أنا أؤمن بأنه توجـد عدالة سماويّة, وأن جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدنيا من مُنغصات انَّ هـو الاّ جـزاءٌ وفاق لِما أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور.ولهـذا يجب علينا أن نستقبلَ كلّ مـا يحـلّ بنـا من آلامِ الحياةِ ومآسيها غير مُتبرّمين ولا متذمّرين , بل قانعين بعدالةِ السماء ونُظمها السامية.

Highlighter
أحبُّ الكُتُبَ حبَّ السُكارى للخمر , لكنَّني كلَّما أزددتُ منها شرباً, زادتني صَحوا
ليس مّنْ يكتُبُ للهو كمَن يكتُبُ للحقيقة
الجمالُ والعفّــة فـردوسٌ سماويّ .
لا معنى لحياةِ ألأنسان اذا لم يقم بعملٍ انسانيٍّ جليل .
اعمل الخير , وأعضد المساكين , تحصل على السعادة .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقـوم بأعمالِ الخير نحـو ألأنسانيّة .
الموتُ يقظةٌ جميلة ينشُدها كل مَنْ صَفَتْ نفسه وطَهرت روحه , ويخافها كلّ من ثقُلت أفكاره وزادت أوزاره .
ان أجسامنا الماديّة ستمتدّ اليها يـد ألأقـدار فتحطِّمها , ثمّ تعمل فيها أنامل الدهـر فتتَّغير معالمها , وتجعلها مهزلةً مرذولة . أمّا ألأعمال الصالحة وألأتجاهات النبيلة السّامية , فهي هي التي يتنسَّم ملائكة اللّه عبيرها الخالد .
نأتي إلى هذا العالمِ باكين مُعولين، و نغادره باكين مُعولين! فواهً لك يا عالمَ البكاء والعويل!
جميعنا مُغترٌّ مخدوعٌ ببعضه البعض.
العدلُ كلمة خُرافية مُضحكة.
أمجادُ هذا العالم وهمٌ باطل، و لونٌ حائل، و ظلٌّ زائل.
لا باركَ الله في تلك الساعة التي فتحتُ فيها عينيّ فإذا بي في مكانٍ يطلقون عليه اسم العالم .
أنا غريبٌ في هذا العالم، و كم احنُّ إلى تلك الساعة التي اعود فيها إلى وطني الحقيقيّ.
الحياةُ سفينةٌ عظيمة رائعة تمخرُ في بحرٍ، ماؤه الآثام البشريَّة الطافحة، و امواجه شهواتهم البهيميَّة الطامحة، و شطآنه نهايتهم المؤلمة الصادعة.
كلّنا ذلك الذئبُ المُفترس , يردع غيره عن اتيانِ الموبقاتِ وهو زعيمها وحامل لوائها , المُقوّض لصروح الفضيلة , ورافع أساس بناءِ الرذيلة .
الحياةُ سلسلة اضطراباتٍ وأهوال , والمرءُ يتقلَّب في أعماقها , حتى يأتيه داعي الموت, فيذهب الى المجهولِ الرهيب , وهو يجهلُ موته , كما كان يجهلُ حياته .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقومَ بأعمالِ الخير نحو الانسانيّة .
المالُ ميزان الشرِّ في هذا العالم .
السعادةُ ليست في المال , ولكن في هدوءِ البال .
كلُّ شيءٍ عظيمٍ في النفسِ العظيمة , أمّا في النفسِ الحقيرة فكلُّ شيءٍ حقير .
الرُّوح نسمةٌ يُرسلها الخالق لخلائقه لأجل , ثم تعودُ اليه بعجل .
الرُّوح نفثةٌ الهيَّة تحتلُّ الخلائق , وكل منها للعودة الى خالقها تائق .
الرُّوح سرٌّ الهيٌّ موصَدْ لا يعرفه الاّ خالق الأرواح بارادته , فمنه أتتْ واليه تعود .
أنا أؤمن بأنه توجـد عدالةٌ سماويّة , وأنَّ جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدُّنيا من مُنغِّصاتٍ وأكدارٍ انَّ هـو الاَّ جـزاء وفاق لمِا أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور . ولهـذا يجب علينا أن نستقبل كلَّ مـا يحـلُّ بنـا من آلام الحياة ومآسيها غير م
الحرّيةُ منحة من السماءِ لأبناءِ ألأرض .
الموتُ ملاكُ رحمةٍ سماويّ يعطف على البشر المُتألّمين , وبلمسةٍ سحريّة من أنامله اللطيفة يُنيلهم الهناء العلويّ .
ما أنقى من يتغلّب على ميولِ جسده الوضيع الفاني , ويتبع ما تُريده الرُّوح النقيّة .
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
الراحة التامّة مفقودة في هذا العالم , وكيفما بحثت عنها فأنت عائدٌ منها بصفقةِ الخاسر المَغبون .
ليس أللّــه مع الظالم بل مع الحقّ.
ان الصديق الحقيقي لا وجود له في هذا العالم الكاذب.
ما أكثر القائلين بالعطف على البائسين وغوث الملهوفين والحنو على القانطين , وما أقلَّ تنفيذهم القول.
يظنُّ بعض ألأنذال ألأدنياء أنّهم يُبيّضون صحائفهم بتسويدِ صحائف الأبرياء , غير عالمين بأنَّ الدوائر ستدور عليهم وتُشهّرهم.
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السَّلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
رهبة المجهول شقاء للبشرِ الجاهلين للأسرارِ الروحيَّة , وسعادة للذين تكشّفت لهم الحقائق السماويَّة .
الموتُ نهاية كل حيّ , ولكنه فترة انتقال : امّا الى نعيم , وامّا الى جحيم .
الحياةُ خير معلِّمٍ ومُؤدِّب , وخيرَ واقٍ للمرءِ من الأنزلاقِ الى مهاوي الحضيض .
حين تشكُّ بأقربِ المُقرَّبين اليك تبدأ في فهمِ حقائق هذا الكون .
مَنْ يكون ذلك القدّيس الذي لم تخطرُ المرأة في باله ؟ لو وجدَ هذا لشبَّهته بالآلهة .
المرأة هي إله هذه الأرض الواسع السُّلطان. و هي تحملُ بيدها سيفاً قاطعاً لو حاولَ رجالُ الأرض قاطبةً انتزاعه منها لباؤوا بالفشلِ و الخذلان .

التنشئةُ القويمة في المفهومِ الداهشيّ (3)

النَّهجُ التربويُّ السليم

بقلم الدكتور غازي براكْس

 

في الحلقتَينِ السابقتَين أوضحتُ، أوَّلاً، القواعدَ الأساسيَّة التي تقومُ عليها التربيةُ القويمة. هذه القواعدُ تصونُها المحبَّةُ الصادقة التي يجبُ أن تشدَّ أَواصرُها الأَبَوَين إلى أولادهما؛ وهي تتمثَّلُ في بُعدَين: الأوَّل ضرورةُ معرفة الأَبوَين لحقيقة الولَد النفسَجسميَّة التي هي امتدادٌ لمعظم خصائص الأَبوَين المادِّيـَّة والروحيَّة، وبالتالي ضرورةُ إدراكهما لتفاوُت أولادهما في مداركهم واستعداداتهم ونزعاتهم لكي يُحسنا التصرُّفَ معهم؛ والثانـي وجوبُ تحمُّلِ الأَبوَين لمسؤوليَّة تربية أولادهما منذ حبَلِ الأُمِّ بهم حتَّى اكتمالِ مُراهقتهم. كذلك تصدَّيتُ لتربية النـزعات في الطفل تربيةً سليمة بتنمية ما هو راقٍ منها، من جهة، ولا سيَّما الصدقُ في الكلام وحُسنُ التعامُلِ مع الآخرين، وتعزيزُ الشجاعة، والمحبَّة، والنزعةُ الغَيريَّة (الشفقة والإحسان وإيثار الخَير العامّ)، ومن جهةٍ أُخرى، بتنميةِ العادات الحسنة التي من أَهمِّها الصلاة، وبكَبحِ العادات الرديئة التي من أبرزها الكذبُ وإدمانُ المُسكِرات والمُخدِّرات. ثمَّ أَوضحتُ مضامينَ المنهجِ التربويِّ السليم وفقَ النظرة الداهشيَّة؛ وهو يُؤكِّدُ ضرورةَ الثقافة الإنسانيَّة المُتعدِّدة المجالات التي تهتمُّ بالقِيَمِ الإنسانيَّةِ في الروائع الخالدة، ويُبرِزُ أَهمِّـيَّةَ تعليم الفنون بمختلف أَنواعها، وضرورةَ وضعِ حدودٍ للتربية البدنيَّة بحيثُ لا تتضخَّمُ على حساب النموِّ العقليّ. كذلك تناولتُ بالشرح القواعدَ الروحيَّةَ العامَّة التي يجبُ أن تكونَ في أساس التربية القويمة؛ وهي تشملُ معاييرَ التمييز بين القِيَمِ الروحيَّة والقِيَمِ المادِّيـَّة، ومعاييرَ التمييز بين الخير والشرّ وبين الحقِّ والباطل، وتُراعي الأهمِّـيَّةَ التربويَّةَ البالغة لإيقاظ الضمير في الناشئة. أخيرًا أوضحتُ القواعدَ الفكريَّةَ السليمة المُنطوية على معايير المنطق السليم كما على معايير التمييز بين الحقائق العلميَّة والعلوم الكاذبة وما إليها من أوهامٍ وأخاديع. وفي هذه الحلقة سأُعالجُ النهجَ التربويَّ القويم وفقًا للمفهوم الداهشيّ.

