أنا أؤمن بأنه توجـد عدالة سماويّة, وأن جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدنيا من مُنغصات انَّ هـو الاّ جـزاءٌ وفاق لِما أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور.ولهـذا يجب علينا أن نستقبلَ كلّ مـا يحـلّ بنـا من آلامِ الحياةِ ومآسيها غير مُتبرّمين ولا متذمّرين , بل قانعين بعدالةِ السماء ونُظمها السامية.

Highlighter
أحبُّ الكُتُبَ حبَّ السُكارى للخمر , لكنَّني كلَّما أزددتُ منها شرباً, زادتني صَحوا
ليس مّنْ يكتُبُ للهو كمَن يكتُبُ للحقيقة
الجمالُ والعفّــة فـردوسٌ سماويّ .
لا معنى لحياةِ ألأنسان اذا لم يقم بعملٍ انسانيٍّ جليل .
اعمل الخير , وأعضد المساكين , تحصل على السعادة .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقـوم بأعمالِ الخير نحـو ألأنسانيّة .
الموتُ يقظةٌ جميلة ينشُدها كل مَنْ صَفَتْ نفسه وطَهرت روحه , ويخافها كلّ من ثقُلت أفكاره وزادت أوزاره .
ان أجسامنا الماديّة ستمتدّ اليها يـد ألأقـدار فتحطِّمها , ثمّ تعمل فيها أنامل الدهـر فتتَّغير معالمها , وتجعلها مهزلةً مرذولة . أمّا ألأعمال الصالحة وألأتجاهات النبيلة السّامية , فهي هي التي يتنسَّم ملائكة اللّه عبيرها الخالد .
نأتي إلى هذا العالمِ باكين مُعولين، و نغادره باكين مُعولين! فواهً لك يا عالمَ البكاء والعويل!
جميعنا مُغترٌّ مخدوعٌ ببعضه البعض.
العدلُ كلمة خُرافية مُضحكة.
أمجادُ هذا العالم وهمٌ باطل، و لونٌ حائل، و ظلٌّ زائل.
لا باركَ الله في تلك الساعة التي فتحتُ فيها عينيّ فإذا بي في مكانٍ يطلقون عليه اسم العالم .
أنا غريبٌ في هذا العالم، و كم احنُّ إلى تلك الساعة التي اعود فيها إلى وطني الحقيقيّ.
الحياةُ سفينةٌ عظيمة رائعة تمخرُ في بحرٍ، ماؤه الآثام البشريَّة الطافحة، و امواجه شهواتهم البهيميَّة الطامحة، و شطآنه نهايتهم المؤلمة الصادعة.
كلّنا ذلك الذئبُ المُفترس , يردع غيره عن اتيانِ الموبقاتِ وهو زعيمها وحامل لوائها , المُقوّض لصروح الفضيلة , ورافع أساس بناءِ الرذيلة .
الحياةُ سلسلة اضطراباتٍ وأهوال , والمرءُ يتقلَّب في أعماقها , حتى يأتيه داعي الموت, فيذهب الى المجهولِ الرهيب , وهو يجهلُ موته , كما كان يجهلُ حياته .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقومَ بأعمالِ الخير نحو الانسانيّة .
المالُ ميزان الشرِّ في هذا العالم .
السعادةُ ليست في المال , ولكن في هدوءِ البال .
كلُّ شيءٍ عظيمٍ في النفسِ العظيمة , أمّا في النفسِ الحقيرة فكلُّ شيءٍ حقير .
الرُّوح نسمةٌ يُرسلها الخالق لخلائقه لأجل , ثم تعودُ اليه بعجل .
الرُّوح نفثةٌ الهيَّة تحتلُّ الخلائق , وكل منها للعودة الى خالقها تائق .
الرُّوح سرٌّ الهيٌّ موصَدْ لا يعرفه الاّ خالق الأرواح بارادته , فمنه أتتْ واليه تعود .
أنا أؤمن بأنه توجـد عدالةٌ سماويّة , وأنَّ جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدُّنيا من مُنغِّصاتٍ وأكدارٍ انَّ هـو الاَّ جـزاء وفاق لمِا أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور . ولهـذا يجب علينا أن نستقبل كلَّ مـا يحـلُّ بنـا من آلام الحياة ومآسيها غير م
الحرّيةُ منحة من السماءِ لأبناءِ ألأرض .
الموتُ ملاكُ رحمةٍ سماويّ يعطف على البشر المُتألّمين , وبلمسةٍ سحريّة من أنامله اللطيفة يُنيلهم الهناء العلويّ .
ما أنقى من يتغلّب على ميولِ جسده الوضيع الفاني , ويتبع ما تُريده الرُّوح النقيّة .
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
الراحة التامّة مفقودة في هذا العالم , وكيفما بحثت عنها فأنت عائدٌ منها بصفقةِ الخاسر المَغبون .
ليس أللّــه مع الظالم بل مع الحقّ.
ان الصديق الحقيقي لا وجود له في هذا العالم الكاذب.
ما أكثر القائلين بالعطف على البائسين وغوث الملهوفين والحنو على القانطين , وما أقلَّ تنفيذهم القول.
يظنُّ بعض ألأنذال ألأدنياء أنّهم يُبيّضون صحائفهم بتسويدِ صحائف الأبرياء , غير عالمين بأنَّ الدوائر ستدور عليهم وتُشهّرهم.
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السَّلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
رهبة المجهول شقاء للبشرِ الجاهلين للأسرارِ الروحيَّة , وسعادة للذين تكشّفت لهم الحقائق السماويَّة .
الموتُ نهاية كل حيّ , ولكنه فترة انتقال : امّا الى نعيم , وامّا الى جحيم .
الحياةُ خير معلِّمٍ ومُؤدِّب , وخيرَ واقٍ للمرءِ من الأنزلاقِ الى مهاوي الحضيض .
حين تشكُّ بأقربِ المُقرَّبين اليك تبدأ في فهمِ حقائق هذا الكون .
مَنْ يكون ذلك القدّيس الذي لم تخطرُ المرأة في باله ؟ لو وجدَ هذا لشبَّهته بالآلهة .
المرأة هي إله هذه الأرض الواسع السُّلطان. و هي تحملُ بيدها سيفاً قاطعاً لو حاولَ رجالُ الأرض قاطبةً انتزاعه منها لباؤوا بالفشلِ و الخذلان .

التَّـنشِئَةُ القويمة في المفهومِ الداهشيّ (1)

القواعدُ الأساسيَّة والبُعدُ النُّـزوعيّ في التربية

بقلم الدكتور غازي براكْس


منذ طُرِدَ آدم وحوَّاء من الفردَوس الأرضيّ بسبب عصيانهما الأوامرَ الإلهيَّة والمصاعبُ والمصائبُ ما زالت تعترضُ مساعي البشر لإقامة نَشْءٍ فاضل. فما وصلَنا من مُدَوَّنات التاريخ عن حياة الأُسَر والناشئة، في مختلف العصور والأمصار، يشهدُ على أنَّ الحياةَ العائليَّةَ الفاضلة لم تكن سهلةَ المنال، سواءٌ كانت في طبقة الحُكَّام والنافذين والأثرياء أم في طبقات الشعب العاديِّ والفقراء. وقد تظهرُ في البعثات النبَويَّة وأزمنةِ الهدايات الروحيَّة أنظمةٌ تربويَّةٌ مُثلى، لكنَّها لا تُعمِّرُ طويلاً. سببُ ذلك أنَّ معظمَ ما يكونُ في الآباء والأُمَّهات من فضائلَ ورذائل ونزعاتٍ سامية أو دنيئة ينتقلُ انتقالاً بيولوجيًّا أو روحيًّا، بواسطة سيّالاتهم، إلى أبنائهم وبناتهم الذين يُصبحون امتداداتٍٍ نَفْسَجسميَّة psychosomatic لوالديهم. إنَّ سيّالاتِ الشرِّ ما زالت تُصارعُ سيّالاتِ الخير في الإنسان منذ وُجِد على هذه الأرض، وليس له من مناراتٍ تهديه السبيلَ إلى تربيةٍ سَويَّة إلاَّ منارات الرقيِّ الروحيّ التي أَفضتُ في الكلام عليها سابقًا (في سبع حلقاتٍ نُشِرَت تِباعًا في هذه المجلَّة). فتلك المعاييرُ الروحيَّة والإنسانيَّة يجبُ أن يلتزمَها الآباءُ والأُمّهاتُ في تربيتهم لأولادهم، كما المعلِّمون والمُعلِّمات في تنشئتهم للتلاميذ أطفالاً ومُراهقين. فإذا تمَّت تربيةُ الأحداث ليكونوا أُناسًا فاضلين، فلا بأسَ من تسليحهم، بعد ذلك، بما يُساعدُهم على أن يعيشوا مُواطنين ناجحين في حياتهم العمليَّة. فإعدادُ الإنسان لترقية نفسه من خلال تدريبه على مُممارسةِ القِيَمِ الروحيَّة والتشبُّثِ بالمُثُل العُليا يجبُ أن يسبقَ، في الأولويَّات التربويَّة، إعدادَ العامل أو المهنيِّ أو المُحترِف الناجح، إذْ "ماذا ينفعُ الإنسانَ لو ربحَ العالَم كلَّه وخسرَ نفسَه؟" مثلما قال السيِّدُ المسيح.

