أنا أؤمن بأنه توجـد عدالة سماويّة, وأن جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدنيا من مُنغصات انَّ هـو الاّ جـزاءٌ وفاق لِما أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور.ولهـذا يجب علينا أن نستقبلَ كلّ مـا يحـلّ بنـا من آلامِ الحياةِ ومآسيها غير مُتبرّمين ولا متذمّرين , بل قانعين بعدالةِ السماء ونُظمها السامية.

Highlighter
أحبُّ الكُتُبَ حبَّ السُكارى للخمر , لكنَّني كلَّما أزددتُ منها شرباً, زادتني صَحوا
ليس مّنْ يكتُبُ للهو كمَن يكتُبُ للحقيقة
الجمالُ والعفّــة فـردوسٌ سماويّ .
لا معنى لحياةِ ألأنسان اذا لم يقم بعملٍ انسانيٍّ جليل .
اعمل الخير , وأعضد المساكين , تحصل على السعادة .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقـوم بأعمالِ الخير نحـو ألأنسانيّة .
الموتُ يقظةٌ جميلة ينشُدها كل مَنْ صَفَتْ نفسه وطَهرت روحه , ويخافها كلّ من ثقُلت أفكاره وزادت أوزاره .
ان أجسامنا الماديّة ستمتدّ اليها يـد ألأقـدار فتحطِّمها , ثمّ تعمل فيها أنامل الدهـر فتتَّغير معالمها , وتجعلها مهزلةً مرذولة . أمّا ألأعمال الصالحة وألأتجاهات النبيلة السّامية , فهي هي التي يتنسَّم ملائكة اللّه عبيرها الخالد .
نأتي إلى هذا العالمِ باكين مُعولين، و نغادره باكين مُعولين! فواهً لك يا عالمَ البكاء والعويل!
جميعنا مُغترٌّ مخدوعٌ ببعضه البعض.
العدلُ كلمة خُرافية مُضحكة.
أمجادُ هذا العالم وهمٌ باطل، و لونٌ حائل، و ظلٌّ زائل.
لا باركَ الله في تلك الساعة التي فتحتُ فيها عينيّ فإذا بي في مكانٍ يطلقون عليه اسم العالم .
أنا غريبٌ في هذا العالم، و كم احنُّ إلى تلك الساعة التي اعود فيها إلى وطني الحقيقيّ.
الحياةُ سفينةٌ عظيمة رائعة تمخرُ في بحرٍ، ماؤه الآثام البشريَّة الطافحة، و امواجه شهواتهم البهيميَّة الطامحة، و شطآنه نهايتهم المؤلمة الصادعة.
كلّنا ذلك الذئبُ المُفترس , يردع غيره عن اتيانِ الموبقاتِ وهو زعيمها وحامل لوائها , المُقوّض لصروح الفضيلة , ورافع أساس بناءِ الرذيلة .
الحياةُ سلسلة اضطراباتٍ وأهوال , والمرءُ يتقلَّب في أعماقها , حتى يأتيه داعي الموت, فيذهب الى المجهولِ الرهيب , وهو يجهلُ موته , كما كان يجهلُ حياته .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقومَ بأعمالِ الخير نحو الانسانيّة .
المالُ ميزان الشرِّ في هذا العالم .
السعادةُ ليست في المال , ولكن في هدوءِ البال .
كلُّ شيءٍ عظيمٍ في النفسِ العظيمة , أمّا في النفسِ الحقيرة فكلُّ شيءٍ حقير .
الرُّوح نسمةٌ يُرسلها الخالق لخلائقه لأجل , ثم تعودُ اليه بعجل .
الرُّوح نفثةٌ الهيَّة تحتلُّ الخلائق , وكل منها للعودة الى خالقها تائق .
الرُّوح سرٌّ الهيٌّ موصَدْ لا يعرفه الاّ خالق الأرواح بارادته , فمنه أتتْ واليه تعود .
أنا أؤمن بأنه توجـد عدالةٌ سماويّة , وأنَّ جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدُّنيا من مُنغِّصاتٍ وأكدارٍ انَّ هـو الاَّ جـزاء وفاق لمِا أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور . ولهـذا يجب علينا أن نستقبل كلَّ مـا يحـلُّ بنـا من آلام الحياة ومآسيها غير م
الحرّيةُ منحة من السماءِ لأبناءِ ألأرض .
الموتُ ملاكُ رحمةٍ سماويّ يعطف على البشر المُتألّمين , وبلمسةٍ سحريّة من أنامله اللطيفة يُنيلهم الهناء العلويّ .
ما أنقى من يتغلّب على ميولِ جسده الوضيع الفاني , ويتبع ما تُريده الرُّوح النقيّة .
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
الراحة التامّة مفقودة في هذا العالم , وكيفما بحثت عنها فأنت عائدٌ منها بصفقةِ الخاسر المَغبون .
ليس أللّــه مع الظالم بل مع الحقّ.
ان الصديق الحقيقي لا وجود له في هذا العالم الكاذب.
ما أكثر القائلين بالعطف على البائسين وغوث الملهوفين والحنو على القانطين , وما أقلَّ تنفيذهم القول.
يظنُّ بعض ألأنذال ألأدنياء أنّهم يُبيّضون صحائفهم بتسويدِ صحائف الأبرياء , غير عالمين بأنَّ الدوائر ستدور عليهم وتُشهّرهم.
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السَّلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
رهبة المجهول شقاء للبشرِ الجاهلين للأسرارِ الروحيَّة , وسعادة للذين تكشّفت لهم الحقائق السماويَّة .
الموتُ نهاية كل حيّ , ولكنه فترة انتقال : امّا الى نعيم , وامّا الى جحيم .
الحياةُ خير معلِّمٍ ومُؤدِّب , وخيرَ واقٍ للمرءِ من الأنزلاقِ الى مهاوي الحضيض .
حين تشكُّ بأقربِ المُقرَّبين اليك تبدأ في فهمِ حقائق هذا الكون .
مَنْ يكون ذلك القدّيس الذي لم تخطرُ المرأة في باله ؟ لو وجدَ هذا لشبَّهته بالآلهة .
المرأة هي إله هذه الأرض الواسع السُّلطان. و هي تحملُ بيدها سيفاً قاطعاً لو حاولَ رجالُ الأرض قاطبةً انتزاعه منها لباؤوا بالفشلِ و الخذلان .

الطريقُ إلى "العالَمِ الواحد" (3)

مسؤوليَّةُ الأُمَمِ المُتَّحدة في ضوءِ المفاهيم الداهشيَّة

بقلم الدكتور غازي براكْس

رأَينا في الحلقتَين السابقتَين (عدَدَي الخريف 2002 والشتاء 2003) أَنَّ طريقَ السلامِ العالَميّ ما تزالُ وعثاء، لأنَّ الطريقَ التي سلَكَته الدوَلُ منذُ قيامِ عصبة الأُممِ بعد الحربِ العالَميَّةِ الأُولى ثمَّ قيامِ منظَّمةِ الأُممِ المُتَّحدة بُعَيدَ الحربِ العالَميَّة الثانية لم تكُن طريقًا صحيحة. وقد تنبَّأَ مُؤَسِّسُ الداهشيَّة بإخفاق مساعي السلام منذُ بداية عام 1946. أَمَّا الطريقُ الصحيحة، في ضوءِ المفاهيم الداهشيَّة، فتكونُ بالانتقال من العَولمة في طرحِها الحاليّ إلى "العالَمِ الواحد" المَبنيِّ على القِيَمِ الروحيَّة والإنسانيَّة. والوصولُ إليه يُمَهَّدُ بتغليبِ المبادئ التالية: أَوَّلاً، الأَخذُ بوحدةِ التراثِ الثقافيِّ العالَميّ دونما استكبار ثقافةٍ على أُخرى، لا سيَّما أَنَّ الاستعلاءَ الغربيَّ لا يستَـندُ إلى أَيِّ واقعٍ تاريخيّ؛ ثانيًا، اعتمادُ الارتقاءِ المُتكامِل من خلال الاهتمامِ بترقيةِ مداركِ الناس ونزعاتِهم معًا، فلا يكونُ التقدُّمُ التكنولوجيّ على حسابِ الانحطاطِ الخُلقيّ؛ ثالثًا، نشرُ الإيمان بوحدة الأديانِ الجوهريَّة المُتولِّدة من الوحدةِ الروحيَّة لمُؤَسِّسيها أنفسهم، وَفقَ المبادئ الداهشيَّة، كما من وحدةِ أَهدافهاِ الإنسانيَّةِ المُشترَكة ذاتِ المرمى العالَميّ؛ رابعًا، تبنِّي الحوار المُنفتِح بين الثقافات بحيثُ تتلاقحُ الأفكارُ والثقافاتُ وتُولِّدُ حضارةً إنسانيَّةً جديدة خيرًا من الأُولى؛ خامسًا، قبولُ التـنوُّعِ الثقافيِّ في الوحدةِ الحضاريَّةِ العالَميَّة؛ سادسًا، اقتـناعُ الدوَلِ، حكوماتٍ وشعوبًا، بتهديد الأخطار العالَميَّة الماحق للجميع، دونما استثناء، وبضرورة التعاوُن الدُّوَليّ للتغلُّب عليها، خصوصًا بعد أن أَجـمعَ كِبارُ العُلماء، حيثما كانوا، على التحذيرِ من عواقبِها الفادحة على البشريَّةِ طُرًّا.