 

          يتعذّرُ فصلُ البيئةِ البيتيَّة (والدِينَ وأولادًا) والبيئةِ المدرسيَّةِ (مُعلِّمين وتلاميذَ) عن النَّهجِ التربويِّ المُتَّـبَع. فالطريقةُ التربويّةُ تتأَثَّرُ إلى حَدٍّ بعيد بمَن يُطبِّقُها. ولعلَّها أَشبهُ بحَبكةِ مسرحيَّةٍ مُحدَّدةِ الشخصيَّات؛ فطبائعُ هؤلاء تُقيِّدُ، بصورةٍ ما، مجرى الأحداث وتفاعلَها، لكنَّ الحبكةَ تبقى خاضعةً لقدرة المُؤلِّف في حدود تلك الطبائع. والنهجُ التربَويُّ البَيتيُّ لا يقلُّ أهمِّـيَّةً عن النهجِ التربويِّ المدرسيّ. فالأَوَّلُ يضعُ الأُطُرَ الأُولى لنُمُوِّ الطفل وتفتُّحِ مواهبه وتوجيهِ أَخلاقه، والثاني يوسِعُ تلك الأُطُرَ مُتابعًا الاضطلاعَ بمَهمَّةِ التنمية والصيانة والتعهُّد. وسواءٌ طُـبِّقَ النهجُ الأَوَّلُ أو الثاني، يبقى للتعلُّم بالقُدوة الدورُ الأَوَّلُ في توجيه الأحداث وقولبة أخلاقهم.

أَوَّلاً- التعلُّمُ بالقُدوة

          إنَّ اختباراتِ الحياة المودَعة كتُبَ الأُدباء والمُفكِّرين، والدراساتِ الحديثة التي قام بها عُلماءُ النفسِ والتربيةِ والاجتماع ـ جميعَها لَـتُؤكِّدُ أنَّ الصِّغار، ولا سيَّما في الطفولتَين الأُولى والثانية، يلتقطون التقاطًا سَمعيًّا وبصَريًّا كثيرًا مِمَّا يقولُه أو يعملُه الكبارُ، سواءٌ في البيت أم المدرسة، أو على شاشة السينما أو التلفزة. والخطيرُ في ذلك أنَّ ما يتلقَّونَه يتأَثَّرون به، فيُصبحُ من المُحرِّكات الديناميَّة (الواعية أو اللاواعية) لتصرُّفاتهم واتِّجاهاتهم ومواقفهم. فهم يتأَثَّرون بكيفيَّة تعايُشِ الكِبار مُسالَمةً أو مُشاكَسة، وبطريقةِ تخاطُبهم مُحاوَرةً أو مُشاتَمة، كما يتأَثَّرون بقِيَمِهم وميولهم ورغباتهم واهتماماتهم ومناهج حياتهم، سواءٌ أَنَزعَت مَنـزَعًا مادِّيـًّا أم روحيًّا، صالحًا أم طالحًا.

          والكِبارُ المَعنيُّون هنا هم الآباءُ والأُمَّهات أوَّلاً، ثمَّ الأجدادُ والجدَّات، فالإخوةُ والأَخوات البالغون، وبعدهم الأنسباءُ المُساكِنون لِلأحداث أو المُلازمون لهم. ويلحقُ بهؤلاء، في الطفولةِ الثانية والمُراهقة، نجومُ الرياضة والغناء والأفلام والبرامج التليفزيونيَّة. ومسؤوليَّةُ وسائل الإعلام في هذا الصَّدَد كبيرة، وإنِّي سأتصدَّى لها في بحثٍ مُقبل. أمَّا في المدرسة فالاقتداءُ يتَّجهُ عفويًّا إلى المُعلِّم أو المُعلِّمة كما إلى الرفيق أو الرفيقة.

          إنَّ أهمِّـيَّةَ القُدوة في التربية كانت واضحة لدى مُؤسِّس الداهشيَّة؛ فكثيرًا ما كان يُحدِّثُنا ونحن جُلوسٌ حوله كبارًا وصِغارًا عن سلوك غاندي المِثاليّ وجِهاده المُتواصل وقِيَمِه الروحيَّة، وغالبًا ما كان يوصي الآباءَ والأُمَّهاتِ الداهشيِّين الذين كانوا يُواظبون على زيارته بأن يقصدوه برفقةِ أولادِهم، فيتفهَّمَ الكبارُ الحقائقَ الروحيَّة والسلوكَ الداهشيَّ المُستقيم، ويحرصَ الصغارُ على الاقتداء بهم قدرَ ما يستطيعون، حتَّى إذا اشتدَّ عودُهم، اتَّكلوا على أنفسهم، وسَعَوا إلى فهمٍ أعمقَ للحقيقة التي زُرِعَت بذورُها في نفوسهم مثلما سعى ذَووهم. فالأولادُ يقتفون خُطى والديهم في مُعظم الأحيان.

 

أ- تأثيرُ البيئةِ البَيتيَّةِ في توجيه خُلُقيَّة الأحداث

          سبقَ أن أَوضحتُ، في عددٍ سابق، العلاقةَ الوثيقةَ النفسَجسميَّة بين الأولاد ووالدِيهم وفقَ المفهوم الداهشيّ الذي بات عِلمُ الوراثة يُؤكِّدُه من حيثُ انتقالُ مُعظم الخصائص والسِّمات الجسميَّة والنفسيَّة من الأَبوَين إلى أولادهما عَبرَ الجينات (المُورِّثات) التي ترى الداهشيَّةُ في تشكُّلاتها الكيميائيَّة المظهرَ المادِّيَّ النسبيَّ في الكائنات الحيَّة للسيَّالات الروحيَّة الفطريَّة أو الموروثة.

          غير أنَّ للبيئةِ البَيتيَّة أَيضًا تأثيرًا بالغًا في تكوين نفسيَّة الأطفال وتوجيه سلوكهم. وهذا التأثيرُ يتَّخذُ عدَّةَ مَناحٍ. فلتكوينِ العائلة وطريقةِ تأمين عَيشِها ونوعِ القِيَمِ التي تهتمُّ بها وكيفيَّةِ تعاطي بعضها مع بعض أَثرٌ لا يُستهانُ به في قَولبة نفسيَّةِ الأولاد وأخلاقِهم.

          فالعلاقاتُ الزوجيَّةُ التي يسودُها التفاهمُ والتعاطفُ والاحترامُ المُتبادَل لا بُدَّ من أَن تُحدِثَ آثارًا إيجابيَّةً في نفوس الأحداث، خصوصًا في الطفولتَين الأُولى والثانية. أمَّا الطفلُ الذي يعيشُ في كنَفِ أُمٍّ من دون أَبٍ معروف، أَو في بيتٍ حدثَ طلاقٌ فيه بين الزوجَين، أو الذي يشهدُ مُشاجراتٍ مُتكرِّرة بين الوالدَين، فبصورةٍ عامَّة، لا بُدَّ من أن يشتدَّ فيه المَيلُ إلى العِداء والعُنف أَكثرَ مِمَّن ينشأُ في بيتٍ تجمعُ الأُلفةُ فيه الأَبَوين ويسودُه السلام. هذا ما أَكَّدَته دراساتٌ مُختلفة متوالية، ذلك بأنَّ المُعاناةَ التي يُكابدُها الطفلُ في الجَوِّ المشحون بالبُغضِ أو العُنف تزرعُ فيه بذورَ البغضِ والعنف نفسِهما، فينشأُ والديناميَّةُ السيِّئة الناشطة في وعيِه أو عقلِه الباطن تدفعُه إلى إعادة تمثيل دور الكراهية والعُنف الذي عانى مُشاهدتَه.[1]