إنَّ الطفلَ ما إن يبلغُ سنَّ الرُّشد حتَّى تنفتحَ عليه أبوابُ التجارب والغوايات على مصاريعها، وتُحيطَه أمواجُ الشهوات والرذائل بعُتُوِّها، وتنهمرَ الصوَرُ الدنيئةُ والمعلوماتُ الرديئةُ على عَينَيه ومسمعَيه انهمارَ الشلاَّل، فيجدُ نفسَه وسطَ لُجَّتها وقد أوشكَ على الغرق. وهكذا يفسدُ جيلٌ بعد آخر، ويهلكُ جيلٌ بعد آخر. أَفليس من واقٍ يعصمُ الطفلَ من الأخطار الهاجمة عليه من كلِّ صَوبٍ، يا تُرى؟ يقولُ مُؤَسِّسُ الداهشيَّة: "التربيةُ القويمة خيرُ واقٍ."[1]

لكنْ قبل أن أُوضِحَ المفهومَ الداهشيَّ للتربية القويمة في البيت والمدرسة، أرى لِزامًا عليَّ أَن أُوضِحَ عدَّةَ قواعدَ أساسيَّة يُسهِّلُ جلاؤُها فهمَ أبعادِ ما سأَبحثُه.

 

أهمِّـيَّةُ التربية البيتيَّة

على ما تُحدِثُه فطرةُ الإنسان من تأثيرٍ بالغ في تكوين طباعه ونزعاته القويَّة مثلما سنرى، فإنَّ للتربية البيتيَّة ثمَّ المدرسيَّة تأثيرًا عظيمًا في توجيه الشطر الذي يُمكنُ توجيهُه من تكوينه النفسيّ. وكم من مرَّةٍ شهدتُ مُؤسِّسَ الداهشيَّة يعتبُ على أتباعه بسبب عدم تعهُّدهم الكافي لأولادهم؛ بل إنِّي رأيتُه أكثرَ من مرَّة يُعنِّفُ بعضَ الداهشيِّين على عدم الاهتمام بمُراقبة أولادهم وبتربيتهم تربيةً سليمة.

فمَن يكُنْ همُّه من ولادة البنين والبنات مُقتصرًا على تضخيم "أناه" وبَسطِها بين أنسبائه وفي مُحيطه، وعلى العيش في وهم ذكراه "المُخلَّدة" من خلالهم، يكُنْ نرجسيًّا مُخادِعًا ليس أهلاً لأن يُسَمَّى أبًا أو أُمًّا. فكلُّ ولدٍ هو بحاجة ماسَّة لأن يُصبحَ إنسانًا بالمعنى الصحيح للكلمة. وليبلغَ هذه الغاية، يحتاج إلى أبٍ وأُمٍّ غير أنانيَّين، يخدمانه لا من أجل مجدهما المُقبل بل من أجل تنميته إنسانًا فاضلاً، وذلك بغَمْرِه بالمحبَّة الصادقة.[2]

 

المحبَّةُ الصادقة

المحبَّةُ الصادقة التي يجبُ أن تجمعَ بين الأب والأُمِّ وأولادهما هي الجاذبيَّةُ الروحيَّة التي تُشكِّلُ الضمانَ شبهَ الأكيد لِلُحمة الأُسرة ولتسهيل ارتقائها الروحيّ. هذه المحبَّة ،إذا كانت صافية، بعيدة عن الأغراض المادِّيـَّة وعن الأنانيَّة، تُؤلِّفُ جزءًا من الحُبِّ الشامل السامي الذي يجذبُ النفوسَ بعضًا إلى بعض، ويمحضُها الثقةَ المُتبادَلة، ثمَّ يُوحِّدُ ما بينها، ويرتقي بها إلى العوالم العُلويَّة فإلى أُصولها في العوالم الروحيَّة. هذا الحُبُّ هو الذي قال عنه الدكتور داهش: "بالمال تستطيعُ أن تشتريَ كلَّ ما تطمحُ إليه نفسُكَ إلاَّ الحُبّ."[3]

وسبقَ أن عرَّفتُ المحبَّةَ الصادقة، وأبعدتُ عنها أنواعًا من الحبِّ الزائف (عدد كانون الأوَّل/ديسمبر، 1998). لكن من المُفيد، هنا، إيضاحُ بُعدَين لا تكتملُ المحبَّةُ الأبويَّة أو الأُموميَّة الصادقة إلاَّ بهما، هما: فهمُ حقيقة الولَد، وتحمُّلُ مسؤوليَّة التربية القويمة.

أوَّلاً- إعرفْ حقيقةَ وَلَدك

رأسُ المعرفة في ذلك ألاَّ يغيبَ عن الأَبوَين لحظةً أنَّ ولدَهما (ابنًا كان أم ابنة) هو امتدادٌ حقيقيٌّ لهما، بمعنًى آخر أنَّه صورة نفسَجسميَّة لأكثر ما فيهما من طاقاتٍ نفسيَّة (إدراكيَّة ونزوعيَّة) وقدراتٍ واستعداداتٍ جسديَّة (صحِّـيَّة أو مَرَضيَّة). ففي التعاليم الداهشيَّة أنَّ الولدَ يتلقَّى بعضَ سيّالاته التكوينيَّة من أبيه وبعضَها من أُمِّه؛ وهذه السيّالاتُ الروحيَّة هي التي تُقولبُ بطاقتها الإبداعيَّة جينات genes الجنين وتضبطُ برامجَه الحيويَّة بما يُعرَف بلُغة الحياة الكيميائيَّة (D.N.A.). فملايينُ المُورِّثات بما فيها من تشكُّلاتٍ كيميائيَّة إنَّما هي المظهرُ المادِّيُّ النسبيُّ لتلك السيَّالات التي يرثُها الفردُ من أَبوَيه.

لكنَّ هذه السيَّالات التي يتلقَّاها الوليدُ مباشرةً من أبوَيه تُشاركُ في تشكيل طباعه وخصائصه الجسديَّة والنفسيَّة، لكنَّها لا تهبُه الحياة. فالحياةُ والخصائصُ الأبرزُ في شخصيَّة كلِّ إنسان إنَّما يمنحُه إيَّاها سيّالٌ رئيسٌ يتلقَّاه الجنينُ لحظةَ يخفقُ بالحياة. وهذا السيَّالُ يجبُ أن يكونَ في مُستوى الأرض، وتابعًا للأب أو الأُمّ، ومُهيّأً للتقمُّص الجديد وفقًا لنظام العدالة الإلهيَّة الشامل والاستحقاق. وانجذابُ الولدِ إلى أحد والدَيه أكثرَ من الآخر وتعاطُفُ أحدِ الأَبَوَين مع أحد أولادهما أكثرَ مِمَّا مع الآخرين يُفسِّران تابعيَّة السيَّال الرئيس الذي في الولد المَعنيّ. ففرعُ الشيءِ أو أصلُه مُنجذبٌ إليه.[4]

في هذا الضوء تبرزُ الخطورةُ في معنى الأُبوَّة أو الأُمومة كما في التربية. إنَّ الوالدِين إنَّما يُتابعون تربيةَ أنفسهم وتهذيبها وترقيتها في تعهُّد أولادهم. وهذا وجهٌ من الرحمة الإلهيَّة.

في "مُذكِّرات يسوع الناصريّ" يقولُ يسوع الفَتِيُّ لبطرس الرسول:

أمّا الآن فوصيَّتي إليك

أن تـعتنيَ بغَرسِ روح الله في قلب ابنِك.

وثِقْ، يا عزيزي بطرس،

بأنَّه إذا سقطَ ابنُكَ بالخطيئة،

فسينالُكَ منها الشيءُ الكثير،

لأنَّه منك، وبسببكَ أتى إلى هذه الأرض.