     لكنَّ هذه المبادئَ الأَوَّليَّة لا يكفي اعتناقُها النظريُّ لقيامِ "عالَمٍ واحد" عادلٍ فاضل. فهي بحاجة إلى نظامٍ عالَميٍّ جديد يدعمُ تطبيقَها ويصونُها. يُستخلَصُ من كلمات الدكتور داهش التي وضعَها على لسان جِلبِرت، الجُنديِّ الجريح، في كتابه المُلهَم "مُذكِّرات دينار"، عند كلامِه على ضرورة بناءِ "عالَمٍ واحد" من أجل أَن "يسودَ السلامُ العامُّ" الكُرةَ الأرضيَّة: أَنَّ "العالَم الواحد" يجبُ أَن تربطَ دوَلَه وشعوبَه أَواصرُ تُذكِّرُها على الدوام بأَنَّ العالَمَ كلَّه إنَّما هو أُسرةٌ واحدة، لكنَّها "أُسرةٌ إنسانيَّة"،وأنَّ الغايةَ من تحوُّلِ العالَم المُفكَّكِ المتنازِع إلى "أُسرة إنسانيَّة" مشدودةِ العلائق، مَبنيَّة على النـزعاتِ والقِيَمِ العُليا، هي تمكينُ البشريَّة الموحَّدة من تحقيق "السعادة" الأرضيَّة؛ لكنَّ هذا الهدفَ الأمثل يستحيلُ الوصولُ إليه إلاَّ ببناءِ "قانونٍ عالَميّ" جديد تنضوي تحت أحكامه الدوَلُ برضاها. أمَّا رُوَّادُ الطريقِ إلى وَضعِ هذا القانون فمنطقُ التاريخِ يقضي بأن يكونوا قادةَ الدوَلِ الكُبرى. فعلى هؤلاء "أَن يُوحِّدوا أَهدافَهم ومُثُلَهم العُليا" ويتخلَّوا عن مطامعِهم لتنجحَ مساعيهم.[1] فكيف يُمكنُ أَن يتمَّ هذا؟

الأُسرةُ الروحيَّةُ الواحدة

بعد أَن قضى جِلبِرت نحبَه، وانطلقَت سيَّالاتُه الروحيَّة من سجنِها الجسَديِّ المادِّيّ، تكشَّفت الحقيقةُ الروحيَّةُ لها كما لسائر السيَّالات التي انطلقَت مِمَّن كانوا يتحاربون؛ وإذا بجميع الجنود الموتى، وقد استفاقوا من رقدة الموت، يُذعَرون من جرَّاء العمى الذي ضربَ غشاوةً على أَبصارهم وبصائرهم في حياتِهم الأرضيَّة، وجعلَهم ينجرفون بتيَّار المآربِ الوطنيَّة الضيِّقة التي أَفعمَت قلوبَهم بالضغينة والعُدوانيَّة تجاه بعضهم بعضًا دونما "سببٍ معقول." تقولُ روحُ جِلبِرت وقد أصبحَت في ملإٍ عُلويّ:

لقد اجتمعنا هنا، وكوَّنـَّا أُسرةً روحيَّةً واحدة. فأَعداءُ الأَمس الذين كانت تغمرُ قلوبَهم الكراهية، أَصبحوا أَصدقاءَ اليوم، تعمرُ أَرواحَهم المحبَّةُ الحقيقيَّة. فالأَلمانيُّ والبريطانيُّ والفرنسيُّ والتركيُّ والبلجيكيُّ واليوغسلافيُّ والبلغاريُّ والروسيُّ والزنجيُّ والأَمريكيُّ والأستراليُّ وغيرُهم من مُختلفِ الجنسيَّات التي فرضَتها غاياتُ الأرض فرضًا على الأُمَم، أَصبحَت الآن تنتمي إلى جنسيَّةٍ روحيَّةٍ واحدة، بعد أَن نبذَت أَضاليلَ الأرضِ وسخافاتِ الحياة. فهنا لا سائد ولا مَسود، لأنَّ قانونَ السماءِ قد وحَّدَ بين الجميع. والحقيقةُ الإلهيَّةُ كشفَت عن أَعيُنِهم غطاءَ الجهلِ، فأَصبحوا يخجلون مِمَّا كانوا يقومون به في عالَمِهم المُشتقِّ من الجحيم.[2]

إنَّ الشعورَ بهذه الحقيقة الوَحدويَّة ليس مُقتصرًا على الأنبياء والهُداةِ الروحيِّـين، فالإنسانيِّون مُؤمنين كانوا أم مُلحدين، والروحانيّون من الفلاسفة والأُدباء والعلماء والفنَّانين مِمَّن تُحييهم سيَّالاتٌ عُلويَّة، يشعرون بوحدة الجنسِ البشريِّ، بل بعضُهم يشعرُ بوحدة الأرض بكلِّ ما فيها من مظاهرَ حيَّة. فالعالِمُ والفيلسوفُ الفرنسيُّ بيار تِيلار ده شاردان     P. T. de Chardin ( 1881-1955) رأَى أَنَّ تكامُلَ الإنسان لا يكونُ إلاَّ في اتِّحادِه بالإنسان الأَعظم وفي اندماجِ الجميع بوحدة الكوكب.[3] والمهاتما غاندي (1869-1948) كانت وحدةُ البشريَّة، بل الأرضُ كلُّها تملأُ وعيَه. فمن أَقواله الكثيرة في هذا الصَّدَد: "البشريَّةُ واحدة باعتبارها تخضعُ جمعاءَ للقانون الخًُلقيّ. فالناسُ كافَّةً مُتساوون في نظرِ الله. وطبيعيٌّ أَن تكونَ اختلافاتٌ في الجنس والوضع الاجتماعيّ وما أَشبه، لكنْ بقدرِ ما يعلو وضعُ الإنسان تعظمُ مسؤوليَّتُه."[4] وجبران خليل جبران (1983-1931) اجتذبَته النـزعةُ الإنسانيَّة باكرًا، على حبَِّه الفيَّاضِ لوطنِه. فنداؤها يطرقُ أُذنَيكَ في "دمعة وابتسامة": "أَعفِني من مآتي السياسة وأَخبار السلطة، لأنَّ الأرضَ كلَّها وطني وجميعَ البشر مُواطِنيَّ." وهي ستَـتبلَّرُ وتتَرسَّخُ في نفسه مع كرور الزمن: "أُحبُّ مسقطَ رأسي بـبعضِ محبَّتي لبلادي، وأُحبُّ بلادي بقسمٍ من محبَّتي لأرضِ وطني، وأُحبُّ الأرضَ بكلِّـيَّتي لأنَّها مرتعُ الإنسانيَّة، روحُ الأُلوهيَّة على الأرض... تلك الأُلوهيَّة السائرة بين الأُمَم، المُتكلِّمة بالمحبَّة، المُشيرة إلى سبُلِ الحياة والناسُ يضحكون مُستهزئين بأَقوالِها وتعاليمِها، تلك التي سمعَها بالأمسِ الناصريُّ فصَلبوه، وسقراط فسمَّموه، والتي سمعَها اليومَ القائلون بالناصريِّ وسقراط، وجاهروا باسمِها أَمام الناس، والناسُ لا يقدرون على قتلِهم، ولكنَّهم يسخرون بهم قائلين: ’السخرية أقسى من القَتل وأَمرّ.‘"[5]

في التعاليم الداهشيَّة أَنَّ القوَّةَ الموجِدة هي واحدة، ومن الواحد كان تعدُّدُ الأرواح، ثمَّ تجزّؤُها إلى سيَّالات، فانحطاطُ بعضها الذي سبَّبَ ظهورَ الأكوانِ المادِّيـَّة، ثمَّ حدثَ تشتُّتُ السيَّالات الذي تلاه سقوطٌ تلوَ سقوط تولَّدَت منه الأرضُ وما عليها من مخلوقات كان بينها البشرُ الأوَّلون، ثمَّ اندثرَت حضاراتُهم، وكُوِّنَ آدم وحوَّاء... وبالتناسُل انتشرَ البشرُ في الأرض في هذه الدورةِ التكوينيَّة، وتباعدوا وتشاحنوا وتقاتلوا... حتَّى غدَت البغضاءُ والتفرقة والعدائيَّة هي القاعدة.