          إنَّ الولدَ الذي يدأَبُ على سماعِ أَبيه يشتمُ أُمَّه لن يردعَه نَهيُ والدِه له متى استبدَّ الانفعالُ به فاندفعَ بدَورِه يشتمُ شقيقتَه أَو والدتَه أو رفيقَه. فالتربيةُ الصالحة تكونُ بالقدوةِ الصالحة أَكثرَ مِمَّا بالوعظِ والإرشاد، أي "اعمَلْ مثلما أَعمل،" لا "اعمَلْ وفقًا لِما أَقولُ لك." فالصغيرُ الذي يرى والدَيه يتعبان ويتأَلَّمان من أَجله وهما على وِفاق، يجهدُ في أن يتعبَ ويتأَلَّمَ من أجل أولاده وفي أن يكون على وفاقٍٍ مع قرينته، حينما يكبر.[2]

          من الأُدباء الذين كان الدكتور داهش مُعجَبًا بهم الأديب الروسيّ الكبير لِيو تولستوي Leo Tolstoi (1828-1910). فقد سمعتُ رجلَ الروح، مرَّةً، يُثني على تحليله النفسيّ التربويّ ويروي له أُقصوصةً بعنوان "الجَدُّ الشيخُ والحفيد"، مفادُها أنَّ ابنَ الشيخ وزوجتَه لمَّا وجَدا الرجلَ الهرِمَ قد ساءَ بصرُه وسمعُه، جعلا يُقدِّمان إليه الطعامَ على حِدة. وذاتَ يوم قُدِّمَ الطعامُ له بكأسٍ واسعة، فسقطَت من يَدِه وتحطَّمَت. فأَخذَت الكنَّة تُدمدِم ساخطة، وأَعلنَت أنَّها ستُقدِّمُ الطعامَ له، بعد الآن، في طَست. وبعد فترةٍ غير طويلة شاهَدَ الزوجان طفلَهما يلعبُ ببعض القِطَعِ الخشبيَّة. فسأَلَه والِدُه: "ماذا تعملُ، يا ميشا؟" فأَجابه الصغير: "أَعملُ طستًا لتأكلا منه أنت وأُمِّي حينما تكبران." فانثالت، حينئذٍ، دموعُ الوالدَين، بعد أن أدركا خطأَهما الفادح.[3]

          لقد حرصَ الدكتور داهش على أن يُضمِّنَ كتابَه "ابتهالات خشوعيَّة" قطعةً بعنوان "صلاةُ الفجر" تدعو فيها الأُمُّ بُنَـيَّـتَها إلى أن تُرافقَها إلى المعبد للصلاة. فهو لم يكتفِ بِجَعلِ الأُمِّ تُرشِدُ صغيرتَها، بل جعلَها أيضًا تُلِحُّ عليها لِلاقتداء بها في قَصدِ المعبد ورَفْعِ الدُعاء والجُثُوِّ، والإنصاتِ لِلمُسبِّحين الساجدين، أي للاقتداء بالمَثَلِ الصالح.[4] فبهذه القطعة الخشوعيَّة جعلَ الدكتور داهش القُدوةَ الدينيَّةَ الصالحة رأسَ التربية القويمة. وعلى نقيضِ ذلك أظهرَ في قصَّة بعنوان "والدةٌ طاهرةُ الذَّيل وشقيقةٌ تقيَّة نقيَّة" تأثيرَ الأُمِّ السيِّئة في ابنتِها، إذْ تُغويها وتجرُّها إلى الرذيلة بينما تكون تُلقِّنُ ابنَيها دروسًا كاذبة في الفضيلة.[5]

          ولا شكَّ في أَنَّ للمُحيطِ الثقافيِّ البَيتيِّ تأثيرًا بالغًا في نفسيَّة الأحداث لا يقلُّ أهمِّـيَّةً عمَّا للمُحيطِ المدرسيّ، ولا سيَّما في الطفولة الأُولى والثانية. فمَن ينشأُ في بيتٍ تعمرُه الثقافةُ غيرُ مَن ينشأُ في بيتٍ يأهلُه الجهل. والطفلُ الذي يرى أَبَويه يُخصِّصان وقتًا للمُطالعة المُفيدة كلَّ يوم غيرُ الطفل الذي ترتسمُ في عَينَيه صورةُ أَبيه مُنصرِفًا إل مُعاقرةِ المُسكرات ومُشاهدة البرامج التليفزيونيَّة التافهة. فلِلقدوة تأثيرٌ كبير في نفس الطفل. وقد وُضِعَت في ذلك كتُبٌ سيكولوجيَّة وتربويَّة كثيرة، كما أُجرِيَت استطلاعاتٌ تسبرُ تأثيرَ الجَوِّ البَيتيِّ في توجيه الأحداث وتكييفِ أخلاقهم ومدى اقتداء هؤلاء بآبائهم وأُمَّهاتهم، لعلَّ من أحدثِها الاستطلاعَ الذي رَعَته مجلَّة "تايْم" Time البارزة، في صَيف 1999، بالاشتراك مع "نيكيلوديون" Nickelodeon، قناة التلفزة الأمريكيَّة الخاصَّة بالأطفال. شملَ الاستطلاعُ 1172 حَدَثًا تتراوحُ أَعمارُهم بين السادسة والرابعة عشرة، وتتوزَّعُ مساكنُهم في 25 مدينة أمريكيَّة. وقد أسفرَ عن أَنَّ الآباءَ والأُمَّهاتِ يبقَون للأَحداث حتَّى الرابعةَ عشرة، وأحيانًا الخامسة عشرة، القُدوةَ الأُولى التي يتطلَّعون إليها في تصرُّفاتهم وآرائهم ومواقفهم، وذلك بنسبة 79 بالمئة.[6]

 

ب- تأثيرُ البيئة المدرسيَّة في توجيهِ خُلُقيَّة الأحداث

          تركيزُ الداهشيَّة على بناء الإنسان الصالح بقدر بناء الإنسان الناجح أو أكثر يجعلُنا ننظر إلى العُنصرَين الرئيسَين في البيئة المدرسيَّة، أي المُعلِّم أو المعلِّمة والرفيق أو الرفيقة، نِظرةَ حذَر. فالصغيرُ سيخوضُ بحرًا مجهولاً تتلاطمُ فيه سيَّالاتُه (أي قواه الإدراكيَّة والنـزوعيَّة والإراديَّة) بسيَّالات المعلِّمين والتلاميذ. وسيكون مُعرَّضًا للتأَثُّر السيِّئ بها كما للتأثُّرِ الحسن. فكفاءةُ المُعلِّم الثقافيَّة التعليميَّة مهمَّة جدًّا، لا سيَّما إذا نظرنا إلى المدرسة كعاملٍ أساسيّ في مُساعدة التلاميذ على النجاح العمليّ في حياتهم، لكنَّ الأهمَّ ـ إذا عُنينا بالتربية القويمة التي تستهدفُ إيقاظَ الإنسان الفاضل وتعزيزَه في كلٍّ منهم ـ هو خُلُقيَّةُ المُعلِّم أو المُعلِّمة. فكم من تلميذٍ تلقَّى تربيةً صالحة في بيته، فأَفسدَه مُعلِّموه. إنَّ المسؤوليَّةَ التربويَّةَ المُلقاة على عاتقِ المُعلِّمين لَعظيمة، لأنَّ اقتداءَ الصغار بهم سَهل؛ ولِذا يفرضُ المنطقُ التربويُّ السليم على المسؤولين الإداريِّين كما على الأهل أنفسهم مُراقبةَ خُلُقيَّةِ المُعلِّمين وسلوكهم، لأنَّ عدواهم لتلاميذهم سريعةُ الانتقال. ومَن يُتابع أخبارَ المدارس التي تُذيعُها وسائلُ الإعلام يوميًّا لا يُمكنُه أن يطمئنَّ إلى الأجواء التي يعيشُ فيها كثيرون من التلاميذ. فإدمانُ المُخدِّرات، والانحرافُ الجنسيُّ، وعبادةُ الجسد، والاستسلامُ للشهوات الدُّنيَويَّة ـ وجميعُها مُنافية للمبادئ التربويَّة الداهشيَّة ـ من شأنها إذا استبدَّت بالمُعلِّمين أن تنقلَ عَدواها إلى تلاميذِهم، لأنَّ "النفسَ أَمَّارةٌ بالسوء"، والصغير سريعُ الاقتداء بِمَن يفوقُه عُمرًا وعلمًا وتجربة.