فإذا اعتـنَيتَ بتربيته تربيةً حقيقيَّة

على خَوف الله ومهابتِه،

فإنَّما تكونُ قد اعتـنَيتَ بنفسِكَ وروحِك.[5]

وذِكرُه الروحَ بعد النفس ليس من قبيل التأكيد، بل له معنًى خاصّ. فالروحُ كائنٌ طاهرٌ في عالَمٍ مجيدٍ مُفارقٍ للمادَّة، وبالتالي للزمان والمكان؛ وهي مصدرُ سيّالاتٍ كثيرة أشبه بنفوسٍ جزئيَّة مُنبثَّة في الكون المادِّيّ. وغايةُ كلِّ روح أن ترفعَ إليها سيّالاتها لتُعيدَ دمجَها بها، بعد مُفارقتها لها بالسقوط ومُداخلة العوالم المادِّيـَّة. فمَن اعتنى بسيَّالاته تهذيبًا وترقيةً، سواءٌ كانت فيه أم في أولاده، يكون قد اعتنى بمصلحة روحه الأُمّ، لأنَّه يكون قد قرَّبَ إليها ما بَعُدَ عنها من أجزائها؛ وفي البُعد الروحيّ ألمٌ معنويّ عظيم.

زِدْ إلى ذلك أنَّ سقوطَ الولد في المعصية سيُرتِّبُ عليه عقابًا مادِّيـًّا يستحقُّه بموجِب نظام السببيَّة الروحيَّة، إذْ إنَّ ما يزرعُه الإنسانُ فإيَّاه يحصد. وهكذا يكون الوالدون إنَّما يُهيِّئون العقابَ لأنفسهم بتغاضيهم عن تربية أولادهم وتسهيل الطريق لهم للسقوط في التجارب. هذه الحقيقةُ تُفسِّرُها الوصيَّةُ الإلهيَّة القائلة: "لأنّي أنا الربُّ إلهُكَ ... أفتقدُ ذنوبَ الآباء في البنين إلى الجيل الثالث والرابع من مُبغِضِيَّ."[6]

 

تفاوُتُ الأولاد في مداركهم واستعداداتهم ونزعاتهم

إذا وُلِد للأَبَوَين عدَّةُ أولاد، فكلٌّ منهم سيرثُ منهما سيّالاتٍ مُشتركة وأُخرى مُختلفة. فالسيّالاتُ الرئيسة التي تمنحُ كلاًّ منهم الحياة هي سيّالاتٌ تابعة إمَّا للأب أو للأُمّ وفقًا للتعاليم الداهشيَّة، لكنَّ لها مُستوياتها الروحيَّة الخاصَّة وخصائصَها الإدراكيَّة والنـزوعيَّة المستقلَّة. غير أنَّ السيّالات التي يرثُها الأولادُ مباشرةً من الأب والأُمّ بواسطة انتقال الجينات منهما إليهم قد يكون فيها خصائصُ مشتركة، ولكنْ قد تحتوي أيضًا على خصائصَ مُستقلَّة، ذلك بأنَّ الولدَ لا يرثُ من والدَيه جميعَ السِّمات النفسيَّة والجسميَّة، لكنْ بعضَها. وهذا ما يُقيمُ التفاوُتَ بين الأولاد في الأُسرة الواحدة ذات الأب الواحد والأُمِّ الواحدة. فقد يرثُ ولدٌ من أحد والدَيه موهبةً معيَّنة أو عاهةً، بينما لا يرثُها الآخر. وقد تكونُ القوَّةُ الإدراكيَّة التي يرثُها ولدٌ أرقى من القوَّة الإدراكيَّة التي يرثُها آخر. كذلك في النـزعات؛ فقد يرثُ ولدٌ نزعةَ الكرَم أو الشفقة أو الروحانيَّة من أحد والدَيه، فيما لا يرثُها آخر. وربَّما يرثُ ولدٌ نزعةً شرِّيرة تكون خفيَّةً كامنةً في الوالدَين أو أحدهما، وقد انتقلَت إلى الولَد من جدٍّ له أو جدَّة، بينما يرثُ آخرُ نزعةً خيِّرة قد تكون ظاهرةً في أحد الوالدَين أو كامنة.

مثلُ هذا التفاوُت في مدارك الأولاد واستعداداتهم ونزعاتهم في الأُسرة الواحدة لا يُكلِّفُ الباحثَ عناءَ مُلاحظته، فهو مُنتشرٌ جَليّ في معظم الأُسَر، وعلى مدى التاريخ، بين الحاكمين والأثرياء والمتعلِّمين كما في عامَّة الشعب والفقراء والجاهلين. وهو يظهرُ منذ سنوات الطفل الأُولى، ويستمرُّ مدى الحياة على الظروف التربويَّة والاجتماعيَّة المشتركة في البيت الواحد. فبين سلوك قايين وسلوك هابيل بَونٌ شاسع، وبين تصرُّف عيسو وتصرُّف يعقوبوهما توأمانفرقٌ عظيم، وبين روحانيَّة ماري شيحا حدَّاد ومادِّيـَّة شقيقتها، لور شيحا الخوري، ما بين السماء والغبراء. هذا التفاوُت الطبعيّ والسلوكيّ بين الإخوة أنفسهم والأخوات أنفسهنّ دفعَ عُلماءَ النفس وعُلماءَ الوراثة إلى تقصِّي أسبابه في جينات الإنسان المُنطوية على سِماته الأساسيَّة النفسَجسميَّة.[7]

هذا التنوُّع في القوى الإدراكيَّة والنـزوعيَّة البادي في الأولاد إنَّما هو صورةٌ لحقيقة السيّالات المتجسِّدة في الوالدَين، سواءٌ كان نشاطُها باديًا أم كامنًا؛ وهو نتيجةٌ لِفَرز السيّالات من خلال التناسُل، وتسهيلٌ لاستقلال السيّال الراقي والخيِّر منها عن السيّال المُتسفِّل أو الشرِّير. في هذا الضوء يُمكنُ فهمُ ما جاء في "رسالة الهبوط" الموحاة (التي أوضحَت أحداث سقوط آدم وحوّاء) عن أنَّ الرحمةَ الإلهيَّة شاءت التناسُلَ في الأرض وسيلةً لِفَرز السيّال الصالح من الطالح حتَّى لا يتحمَّلَ السيّالُ الخيِّرُ مسؤوليَّةَ أعمال الدنيء أو الشرّير فيما لو كان مُندمجًا به. وقد أعطى الدكتور داهش مثلاً جَليًّا لنتائج مثل هذا الاندماج أو الانفصال في أُقصوصته الفذَّة المعنونة "الشجرة المشطورة لقسمَين".[8] فإذا طبَّقنا أحداثَها على البشر لَخرجنا بالنتيجة التالية: بصورة عامَّة، يُعاني البشرُ صراعًا بين سيّالات الخير وسيّالات الشرّ في نفوسهم، أو على الأقلّ بين السيّالات الراقية والسيّالات المتدنِّية، عند فئةٍ منهم ليست الأغلبيَّة. فالسيّالاتُ الأُولى تطمحُ إلى التشبُّث بالقِيَم الروحيَّة والإنسانيَّة الكُلِّـيَّة، والثانية همُّها الدُنيويَّات أو الأعمالُ الشرّيرة. فإذا كانت السيّالاتُ الخيِّرة في الأب أو الأُمّ أو كليهما لا تُقاومُ مُقاومةً عنيفة النـزعات الدنيويَّة أو الشرّيرة المُصاحبة لها، وإذا كانت تستسلمُ من حينٍ لآخر إلى مشيئتها وتُطلقُ لها العنان، فإنَّه من المُستَبعَد، أن ينفصلَ السيّالُ الخيِّر عن السيّال الشرّير في أيٍّ من أولادهما، لأنَّ رفضَ الصالح للطالح لم يكن قويًّا حاسمًا. وعلى نقيض ذلك، إذا كان الصراعُ قويًّا ورفضُ الصالح للطالح قاطعًا، ورغبتُه في مُفارقته شديدة، فإمّا أن يُمنَحَ الإنسانُ مُساعدةً روحيَّة تأتيه رحمةً له ومُكافأةً على مُغالبته الطلاحَ في نفسه، فيُرفَع منه السيّالُ الخبيث، وإمَّا أن ينفصلَ الصالحُ عن الطالح في نَسله، فيتجسَّدُ الأوّلُ في ولدٍ، بينما يتجسَّدُ الثاني في آخر. وهكذا يظهرُ في الأُسرة الواحدة أخوان —أو أُختان— يختلفُ أحدُهما عن الآخر اختلافًا كبيرًا في الإدراك والنـزعات والسلوك.