لكنَّ السيَّالات المُبعثرة مطبوعٌ فيها التوقُ إلى التلاقي فالاندماج في الوحدة الأُولى، لأنَّ الغايةَ الروحيَّةَ الراسخة في كلِّ سيَّال هي العودة إلى أَصله الروحيِّ الأُمّ. وفي الحقائق الروحيَّةِ الداهشيَّة أنَّ الكواكبَ العُلويَّة العظيمةَ في أَجرامِها وحضاراتها إنَّما يُكوِّنُ كلٌّ منها مُجرَّدَ مدينة، بحيثُ إنَّ مئاتِ (الكواكب-المُدُن) أو أُلوفَها يجمعُها عالَمٌ واحد يسودُه التآخي والسلامُ والهناء.

الأُسرةُ البشريَّةُ الواحدة والعالَمُ الواحد

إذا نظرنا إلى مسيرةِ الاجتماع البشريّ وتطوُّرِه من خلال ما دوَّنَه وأَجمعَ عليه المُؤَرِّخون وعلماءُ الاجتماع، لَرأينا أَنَّ الوحداتِ الاجتماعيَّة الأُولى كانت مُقتصرة على الأُسَر والعشائر، ثمَّ اتَّسعَت دائرةُ العصبيَّة بحيثُ جمعَت عدَّةَ عشائر في قبيلةٍ واحدة، ثمَّ ازدادَ اتِّساعُ العصبيَّة بحيثُ استغرقَت عدَّةَ قبائلَ في شعبٍ واحد. وعند هذه الدرجة من الارتقاء الاندماجيِّ في وحداتٍ مُجتمعيَّة كُبرى بدأَ الاستقرارُ يحلُّ محلَّ البداوة، وظهرَت القُرى والمُدُنُ الأُولى. إلى هذه المرحلة تنتمي أُور وسومر وسَدوم وعمورة وطيبة وإسبرطه وآثينا وصَيدون وجُبَيل وأُورشليم وكثيرٌ غيرُها... كانت المطامحُ المدعومةُ بالاختراعاتِ والاكتشافاتِ المُستخدَمة في الحروبِ ووسائلِ المعيشة هي التي تُحدِّد، في المجرى الاجتماعيّ الاقتصاديِّ العسكريِّ الظاهر ، الارتقاءَ من درجةٍ مُجتمعيَّة إلى أُخرى؛ لكنَّ الدوافعَ الأعمق، وَفقَ النظرةِ الداهشيَّة، كانت في تطوُّرِ السيَّالات الروحيَّة التي تُحيي الناسَ وتمدُّهم بمُستوياتٍ أفضل في مداركهم وربَّما نـزعاتهم. ثمَّ أَخذَت المطامحُ والمطامعُ تدفعُ القادةَ إلى بسطِ أيديهم من مدينةٍ إلى أُخرى، تبَعًا لنظام الاستحقاقِ الروحيّ المَبنيِّ على ناموس العدالة الإلهيَّة، وبذلك أَخذَ التلاقحُ الإتنيُّ والثقافيُّ ينتشرُ بين المُدُن-الدُّوَل؛ فظهرت الثقافاتُ المُختلطة، كالثقافة المصريَّة (الفرعونيَّة)، والبابليَّة، والكنعانيَّة، والإغريقيَّة، حيثُ تظهرُ التأثيراتُ المُتبادَلة، كملامح الآلهة وأُسُسِ المعتقدات الدينيَّة التي تتغلغلُ هي نفسُها هنا وهناك، بأسماء مختلفة أَحيانًا، وكاستخدام الأرقام الحسابيَّة والحروف الهجائيَّة مع شيءٍ من التعديل أحيانًا. بعدئذٍ شهدَ التاريخُ مَدًّا عسكريًّا ثقافيًّا اقتصاديًّا يهدفُ إلى توحيد المُدُن في دولةٍ كُبرى، مثلما حدثَ في أَيَّام حمورابي ونبوخذنصَّر وقورش والإسكندر ويوليوس قيصر وغيرهم، ثمَّ في عصور الخُلفاء الراشدين والأُمَويِّـين والعبَّاسيِّين. واستمرَّت هذه المرحلة طوالَ عصور الانحطاط في أُوروبَّا وآسيا إلى أن ظهرَت القوميَّاتُ الحديثة التي ما تزالُ فاعلةً في أكثر بقاع العالَم، بحيثُ إنَّ الدوَلَ-الأُمَم كان عددُها 69 دولة عام 1940، فأصبح اليوم 190 دولة.[6]

لكنَّ العصبيَّةَ القوميَّة ليست محطَّةً نهائيَّة في النظرةِ الداهشيَّة، إنَّما هي مرحلةٌ في طريقِ ارتقاء المُجتمعات البشريَّة باتِّجاهِ مزيدٍ من الوحدة. فالبشرُ منذُ ما بعد الطوفان حتَّى اليوم إنَّما هم من سُلالةٍ واحدة، هي سُلالةُ آدمَ وحوَّاء. هذه الوحدةُ السُّلاليَّة شدَّدَت عليها منظَّمةُ الأُممِ المتَّحدة من خلال منظَّمة اليونسكو، عام 1997، بتأكيدها في "الإعلان العالَميّ لكُتلة الجينات البشريَّة وحقوق الإنسان": "إنَّ كُتلةَ المُورِّثات البشريَّة تُبرِزُ الوحدةَ الأساسيَّة لجميع أَعضاء الأُسرة البشريَّة، كما تُظهِرُ الكرامةَ والتنوُّعَ المُلازمَين لطبيعةِ البشر..."[7] ولا بُدَّ من أن يتوازى ارتقاءُ البشرِ الثقافيُّ الروحيُّ مع اتِّجاههم أكثرَ فأكثر إلى تحقيق "الأُسرة الإنسانيَّة" الواحدة التي أَلمعَ إليها مُؤَسِّسُ الداهشيَّة. فقد شهدَ التاريخُ الحديثُ قيامَ الولايات المُتَّحدة التي تضمُّ خمسينَ ولايةً في اتِّحادٍ فيدراليّ، وتحوي جالياتٍ من كلِّ أنحاء العالَم ومن جميع الإتنيَّات والمُعتقدات، كما شهدَ قيامَ الاتِّحادِ الأُوروبيّ وقبلَه الاتِّحاد السوفياتي، وإن تكُن تجربةُ الأخير فاشلة لأسبابٍ كثيرة. فهذه النماذجُ الاتِّحاديَّة، وغيرُها من الاتِّحادات الاقتصاديَّة أو التجمُّعات الإقليميَّة الآخِذة بالتكوُّن، لَـتُشيرُ، بعد قيام مُنظَّمة الأُممِ المُتَّحدة، إلى خَطٍّ وحدَويٍّ تصاعُديّ هدفُه تخطَّي العصبيَّةِ القوميَّة، ويُؤذِنُ بمزيدٍ من التطلُّعِ إلى وحداتٍ إنسانيَّةٍ كُبرى تقومُ لا على وحدة الدين أو الأرض أو حتَّى اللغة، بل على إرادةِ العيشِ المُشترَك وعلى التقارُب في النظرةِ إلى الأهداف والقِيَمِ الحضاريَّةِ المُثلى.

هذا الخطُّ الوَحدويُّ التصاعُديّ، وإن يكُن ما يزالُ مُهدَّجًا بالفوراتِ القوميَّة التي تُطلِقُها مُناسباتٌ تستثيرُ مشاعرَ الشعوب وذكرياتِها التاريخيَّة، لا مناصَ من أَن يُفضيَ، وَفقَ الحقائقِ الروحيَّة الداهشيَّة، إلى مزيدٍ من الاتِّحادات الكُبرى. فبشيوعِ الثقافة المتعدِّدة الأَلوان بوسائط الإعلام الحديثة، لا بُدَّ من أن تتلاقحَ السيَّالاتُ وتتقارَبَ مُستوياتُها الروحيَّة في مُعظمِ الشعوب مع تعاقُب الأجيال. وهكذا يُفترَضُ أَن تتلاقى مداركُ أَكثرِ الناس ونزعاتُهم ومُثُلهم العُليا؛ وإذْ ذاك يسهلُ على كثيرين منهم، يعد اطمئنانهم، أَن يتخطَّوا عصبيَّاتِهم القوميَّة المَبنيَّة على وحدةِ لأرض أو الدين أو اللُغة أو التقاليد أو التاريخ المُشترَك، أو عليها جميعًا، ويندمجُ معظمُهم، إن لم يكن كلُّهم، في دولةٍ كُبرى واحدة. لكنْ هل تسودُ تلك الدولةَ العدالةُ والأُخوَّةُ والفضيلة، وتُصانُ فيها الحُرِّيـَّاتُ الأساسيَّة وسائرُ حقوقِ الإنسان؟ إنَّ هذا الأمر رَهنٌ باستحقاق البشر يومئذٍ. لكنَّ بلوغَ هذا الهدفِ الوَحدويِّ الأمثَل دونَه طريقٌ زمنيَّةٌ طويلةٌ وصعوباتٌ جمَّةٌ يجبُ تذليلُها.[8] فهل تتبدَّى اليومَ دوافعُ وأَسبابٌ واقعيَّة قد تُؤَدِّي إلى هذا الهدفِ الأمثلِ البعيد المدى؟