          أمَّا العُنصرُ الثاني في البيئة المدرسيَّة (أعني الرفيقَ أو الرفيقة) فتأثيرُه يتعدَّى تأثيرَ المُعلِّم نفسه، ذلك بأنَّ عِشرةَ التلميذ للتلميذ تكادُ تكون دائمة وقد تمتدُّ إلى سنوات، واختلاطَه الحميمَ به واطّلاعَه على أساليب حياته الخاصَّة أقوى. وإذا كانت الديمُقراطيَّة قد جعلَت البشرَ مُتساوين أمام القانون في الحقوق والواجبات، فهي لا تستطيعُ أن تُزيلَ الاختلافاتِ في درجات سيَّالاتهم الروحيَّة، وفي النـزعات الراقية أو الدنيئة التي فيها. ولِذا وجَبَ على الأهل الحريصين على خُلُقيَّة أولادهم أن يعرفوا مَن يُعاشرون، كما وجبَ على المسئولين في المدارس مُراقبةُ سلوك التلاميذ وتَدارُكُ انحرافاتهم قبل استفحالها وانتقالِ عدواها، سواءٌ أكانت في إدمان المُخدِّرات أم الشذوذ الجنسيّ أم المُشاكسة والعُنف. وفي الأعوام الأخيرة ظهرَت أمثلةٌ شديدةُ الدلالة على ما تُحدِثُه هذه الانحرافاتُ من أضرار في رِفاق التلمذة، لا سيَّما في مدارس الولايات المُتَّحدة.[7]

 

ثانيًا- النَّهجُ التَّربَويُّ السليم وفقَ المفهومِ الداهشيّ

          بعد أن أوضحتُ تأثيرَ البيئتَين البَيتيَّة والمدرسيَّة في توجيه خُلُقيَّةِ الأحداث لِتعرُّضهم فيهما لأَثرِ القدوة الحسنة أو السيِّئة، بات التصدِّي للنَّهج التربَويِّ القويم غيرَ مُستَصعَب، علمًا بأنَّه لا يقلُّ أهمِّـيَّةً عن المنهاج التربَويِّ القويم الذي أوضحتُ مضامينَه في الحلقة السابقة.

 

أَ- عدالةُ المُعاملة المقرونة بالحُبّ

          تنطلقُ الداهشيَّةُ من مبدإ العدالة الإلهيَّة لإيضاح موقفِها من قضايا كثيرة، بينها قضيَّةُ النَّهجِ التربَويِّ السَّوِيِّ في البيت والمدرسة. فما يزرعه المُربِّي في الطفل فإيَّاه يحصد. مَن يزرع في الأحداثِ قسوةً وعُنفًا بكيفيَّة مُعاملتِهم، فقسوةً وعُنفًا سيحصدُ عندما يكبرون، وربَّما تمرُّدًا وعُدوانيَّةً غالبًا ما يكونان نتيجةَ انفجارِ شعورٍ بالدونيَّة مكبوت منذ الطفولة مثلما أثبتَت دراساتٌ سيكولوجيَّة كثيرة. ولا ينجو إلاّ مَن كان مُستوى سيَّالاته الروحيَّة يُقاربُ مُستوى سيَّالاتِ المهاتما غانْدي. ومثلما للقسوةِ نتائجُ سيِّئة، فكذلك للتدليل والمُفاضلة بين الأولاد في البيت أو المدرسة عواقبُ وخيمة.

          من كلمات الدكتور داهش: "القسوةُ الشديدة تأتي بنتائجَ لا نرضاها."[8] ذلك مع العلم بأنَّ مُؤسِّسَ الداهشيَّة هو مع سُلطة المُربِّين على الأحداث ـ وقد أوضحتُ ذلك في عددٍ سابق ـ لكنَّه ليس مع تسلُّطهم عليهم. فالسلطةُ علاقةٌ طبيعيَّة صحيحة بين القائد والمَقود، أساسُها الاستمالةُ بقوَّة الكفاءة والهَيبة لا بقوَّة الإجبار، من جانب، والإذعانُ طَوعًا بدافع المحبَّة والاحترام والواجب من جانبٍ آخر. والسلطةُ الحقيقيَّة لا تفتقرُ إلى تثبيتٍ ودَعم، لكنَّها تُقبَلُ عن رِضًى، وتُؤدِّي وظيفتَها بسهولة ونجاح. أمَّا التسلُّط فهو تعزيزٌ ودَعمٌ لسُلطةٍ مُعرَّضةٍ عادةً للمُقاومة والانهيار، بإجبارِ الأفراد على أن يخضعوا لها تحت الضغط والإكراه والتهديد بالعقوبة. وإذا كان من مزايا السلطة المُعافاة قوَّةُ الإرادة والثباتُ في الموقف والتماسُكُ في السلوك، فمن خصائص التسلُّط العُنفُ والعدائيَّةُ والغرورُ والتقلُّبُ في المواقف. والسلطةُ الحقَّة تعتبرُ الأوامرَ مُجرَّدَ وسيلة، وتحترمُ الأَشخاصَ المأمورين احترامًا كُلِّـيًّا، وتُعطي من ذاتها لأنَّها تصدرُ عن غِنًى في النفس وقوَّة، في حين أنَّ المتسلِّطَ يعتبرُ الأوامرَ غايةً بحدِّ ذاتها، إذْ إنَّها تُمثِّلُ له طمأنينتَه الداخليَّة الوهميَّة. فلِذا هو يرفضُ كلَّ نقاش أو حوارٍ حول تسلُّطه أو مواقفه، ويُهاجِمُ الآخرين خوفًا من أن يُهاجموه أو يحطُّوا قدرَه أو ينالوا منه. فالتسلُّطُ ملجأُ الضعيف يلوذُ به، لأنَّ في استضعافه أو تحقيره سواه ما يمنحُه وهمَ التفوُّق والقوَّة، لكنَّه لا يدلُّ على أنَّ المُتسلِّطَ ذو إرادةٍ قويَّة، بل على العكس. فإذا كانت السلطةُ المُعافاة ضروريَّةً للوالدِين ولسائر المُربِّين، لأنَّها تُساعدُ في إقامة النظام والتوجيه والاستقرار في الأُسرة والمدرسة، فإنَّ التسلُّطَ لا يخلو من عواقبَ وخيمة على الأولاد، إذْ إنَّه يُنشِّطُ، من جهة، نُموَّ الخجَل المرَضيّ والانطواءِ الاجتماعيّ والشعورِ بالدونيَّة فيهم، ومن جهةٍ أُخرى يكون عاملاً على تحويل تلك الأعراض، مع سياق الزمن، إلى نزعةٍ عُدوانيَّةٍ عامَّة. على أنَّ العواقبَ الوخيمة التي قد تُحدِثُها التربيةُ السيِّئة في نفسيَّة الولَد يُمكنُ أن تُلَطَّفَ بمقدار ما ينطوي الصغيرُ على سيّالاتٍ روحانيَّةٍ راقية.[9]

          إنَّ تنبُّهَ الدكتور داهش إلى أنَّ القسوةَ الشديدةَ تُحدِثُ عواقبَ وخيمة في نفسيَّة الأحداث لا يعني أنَّه ليس مع التأديب والتهذيب متى يُقتَضى، ولكنَّه يجبُ أن يكونَ تأديبًا مُحِبًّا ناتجًا لا عن غرور الوالِدين أو المُربِّين وأنانيَّتهم أو استكبارِهم على الصغار، بل عن عاطفةٍ صادقة نحوهم ومحبَّةٍٍ لمصلحتهم وخيرهم؛ وهذا ما ينبغي أن يفهمَه الصغارُ حينما يلجأُ الكِبارُ إلى تأديبِهم. يقولُ الدكتور داهش: "تُكتَسَبُ القلوبُ بالمحبَّةِ والحنان"؛ كذلك: "ما أعظمَ قوَّةَ الحُبّ، وما أشدَّ فعلَه في القلوبِ الحسَّاسة!"[10]

          لقد حصَّلَ الدكتور جيمس دوبسن J. C. Dobson ، أُستاذُ النمُوِّ الطفوليّ في جامعة جنوبيّ كاليفورنيا، خبرةً طويلةً عميقة في مجال اختصاصِه من جرّاء عملِه مع آلاف العائلات؛ ونتيجةً لخبرته المُميَّزة تلك استخلصَ قائلا: إنَّ الظروفَ التاريخيَّة والاجتماعيَّة قد تغيَّرَت من زمنٍ إلى آخر، "لكنَّ الأولادَ لم يتغيَّروا، ولن يتغيَّروا. وأنا الآن مُقتنعٌ أكثرَ من أيِّ وقتٍ مضى بأنَّ مبادئَ التربية القويمة لا تتأثَّرُ بالزمَن، إذْ إنَّ مصدرَها هو خالِقُ الأُسَرِ ذاتُه. إنَّ المفاهيمَ المُلهَمة التي تضمَّنَها الكتابُ المقدَّس تناقلَتها الأجيال، وهي ما تزالُ صالحة للقرن الحادي والعشرين صلاحَها لأسلافنا."[11]

          إنَّ رأيَ دوبسن في أنَّ القواعدَ التربويَّة القويمة يجبُ أن يُبحثَ عنها في الكُتُب المقدَّسة، وبأنَّها تستهدفُ إصلاحَ الإنسان يتَّفقُ مع رأي الدكتور داهش. كذلك فهو يقفُ موقفَه من أنَّ الأحداثَ يجبُ أن يفهموا أنَّ الله مُحِبّ، لكنَّه عادل، والعدالةُ تقضي بأنَّ لكلِّ عملٍ جزاءَه. فالتساهُلُ الشديد في تربيةِ الصغار وتلبيةِ طلباتهم، والتغاضي عن انحرافاتهم الخُلقيَّة يُنتِجان عواقبَ وخيمة في معظم الحالات.[12]وقد قال سُلَيمان الحكيم في أمثاله: "أَدِّب ابنَكَ ما دُمتَ قادرًا، ولا تتأَخَّرْ لئلاَّ تفقدَه" (أمثال 19: 18).