 

ثانيًا- مسؤوليَّةُ الأهل تجاهَ أولادهم

إنَّ مسؤوليَّة الأهل خاصَّةً الأُمَّهاتتجاه أولادهم تبدأُ قبل ولادتهم. فالمحبَّةُ، بالمفهوم الداهشيّ، هي التي لا يغيبُ عنها أنَّ كلَّ سببٍ له نتيجة، وأنَّ سيّالات الأُمّ تُؤثِّرُ مباشرةً بجنينها. فالأُمُّ التي تُدمنُ التدخين أو المُسكرات أو المُخدِّرات، وهي حُبلى، سيُؤثِّرُ تعاطيها هذه السموم في صحّة الجنين، لا محالة. وهذه الحقيقة أكَّدها العلم.[9]

كذلك أكَّدت الدراساتُ العلميَّة أنَّ دماغ الطفل ينمو في السنة الأُولى من 400 غرام إلى 1000 غرام، الأمر الذي يترك لتأثير المُحيط في نمُوِّه مكانًا واسًعا. فإذا كان للجينات الوراثيَّة تأثيرٌ كبير في صياغة الدماغ، فإنَّ لكيفيَّة التفاعُل بين الأُمّ وطفلها في العامَين الأوَّلَين تأثيرًا بالغًا في صحّة نموّه. فالعطفُ عليه والنظرُ في عَينَيه ومُناغاتُه وهدهدتُه، فضلاً عن تغذية إدراكه بالمُثيرات الحسِّـيَّة، أهمُّ لدَيه من الألعاب نفسها؛ لأنَّها هي التي توثِقُ عُرى الأُلفة والمحبَّة بين الطفل وأُمِّه.[10]

وإذا أعقبَ الزواجَ طلاقٌ، فإنَّ مسؤوليَّةً جديدة تترتَّبُ على الأبوَين تجاه أولادهما إذا كانوا صغارًا. ولا أعني هنا تبعةَ الإعالة، فهذه تُرتِّبُها القوانينُ الدينيَّة أو المدنيَّة المَرعيَّة، بل التَّبعة السيكولوجيَّة الخُلقيَّة. فقد أكَّدت عدَّةُ دراساتٍ حديثة أنَّ الطلاقَ يُحدِثُ تأثيرًا سلبيًّا خطِرًا في خلُقيَّة الأولاد وسلوكهم، إلاَّ القلائل منهم، عندما يشبُّون. فإنَّهم يتعرَّضون إلى اضطراباتٍ عقليَّةٍ ونفسيَّة أكثر، وينشطون جنسيًّا أبكر، ويُبدون ميلاً إلى الانتحار أو الإجرام أو إدمان المُخدِّرات أكبر.[11]

ومسؤوليَّةُ الأهل إزاءَ الموهوبين من أولادهم لا تُنكَر؛ لأنَّهم حيالَ نعمةٍ مُجسَّدة قد استحقُّوها، وهم بإرادتهم يستطيعون الإبقاءَ عليها بتعهُّدها، أو تعريضَها للفقدان بإهمالها. ولا يغيـبَنَّ عن البال أنَّ الموهبةَ سيّالٌ عُلويٌّ أو على الأقلّ راقٍ؛ والعنايةُ به تعني الإبقاءَ على مُستواه الروحيّ، لا بتَـنمية الموهبة التي يتحلَّى بها السيَّال فحسب ، سواءٌ في البَيت أو المدرسة ، بل أيضًا بإبعاد التجارب السفليَّة وتأثير النـزعات الرديئة عنه، لأنَّها قد تُسخِّرُه لأغراضها الدنيئة وبالتالي تُدهورُه. وما أشدَّ العدوى الخبيثة تنتقلُ بالعشرة السيِّئة إلى المُراهقين!

إنَّ الأهلَ الذين يُحبُّون ولدَهم النابه ما دام صغيرًا ينصاعُ لرغباتهم وينفِّذُ إرادتَهم، ثمَّ يميلون عنه متى بدأَ يُكوِّنُ شخصيَّتَه المستقلَّة، يكونون من الظالمين له ولأنفسهم، خصوصًا إذا كانت أفكارُه وقِيَمُه روحيَّةً إنسانيَّة، بينما هم قلوبُهم عالقةٌ بأمجاد الدنيا ومطامعها. فالولدُ الموهوبُ سيّالاً روحيًّا راقيًا يُساعدُ والدَيه على الارتقاء الروحيّ، وبالتالي على إبعاد المصائب عنهم.

أمَّا مسؤوليَّةُ الأهل إزاءَ المرضى أو المُتخلِّفين أو المُنحرفين من أولادهم فهي أكبر، لأنَّهم يكونون وجهًا لوجه أمام بعض سيّالاتهم (أي سيّالات الأهل) التي لم يعتنوا بتهذيبها ورَدعها عن الشرور، فظهرَت نُصبَ عيونهم بصورتها الحقيقيَّة التي تدينُهم، بعد أن عجزوا عن رؤية وجهها البشِع في نفوسهم خلالَ حياتهم الحاليَّة أو السابقة. ففي الأولاد الأردياء أو المُعانين للعاهات أو الأمراض العقليَّة تظهرُ أعمالُ الأهل السابقة مقرونةً بما يترتَّبُ عليها من وخيم العواقب؛ تظهرُ الأسبابُ مع نتائجها. فمُعاملةُ الأهل لمِثل هؤلاء الأولاد يجبُ أن تكونَ لأشخاصٍ متألِّمين حصدوا ما زرعَه آباؤهم وأُمَّهاتُهم. فكم من أَبٍ عنيدِ الطبع، عُدوانيٍّ في تعامُله مع الناس، أو مغرورٍ متكبِّرٍ نرجسيّ، يرى هذه النـزعات التي يتجاهلُ وجودَها فيه—أو يعجزُ عن رؤيتها—مُتجسِّدةً في أحد أبنائه، فيُعاني الأمرَّين في تربيته صغيرًا، ثمَّ يُقاسي الشدائدَ من أعمال ولده العُدوانيَّة كبيرًا؛ وهكذا يُعاقَبُ الأبُ بسيّاله نفسه. وفي الحياة اليوميَّة بوسع الباحث المُتبصِّر أن يُلاحظَ مئاتِ الأمثلة الشبيهة. فالسيّالُ الرديءُ في الإنسان هو الذي يُعاقبُه، سواءٌ كان فيه أم امتدَّ إلى أولاده.

ومأساةُ أمثال أولئك الأولاد المُتألِّمين تكمنُ في أنَّ السيَّالات المُذنبة التي ورثوها واستحقُّوا بموجبِها أن يُعانوا العاهات الجسميَّة أو الأمراض العقليَّة قد تكون صحبَت معها سيّالاتٍ أُخرى لم تُشاركها في الذنوب، لكنَّها تنتمي إلى الأب والأُمّ، وقد اندمجَت بالسيّالات المُذنبة بفِعل إرادة الوالدَين أن يندمجا جسدًا واحدًا. فمسؤوليَّتُها غير مباشرة، وهي أشبهُ بمسؤوليَّة إنسانٍ بريءٍ ينتمي لوطنٍ ملعون ويرفضُ أن يُبارحَه، فيستحقُّ أن ينالَه رشاشٌ من الأذى الذي استحقَّه الوطن.