المُعطَياتُ الراهنة

إنَّ المُعطَياتِ التي ينطلقُ منها، اليومَ، الساعون إلى العَولمة لا تُبشِّرُ بـ"عالَمٍ واحد" فاضلٍ عادِل أو بـ"أُسرة إنسانيَّة" واحدة وَفقَ المفهوم الداهشيّ، بل تُؤذِنُ بقيام عَولمة وَفقَ الطُّروح الحاليَّة. فمنذُ أَن أُطلِقت الأَقمارُ الصناعيَّة مُمكِّنةً محطَّاتِ التلفزة من إيصالِ بثِّها إلى أرجاء الأرض قاطبة، ثمَّ عقبَها قيامُ الإنترنيت (شبكة الاتِّصالات العالَميَّة الإلكترونيَّة)، حدثَت ثورةٌ جديدةٌ في العالَم ما زالت آخذةً بالنموِّ وبتغيير كيفيَّةِ تواصُل البشر وبناءِ صداقاتهم، وتطويرِ أساليب تفكيرهم وسلوكهم ووسائل اقتصادهم ومبادئ سياساتهم وطُرقِ تربيتهم وتعليمهم. إنَّها ثورةٌ معلوماتيَّة تختلفُ كَيفًا ونوعًا عن الثورتَين الزراعيَّة والصناعيَّة اللتَين عرفَهما التاريخُ البشريّ. والمعلوماتُ الأهمُّ في ما يُنقَل ستكون تلك التي لا تُباع، بل يُستَفادُ منها في توسيعِ آفاق المعرفة، وتقريب الآراء بالحوار والاطِّلاع الثقافيّ، وتغيير أنماط الحياة الاجتماعيَّة والأنظمة السياسيَّة والاقتصاديَّة. وهذا التواصُلُ الإعلاميُّ الذي لا تحدُّه حدود يتوقَّعُ الخبيران السُّوَيديَّان أَلكسندر بارْد A. Bard وجان سودِرقفِسْت J. Soderqvist وغيرُهما من المُراقبين أن يُسقِطَ الحواجزَ بين القوميَّات، ويُضعِفَ الحكوماتِ المحلِّـيَّة، ويُقيمَ تكتُّلاتٍ عالَميَّة تتخطَّى الحدودَ الوطنيَّة ومصالحَ الدولة-الأُمَّة، وتُقلِّل من أَهمِّـيَّة الديمُقراطيَّة والرأسماليَّة إزاءَ قيمة النُخَب المُثقَّفة الفعَّالة النافذة عَبرَ الأقمار الصناعيَّة والإنترنيت.[9] وبكلمةٍ أُخرى، إنَّ الثورةَ المعلوماتيَّة ستُسقِطُ أَهمِّـيَّةَ المكان لتُحِلَّ محلَّها أَهمِّـيَّةَ الزمان، وَفقَ رأيِ الباحث الألمانيّ أُولريش بِك Ölrich Bic، مُؤَلِّف كتاب "ما هي العَولمة؟"[10] ويتوقَّع المُحلِّلون المُستقبليِّـون Futurists، أمثال مايك ديلارد M. Dillardوجانيت هينارد J. Hennard أَن تتكوَّنَ أُمَمٌ بدون حدود تجمعُها مجموعةٌ مُشترَكة من الأهدافِ والمُثُلِ العُليا والمطامحِ والحاجات تتجاوزُ في ولائها الدوَلَ القائمة، وتُغيِّرُ نظامَ المُجتمعات المعروفة.[11] كما يتوقَّعُ آخَرون، من مِثل المُحلِّّل فيليب بابيت P. Bobbitt، أن تحلَّ الدولةُ-السوق محلَّ الدولة-الأُمَّة، بحيثُ تنتقلُ مسؤوليَّاتٌ كبيرة من القِطاع الحكوميّ إلى القِطاع الخاصّ ولا سيَّما الشركات والمُؤَسَّسات الكُبرى العابرة للحدود الوطنيَّة.[12]وليس خافيًا عن الأنظار النشاطاتُ العالَميَّة التي تقومُ بها عشراتٌ من المُنظَّمات الشهيرة كـ"الصليب الأحمر الدُّوَليّ"، و"الدفاع عن حقوق الإنسان"، و"أَطبَّاء بلا حدود"، و"حركة السلام العالَميَّة"، و"الدفاع عن البيئة"، و"الدفاع عن حقوق الحيوان"، و"الحوار بين مُختلف الأديان" إلخ...

يُعزِّزُ كلَّ تلك الدوافعِ أسبابٌ اجتماعيَّةٌ وسياسيَّة أُخرى تتخطَّى الحدودَ الوطنيَّة والإقليميَّة: فقد ازدادت أضعافًا حركةُ الهجرة إلى أمريكا الشماليَّة وأُوروبَّا الغربيَّة من البلدان الآسيويَّة والإفريقيَّة والشرق أوسطيَّة، وتكاثرَت جدًّا حالاتُ الاختلاطُ الإتنيّ من خلال الزواج، وأصبحَ ولاءُ معظم الجاليات للأوطان الجديدة لا يقلُّ عن ولائها لأوطانها الأصليَّة فيُفيدون ماليًّا هذه وتلك. فملايينُ من المُهاجرين باتوا يشعرون بانتمائهم إلى الغربِ والشرقِ معًا. وهذا الواقعُ حقيقةٌ جليَّة مُنتشرة لا تحتاجُ إلى برهان. فبينما تقومُ في مُدُنِ أُوروبَّا التظاهراتُ ، من حينٍ إلى آخَر، ضدَّ توسيعِ باب الهجرة أمام الأجانبولا يخفى أنَّ هذه الفورات الاحتجاجيَّة هي من آثار نموذجِ العالَمِ القديم المَبنيِّ على العصبيَّاتِ القوميَّة او الدينيَّة او الإتنيَّة المُنغلقة تُظهِرُ الدراساتُ التي تقومُ بها دوائرُ الوحدة الأُوروبيَّة أَنَّ اطِّرادَ النموِّ الاقتصاديِّ في أُوروبَّا يقتضي مُشاركة 35 مليونًا من المُهاجرين البالغين حتَّى سنة 2025.[13] كذلك تعاظمَت الحركةُ السياحيَّة في أغلب بقاع العالَم، بحيثُ إنَّ الملايين يتدفَّقون يوميًّا على متون الطائرات من دولةٍ إلى أُخرى، فضلاً عن مئات الأُلوف الذين باتوا يمتلكون منازلَ ويُديرون أَعمالاً في أكثر من بلَد.[14]

إنَّ الخُبراءَ الاجتماعيِّـين والاقتصاديِّيـين يعتبرون أنَّ الولاياتِ المُتَّحدة وأُوروبَّا واليابان باتت تعتلي الموجةَ الحضاريَّةَ الثالثة التي دفعَتها إليها الثورةُ التكنولوجيَّة-المعلوماتيَّة، بعد أن اعتلى العالَمُ الموجةَ الزراعيَّةَ حوالى عشرة آلاف سنة، ثمَّ اعتلى العالَمُ المتقدِّم الموجةَ الصناعيَّة بدءًا من أَوائل القرن الثامن عشَر. والتصادُم بين الموجات الثلاث التي ما تزالُ تتعايشُ في كثيرٍ من أرجاء العالَم هو الذي يُحدِثُ التصادُمَ بين الحضارات. لكنَّ هذا التصادُم، برأيِ العالِمَين أَلفِن وهايدي توفلِر A. H. Toffler،مُؤَلِّّفَي كتاب "إبداعُ حضارة جديدة"هو تصادمٌ حضاريٌّ محتوم وليس تصادُمًا بين الإسلام أو غيره من الأديان مع الغربِ المسيحيّ أو العَلمانيّ؛ ذلك بأنَّ القُطبَ الآخَرَ المُصادم (بالفتح أو الكسر) إمَّا ما يزالُ مُتشبِّثًا بالأرض (أي تُهيمنُ الزراعةُ على اقتصاده)، أَو ما يزالُ في الطورِ الصناعيّ. أَمَّا بلدانُ الموجة الثالثة فاهتمامُها ينصبُّ على الأفكار الجديدة وتفاعُلِها وعلى براءات الاختراع والاكتشاف أَكثرَ مِمَّا على المُنشأَات المادِّيـَّة الموجودة. إنَّه اهتمامٌ بالقِيَمِ التكنولوجيَّة والعلميَّة القابلة للتطوُّر المُستمرّ؛ وهيكليَّتُه الأساسيَّة هي الشبكاتُ الإلكترونيَّة العالَميَّة والأقمارُ الصناعيَّة التي سِمَتُها الأبرز هي السرعة. [15] وعلى حَدِّ تعبير العالِمَين توفلِر، "إنَّ الوظائفَ اليدويَّةَ الصِّرف التي تستوي في الدرجةِ الدُّنيا من سُلَّمِ الأعمال آخِذةٌ في الزوال. فبتناقُص الوظائفِ اليدويَّة في الحركةِ الاقتصاديَّة، أَصبحت ’البروليتاريا‘ الآن أَقلِّـيَّة، لتحلَّ محلَّها بازديادٍ مُطَّرِد طبقةُ ’أرباب المعرفة‘ cognitariat . وبتعبيرٍ أدقّ، بقدرِ ما يُحقِّقُ الاقتصادُ [الجديدُ] نفسَه، تتحوَّلُ طبقةُ البروليتاريا إلى طبقة من أرباب المعرفة."[16] وتعليقًا على هذه الحقيقة التاريخيَّة التي كانت سببًا مهمًّا من أسباب انهيار الاتِّحاد السوفياتيّ، قال غورباتشيف عام 1989: "كدنا نكون من أواخر الذين فطنوا إلى أنََّ المعرفة هي القيمة العُليا في عصرِ العلمِ الإعلاميّ."[17]ففي حين أنَّ المعرفة، في النظام الشيوعيّ، كانت مُحرَّمة على الناس إلاَّ بمقدارِ ما تُريدُه القيادة الحاكمة، إذْ إنَّها جزءٌ من آلةِ الدولة، كانت المعرفة في بلدان الموجة الثالثة معروضةً على الناس طُرًّا.[18]