          إنَّ الأحداثَ، تبعًا للنهجِ التربويِّ الداهشيّ، يجبُ أن ينشأُوا وهم موقِنون بأنَّ التربيةَ العادلة التي يُنَشَّأُون وفقَها هي ظلٌّ لحقيقةٍ إلهيَّة كاملة عليهم ألاَّ يتناسَوها في حياتهم، وأنَّ حبَّ أهلهم او مُربِّيهم لهم هو الدافعُ الذي يحدو بهم أحيانًا إلى تأديبهم ببعضِ قسوة.[13]وشعورُ الولدِ بالعدالة في مُعاملتِه من قِبَلِ والدَيه أو مُعلِّميه يُريحُ نفسيَّتَه، ويُعطيه معنًى عمَليًّا لمعنى العدالة في التعامُل. وقد أكَّدَت الدراساتُ العلميَّةُ أنَّ حُسنَ سلوكه يتوقَّفُ، إلى حَدٍّ بعيد، على شعوره ذاك.[14]

          إنَّ مبدأَ العدالة في التربية الداهشيَّة يُهدِّدُه موقفان قد يتَّخذُهما الوالِدون من الأولاد:

          الأوَّلُ نَبذُ الولد من جرَّاء سوء سلوكه، أو عدم تمتُّعِه بالذكاء الكافي أو إصابته بإعاقةٍ ما. فالآباءُ والأُمَّهاتُ الذين ينبذون ولدَهم من أجل هذه الأسباب إنَّما ينبذون أنفسَهم وهم لا يدرون؛ فالولدُ، لا محالة، هو امتدادٌ لوالدَيه في أكثر السِّمات والاستعدادات النفسيَّة والجسميَّة التي يحملُها. ولَمَّا كان نُمُوُّ الصغير على اطمئنانٍ وصحَّة يقتضي رعايتَه بالعطفِ والحنان، فإنَّ نَبذَ والدَيه له يُؤدِّي إلى توتُّراتٍ نفسيَّةٍ فيه لُحمتُها الشعورُ بالحرمان وسَداها القلقُ العنيف، وهي توتُّراتٌ تعجزُ ذاتُه التي لَم تنضجْ بعدُ عن مُعالجتها وإزالتها. هذا الوضعُ النفسيُّ من شأنه أن يُجرِّدَ الإنسانَ المنبوذَ من احترامه لنفسه وثقتِه بها، وأن يبعثَ فيها شعورًا عامًّا بعجزِه، ونزعةً عدائيَّةً انتقاميَّة ضدَّ المجتمع. والأهمُّ أنَّ نَبذَ الولد، على الأخصِّ إذا حدثَ في طفولته الأُولى، يصرفُه عن التعلُّق بأُمِّه وأبيه، وبالتالي عن تنفيذ النواهي الخُلقيَّة الصادرة عنهما. وذلك نتيجتُه سيِّئة على بنائه النفسيّ، إذْ إنَّه غالبًا ما يُضعِفُ فيه الشعورَ بالغَيريَّة وسائر الميول الإنسانيَّة الراقية، ذلك بأنَّ ما يكتسبُه الصغيرُ من الإرشادات الخُلُقيَّة لا يقبلُه راضيًا ويتبنَّاه إلاَّ إذا صدرَ عن شخصٍ يُحبُّه ويميلُ إلى الاقتداء به. وقد أثبتَت الدراساتُ السيكولوجيَّة والتربويَّة صحَّةَ هذا الأمر.[15]

          والموقفُ الخطيرُ الثاني هو تدليلُ الآباء والأُمَّهات لأولادهم، أي الإغضاءُ عن سيِّئاتهم، وإيلاؤُهم عنايةً وعطفًا مُبالَغًا فيهما، وتلبيةُ أيِّ مطلبٍ يسأَلونه، وغمرُهم بالعطايا المادِّيـَّة؛ وبعبارةٍ أُخرى تربيتُهم تربيةً شديدةَ التراخي، وعدمُ مُواجهتهم بالمبادئ الخُلقيَّة. فمِثلُ هذه التربية تُساعدُ في تنمية السيَّالات المُنحطَّة في الصغير، وتشحذُ ما فيه من رغباتٍ أنانيَّة، وتُعزِّزُ ميلَه إلى الغضب والعناد والمُشاكسة والتسلُّط وربَّما التخنُّث.[16] ومُؤسِّسُ الداهشيَّة كان مُناهِضًا شديدًا لتدليل الصغار، ومُشجِّعًا لتربيتهم على الخشونة ومزايا الفُتوَّة منذ حداثتهم. ولا غَروَ، فقد نشأَ هو في أُسرةٍ التزمَت المبادئَ الخُلقيَّة وصرامةَ العَيش.

 

ب- إحترامُ أشخاص الأحداث وآرائهم

          إنَّ احترامَ أَشخاص الأحداث وآرائهم ما دامت غيَر مُنحرفة خُلُقيًّا أمرٌ واجب في التربية الداهشيَّة. وتنفيذُ ذلك يقتضي حِسًّا سيكولوجيًّا يُسهِّلُ مَهمَّةَ المُربِّي وفهمَه لطبيعة الولَد. ولئن يكن كثيرون من الأهل يفتقرون إلى هذا الحِسّ الجليل، فمن الضرورة القُصوى أن يتمتَّعَ المُربُّون، مُعلِّمين ومُعلِّمات، بهذه الملَكة الإدراكيَّة التي قد تُعوِّضُ عنها ثقافةٌ تربويَّةٌ خاصَّة يتلقَّونها قبل مباشرتهم التعليم. فهذه القدرة السيكولوجيَّة، سواءٌ أَكانت فطريَّة أم مُلقَّنة، تُساعدُ المُربِّي في اكتشاف طبائع التلاميذ وأمزجتهم ومواهبهم واستعداداتهم وأسباب مواقفهم وآرائهم، كما في حَلِّ كثيرٍ من المُعضلات التي قد تعترضُ التربية. وفضلاً عن الحسِّ السيكولوجيّ، على المُعلَّم ـ أو المُعلِّمة ـ ألاَّ يكتفيَ بأن يكون اختصاصيًّا في حقلٍ معيَّنٍ من المعرفة، بل أن يُدركَ مسئوليَّته كمُرشِدٍ أيضًا. ففي التعاليم الداهشيَّة أنَّ إصلاح الإنسان وهدايتَه يتقدَّمان إعدادَه لكي ينجحَ في حياته العمليَّة ويُحصِّلَ ثروةً كبيرة.

          بَدءُ الإرشاد الصحيح يكونُ في تعليم المُربِّـين، أهلاً كانوا ام مُعلِّمين، لأولادهم أو تلاميذهم أن يحترموا أشخاصَ الآخَرين، وكذلك عقائدَهم الدينيَّة وثقافاتِهم وتقاليدَهم وعاداتِهم. فالتسامحُ ضرورةٌ إنسانيَّة في الداهشيَّة، إذا خلا منها شعبٌ استبدَّت به الأحقادُ ضدَّ الآخرين، وما لبثَت أن قرَضَت روحَ حضارته؛ ومَن يُمارس التسامُحَ صغيرًا، يرسخْ في نفسه كبيرًا.

          كذلك يندرجُ في دَور الإرشاد أن يُصبحَ الأهلُ والمُعلِّمون شُركاءَ للأحداث في المعلومات التي يتلقَّاها هؤلاء من خارج بيوتهم ومدارسهم، كالمعلومات التي يُحصِّلونها من الإنترنيت ومحطَّات التلفزة؛ فذلك يُسهِّلُ على المُربِّي فَرزَ الصوابِ من الخطإ، والحقَّ من الباطل في تلك المعلومات التي باتت تُغرِقُ الأحداثَ بشلاّلها. وغَنيٌّ عن البيان أنَّ الحوارَ بين التلاميذ ومُعلِّميهم أو أهلهم ضروريٌّ ليشعرَ كلُّ صغيرٍ أنَّ له أهمِّـيَّةَ الكبار، فلا يُداخله أيُّ شعورٍ بالدونيَّة، ومن جهةٍ أُخرى لتدريبه على أن يستخلصَ بنفسه ما يجبُ استخلاصُه.