 

شخصيَّةُ الطفل تبنيها الجيناتُ كما التربية

إنَّ لمرحلة الطفولة أهمِّـيَّةً بالغة في توجيه سيّالات الإنسان. ولكنْ مهما عظُمَ تأثيرُها فهو لا يبلغُ حَدَّ خَلقِ مُستوى الإدراك أو الموهبة او الاستعداد أو النـزعات القويَّة. فهذه جميعها ذاتُ أُصولٍ وراثيَّة أو فطريَّة يُؤدِّي نشاطُها إلى أنماطٍ سلوكيَّة معيَّنة في مرحلة الطفولة، واطِّرادًا في مرحلة المُراهقة وما بعدها، الأمر الذي يوهِمُ بانَّ أحداثَ الطفولة والظروفَ المُكتنفة لها تُشكِّلُ أسبابًا مباشرة لتكوين خصائصَ نفسيَّة معيَّنة في حياة البالغ. وجُلُّ ما في الأمر أنَّ ظروفَ الطفولة وعواملَها من شأنها أن تُلطِّفَ أو تُقوّيَ من شدَّة الدوافع والاستعدادات وسائر القوى النفسيَّة الفطريَّة. فالحدَثُ مهما يكُن خطيرًا ليس له صفةُ الإبداع للطاقة النفسيَّة، لكنَّ له صِفة التأثير في سيّالات الإنسان التي وحدها تُوجِّهُ الفردَ وتُبدِعُ مصيرَه. هذه السيّالاتُ هي التي تُقولِبُ جينات الفرد وتُبرمِجُها وفقًا لِما تحملُه من خصائصَ اكتسبَتها في تقمُّصاتها السابقة. وجيناتُ الفرد تتحكَّمُ بوظائف الدماغ الكيميائيَّة التي بدورها تُؤثِّرُ في طباعنا وكيفيَّة تصوُّرنا للعالَم وردود فعلنا على الأحداث وفقًا لِما تذهبُ إليه علومُ السيكولوجيا والبيولوجيا والوراثة الحديثة.[12]

و"العُقَدُ النفسيَّة" التي يتحدَّثُ عنها فرويد ومَن لَفَّ لفَّه ذاهبين إلى أنَّها تنشأُ في طفولة الإنسان وتُؤثِّرُ في اتِّجاهاته ونزعاته في كِبَرِه إنَّما هي سيّالاتٌ أصابها المرضُ والانحرافُ بما كسبَت في تقمُّصاتها السابقة، فكان وضعُها المُنحرِف نتيجةَ نشاطها قبل الولادة الأخيرة. من أجل ذلك، ولجهل الباحثين أسرارَ الحياة السابقة لولادة الإنسان، أو رفضهم الإقرارَ بوجودها، يزعمون أنَّ نشوءَ تلك "العُقَد" سبَّبَته أحداثٌ في الطفولة الأُولى. وعشراتٌ هي الكتُبُ السيكولوجيَّة الحديثة التي باتت تُؤكِّدُ بُطلانَ نظريَّة فرويد تلك، وتُشدِّدُ على الأصل الوراثيّ أو الفطريّ لكثيرٍ من الاضطرابات النفسيَّة، كما لنـزعات العُنف والعدائيَّة والسوداويَّة والانطوائيَّة والشذوذ الجنسيّ .[13]

ومثلما أنَّ "العُقَدَ النفسيَّة" ليس لها أيُّ أساسٍ طفوليّ صحيح، فليس صحيحًا أيضًا ما ذهبَ إليه فرويد من أنَّ دوافعَ الإنسان المكبوتة هي جنسيَّة دائمًا. وقد أشارَ مُؤسِّسُ الداهشيَّة إلى ذلك بقوله:

"كما إنَّ فرويد خبَطَ خبطَ عشواء في تفاسيره للأحلام وتآويلها، إذْ أرجعها للناحية الجنسيَّة. فكلُّ هاجسٍ، في رأيه، مَرَدُّه إلى الجنس، وكلُّ نأمةٍ سببُها الجنس، وكلُّ حُلم،ٍ سواءٌ أكان جيِّدًا أم خبيثًا، مرجعُه الجنس!"[14]

وكثيرٌ مِمَّا كتبَه ألفرِد آدلِر Alfred Adler وكارْل يونغ Carl Jung يُؤكِّدُ أنَّ لإرادة القوَّة وتأكيد الذات من الشدَّة والرسوخ في معظم النفوس ما للغريزة الجنسيَّة. وفي كتابي "جبران خليل جبران"[15] استطعتُ أن أقومَ بدراسةٍ سيكولوجيَّة منهجيَّة شملَت شخصيَّةَ الأديب الكبير وأدبَه ورسمَه من غير الرجوع إلى نظريَّة فرويد على الإطلاق.

وقد أسفرَت عشراتُ الدراسات التي أُجرِيَت على التوائم المُتماثلين[16]Identical Twins وكذلك الأبحاث الحديثةُ في علم الوراثة عن أنَّ الأولادَ، سواءٌ نشأُوا في كنَف والديهم أم في بيوتٍ أُخرى، تبقى مصادرُ استعداداتهم ومُستوياتِ مداركهم وأنواعِ نزعاتهم القويَّة مُتأصِّلة في جيناتهم. فالناسُ لا يولَدون مُتساوين مثلما تشاءُ الديمقراطيَّة الشعبيَّة أن تُظهرَهم. ولعلَّ في إلقاء المسؤوليَّة والذَّنب على الآخَرين—آباءً وأُمَّهاتٍ كانوا أم نظامَ الدولة أم ظروفَ البيئة—عزاءً للمُتخلِّفين عقليًّا وللمُنحرفين سلوكيًّا وللمُعاقين والمرضى النفسيِّين. فأن تقولَ، مثلاً، عن المُتخلِّف عقليًّا "هو غَبيّ" أو "خاملُ الذهن"، فذلك أقسى عليه من أن تقولَ "هو ضحيَّةُ تربية غير صالحة" أو "ضحيَّة المجتمع أو التمييز العُنصُريّ".[17]

وإنَّه لَجديرٌ بالذكر أنَّ مُؤسِّسَ الداهشيَّة بدأَ، منذ عام 1942، بنَشر تعليمه الروحيّ عن السيّالات وعن أنَّها في أساس بناء شخصيّة الإنسان وتكوين طباعه ونزعاته القويَّة واستعداداته ومواهبه، وعن أنَّ جينات الفرد ليست إلاَّ المظاهر المادِّيـَّة المحسوسة لتلك السيّالات الروحيَّة البالغة التأثير في تكوينه النفسيّ-الجسميّ،[18] بينما لم تظهر الدراسةُ العلميَّةُ الحاسمة لتأثير الجينات المُهمّ في بناء شخصيَّة الإنسان إلاّ عام 1988، وذلك على أثر الدراسة النفيسة التي قام بها بوشار Bouchard وزملاؤه على التوائم المُتماثلين الذين رُبِّيَ كلٌّ منهم على حِدة، ونشأَ وشَبَّ كلٌّ منهم وهو لا يعرفُ توأمَه.[19]

ولكنْ على الأَهمِّـيَّة الجليلة التي للجينات في بناء شخصيَّة الإنسان وفي تحديد مُستوى قواه العقليَّة وأنواعِ نزعاته واستعداداته ودرجتِها، فإنَّ للتنشئة البيتيَّة والمدرسيَّة دورًا فعَّالاً—وإن يكُن محدودًا—في إبعاد سيّالات الطفل عن التلوُّث أو التدهوُر، وفي تقويم بعض انحرافاتها، كما في ترسيخ مفاهيمَ إنسانيَّة وعقلانيَّة وقِيَمٍ روحيَّة يُمكنُ أن تُساعدَه، متى شَبَّ، في مُغالبةِ نزعاته الرديئة وإبعادِ التجارب السفليَّة عنه، وفي اعتناق مُثُلٍ عُليا صحيحة تُسهِّلُ له طريقَ الخلاص من ربقة الشرور الأرضيَّة.

دورُ التربية الفاضلة مَبنيٌّ على أنَّ شخصيَّةَ الإنسان تتألّفُ من الطبع temperament، وهو ما فُطِرَ عليه الإنسان، كما من الخُلُق Character. والخُلقُ يمكنُ تغييرُه، كما يُمكنُ تعزيزُه بحيثُ يتغلَّبُ إلى حدٍّ ما على الغرائز السُّفلى. وهذا ما أفضت إليه الدراساتُ السيكولوجيَّة.[20]

إنَّ مرحلةَ الطفولة أبرزَ الدكتور داهش جمالَها الخاصّ، فقال:

للطفلِ سِحرٌ جذَّابٌ وبهاءٌ خلاّب.

هو طاهرٌ بطفولته البريئة كنور الكواكبِ والأقمار؛

إنَّه صغيرٌ، لا يعرفُ شيئًا من مُخاتَلات الكبار؛

إنَّه لا يأبهُ لِما يُحيطُ به من مَكرٍ ورياء.

يا لَرقَّةِ الطفولة، وسذاجتِها، ووداعتِها السمحاء!