الصورةُ الداهشيَّة لـمُنظَّمة الأُممِ المُتَّحدة ودورِها

إنَّ نظريَّةَ التصادُم بين الموجات الحضاريَّة، وإن تكُن صحيحة إلى حَدٍّ ما، لا يُمكنُ أَن يُؤَدِّيَ مُجرَّدُ فهمِها إلى تبديد القلَق من نفوس الشعوب التي ما تزالُ تعتلي الموجتَين السابقتَين (الزراعيَّة أو الصناعيَّة) من جرَّاءِ فقدان الإمكانات البشريَّة المُؤَهَّلة فيها أو فقدان القوَّة الماليَّة التي يُمكنُها أن تُهيِّئَ تلك الإمكانات. فالمواردُ الطبيعيَّةُ تتوافرُ في أرضٍ دون أرض؛ والقوى العلميَّةُ والتكنولوجيَّة تكادُ تكونُ محصورةً في شماليِّ أمريكا وأُوروبَّا واليابان. فهل ذلك يعني، ما دامت طريقُ العَولمة قد شُقَّت، أَنَّ على البشر أن يُذعِنوا لحُكمِ الواقع فيأكلَ القويُّ خبزَ الضعيف، وهكذا يزدادُ الغنيُّ غِنًى والفقيرُ فقرًا؟ إنَّ الاجتياحَ الاقتصاديَّ للدوَل المُتخلِّفة يهبطُ بالمُجتاح حضاريًّا. والتاريخُ لا يرحمُ أمثالَ هؤلاء المُجتاحين. فالاستعمارُ حتَّى الثَّقافيُّ منهمَقيتٌ لدى الشعوبِ كلِّها، ومُستَنكَرٌ في الداهشيَّة. يقولُ الدكتور داهش بلسان "الدينار" (بطل روايته الفذَّة "مُذكِّرات دينار") وهو يخطبُ في الجمعيَّة العامَّة للأُمَمِ المُتَّحدة:

هاتوا، يا أقوياء، وأَشهِدوا الكونَ على تضحيتِكم.

أَعيدوا لكلِّ ذي حقٍّ حقَّه، وحَرِّروا المُستعبَدَ من رِقِّه، والمغبونَ من غبنِه، ومكِّنوا ربَّ البيتِ من بيتِه، فربُّ البيتِ أَدرى بالذي فيه، بظواهرِه وخوافيه...

... هل ساوَيتم أَصحابَ الأرقام [الدولَ المُرقَّمة في لائحة التخلُّف] بأَنفسِكم، وأَحلَلتموهم مرتبتَكم، وأَنزلتموهم، أَيُّها المُسيطرون منـزلتَكم؟

وهل سحَبتم جيوشَكم من أَوطانِهم ومشاريعَكم من بُلدانِهم؟...

إنَّ ما أَغدقَه الباري عليهم ما كان لكم أَن تعتدوا على قُدسيَّتِه، أَلا وهو حُرِّيـَّتهم.

فالإنسانُ أَخو الإنسان أَحبَّ أَم كَرِه... "[19]

إذًا مفتاحُ الطريقِ السويِّ إلى "العالَمِ الواحد" الذي يسودُه السلام ويُنادي به الدكتور داهش هو المُساواة في التعامُل بين الدوَل والتساوي في المنـزلة والمرتبة بينها، كبيرِها وصغيرِها، لأَنَّ البشرَ كانوا أَصلاً إخوة، أَحبُّوا ذلك أم كرِهوا، ولا يُمكنُهم أن يعودوا فيُكِّونوا أُسرةً إنسانيَّةً كُبرى إلاًّ بإشاعة المُساواة بينهم، وفي ذلك يكمنُ عملُ "التضحية" التي على الدوَل الكُبرى أن تقومَ به.

لكنَّ هذا الهدفَ النبيل من المُحال تحقيقُه إلاَّ باتِّباعِ نهجٍ عالَميٍّ واقعيٍّ مُشترَك يُوحِّدُ المبادئَ التي تقومُ عليها الأنظمةُ السياسيَّة، ويُقرِّبُ ما بين الثقافاتِ بما فيها من قِيَمٍ ومُثُلٍ عُليا، ويُعزِّزُ التسامُح. والواقعُ الراهِنُ للعالَم يقضي بأَن يتمَّ هذا الأمرُ من خلال مُنظَّمة الأُممِ المُتَّحدة التي أَصبحَت المُمثِّلَ الشرعيَّ الوحيدَ للشعوبِ كلِّها بقدرِ ما يتمُّ من خلال نشاطِ الحكوماتِ نفسِها . بَيدَ أَنَّه من المتعذّر تحقيقُ ذلك في ظلِّّ الهيكليَّةِ الحاليَّة للمنظَّمة العالَميَّة. ولِذا فإنَّ مسؤوليَّةَ الدوَلِ الكُبرى تُرتِّبُ عليها عدَّةَ مسؤوليَّات:

أَوَّلاً، أَن يقومَ "الأَقوياء" بـ"تضحية" يُشهِدون العالَمَ عليها، وَفقَ ما وردَ في كلمات الدكتور داهش الآنفة الذكر، فيُحدِثوا تبديلاً لا بُدَّ منه في هيكليَّة الأُممِ المُتَّحدة من أَجلِ أَن يُظهِروا "حُسن النيَّة" لجميعَ الدوَل.

ثانيًا، أن يتصرَّفَ "الأقوياء" تصرُّفَ القُدوة، فلا يطلبوا من غيرهم ما لا يطلبون من أنفسِهم، ويمدُّوا يدَ العَون للضعفاء في كلِّ ما يُقرِّبُهم من مُستواهم الحضاريّ.

ثالثًا، أن يُعَزَّزَ دورُ الأممِ المُتَّحدة في نُصرة الشعوب والأفراد المظلومين من قِبَل حُكَّامهم المُستبدِّين، وهو مبدأٌ يتضمَّنُه ميثاقُ الأُممِ المُتَّحدة، لكنَّه لم يُطبَّق.  

أَ- تعديلُ هيكليَّة الأُممِ المُتَّحدة

من أجل تحقيق المُساواة في التعامُل كما في المرتبة والمنـزلة بين الشعوب لا بُدَّ من أَن توجِدَ الدوَلُ الكُبرى بِنيةً لمجلس الأمن تختفي فيها الامتيازاتُ وتبرزُ عدالةُ التمثيل الحضاريّ، كأن يُوسَّعَ إطارُ عُضويَّةِ المجلس بحيثُ يضمُّ مُمثِّلين دائمين لا عن الدوَلِ الكبرى عسكريًّا واقتصاديًّا فحسب، بل أيضًا مُمثِّلين عن التكتُّلات الحضاريَّة، كالشعوب العربيَّة والآسيويَّة والإفريقيَّة والهند والناطقة بالإسبانيَّة وغيرها... وذلك بعد أن تدرسَ مختلفُ الدوَلِ صلاحيَّةَ هذه التكتُّلات ومدى شموليَّتها وتمثيلها وتُوافقَ جمعيَّةُ الأُممِ المُتَّحدة على ذلك. بهذا التوسيع تتحقَّقُ المُساواةُ والعدالةُ في التمثيل.