          لقد ذكرتُ سابقًا أنَّ مُؤسِّسَ الداهشيَّة كان يُناصِرُ الإرشادَ والتأديبَ المُحبَّ اللطيفَ يُمارسُهما الأَهلُ والمعلِّمون، لكنَّه كان أيضًا مع نُمُوِّ الأحداث نُمُوًّا مُستقلاًّ في مداركهم واستعداداتهم ومواهبهم. وعلى الأهل، كما على المُعلِّمين، ألاَّ يتدخَّلوا إلاَّ في ما يخصُّ انحرافَ الولَد عن جادَّة الصواب، أي عن الحقِّ والخير والفضيلة.

          موقفُ الداهشيَّة مَبنيٌّ على أنَّ لكلِّ ولدٍ قدراتِه الإدراكيَّة واستعداداتِه الخاصَّة؛ وكثيرون لديهم مواهبُ مُختلفة. وفي أصل القدرة الإدراكيَّة أو الاستعداد أو الموهبة سيّالٌ روحيّ يحتاجُ إلى التعبير عن نفسه وتحقيق ذاته. وإشباعُه يُشعِرُ صاحبَه بالرضى والمسرَّة، وعدمُ إشباعِه يُشعِرُه بالإحباط والكآبة. ولذلك من الأخطاء الفادحة إكراهُ الأحداث على الانصرافِ لنشاطٍ ذهنيٍّ معيَّن ليس فيهم موهبةٌ أو استعدادٌ فطريٌّ لأدائه. فما لا يُحبُّه الإنسانُ لا ينجحُ في أدائه ولا يجدُ مُتعة.

          بناءً على هذا المفهوم الداهشيّ يجبُ تشجيعُ النُموِّ المُستقلّ لمواهب الأحداث واستعداداتهم من أجل أن تنشطَ سيّالاتُهم باتِّجاه التفكير الخلاّق والإبداع بدلَ أن تُفرَضَ عليهم الأفكارُ والأنماطُ التقليديَّة. وهذه الاستقلاليَّة في النُمُوِّ الذاتيّ جدُّ مُهمَّة لكي تستطيعَ السيّالاتُ العُلويَّة أو المُتفوِّقة بمواهبها أن تعملَ بحُرِّيـَّة، وتُعطيَ ثمارَها أصيلةً عفويَّة. أمَّا إذا ازداد ضغطُ البيت أو المدرسة او المجتمع على الولد بما يُفرَضُ عليه من تقاليدَ ومفاهيمَ واتِّجاهاتٍ معيَّنة، فإذْ ذاك يُقتَلُ فيه كلُّ إمكانٍ لانطلاقةٍ إبداعيَّة. ولذلك نرى المُجتمعاتِ الديمقراطيَّةَ الراتعة في حُرِّيـَّةِ التعبير والاعتقاد والمعنيَّة بأن تنموَ شخصيَّةُ الولد نُمُوًّا حُرًّا يكثرُ فيها الإبداعُ أكثرَ جدًّا مِمَّا في المُجتمعات القَمعيَّة والتسلُّطيَّة. وحسبُنا أن ننظرَ إلى المُجتمعات المُعاصرة وتفاوُتها في أنظمتها وأساليب التربية فيها لِتُطالعَنا براهينُ كثيرة تُؤكِّدُ هذه الحقيقة.

          لكنْ إذا لم تكن سيَّالاتُ الصغير الروحيَّة تحملُ موهبةً ما، ولا ذكاءً مُمَيَّزًا، ولا ثقةً بالنفس توقِدُ فيه شعلةَ الطموح، فإنَّ كلَّ ما يُحيطُه به الأهلُ والمعلِّمون من عنايةٍ وتشجيعٍ وتربيةٍ مُريحةٍ للأعصاب لن يخلقَ فيه استعداداتٍ وقُدراتٍ للإبداع ليس لها كيانٌ في جيناته الفطريَّة. فإرغامُه، إذْ ذاك، على أن يُمارسَ نشاطًا ثقافيًّا ليس فيه استعدادٌ له ولا رغبة قد يأتي بمُضاعفاتٍ لا يرجونها. فالكَفُّ عن الإكراه في مِثل هذه الحال يفرضُه لا العطفُ على الصغير فحسب، بل احترامُ شخصيَّته. فالحبُّ وحده كالدفءِ الوَهميّ. فالأهلُ والمُعلِّمون إزاءَ الأولاد ليسوا كالخزَّاف الذي يُقولِبُ الخزَف؛ فللأولاد مداركُهم ونزعاتُهم واختياراتُهم الخاصَّةُ أيضًا. وهذا الأمرُ أيَّدته الدراساتُ العلميَّة.

          فقدرةُ الأهل على التكهُّن بكيفيَّةِ النُموِّ النفسيِّ لأولادهم محدودةٌ جدًّا، إذْ كثيرًا ما تظهرُ أمراضٌ عقليَّةٌ في المُراهقة أو عُنفوان الشباب لا تلوحُ لها نُذُرٌ في الطفولة، أو تبرزُ موهبةٌ في الفترة نفسها لا تبدو بشائرُها في الصِّغَر. ولِذا فعلى عاتق المُربِّين مسؤوليَّةٌ خطيرة هي أن يُفسِحوا الفُرَصَ أمام الأحداث ليُنمُّوا تنميَةً حُرَّةً ما يكونُ كامنًا في سيَّالاتهم الروحيَّة من استعداداتٍ وقُدرات.[17]ولا يستتمُّ احترامُ المُربِّين لأشخاص الأحداث غايتَه، ولا يُدركُ الإرشادُ هدفَه إلاَّ إذا استطاع الأهلُ والمُعلِّمون أن يُراعوا أنواعَ الذكاءِ المُختلفة في الأولاد، بعد أن يستـنـبشوها في مُلاحظتهم لنشاطهم ورغباتهم. وكنتُ قد أوضحتُ أبعادَ العقل في الإنسان وفئاتِ الذكاء المُختلفة في عددٍ سابق؛ [18]وهذا لا يمنعُ التشديدَ على تنمية الذكاء الانفعاليّ الذي يستهدفُ قدرةَ التعامُل مع الآخرين، لأنَّه مفتاحُ النجاح في الحياة الاجتماعيَّة.[19]

 

ج-تمثُّلُ موادِّ التعليم والامتزاجُ الذهنيّ بحقائقها

          لَمَّا كنَّا نُجالِسُ مُؤسِّسَ الداهشيَّة، كنَّا نتطرَّقُ أحيانًا إلى أوضاع التعليم في البلدان العربيَّة، ونُقابلُها بما في البلدان الغربيَّة المُتقدِّمة. وذاتَ مرَّة خاطبَني الدكتور داهش قائلاً: "أَلا ترى بين المُستشرقين مَن يصرفُ   عشرين سنة، وربَّما عُمرَه كلَّه، لِيُنتِجَ أَثرًا ضخمًا عن الحضارة العربيَّة أو الأدب العربيّ، مَدفوعًا بحُبِّه الاستطلاعَ وبرغبته الشخصيَّة المُلِحَّة لإنجازِ أَثرٍ جليل، بينما لا يهتمُّ بذلك أهلُ اللغة والحضارةِ أنفسُهم؟" ومن مُحادثتِنا استخلصنا أنَّ النهجَ التربويَّ ذو تأثيرٍ في توجيه الإنسان لا يقلُّ أهمِّـيَّةً عن تأثيرِ سيّالاته الروحيَّة. وقد ضربَ الدكتور داهش مثلاً على نتيجة النهج التربويِّ السلبيِّ الفاشل الآيةَ القُرآنيَّة:{مَثَلُ الذين حُمِّلوا التوراةَ ثمَّ لم يحملوها كمَثَلِ الحمار يحملُ أَسفارًا} (سورة الجُمعة: 5)؛ ذلك بأنَّ الهدفَ الصحيحَ من التعلُّم ليس حِفظَ النصوص غَيبًا، بل تمثُّـلُها والامتزاجُ بحقائقها إدراكًا ووجدانًا. وإيضاحًا لذلك سأُعطي بضعةَ أمثلة سريعة مَبنيَّة على النظرة الداهشيَّة:

          في دراسة علوم الطبيعة، مثلاً، من المُفيد أن يشعرَ التلميذُ وهو يتعلَّمُ خصائصَ النبات والحيوان والجماد ـ والأفضلُ أن يكون التعليمُ في مسرح الطبيعة ـ بالوحدة الجَوهريَّة بينه وبينها، وبالأواصر التي تشدُّه إليها. فجميع الموجودات تتمتَّعُ بسيّالاتٍ مُدركة، وإن يكُن على درجاتٍ مُتفاوتة، وقد يكون بينها ما ينطوي على سيّالٍ يتَّصلُ بالتلميذ مُباشرةً. ولِذا فالعطفُ على النبات والحيوان، ولا سيَّما الطير منه، أمرٌ واجب، والامتناعُ عن تلويث البيئة أمرٌ ضروريّ. وقد حفلَت كتاباتُ الدكتور داهش بوصفٍ وجدانيّ للطبيعة وبالتعاطُف معها. فدراسةُ علوم الطبيعة ـ حتَّى الفيزيائيَّة والكيميائيَّة منها ـ لا تُعطي الفائدة الإنسانيَّة المَرجُوَّة ما لم يكُن للتلميذ موقفٌ وجدانيٌّ منها. فذرَّاتُ الإنسان لا تختلفُ عن ذرَّات الطبيعة، وخلاياه لا تختلفُ عن خلايا النبات والحيوان. بل إنَّ جيناته لا تختلفُ عن جيناتهما إلاَّ في الأقلِّ الأقلّ. وعندما يُوافيه الموت، ينحلُّ جثمانُه لتعودَ عناصرُه "المادِّيـَّة" فتندمجَ بالطبيعة الأُمّ.

          وفي قراءةِ النصوصِ الأدبيَّة ودراستها من المُفيد أن يُطلَبَ إلى التلميذ أن يستبطنَ نفسَه، فيُقابلَ أفكارَه ومشاعرَه ورغباتِه واتِّجاهاتِه بما يتضمَّـنُه النصُّ الأدبيّ، فيكون تواصُلٌ بين القارئ والأديب يُمهِّدُ الطريقَ لفَهمٍ أفضل وإفادةٍ أكبر للتلميذ. وهكذا لا يبقى النصُّ مُنفصلاً عن قارئه، ولا تقتصرُ الغايةُ من دراسته على فهمِه الجماليِّ أو فهمِ المُؤثِّرات الاجتماعيَّة فيه، بل يكونُ للمُثُلِ العُليا والقِيَمِ الروحيَّة والنـزعاتِ السامية المُنطوية عليها النصوصُ فعلُها الإيجابيُّ في نفوس التلاميذ أيضًا.

          وفي دراسة التاريخ من المُفيد الإلحاحُ على السَّـبَـبيَّة الخُلُقيَّة التي وراءَ الأحداث، وعلى المغزى الروحيِّ من تقلُّب الدُوَل، ومآلِ الظُلم والاستبداد، وعواقب الجهل العلميِّ والانحلال الخُلقيِّ والفساد. ولي وِقفةٌ مَليَّةٌ عند هذا الأمر في بحثٍ مُقبِل.

          وفي دراسةِ الجُغرافية البشريَّة والطبيعيَّة من المُفيد أن يتعرّفَ التلاميذ، بإشراف مُعلِّميهم، تعرُّفًا مباشرًا المعالِمَ الطبيعيَّة والعُمرانيَّة في وطنهم، بقَدر ما تُتيحُ لهم ظروفُهم، وأن يدرسوا دراسةً ميدانيَّة عاداتِ شعبهم وتقاليدَه ووجوهَ الحضارة فيه. فكثيرًا ما كنَّا نُجالِسُ مُؤسِّسَ الداهشيَّة، بعد عودته من كلِّ رحلةٍ من رحلاته الكثيرة التي امتدَّت من عام 1969 حتّى 1983، فيُخبرُنا بانطباعاته التي كان يُدوِّنُها في سلسلة كُتُبِه المعروفة بـ"الرحلات الداهشيَّة حول الكُرةِ الأرضيَّة". والمُهمُّ في ذلك، على الصعيد التربَويِّ، أنَّه كان ينصحُنا كِبارًا وصِغارًا بألاَّ نعتمدَ في استخلاص الوقائع على الآخرين، بل نجتهدُ في استخلاصِها بأنفسِنا. ويُعطينا مثلاً على ذلك كيف كان يعدُّ اللوحاتِ الفنِّـيَّة في كلِّ مُتحفٍ يزورُه، بل في كلِّ قاعةٍ من المُتحَف، وكيف أنَّ ما تعرضُه بعضُ الغاليريهات من رسومٍ لمشاهير الفنَّانين مُدَّعيةً أنَّها أصليَّة، يكتشفُ أنَّها مُجرَّدُ نُسَخٍ، وأنَّ الأصليَّة ما تزالُ في بعض المتاحف. كذلك كان يسألُ عن أسعار السِّلَع المُختلفة ويُدوِّنُها مُقارنًا إيَّاها بأسعارها في لبنان أو غيره من البلدان التي يزورُها، فيجدُ أنَّ ما يُشيعُه بعضُ السائحين ليس صحيحًا. أو يسألُ الناسَ عن آرائهم في أُمورٍ تهمُّه، فيستخلصُ أنَّها غيرُ ما يظنُّه الناسُ عامَّةً. وقُصارى القول كانت غايتُه من أحاديثه عن رحلاته أن يبثَّ فينا روحَ الاعتماد على النفس في تقصِّي الوقائع العائدة لعُمران البشر وأنظمتهم وسلوكهم وعاداتهم واقتصادهم وفنونهم وطبيعة أراضيهم.

 

د- تَنميَةُ الحِسِّ بالمسؤوليَّة الشخصيَّة

          إنَّ تمييزَ الخير من الشرّ، والحقِّ من الباطل، والصوابِ من الخطإ، والقِيَمِ الروحيَّة والإنسانيَّة من القِيَم الدُنيَويَّة والشخصيَّة، إذا لم يقترنْ به حسٌّ بالمسؤوليَّة السلوكيَّة الشخصيَّة، يُصبح صاحبُه كالمُتفرِّج على الأحداث، يعرفُ خيرَها من شرِّها، لكنَّه يُقدِمُ على ارتكابِ الشرّ من غير أن يشعرَ برادِعٍ يردعُه عن السوء. فالصغيرُ الذي يخلو من هَمِّ المسؤوليَّة الشخصيَّة قد يكذبُ ويُخادع ويسرقُ ويُؤذي، ويُكرِّرُ أعمالَه السيّئة حتَّى تُصبحَ عادةً فيه من غير أن يرتعشَ له ضمير.

          فتربيةُ الصغير تربيةً سَوِيَّة تقضي بأن يُدركَ عاقبةَ كلِّ عملٍ يعملُه وكلِّ اختيارٍ يختارُه، وأنَّ عليه أن يتحمَّلَ مسؤوليَّةَ ما يفعلُه وما يختارُه. وتحمُّلُه لهذه التَّبِعة يوقِظُ فيه إدراكًا جليلَ الشأن، هو أنَّه يصنعُ مُستقبلَه وماجَريات حياته بإرادته. وهكذا يتدرَّبُ على أن يكونَ هو قائدَ سفينته، فلا يستسلم لإغراءات غيره، ولا يُسلِّّم قيادةَ حياته إلى سواه، ويتعلَّم أن يقول "لا" في وجهِ المُضلِّلين فلا ينقاد إلى عِشرةِ السوء.

          والحِسُّ بالمسؤوليَّة، في التربية الداهشيَّة، لا يكون صحيحًا إلاَّ إذا قام على إفهام الصغير قواعدَ العدالة الروحيَّة التي تُجازي كلَّ عملٍ بمِثلِه، والتي من مبادئها أنَّ تسفيلَ الإنسان لنفسه يُعرِّضُه لمُختلف المصائب جزاءً وفاقًا، سواءٌ أَفي الحياة الراهنة أم في دورةٍ حياتيَّةٍ مُقبلة. ذلك بأنَّ مفهومَ التقمُّص يحتلُّ، في التربية الداهشيَّة، مكانةً خاصَّة. فالأحداثُ يجبُ أن يفهموا أنَّ أوضاعَهم الحاليَّة، وأوضاعَ أهلهم، صحِّـيَّةً كانت أم عقليَّةً أم اقتصاديَّة، إنَّما هي نتيجةُ أعمالهم ورغباتهم ومواقفهم في أدوارٍ حياتيَّة سابقة. فهم الذين صنعوا حاضرَهم، وهم الذين سيصنعون مُستقبلَهم بإرادتهم الحُرَّة. ولذلك، فإن يكُن لِلأنظمة السياسيَّة والاقتصاديَّة في البلدان التي يعيشون فيها بعضُ المسؤوليَّة في ما هم عليه، فهم أيضًا يتحمَّلون القسطَ الأكبر من تلك المسؤوليَّة، لأنَّ العدالة الإلهيَّة لا تظلمُ أحدًا. وفي القرآن الكريم {إنَّ الله لا يظلمُ مثقالَ ذرَّة} (سورة النساء: 40)، لكنْ بوُسعهم تغييرُ أوضاعهم بجُهدهم الشخصيّ، لأنَّ {الله لا يُغَيِّرُ ما بقَومٍ حتَّى يُغيِّروا ما بأَنفسهم} (سورة الرَعد: 11).