إنَّ الأطفالَ ملائكةُ الله الأطهار، وأجسامَهم مغمورةٌ بالضبابْ![21]

في هذه السُّداسيَّة أكثرُ من جمال الأدب والخيال، فيها حقيقةٌ إنسانيَّة روحيَّة. فالطفولة شاءَها الدكتور داهش عِبرةً للكبار، فيها يرَون جمالَ الإنسان قبل تلوُّثِه الواعي بالخطيئة في دورٍ جديد، ويستشفُّون نقاءَه المُؤقَّتَ الشبيهَ بنقاء الأنوار، بل الشبيهَ بطهارة الملائكةِ الأبرار. هكذا كان الإنسانُ في جنَّة عَدْن قبل عصيان الله والسقوط المُفجِع، مع أمرٍ واحد يُفرِّقُه عن الطفل هو نُضجُه العقليّ وقدرتُه الإدراكيَّة لكلِّ ما حوله. إذًا باستطاعة الكبار أن يُبقوا على براءَة الصغار مع تنمية عقولهم؛ باستطاعتهم أن يُنشِّئوهم تنشئةً قويمة، وبذلك يستفيدون هم أنفسُهم منهم، لأنَّ الأولادَ امتداداتٌ نفسَجسميَّة حقيقيَّة لوالديهم. فكيف تكون التنئشة القويمة؟

 

التنشئةُ القويمة

التنشئةُ القويمة، وفقًا للتعاليم الداهشيَّة، لها بُعدان: التربيةُ النُّـزوعيَّة الفاضلة، والتربيةُ العقلانيَّة السليمة. الأُولى تتناولُ نزعاتِ الطفل، بصورةٍ عامَّة، والثانية تتناولُ قواه الإدراكيَّة. وما مِن سيّالٍ في الإنسان مسؤولٍ عن أعماله إلاَّ فيه البُعدان النـزوعيّ والإدراكيّ؛ أي باستهداف التربية لهذَين البُعدَين نكون قد استهدفَنا مُجملَ النفس الإنسانيَّة. فلنَرَ، أوَّلاً، كيف يتمُّ تعهُّد نزعات الولد وتوجيهُها لخيره الروحيّ، وبعدئذٍ نرى كيف يتمُّ تعهُّد قواه الإدراكيَّة، لا سيَّما من خلال التربية المدرسيَّة القويمة ووفقَ المنهج التربويِّ السليم.

 

أوّلاً- التربيةُ النُّـزوعيَّة الفاضلة

حينما تحدَّثتُ عن القاعدة الفلسفيَّة للرُقيِّ الروحيّ في المفهوم الداهشيّ، أوضحتُ أنَّ كلَّ إنسانٍ لا بُدَّ من أن ينشطَ فيه ويُحرِّكَه حنينٌ واعٍ أو لاواعٍ للعودة إلى مصدره الروحيّ الذي انفصلَ عنه، عند هبوطه إلى العوالم المادِّيـَّة، لأنَّ كلَّ سيّال جزءٌ من روحٍ قُدسيَّة، أزليَّة أبديَّة، هي أُمُّه، وكيانُه وسعادتُه لا يكتملان إلاَّ باندماجه فيها ثانيةً.

وإذا أدركنا أنَّ ما يُنَشَّـأُ الإنسانُ عليه من قِيَمٍ عُليا وفضائلَ لا مناصَ من أن يُحدِثَ أثرَه في نفسه، أيًّا كانت نزعاتُ الطفل الوراثيَّة، وأنَّ حصولَ التأثير الإيجابيّ، مهما يكُن طفيفًا، خيرٌ من عدَم حدوثه، إذْ ذاك فهمنا خطورةَ التربية الفاضلة.

 

أَ- تنميةُ النـزعات الراقية

أهمُّ ما يجبُ الانتباهُ إليه من نزعات الأحداث أربع: الصدق، والشجاعة، والغَيريَّة، ثمّ القواعد الدينيَّة المُوحَّدة.

1- تشجيعُ الصدق في الكلام والتعامُل مع الآخرين

إذا رُبِّيَ الصغيرُ على أن يكونَ صريحًا في أقواله، مُستقيمًا في تعامُله مع أهله والآخرين، تهيَّأت له الوسائل ليعيشَ حياةً شفَّافةً واحدة، لا اثنتَين إحداهما يُقنِّعُها الرياء، الآفةُ التي تقرضُ الصلاح، وتهدمُ روحانيَّةَ الأديان وقِيَمَها المُثلى، وتُفسِدُ الثقةَ المُتبادَلة في التعامُل بين الناس.

ومَن نشأَ على الكذب والرياء، شَبَّ على الشهادة بالزور والحَنَث بالقسَم ونَقضِ الوعود والعُهود، وانتهى إلى حياةٍ دُنيويَّةِ القِيَم، أو إيمانٍ مَبنيٍّ على سطحيَّات الدين وقشوره كما على العصبيَّة العمياء التي تبيعُ الضميرَ والقُدسيَّات تزلُّفًا لصاحب سُلطة أو تحقيقًا لغرضٍ مادِّيّ.

وبقَدر ما عرَّضَ الدكتور داهش بالكذب والرياء في كتاباته،[22] مدَحَ الصدقَ وأكبرَه. ومن أبرز ما أوردَه في تمجيد الصدق ما ذكرَه في "مُذكِّرات دينار"، على لسان الشاعر الهنديِّ طاغور، تحت عنوان "أُسطورة الصدق".[23] فقد أتى إلى المُعلِّم جومايا غلامٌ غريبٌ يحملُ إليه ثمارًا وورودًا، وقال له:

- مولاي، جئتُكَ كي تقودَني إلى طريق الحقيقة، واسمي ساتياكاما.

فأجابه المعلِّم:

- لِتحلَّ عليكَ البركات، يا بُنَيَّ. إلى مَن تنتسب؟ إنَّ الكمالَ الروحيَّ لا يُحاولُ الوصولَ إليه إلاَّ البراهمة.

قال الغلام:

- لستُ أدري، يا سيِّدي، ابنَ مَن أنا. وسأذهبُ لسؤال والدتي عن ذلك.

واستأذنَ الغلامُ المعلِّمَ الهنديَّ عائدًا إلى والدته، فاستوضحَها الأمر. فأجابته:

في مطلع صِباي عضَّني الفقرُ المُدقِعُ بنابِه المُخيف. وكان لي مُعجَبون كثيرون... ولمَّا أتيتَ أنتَ إلى حُضن أُمِّكَ جابالا، لم يكن لها زوجٌ معروف.

ولمَّا عاد الغلام إلى جومايا وأخبره بما قالت أُمُّه، همهمَ الجالسون حول المُعلِّم استنكارًا، ولعنَ بعضُهم الولد. لكنَّ الناسكَ ضمَّه بذراعَيه وقبَّلَه، ثمَّ خاطبَه قائلاً:

- أنت تُفَضَّلُ على البراهمة بكثير، يا بُنَيَّ. فإنَّكَ ورثتَ أنبلَ وأسمى فضيلة، ألا وهي الصدق.

2- تعزيزُ الشجاعة

أَولى مُؤسِّسُ الداهشيَّة تربيةَ الأحداث على الشجاعة أهمِّـيَّةً بالغة. فمَن يُنَـشَّأْ على الشجاعة صغيرًا لا يُنكِّسْ رأسَه لمُعتَدٍ على حرِّيَّته كبيرًا، ولا يجبنْ عن الجَهر بإعلاء صوت الحقِّ في وجه الظالِم. ذلك فضلاً عن أنَّ الحياةَ حلبةُ صراع، يبقى الجبانُ فيها ذليلاً، هضيمَ الحقّ، متُخلِّفَ الخطوة. ولِذا قال الدكتور داهش: "الجبانُ، في شريعتي، ليس أهلاً للحياة مُطلقًا."[24]

3- تشجيعُ المحبَّةِ والشعورِ مع الآخرين

المحبَّةُ المَعنيَّة هنا هي الخالصة الخالية من النفعيَّة والأغراض الشخصيَّة؛ هي التي تغمرُ كلَّ إنسان بسماحها ونورها، وإن نفرَت من المواقف والأعمال الشرِّيرة. وسبقَ أن فصَّلتُ الكلام عليها في عددٍ سابق (كانون الأوَّل/ديسمبر 1998). وأهمُّ ما تنطوي المحبَّةُ عليه الغَيريَّة altruism التي تُنمِّي في الأحداث النـزعةَ الإنسانيَّة التي تدفعُهم إلى مُساعدة الآخرين والشفقة عليهم والإحسان إليهم إذا كانوا من المُعوزين، وإلى إيثار الخير العامّ على المصالح الشخصيَّة الضيِّقة؛ كما إنَّ المحبَّة تشتملُ على نزعة التسامُح الذي يتجاوزُ الانتماءَ الدينيَّ أو الجنسيَّ أو العرقيَّ أو الوطنيَّ، ويحترمُ أشخاصَ الآخرين وأفكارَهم وهُويَّاتهم وأملاكَهم.