هذه المُساواة الإصلاحيَّة لبنيةِ مجلس الأمن التي تحدَّثَ عنها مُؤَسِّسُ الداهشيَّة منذ حوالى ستِّين عامًا لكي يُصبحَ المجلسُ أكثرَ شرعيَّةً وعدالةً في نظرِ العالَمِ كلِّه نادى بما يُشبهُها الأَمينُ العامّ للأُممِ المُتَّحدة، كوفي عنان، في تقريره للمنظَّمة العالَميَّة عام 2000.[20] وقد بدأَ عدَّةُ مُحلِّلين سياسيِّّـين يخوضون فيها وفي كيفيَّةِ تطبيقِها. يرى عالِمُ العلاقات الدُّوَليَّة تادْ دايلي Tad Daley أَنَّه من أجل أن تُصبحَ منظَّمةُ الأممِ المُتَّحدة مُؤَسَّسةً أكثرَ ديمقراطيَّة، "نحتاجُ أن نتجاوزَ عددَ أعضاءَ مجلس الأمن الدائمين الخمسة..." الذين يتمتَّعون بحقِّ النَّقض veto، إذْ يرى في هذه البنْية تكريسًا لوضعٍ ولَّدتَه الحربُ العالَميَّةُ الثانية، وآنَ أوانُ تغييره. كما إنَّه يرى إمكانَ قيام "جمعيَّة شعبيَّة" تنتخبُ الشعوبُ مُمثِّليها فيها مُباشرةً، وتكون مُتمِّمة للجمعيَّة العامَّة.[21] هذه الجمعيَّة الشعبيَّة يرى مُحلِّلون سياسيُّون آخرون أنَّها يجبُ ان تضمَّ مُمثِّّّّّّّلين للجمعيَّات العالَميَّة في مختلف الميادين، كجمعيَّات "الدفاع عن حقوق الإنسان"، و"الدفاع عن حقوق الحيوان"، و"المُحافظة على البيئة"، و"السلام العالَميّ"، و"الصليب الأحمر الدوليّ" والمُنظَّماتِ الثقافيَّة العالَميَّة، ومُنظَّماتِ الحوار بين الأديان، وعشراتٍ غيرها بحيثُ تُغطِّي أكبرَ مساحةٍ مُمكنة من النشاطات العالميَّة العابرة للحدود القوميَّة والتي بات تجاهلُها ضربًا من اتتعسّثف.

إنَّ التعامُلَ والتحاورَ على قدمِ المُساواة، وتبادُلَ الاحترام الدوليّ، والشعورَ بأنَّ كلَّ دولة، صغيرةً كانت أم كبيرة، بحاجة إلى سائر الدوَل لبناءِ عالَمٍ مُطمئنّ إلى اقتصاده وصحَّته وسلامته، لَهي مبادئُ لا بُدَّ منها في عالَمٍ مُتَّجهٍ اتِّجاهًا محتومًا إلى مَزيدٍ من التوحُّد من خلال اندماج قطاعاتِه الإعلاميَّة والإنسانيَّة والسياسيَّة والماليَّة والاقتصاديَّة إلخ في وحداتٍ أكبر فأكبر. فانهيارُ الاقتصاد في دولةٍ صغيرة قد يُرسِلُ اهتزازاتٍ في معظمِ الاقتصاد العالَميّ؛ كذلك ظهورُ الأوبئة أو تلويثِ البيئة أو الإرهاب في بقعةٍ من الأرض قد يُنذِرُ بشيوع أَيٍّ منها في العالَمِ كلِّه. فما دام الكلُّ مُعرَّضٌ للأَخطار الشاملة، والتأثيرُ مُتبادَل، فالكلُّ أصبحَ ضروريًّا، لأنَّ الأرضَ كلَّها ستتحمَّلُ الخسارةَ أو تكسبُ الربح.[22]

ب – تصرُُّفُ "الأَقوياء" تصرُّفَ قُدوة

في ضوءِ التعالم الداهشيَّة لا تبقى للأَقوياء قوَّتُهم، عسكريَّةً كانت أم اقتصاديَّة أم علميَّة، إلاَّ إذا أدركوا العبرةَ الروحيَّة من نعمتِهم، فلم يتجبَّروا أو يظلموا أَو يفسقوا، ذلك بأنَّ كلَّ عملٍ له نتيجةٌ محتومة. والقرآنُ الكريمِ يضربُ مثلاً رائعًا يوضِحُ ذلك بقوله: )ضربَ اللهُ مثلاً قريةً كانت آمنةً مُطمئنَّة يأتيها رزقُها رغَدًا،من كلِّ مكان، فكفرَت بأَنعُمِ الله، فأَذاقَها اللهُ لباسَ الجوعِ والخوفِ بما كانوا يصنعون( (سورة النحل: 112). حتَّى لو مَدَّ الخالقُ زمانَ رحمتِه "للأَقوياء"، فلا بُدَّ من أن يحصدوا، في النهاية، ما زرعوه.

لِذا فعلى "الأَقوياء" أن يضطلعوا بدَور القائد القُدوة في تعامُلِهم مع الدوَل الضعيفة. والقائدُ القُدوة هو العادِلًُ المُحِبُّ الشفيق الذي تفرضُه أَعمالُه الإنسانيَّة وقِيَمُه الروحيَّة منارةً يُهتَدى بها ومثلاً أعلى يُطمَحُ إليه. إنَّه ذلك الذي لا يجرفُه الجشعُ، ولا تُسكِرُه وتُرنِّحُه خمرةُ التفوُّق فيفقدُ اتِّزانَه، بل يبقى جديرًا بالقيادة، مُؤثِرًا "التضحية" بما عنده من امتيازات على التضحية بغيره وما عنده من مُقوِّماتٍ للحياة. فمن الوجهة الداهشيَّة، إذًا، لن يُقَيََّضَ "للأقوياء" أَن يكونوا المثلَ الأعلى لسائر دوَل العالَم ما لم تُهيمن على شعوبهم، وبالتالي على مُمثِّليهم في الحُكم، النـزعاتُ الروحانيَّة والإنسانيَّة الحقيقيَّة. ويبدو أَنَّ طريقًا طويلةً ما زال عليهم أن يسلكوها قبل أَن يتسنَّموا هذه الدرجةَ العُليا.[23]

            والقِيَمُ الروحيَّةُ التي أَعنيها والتي تُنادي الداهشيَّة بها لا تقومُ على طقوسٍ دينيَّة شكليَّة تُقيمُ الحواجزَ بين المؤمنين وتختلفُ بين دينٍ وآخَر ؛ فمَنحُ مثلِ هذه الطقوس قيمةً روحيَّة حقيقيَّة يُقلِّصُ معنى الدين إلى الأعراضِ والقشور، جاعلاً من العناصر الظرفيَّة جوهرًا دائمًا. فالقِيَمُ الروحيَّةُ لا تتاَثَّرُ بالظروفِ التاريخيَّة والطبيعيَّة والاجتماعيَّة، ولا بالإتنيَّات والقوميَّات، إذْ إنَّها قِيَمٌ إنسانيَّة سامية بدون اعتناقها ومُمارستِها لا يُرجى للإنسانِ أيُّ ارتقاءٍ حضاريّ، ولا أيُّ تَخطٍّ لمُستواه الأرضيّ البدائيّ.

            فالثَّريُّ الذي يُصلِّي نهارَه وليلَه ولا يمدُّ يدَ العَون إلى الفقراء، والناسكُ الشبعانُ الذي ينقطعُ إلى ربِّه ولا يشعرُ بآلامِ المُعذَّبين والجياع حوله، والخطيبُ الذي يعظُ بضرورةِ التقشُّف ومعدتُه مُكتظَّة بالطعام جميعُهم صلواتُهم وابتهالاتُهم ومواعظُهم فقاقيعُ في الهواء، وشأنُهم شأنُ الدولةِ القويَّة المُترَفة التي تدَّعي أنَّ الله اختارَها ورفعَها فوق العالَمين وهي لا تمدُّ للشعوب الضعيفة الفقيرة يدًا، ولا تُخفِّفُ عنهم عبئًا أو تُزيلُ همًّا أو جهلاً.

            يقولُ المهاتما غاندي: "لا أُؤمنُ بأنَّ أيٍّ فردٍ يُمكنُه أَن يكتسبَ روحانيَّةً بينما يتأَلَّمُ الذين حوله." ويذهبُ إلى أبعدَ حين يُعلنُ أنَّ العالَمَ كلَّه واحد، بل كلُّ ما يحيا على الأرض واحد.[24]

            لقد اتَّخذَت الأُمَمُ المُتَّحدة، في جلستها المُنعقدة من 6 إلى 8 أَيلول (سبتمبر) عام2000، قرارًا سمَّته بـ"إعلان الألفيَّة للأُممِ المُتَّحد’ة" 55/2. United Nations Millenium Declaration. هذا القرارُ وقَّعَت عليه جميعُ الدوَل، وبينها الدوَلُ الكُبرىجميعها. لقد جدَّدوا، باسم شعوبهم، تمسُّكَهم بـ"شرعـة حقوق الإنسان العالَميَّة"، وأَكَّدوا مسؤوليَّتَهم عن إشاعة المُساواة والعدالة والحرِّيـَّة والتسامُح والتعاوُن والاحترام المُتبادَل بين الشعوب كلِّها، ومُساعدة الدوَلِ الضعيفة بحيثُ تستفيدُ من مَدِّ العولمة المتَّسع والتقدُّم العلميِّ والتكنولوجيِّ الحاصل، وكذلك تعزيز احترام القانون الدُّوَليّ باحترام البيئة والسَّعي الحثيث لإزالة أسلحة الدمار الشامل، ولا سيَّما الأسلحة النَّوويَّة، كما تعهَّدوا بتخفيف الديون الباهظة على الدولِ الفقيرة، والقضاء على الجهل والجوع والأوبئة في العالَم من خلال مسؤوليَّةٍ مُشتركة.