          وفي التعاليم الداهشيَّة أنَّ ما من إنسانٍ إلاَّ فيه جانبٌ من الخير وإن يكن ضئيلاً. ولِذا يحسنُ التركيز، في سياق عمليَّة التنمية للحسِّ بالمسؤوليَّة الشخصيَّة في نفوس الأحداث، على الصفات الإيجابيَّة في أشخاصهم، وجَعلهم يقتنعون بأنَّ كلَّ إنسانٍ لا بُدَّ من أن تكونَ فيه مزيَّةٌ من المزايا، وأنَّ عليه أن يفتخرَ بهذه المَزيَّة ويصونَها. وهذا المنحى التربَويّ أصبح اتِّجاهًا سيكولوجيًّا جديدًا في التربية والعلاج النفسيّ مع بداية القرن الحادي والعشرين.[20]

          كذلك يجبُ أن يُعَلَّمَ الأحداثُ أنَّ لِلقوى النفسيَّة تراتُـبًا أصليًّا، إذا استقام يُشيعُ السلامَ والطمأنينةَ في النفس، ويُساعدُ على ارتقائها. وهذا التراتُبُ يقضي بأن يكونَ للعقلِ الهَيمنةُ على عواطف الإنسان وانفعالاته في كلِّ أعماله واختياراته؛ فانهزامُ العقل أمام الانفعال والعاطفة هو الذي أسقطَ حوَّاء وآدم، وسبَّبَ طردَهما من الفردَوس الأرضيّ. فكلُّ صراعٍ بين العقل والرغبة أو الانفعال يجبُ أن يكونَ لمصلحة العقل، لأنَّه سراجُ الله في الإنسان ونبراسُ الحقِّ والفضيلة.


 



  1. 1.  “From Spats to Brats” in Psychology Today, Sept./Oct. 1998; Trends in the Well-being of America’s children and Youth 1999 by Child Trends, Inc; The U.S. Department of Health and Human Services, 2000.

2. أنظر: M. Scott Peck. The Road Less Traveled (N.Y.: Simom & Schuster, 1978), pp. 21-26,), “The Sins of the Father”.  

3. استعان الدكتور روبرت كولز بهذه الأُقصوصة لإظهار تأثير القُدوة في الأطفال بكتابه:

Robert Coles. The Moral Intelligence of Children (New York: Random House, 1997), pp. 10-11.

4. الدكتور داهش: "ابتهالات خشوعيَّة (بيروت: دار النار والنور، 1983)، ص 56-64.

5. الدكتور داهش: "قِصَص غريبة وأَساطير عجيبة"، الجزء الأوَّل (بيروت: دار النسر المُحلِّق، 1979)، ص 37.

6 Time, July 5, 1999.

7. أنظر نماذجَ من التحقيقات والدراسات التي تناولَت موضوعَ انحراف التلاميذ الإجراميّ في:

“Incriminating Developments: Scientists Want to Reform the Study of How Kids Go Wrong”, in Science News, Sept. 5, 1998, pp. 153-155; Time, March 19, 2001, pp. 22-35.

8. الدكتور داهش: "كلمات" (بيروت: دار النار والنور، 1983)، ص 121.

9. أنظرْ مثلاً تطبيقيًّا على التأثيرات التي يُحدِثُها التسلُّطُ الأبويُّ في الولَد، في دراستي "جبران خليل جبران في دراسة تحليليَّة –تركيبيَّة لأدبه ورسمِه وشخصيَّته (بيروت: دار الكتاب اللبنانيّ، 1981)، القسم الأوَّل، وفي ما يُقابلُها من مُلحق الكتاب "دراسة جبران النفسيَّة في ضوء المبادئ الداهشيَّة"؛ ذلك مع العلم بأنَّ تأثيرَ التسلُّط الأبويِّ في نفسيَّة جبران لاقى له مُتنفَّسًا وإعلاءً في الأدب والرسم. ولو لم تُسعِفه مواهبُه وسيَّالاتُه العُلويَّة، لكانت العُدوانيَّة فيه اتَّخذَت لها طريقًا تمرُّديًّا عنيفًا آخر كما الحال لدى الملايين من الناس الذين ينشأُون في أجواء تسلُُّطيَّة.

10. الدكتور داهش: "كلمات"، ص 121 و130.

11. James C. Dobson, “Dare to Disciplie in the —‘90s” in Raising Them Right, Ed. Mike Yorkey (Colorado: Colorado Springs, 1994), pp. 3-15. See also: J. Dobson. The New Dare to Discipline, Tyndale House Pub., 1992.

12. يُفرِّقُ دوبسن، في المرجع السابق، بين أعمال الصغير التي تنشأُ عن الذهنيَّة الطفوليَّة، كتوسيخ الأرض، أو إضاعة بعض الأشياء، أو تحطيمها بسبب عدم الانتباه أو جهل طبائعها أو الفضول الدافع إلى اكتشافها، من جهة، وعصيان الأبَوَين وتحدِّيهما من جهةٍ أُخرى. فرفضُ الطاعة يجبُ ألاَّ يتجاهلَه الأهلُ برأيه. والطفلُ الذي بين السنة والنصف والعاشرة يجبُ أن يُؤدَّبَ على تمرُّده وفقًا لعُمره وإدراكه، على ألاَّ يحدثَ العقابُ الجسديُّ (الذي يجب أن يقتصرَ على الضرب على قَفا الصغير) إلاَّ نادرًا. غير أنَّ الضربَ، وإن يكن على القَفا، ناهضَه عدَّةُ عُلماء، بينهم الدكتور موراي شتراوس Murray Straus ، أستاذ علم الاجتماع في جامعة نيو هامشِر والمُديرُ المُشارِك لمختبَر أبحاث العائلة، والدكتور ديفيد كوهن David Cohen، أستاذ علم النفس في جامعة تكساس، وذلك لاقتناعهم بأنَّ الضربَ يزيدُ الشدَّةَ النفسيَّة في الصغار ويدفعُهم إلى حَلِّ مُشكلاتهم بطريقة العُنف.

13. سنَّت الولاياتُ المُتَّحدة قوانين تُلزِمُ المُربِّين والمُساعدين الاجتماعيِّين وغيرَهم أن يُعلِموا السلطاتِ المسؤولة بكلِّّ حادثٍ يظهرُ فيه استخدامُ عُنفٍ شديد أو إساءةُ تربية بحقِّ الأحداث. أنظر:

R. Chalk & P. A. King, “Facing Up to Family Violence” in Issues in Science & Technology, Winter 1998-1999, pp. 39-46.

14. أنظر مقالاً في هذا الصَّدَد للدكتور مايْكل رِسنيك:

M. Resnick, “The Simple Essentials of Great Parenting Today”, in Bottom Line Personal, May 1, 1998.

15. من بين هذه الدراسات الدراسة الرائدة التي قام بها سايموندس وتناولَ فيها 98 حالة عياديَّة. أنظر:

P. M. Symonds. Diagnosing Personality and Conduct. New York: Appleton-Century Crafts, 1931.

16. أنظر: Robert Coles. The Moral Intelligence of Children, “The Spoiled Child”, pp. 66-68. See also: Nancy Samalin. Loving Your Child is not enough: Positive Discipline That Works. New York: Penguin.

17. أنظر: David B.Cohen. Stranger in the Nest: Do Parents Really Shape Their Child’s Personality, Intelligence, or Character? (N.Y.: John Wiley & Sons, 1999), pp.213-215

18. أنظر: "صوت داهش"، السنة الرابعة، العدد الرابع، آذار (مارْس) 1999، ص 11-13.

19. أنظر:Daniel Goleman. Emotional Intelligence (N.Y.: Bantam Books, 1996).. وقد قمتُ بمُراجعة للكتاب في "صوت داهش"، السنة الثانية، العدد الثالث، كانون الأوَّل (ديسمبر) 1996.

20. أنظر: Psychology Today, May/June 2000, pp. 32-37.

 

  Back to التعاليم الداهشيَّة بقلم الدكتور غازي براكس 

Developed by Houssam Ballout        Copyright 2019 This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.nfo All Right Reseved This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.