أمَّا الشعور مع الآخرين أو بتعبيرٍ أدقّ التقمُّص الوجدانيّ empathy فهو يجعلُ الصغير يشعرُ بمشاعر الآخرين إذا كانوا في مرضٍ أو ألمٍ أو ضيقٍ أو إحباط أو غير ذلك من أحوال الغَمّ والهَمّ، فيتعلَّم مُشاطرة الأسى والعزاء ومَدَّ يدِ المعونة.[25]

إنَّ تربيةَ الصغير على الصدق في كلامه والاستقامة في تعامله مع الآخرين كما على الشجاعة والمحبّة في مختلف أبعادها والشعور بمشاعر الناس يجبُ ألاَّ تتمَّ في الطفولة بالوَعظ؛ فالوعظُ قلَّما ينفعُ في هذه المرحلة، بل يجبُ أن تتمَّ بالاقتداء بأهله، من جهة، اللّهمَّ إذا كانوا من الفُضلاء، ومن جهةٍ أُخرى باحتذاء أعمال الهُداة الروحيِّين والأبطال الإنسانيِّين ومَن يقومون بأعمالٍ ذات نزعاتٍ غَيريَّة، وذلك من خلال قِصَصٍ مُيسَّرة يقرأُها الصغير او يستمعُ إليها. وقد وُضِعت في ذلك كتُبٌ كثيرة بمختلف اللغات، والجيِّدُ بينها غيرُ قليل.[26] ولكي تكونَ القِصصُ مُفيدة مُؤثِّرة يجبُ أن تُبرِزَ النتائجَ الحسنة للفضائل والعواقبَ الوخيمة للرذائل؛ وهكذا يقترنُ العملُ دائمًا بنتيجته في نفوس الأحداث.

4- القواعدُ الدينيَّة المُوحَّدة

أمَّا في المُراهقة فيحسنُ البَدءُ بتعليم الأحداث القواعدَ الروحيَّةَ العامَّة في الدين كما القِيم الروحيَّة التي تشتملُ عليها الأديانُ الموحاة والهداياتُ الروحيَّة جمعاء. وهكذا يترسَّخُ في نفوس المُراهقين أنّ الأديانَ كلَّها ما هي إلاَّ كتابُ هِداية روحيَّة واحد ذو فصول مُتعدِّدة أوجبَ تنوُّعَها تفاوُتُ الظروف والأزمنة واختلافُ العقول والميول في الشعوب، وشاءَتها الحكمةُ الإلهيَّة هكذا لنَفعِ المؤمنين بها.

 

ب- تنميةُ العادات الحسنة وكَبحُ العادات الرديئة

إنَّ أكثرَ ما يُشجِّعُ ترسيخَ العادات في الصغار رؤيتُهم الكبارَ يُمارسونها ومَيلُهم إلى الاقتداء بهم، أهلاً كانوا أم أصحابًا أم أُناسًا ذوي شهرة يرغبُ الصغارُ في احتذاء سلوكهم، خصوصًا إذا كان للعادة ما يُشجِّعُها في نزعات الأحداث الفطريَّة.

على أنَّ للتربية تأثيرًا بالغًا في توجيه الصغير. وقد دوَّنَ الدكتور داهش، في رحلته الأُولى حول العالَم مَثَلاً على التربية السيِّئة وآخر على التربية الحسَنة. ففي 3/8/1969، بينما كان يجولُ في شوارع سان فرَنسِسكو طالعَته هذه الواقعة، فقال:

بينما كنتُ سائرًا وأمامي وورائي العشرات، عثرَت طفلةٌ زُنجيَّة كانت تسيرُ مع والدتها؛ فأَنهضتُها للحال. وإذا بي أراها تنفرُ منّي، وتنظرُ إليَّ نِظرةً شزراء، وتُهرولُ طافرةً نافرة!

وهذه الظاهرة تُبرهنُ بصورة واقعيَّة جَليَّة مبلغَ الكراهية العظيمة التي يكنُّها الزنوجُ للشعب الأمريكيّ. فهذه الطفلة لو لم يُلقِّنها أهلُها الكراهية مع الحليب، لَما نفرَت هذا النفور إذْ ظنَّتني أمريكيًّا.[27]

وفي الواقع إنَّ فئاتٍ من الأمريكيِّين البيض المعروفة بنفورها الشديد من السُّود لا تُحجِمُ حتَّى عن قتلهم وإحراق كنائسهم، وإن كانوا من الطائفة نفسها، وذلك إذا سنحَت لهم الفرصة. ووسائلُ الإعلام تُشيرُ إلى ذلك بين الحين والحين. فهذه العصبيَّةُ العمياء من الجانبَين إنَّما يرضعُها الأطفالُ مع الحليب، ويُشجِّعُها الأهلُ حتَّى تُصبحَ عادةً مُتحكِّمة في الأحداث إذا شبُّوا.

أمّا مثَلُ التربية الحسنة فقد دوَّنَه الدكتور داهش إذْ كان في مطار ميونِخ بألمانيا، فقال:

بينما كنتُ جالسًا على المقعد… تقدَّمَ طفلٌ ألمانيّ له من العُمر ثلاثة أعوام تقريبًا. وكنتُ قد وضعتُ على الطاولة كيسًا صغيرًا من النايلون فيه موزة وتفّاحة وبرتقالة ابتعتُها… فأمسكَ الطفل بهذا الكيس وتناولَه وهو ينظرُ إليَّ. ولكي أُشجِّعَه على أَخذِه ابتسمتُ له، فتجرَّأَ وولَّى الأدبارَ به مُسرِعًا. وكانت والدتُه تجلسُ على مقعدٍ آخرَ بقربنا، فإذْ شاهدَت طفلَها راكضًا والكيسُ بيَدِه، سألَتني: هل هذا لكَ؟ فأجبتُها: نعَم. فأَعادته رغمَ إلحاحي على إبقائه معه. وقالت: إن قبلتُه، فإنَّ الطفلَ يزدادُ تجرُّؤًا على العودة إلى مِثل هذا العمل ثانيةً وثالثة، ويشبُّ وهو مُتمسِّكٌ بهذه العادة القبيحة. فوافقتُها على ذلك.[28]

إنَّ العادة، حسنةً كانت أم سيِّئة، لا تتكوَّنُ إلاَّ بإتاحة المجال للرغبة التي في أساسها أن تتحقَّقَ تكرارًا حتَّى تُصبحَ نزعةً تُشعِرُ صاحبَها بحاجةٍ إلى الإشباع. فإذا تكرَّرَ إشباعُها تحوَّلت إلى عادة. هكذا تنشأُ عادةُ الكذب أو الشتيمة أو السرقة أو إدمان التدخين أو المُسكرات أو المُخدِّرات إلخ. وعلى هذا الصعيد تترتَّبُ مسؤوليَّةُ الأهل. فأولادُهم يتأثَّرون بالاقتداء بهم أكثر مِمَّا بوعظهم وإرشادهم.[29]

وتَنميةُ عادة الصلاة في الأحداث يراها الدكتور داهش من أهمِّ ما يُساعد على تعزيز النـزعات السامية وإبعاد التجارب والأفكار السيِّئة. ومن أدلِّ ما كتبَ على ذلك قطعة "صلاة الفجر".[30] فالأُمُّ تدعو ابنتَها الصغيرة إلى مُرافقتها إلى "بيت الله" قبل انبلاج الفجر، للتفرُّغ إلى الخالق لكي تنالا بركتَه، لأنَّ الحياةَ قصيرة.

في الصلاة عزاء، يا بُنَيَّة…

فأَسرعي معي، هيَّا هيَّا.

لنتركْ شرورَ هذا العالَم وما فيه

عند تطلُّع قلوبنا إلى السماوات.

لنتناسَ الهمومَ والأتراحَ والمُنغِّصات…

لنتناسَ كلَّ شيء، يا بُنَيَّتي، ونتَّجه نحو القدير

فنشعرَ بالسلامة والسكينة تُخيِّمان فوق رؤوسنا ،

ونستشفَّ العذوبةَ الروحيَّة…

وتدعو بُنيَّتَها إلى الإنصات للمُصلِّين وتسبيحهم حالقَ الكون وإلى التأمُّل في ملامح خشوعهم البادية على وجوههم، ثمّ تُخاطبُها قائلة:

أُسجدي اسجُدي، أيَّتُها الطاهرة…

ليتني مثلُكِ، يا فتيَّة…

فاحرصي على طهارتكِ كي تبقَي كالحمامةِ الوديعة.