تُرى، هل يبقى هذا التعهُّد حبرًا على ورق مثلَ كثيرٍ مِمَّا سبقَه، أم يتجسَّدُ أعمالاً على أرضِ الواقع؟

ج – تعزيزُ دَور الأُممِ المُتَّحدة ومحكمتها الدوليَّة

في النظرِ بمظالمِ الحُكَّامِ لشعوبِهم جماعاتٍ وأَفرادًا

في تشرين الأوَّل (أكتوبر) عام 1948، أرسلَت الأديبةُ الداهشيَّة السيِّدةُ ماري حدَّاد رسالةً بالفرنسيَّة إلى رئيس مًنظَّمة الأُممِ المُتَّحدة وأعضائها تعرضُ فيها ما أًصاب مُؤَسِّسَ الداهشيَّة من ظُلمٍ رهيب على يَدِ زوجِ شقيقتِها، الرئيس اللبنانيّ الأسبق بشاره الخوري (1943-1952). تبدأُ هذه الرسالة التي استلهَمَت أفكارَها من العقيدةِ التي تُؤمنُ بها بقولِها:

أُوجِّهُ إليكم هذا الاستدعاءَ مُعتمدةً النداءَ الذي أَطلقتموه، وقد تناقلَته الصحفُ ووكالاتُ الأنباء، ذلكَ النداءَ الذي يدعو الشعوبَ المظلومة، بل حتَّى الأفرادَ أنفسَهم الواقعين ضحايا لمظالمِ حكوماتِهم أو للسلطات العُليا في بلادِهم، إلى أن يتوجَّهوا إليكم حتَّى يُنصَفوا وتستقيمَ العدالة.

وبما أَنَّ منظَّمةَ الأُممِ المُتَّحدة تعني محكمةً عُليا لجميع البلدان، بل حتَّى للأفراد، حسبما أُعلِنَ للعالَمِ أَجمع، فإنِّي، أَنا ماري حدَّاد اللبنانيَّة، المولودة في بيروت، أعرضُ باسم "الداهشيِّـين" عليكم ما يأتي:.."

وبعد أَن توضِحَ مَن هو الدكتور داهش روحيًّا وأدبيًّا، وتُظهِرَ أهدافَ عقيدته الروحيَّة الرامية إلى الإخاء العالَميّ ونُصرة الحُرِّيـَّة والحقيقة والعدالة، ثمَّ الأعمالَ التعسُّفيَّة الخارقة لقوانين البلاد التي قام بها بشاره الخوري وأعوانُه من المُتطرِّفين في عصبيَّتهم الطائفيَّة العمياء ضدَّ الدكتور داهش وأنصارِه دونما مُحاكمة، كما ضدَّ اللبنانيِّـين جميعًا بتزويره للانتخابات النيابيَّة، في 25 أيَّار (مايو) 1975، تجديدًا لولايته، تقولُ البطلة المُجاهِدة ماري حدَّاد:

الدكتور داهش رئيسُ مذهبٍ دينيّ يُضطَهَدُ بوحشيَّة، وأتباعُه المُقرَّبون يقعون ضحايا أفرادٍ يطعنون الحرِّيـَّةَ الشخصيَّة في صميمِها وفي أُسُسِها الأكثر قُدسيَّة، وذلك في بلدٍ منحَته الدوَلُ الكُبرى الاستقلال، مُعتقدةً أَنَّه بلغَ مُستوًى من الحضارة يُؤَهِّلُه لهذا الاستقلال. فلبنان الذي يعدُّ نحو مليون نسمة [عام 1948] ينتمون إلى زُهاء عشرين مذهبًا وطائفة لن يستطيعَ بلوغَ حضارةٍ مُماثلة لحضارات البلدان الأُخرى ما دام محكومًا بنظامٍ طائفيّ يُغذِّّي تعصُّبًا دينيًّا حادًّا. فبالواقع ليس له من الحضارة إلاَّ قشورها.

لا يكفي أن يتحدَّثَ مندوبو لبنان عن الحرِّيـَّة، وأن يُصرِّحوا بها في خُطَبِهم في منظَمة الأُممِ المتَّحدة، بل المُهمُّ أَلاَّ تُطعَنَ هذه الحُرِّيـَّة، وألاَّ يُعبَثَ بـ"حقوق الإنسان المقدَّسة"...

وبعد ان تُعلِّقَ السيِّدة حدَّاد على موقف شارل مالك غير الصادق من واقع لبنان في الأممِ المُتَّحدة، تقول:

وهم [أَي الداهشيُّون] يُطالبون بإعادة الجنسيَّة إلى الدكتور داهش؛ وإذْ يُؤَدُّون واجبًا، يلجأُون إلى محكمتِكم العُليا مُلِحِّين عليها في أن تدرسَ بدقَّةٍ هذه القضيَّة التي تتعدَّى حدودَ لبنان. فهي لو فعلَت ذلك، تكون قد قامت بمأثرةِ عدالةٍ وإنسانيَّة، ومنعَت النـزاعَ من أَن يتفاقمَ ويزدادَ حدَّةً ونموًّا. وإنِّي أُؤَكِّدُ لكم أَنَّ هذا النـزاع يتهدِّدُ بإهراقِ الدماء في لبنان مثلما أهرِقَت في فلسطين، إذا لم يلقَ استدعائي الاتِّهاميُّ أُذنًا صاغية.[25]

إنَّ الفقرات القليلة السابقة المُقتبَسة من هذه الرسالة التاريخيَّة تنطوي على نقاطٍ كثيرة للتأَمُّل في دَور الأممِ المُتَّحدة ومسؤوليَّتِها. أَوَّلاً، مع أنَّ المنظَّمة العالَميَّة تشملُ مسؤوليَّتُها، ضمنًا، التدخُّل لإنصاف الجماعات والأفراد المظلومين من قِبَل حُكَّامٍ مُستبدِّين، فهي لم نضطلعْ بهذه المسؤوليَّة طوالَ أكثر من نصف قرن؛ حتَّى إنَّ الأَمينَ العامّ، كوفي عنان، نبَّهَ إلى هذا الخلَل، في تقريره لسنة 2000، ودَعا إلى إصلاحِه.

أَمَّا الدكتور داهش، رجلُ الإلهامِ والوَحيِ، فقد تنبَّهَ لهذا الأمر منذ قيام المنظَّمة العالَميَّة، فإذا بماري حدَّاد، تلميذتُه الوفيَّة وصوتُه في رسالتها إلى المنظَّمة العالَميَّة، تقولُ في أواخر استدعائها، بعد أن تُعدِّدَ بنودَ حقوق الإنسان المنصوص عنها في "شرعة حقوق الإنسان العالَميَّة":"إنَّ هذه الموادّ تُجيبُ مباشرةً على اتِّهاماتي العادلة. وحُكمُ العدالة سيصدرُ عنها بديهيًّا فيما لو أُقِرَّت من أجل غايةِ تطبيقِها."والعبارةُ الأخيرة فيها إشارةٌ إلى أنَّ موادَّ الشرعة لا تُطبَّقُ في لبنان، وتعريضٌ بموقفِ المُنظَّمة العالَميَّة من عدمِ التدخُّل لتطبيقِها ومُقاضاةِ الحاكمِ الطاغية.

ثانيًا، إنَّ البلدَ الذي يقومُ نظامُه السياسيُّ على أسُسٍ طائفيَّة يستحيلُ عليه أن يبنيَ حضارةً راقية. ومن أجل ذلك فاستقلالُه كان شرًّا عليه ولم يكن خيرًا. فالكفاءاتُ فيه مُعَدَّة لأَن تُنحَرَ على مذبحِ التقاسُم الطائفيّ للمغانم، فتقومَ مقامَها جهالاتُ الأَنصار وعصبيَّاتُهم العمياء. فلا عجَبَ إذا تحوَّلَ لبنان إلى "مزرعة" لرئيسه الخوري وأُسرته وأَعوانِه. وهذه النتيجة الفاجاعة للبنان توجِبُ على الدوَلِ الكُبرى المُهَيمنة على المُنظَّمة العالَميَّة أن لا تتسرَّعَ في مَنحِ الدوَلِ غير المُؤَهَّلة الاستقلالَ إذا أرادت خيرَها.

