 1990)، ص 100.

[38]Bottom Line Personal, Oct. 1, 1998.

[39]Thomas Moore, Care of the Soul. New York, Harper Collins, 1996. انظر مُراجَعتي للكتاب في "صوت داهش"، عدد كانون الأَوَّل (ديسمبر) 1998، ص 80.

[40] جون ستيوارت ميل، "الحرِّيـَّة"، ترجمة طه باشا سباعيّ، ص 365 (نقلاً عن كتاب " الرسائل المُتبادَلة بين الدكتور داهش... والدكتور حسين هيكل باشا (دار النسر المحلِّق، بيروت، 1981، ص 51.)

[41] الدكتور داهش، "مُذكِّرات دينار" (الدار الداهشيَّة، نيويورك، 1986)، ص 190-191، نقلاً عن كتاب "المهاتما غاندي" لفتحي رضوان.

[42] الدكتور داهش، "ابتهالاتٌ خُشوعيَّة" (دار النار والنور، بيروت، 1983)، ص 77.

[43] الدكتور داهش، "ذكريات الماضي" (دار النسر المُحلِّق، بيروت، 1980)، ص 57-58.

[44] الرسائل المُتبادَلة بين الدكتور داهش والدكتور حسين هيكل (دار النسر المُحلِّق، بيروت، 1981) ص 61.

[45]Simonton, Greatness, pp 153-157.

[46] الدكتور داهش، "كلمات"، ص 92.

[47] المصدرُ السابق، ص 91.

[48] Simonton, Genius, Creativity and Leadership. Cambridge, MA, Harvard Univ. Press, 1984.

[49]Mihaly Csikszentmihalyi, The Work and Lives of 91 Eminent People. Harper Collins, 1996 ; Creativity: Flow and the Psychology of Discovery and Invention. Harper Collins, 1996.

[50]Michael Hart, The 100: A Ranking of the Most Influential Persons in History. Secaucus, NJ, Citadel Press, 1987.

[51] الدكتور داهش، "التائه في بيداء الحياة" (دار النسر المُحلِّق، بيروت، 1980)، ص 40.

 

   التعاليم الداهشيَّة بقلم الدكتور غازي براكس Back to

Developed by Houssam Ballout        Copyright 2019 This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.nfo All Right Reseved This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.