لا تدَعي الشرَّ يتغلَّبُ عليكِ، يا بُنَيَّة،

لا لا، وأبعِدي الأفكارَ الرديئة إذا ما ساورَتكِ…

إنّ تنميةَ عادة الصلاة في الأحداث لا تستهدفُ السمُوَّ بنـزعاتهم فقط، بل تُحرِّكُ قدرةَ التفكير فيهم للتبصُّر في مخلوقات الله وحكمته فيها وفي عظمة ما أبدَع من عناصر الطبيعة ومظاهرها الجبَّارة التي يُهيمنُ عليها النظامُ الإلهيُّ الكامل. ومن أدلّ الصلوات على ذلك "دُعاءُ الفجر"[31]حيثُ يُظهِرُ الدكتور داهش أنَّ "الطبيعة ثملى أمام صُنع العَليّ، وموجِد كلِّ شيء من لاشيء، والبحر الشاسع خاشع أمام عظمة القدير المُهَيمِن"، والسحاب، والأشجار، والورود، والطيور، والطبيعة بأسرها— جميعها في نشوةِ النور الصباحيّ تُسبِّحُ المُبدِع خاشعةً لقدرته الخلاَّقة.

إنَّ الأحداثَ الذين يُنَشَّـأُون على التفكير في أنَّ للكون خالِقًا مثلما أنَّ لكلِّ حادثٍ سببًا طبيعيًّا، ينتهون إلى التساؤل، عند نزول مُصيبة بهم أو بأعزّائهم لا يجدون تفسيرًا طبيعيًّا لها، عن السبب الذي أنزل تلك المُصيبة، وبالتالي يخلصون إلى التفكير في الاستحقاق والحكمة الإلهيَّة والأسباب الروحيَّة المُنطوية تحت النظام الإلهيّ المُهيمن على الأرض. هذه الحقيقةُ أكَّدَتها الاستجواباتُ والدراساتُ العلميَّة التي قام بها أُستاذُ الطبّ النفسيّ في كلِّيَّة الطبّ بجامعة هارفرد، الدكتور روبرت كولز.[32]

هذا الحافز على إعمال الفكر، لدى الصغار، في مظاهر الكون وعِلَلِها كما في أسباب الأحداث المُؤلِمة يقودُنا إلى الكلام على ضرورة التربية العقلانيَّة السليمة.

(في العدد المُقبل: التربية العقلانيَّة السليمة والمنهجُ التربويُّ القويم)



1 الدكتور داهش، "كلمات" (بيروت: دار النار والنور، 1983)، ص 121.

[2] See Frank Pittman, M.D. «How to Manage Your Kids» in Psychology Today, May/June 1995.

[3] الدكتور داهش، "كلمات"، ص 58.

[4] في ضوء هذا التفسير لا يبقى من معنًى لِما يُسَمَّى بـ"عقدة أُوديب"، أي اتِّجاه الصبيّ جنسيًّا نحو أُمِّه ونفورُه من أبيه، أو "عقدة إلكترا"، أي اتِّجاه البنت جنسيًّا نحو والدها ونفورُها من والدتها.

5 الدكتور داهش، "مُذكِّراتُ يسوع الناصريّ" (نيويورك: الدار الداهشيَّة، 1991)، ص 41-42.

6 وصايا الله العشر الواردة في سِفر الخروج 20: 5.

7 أنظر:

David B. Cohen, Ph.D. Stranger in the Nest: Do Parents Really Shape Their Child's Personality, Intelligence, or Character? (NY: John Wiley and Sons, 1999), pp. 202-207.

8 الدكتور داهش، "قِصص غريبة وأساطير عجيبة" ، الجزء الثاني (بيروت: دار النسر المُحلِّق، 1979)، ص 81-84.

[9] Robert Coles. The Moral Intelligence of Children. (NY: Random House, 1997), pp. 63-64.

[10] Psychology Today, July/August 2000, pp. 39-43.

[11] ثلاثة كتُب تستحقُّ التنويه بها في هذا المجال:

Judith Wallerstein.. The Unexpected Legacy of Divorce. Hyperion.

Stephanie Staal. The Love They Lost. Delacorte Press.

Linda Waite and Maggie Gallagher. The Case for Marriage. Doubleday.

[12] أنظر:

Dean Hamer and Peter Copeland. Living With Our Genes. (NY: Random House/Anchor Books, 1999), pp14-15.

13 صدرَت عشراتُ الكتُب في نقض نظريَّة فرويد بمختلف اللغات. أكتفي هنا بذكر بعضها:

Wilfried Daim. Transvaluation de la psychanalyse: L’homme et l’absolue. Trad. De l’allemand par Pierre Jundt. Paris: Albin Michel.

A. Stocker. De la psychanalyse à la psychosynthèse. Paris: Beauchesne et ses fils.

E. Fuller Torrey. The Malignant Effect of Freud’s Theory on American Thought and Culture. New York: Harper Collins.

Paul Robinson. Freud and His Critics. Berkeley: University of California Press.

John Kerr. A Most Dangerous Method. New York: A. Knopf.

Allen Esterson. Seductive Mirage: An Exploration of the Work of Sigmund Freud. Open Court Publishing Co.

Adolph Grünbaum. Validation in the Clinical Theory of Psychoanalysis. International Universities Press.

[14] الدكتور داهش، "الرحلاتُ الداهشيَّة حول الكُرَة الأرضيَّة، ج1 (بيروت: دار النسر المُحلِّق، 1982)، ص 92.

[15] غازي براكْس، "جبران خليل جبران في دراسة تحليليَّة-تركيبيَّة لأدبه ورسمه وشخصيَّته، بيروت: دار الكتاب اللبنانيّ، 1981. والكتاب دراسة أكاديميَّة نال المؤلِّف عليها شهادة دكتوراه دولة في الآداب (علم النفس الأدبيّ) عام 1973.

[16] أنظر مثلاً على ذلك كتاب:

L. Wright. Twins. NY: J. Wiley and Sons.

[17] أنظر: Martin Seligman, PH.D.. What You Can Change and What You Can ´t. NY: A. Knopf.

[18] أشرتُ إلى ذلك في دراستي "جبران خليل جبران" المنشورة عام 1973، في الصفحة 519.

[19] أنظر:

T. J. Bouchard and others. “Sources of Human Psychological Differences: The Minnesota Study of Twins Reared Apart.” Science 250, pp. 223-228, 1990.

Hamer & Copeland. Living With Our Genes, pp. 22-24.

[20] . Living With Our Genes, pp. 7-8, 16.

[21] الدكتور داهش، "بروق ورعود" (بيروت: مطابع روطوس، 1946 )، ص 68.

[22] راجع تفصيلَ ذلك في مقال "طريق الارتقاء الروحيّ وفقًا لمفهوم مُؤسِّس الداهشيَّة: الارتداع عن الرذائل والشرور" ("صوت داهش"، عدد خريف 1999).

[23] الدكتور داهش، "مُذكِّرات دينار" (نيويورك: الدار الداهشيَّة، 1986)، ص 163-167.

[24] الدكتور داهش، "كلمات"، ص 91.

[25] أوضحَ العالِمُ السيكولوجيّ العِياديّ غاد تشودنِر في كتابه "مُجرمون صِغار بيننا" أنَّ تنمية نزعة الغيريَّة والتقمُّص الوجدانيّ واحترام أشخاص الآخرين من أهمّ الوسائل التي تُخفِّفُ انحرافَ الأحداث. أنظر:

Gad Czudner. Small Criminals Among Us. NY: New Horizon Press.

[26] أنظر مثالاً عنها في الإنكليزيَّة: William Bennett. The Book of Virtues. New York: Simon and Schuste.

[27] الدكتور داهش، "الرحلاتُ الداهشيَّة حول الكُرة الأرضيَّة"، ج 1، ص 211.

[28] المصدرُ السابق، ص 419.

[29] R. Coles. The Moral Intelligence of Children, pp. 31-59.

[30] الدكتور داهش، "إبتهالات خشوعيَّة" (بيروت: دار النار والنور، 1983)، ص 56-64.

[31] المصدرُ السابق، ص 108-110.

[32] أنظر: R. Coles. The Spiritual Life of Children (Boston: Houghton Mifflin Co., 1990), pp. 98-128.

 

 

  Back to التعاليم الداهشيَّة بقلم الدكتور غازي براكس 

 

Developed by Houssam Ballout        Copyright 2019 This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.nfo All Right Reseved This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.