ثالثًا، إنَّ الرسالة توغِلُ في استكشافٍ روحيّ للنتائج التي سيُؤَدِّي إليها عدمُ تدخُّل الأُممِ المُتَّحدة لإنصاف الدكتور داهش: "إنِّي أُؤَكِّدُ لكم أَنَّ هذا النـزاعَ يُهدِّدُ بإهراقِ الدماء في لبنان مثلما أُهرِقَت في فلسطين إذا لم يلقَ استدعائي الاتِّهاميُّ هذا أُذنًا صاغية." إنَّها نبوءةٌ بنشوبِ حربِ لبنان الأهليَّة التي دامت ستَّةَ عشرَ عامًا بَدءًا من عام 1975؛ تلك الحرب الكارثة التي تنبَّأَ الدكتور داهش بوقوعِها في مطلع عام 1948،[26] ونشرت خلاصتَها عدَّةُ صحُفٍ لبنانيَّة في 4 كانون الثاني (يناير)، وبينها جريدة "الحياة" البيروتيَّة. ولا يخفى على البصيرة النيِّرة أنَّ تلك الحربَ التي دمَّرت عمرانَ لبنان واقتصادَه، وقتلَت حوالى 170 ألفًا من سكَّانه، فيتَّمَت أَطفالَه، وأَيَّمت نساءَه، وشرَّدت شعبَه تلك الحربَ الأهليَّةَ القَذِرة كانت نتيجةً للنظام الطائفيِّ الفاسد الذي كان وما يزالُ يحكمُ لبنان المسكين. ومَثَلُ لبنان ينطبقُ على كثيرٍ من البلدان الأُخرى التي سبَّبَت أنظمتُها الطائفيَّة الفاسدة حروبًا أَهليَّة. فكم من حربٍ كانت لم تقَع لو التزَمت الأُممُ المُتَّحدة ميثاقَها العالَميّ في إنصاف المظلومين من قِبَلِ حُكَّامِهم، جماعاتٍ كانوا أم أفرادًا، وطبَّقَت بنودَ شرعة حقوق الإنسان في جميع الدوَل دونما مُراعاةٍ أو تحيُّزٍ أو تلكُّؤ، سواءٌ كان ذلك في لبنان أو قبرص أو صِربيا أَو إفريقيا أو غيرها حيثُ كانت الحروبُ الأَهليَّة الطائفيَّة وما تزال تنفجرُ مُسعَّرةً بنيران رجال الدين، ومُغلَّفةً بغطاءٍ حقوقيّ سياسيّ واقتصاديّ.

وما تقدَّمَ يُؤَكِّدُ حقيقةً حضاريَّة هي أنَّ الدولةَ التي تبني مُؤسَّساتِها على النظامِ الطائفيّ يستحيلُ أن تُقيمَ العدالةَ والحُرِّيـَّةَ والسلامَ على أراضيها، كما يستحيلُ أن تكونَ عُضواً مقبولاً في نظامٍ عالَميٍّ جديد يتَّجهُ إلى العَولَمة، فكيف بالأحرى إذا اتَّجهَ إلى "عالَمٍ واحد" عادِلٍ فاضِلٍ مُتآلِفٍ مُتناغِمٍ وَفقَ المفهوم الداهشيّ.

(في العدد المُقبل: الطريقُ إلى العالَمِ الواحد (4)

مسؤوليَّةُ الحكومات تجاهَ بعضِها بعضًا وتجاهَ شعوبها)


[1]- أنظر الدكتور داهش: "مُذكِّرات دينار" (نيويورك: الدار الداهشيَّة، 1986)، ص 108.

[2]- المصدرُ السابق، ص 128.

Pierre Teilhard. de Chardin. Construire la terre (Paris: Ed. De Seuil, 1958), pp. 14-16, & 20-28.-[3]

Mahatma Gandhi. All Men Are Brothers. Compiled and Edited -[4]

by K. Kripalani (New York: The Continuum Publishing Co., 2000), p. 107 (Ethical Religion, 1930).

[5]- جبران خليل جبران: "دمعة وابتسامة"، المجموعة الكاملة لمُؤَلَّفات جبران خليل جبران، قدَّمَ لها وأَشرفَ على تنسيقها ميخائيل نعيمه، (بيروت: مكتبة صادر، 1955)، قطعة "يا لائمي"، ص 160-161، ثمَ قطعة "صوت الشاعر"، ص 228-229.

. G. MaGann. “How Think Tanks Are Coping with the Future” in The Futurist, Nov.-Dec. 2000, p.17   أنظر. [6]

Rosario Isasi. “The Human Rights Perspective”, in World-Watch, July/August 2002, p. 32. [7]

[8]. وودَت هذه الحقيقة المُستقبليَّة في أَجوبة الروحِ الإلهيّ التي ارتسمَت بلحظة تحت الأسئلة الاثنَين والسبعين التي خطَّها الوزير اللبنانيُّ السابق المُحامي إدوار نون على ثماني صفحات كبيرة تاركًا فسحةً بين سؤالٍ وآخَر، وذلك بعد أن وضعَ الدكتور داهش، في جلسةٍ روحيَّة، يدَه فوق الظرف الحاوي لأوراق الأسئلة قائلاً: "وصلَتكَ الأجوبة".

Alexander Bard and Jan Soderqvist. Netocracy: The New Power Elite and Life After Capitalism. New York: Pearson Education,. أنظر: [9] 2002.

[10]. أولريش بِك: "ما هي العَولمة؟" ترجمة د. أَبو العيد دودو (كولونيا-أَلمانيا: منشورات الجمَل، 1999) ص 87-90.

Mike Dillard & Janet Hennard. “The Approaching Age of Virtual Nations” in The Futurist, July-August 2002, pp. 24-25 .. [11]

Philip Bobbitt. “Get Ready for the Next Long War”, in Time, Sep. 9, 2002, pp. 84-85. . [12]

G. Pico and Others. Crossing the Divide: Dialogue Among Civilizations (New Jersey: School of Diplomacy and International Relations, . [13] Seton Hall Univ.), p 107.

[14]. أنظر أُولريش بِك: :ما هي العَولمة؟"،ص 48-53 و77-78 و98-115.

Alvin and Heidi Toffler. Creating a New Civilization (Atlanta: Turning Pub, Inc., 1995), pp. 19-48. . [15]

[16]. Ibid., p. 55.

[17]. Ibid., p.63.

[18]. Ibid., p. 64.

[19]. الدكتور داهش: "مُذكِّرات دينار"، ص 375-376.

[20]. كوفي عنان: "التقريرُ العامّ لسنة 2000، النسخة الإنكليزيَّة، ص 12-14 و77-80.

[21]. The Futurist, Nov./Dec. 2002, p. 52-53.

[22]. أنظر: G. Pico and Others. Crossing the Divide, pp. 97-155.

[23]. إنَّ القيادةَ القُدوة تنبَّهَ لأَهمِّـيَّتها وضرورتها عدَّةُ مُفكِّرين أمريكيِّـين، منهم آندرو باسيفيتش ، أُستاذ العلاقات الدوليَّة في جامعة بوسطن. فهو يرى أَنَّ دورَ أَمريكا في العالَم يجبُ أن يكونَ دورَ "أُورشليم جديدة"، مطمحُها خلاصُ الشعوب بتحريرهم بدلَ استعبادهم، وبهدايتهم إلى طريق الكمال الإنسانيّ. وهذا لا يكون إلاَّ بمُعاملتها الدوَلَ جميعًا مُعاملةَ النِّـدِّ للنِّـدّ، ومُساعدتِها في الوصول إلى درجة التساوي الإنسانيّ في العدالة والحرِّيـَّة والعيش الكريم.

(Andrew Bacevich, “New Rome, New Jerusalem” in Wilson Quarterly, Summer 2002, pp. 50-58.)

                        هذا الدورُ الذي يُمثِّلُ الهدايةَ المُحرِّرة على الصعيد السياسيّ رافقَ تطوُّرَ الدولة الأمريكيَّة منذ بداية القرن العشرين. فالرؤيا الأمريكيَّة للعالَم كانت رؤيا مجتمعٍ بشريٍّ واحد لا يتأَلَّفُ من إمبراطوريَّات استعماريَّة، بل من دوَلٍ او ولايات حرَّة مُستقلَّة على غرار الولايات المُتَّحدة إذا أمكن.

(Michael Lind, “Toward a Global Society of States” in Wilson Quarterly, Summer 2002, pp. 59-69.)

[24]. Mahatma Gandhi. All Men Are Brothers, p. 107.

[25]. ماري حدَّاد "صواعق داهشيَّة" مخطوطوطة قيد النشر. هذه الرسالة منشورة أيضًا في "صوت داهش"، عدد شتاء 2000 ، ص 42-46.

[26]. أنظر الدكتور داهش: "أفراح وأتراح" (بيروت: دار النسر المُحلِّق، 1980)، ص 86-87.

 

 

  Back to التعاليم الداهشيَّة بقلم الدكتور غازي براكس 

 

Developed by Houssam Ballout        Copyright 2019 This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.nfo All Right Reseved This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.