أنا أؤمن بأنه توجـد عدالة سماويّة, وأن جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدنيا من مُنغصات انَّ هـو الاّ جـزاءٌ وفاق لِما أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور.ولهـذا يجب علينا أن نستقبلَ كلّ مـا يحـلّ بنـا من آلامِ الحياةِ ومآسيها غير مُتبرّمين ولا متذمّرين , بل قانعين بعدالةِ السماء ونُظمها السامية.

Highlighter
أحبُّ الكُتُبَ حبَّ السُكارى للخمر , لكنَّني كلَّما أزددتُ منها شرباً, زادتني صَحوا
ليس مّنْ يكتُبُ للهو كمَن يكتُبُ للحقيقة
الجمالُ والعفّــة فـردوسٌ سماويّ .
لا معنى لحياةِ ألأنسان اذا لم يقم بعملٍ انسانيٍّ جليل .
اعمل الخير , وأعضد المساكين , تحصل على السعادة .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقـوم بأعمالِ الخير نحـو ألأنسانيّة .
الموتُ يقظةٌ جميلة ينشُدها كل مَنْ صَفَتْ نفسه وطَهرت روحه , ويخافها كلّ من ثقُلت أفكاره وزادت أوزاره .
ان أجسامنا الماديّة ستمتدّ اليها يـد ألأقـدار فتحطِّمها , ثمّ تعمل فيها أنامل الدهـر فتتَّغير معالمها , وتجعلها مهزلةً مرذولة . أمّا ألأعمال الصالحة وألأتجاهات النبيلة السّامية , فهي هي التي يتنسَّم ملائكة اللّه عبيرها الخالد .
نأتي إلى هذا العالمِ باكين مُعولين، و نغادره باكين مُعولين! فواهً لك يا عالمَ البكاء والعويل!
جميعنا مُغترٌّ مخدوعٌ ببعضه البعض.
العدلُ كلمة خُرافية مُضحكة.
أمجادُ هذا العالم وهمٌ باطل، و لونٌ حائل، و ظلٌّ زائل.
لا باركَ الله في تلك الساعة التي فتحتُ فيها عينيّ فإذا بي في مكانٍ يطلقون عليه اسم العالم .
أنا غريبٌ في هذا العالم، و كم احنُّ إلى تلك الساعة التي اعود فيها إلى وطني الحقيقيّ.
الحياةُ سفينةٌ عظيمة رائعة تمخرُ في بحرٍ، ماؤه الآثام البشريَّة الطافحة، و امواجه شهواتهم البهيميَّة الطامحة، و شطآنه نهايتهم المؤلمة الصادعة.
كلّنا ذلك الذئبُ المُفترس , يردع غيره عن اتيانِ الموبقاتِ وهو زعيمها وحامل لوائها , المُقوّض لصروح الفضيلة , ورافع أساس بناءِ الرذيلة .
الحياةُ سلسلة اضطراباتٍ وأهوال , والمرءُ يتقلَّب في أعماقها , حتى يأتيه داعي الموت, فيذهب الى المجهولِ الرهيب , وهو يجهلُ موته , كما كان يجهلُ حياته .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقومَ بأعمالِ الخير نحو الانسانيّة .
المالُ ميزان الشرِّ في هذا العالم .
السعادةُ ليست في المال , ولكن في هدوءِ البال .
كلُّ شيءٍ عظيمٍ في النفسِ العظيمة , أمّا في النفسِ الحقيرة فكلُّ شيءٍ حقير .
الرُّوح نسمةٌ يُرسلها الخالق لخلائقه لأجل , ثم تعودُ اليه بعجل .
الرُّوح نفثةٌ الهيَّة تحتلُّ الخلائق , وكل منها للعودة الى خالقها تائق .
الرُّوح سرٌّ الهيٌّ موصَدْ لا يعرفه الاّ خالق الأرواح بارادته , فمنه أتتْ واليه تعود .
أنا أؤمن بأنه توجـد عدالةٌ سماويّة , وأنَّ جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدُّنيا من مُنغِّصاتٍ وأكدارٍ انَّ هـو الاَّ جـزاء وفاق لمِا أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور . ولهـذا يجب علينا أن نستقبل كلَّ مـا يحـلُّ بنـا من آلام الحياة ومآسيها غير م
الحرّيةُ منحة من السماءِ لأبناءِ ألأرض .
الموتُ ملاكُ رحمةٍ سماويّ يعطف على البشر المُتألّمين , وبلمسةٍ سحريّة من أنامله اللطيفة يُنيلهم الهناء العلويّ .
ما أنقى من يتغلّب على ميولِ جسده الوضيع الفاني , ويتبع ما تُريده الرُّوح النقيّة .
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
الراحة التامّة مفقودة في هذا العالم , وكيفما بحثت عنها فأنت عائدٌ منها بصفقةِ الخاسر المَغبون .
ليس أللّــه مع الظالم بل مع الحقّ.
ان الصديق الحقيقي لا وجود له في هذا العالم الكاذب.
ما أكثر القائلين بالعطف على البائسين وغوث الملهوفين والحنو على القانطين , وما أقلَّ تنفيذهم القول.
يظنُّ بعض ألأنذال ألأدنياء أنّهم يُبيّضون صحائفهم بتسويدِ صحائف الأبرياء , غير عالمين بأنَّ الدوائر ستدور عليهم وتُشهّرهم.
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السَّلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
رهبة المجهول شقاء للبشرِ الجاهلين للأسرارِ الروحيَّة , وسعادة للذين تكشّفت لهم الحقائق السماويَّة .
الموتُ نهاية كل حيّ , ولكنه فترة انتقال : امّا الى نعيم , وامّا الى جحيم .
الحياةُ خير معلِّمٍ ومُؤدِّب , وخيرَ واقٍ للمرءِ من الأنزلاقِ الى مهاوي الحضيض .
حين تشكُّ بأقربِ المُقرَّبين اليك تبدأ في فهمِ حقائق هذا الكون .
مَنْ يكون ذلك القدّيس الذي لم تخطرُ المرأة في باله ؟ لو وجدَ هذا لشبَّهته بالآلهة .
المرأة هي إله هذه الأرض الواسع السُّلطان. و هي تحملُ بيدها سيفاً قاطعاً لو حاولَ رجالُ الأرض قاطبةً انتزاعه منها لباؤوا بالفشلِ و الخذلان .

الطريقُ إلى "العالَـمِ الواحد"

في ضَوءِ التعاليمِ الداهشيَّة (2)

بقلم الدكتور غازي براكْس

طريقُ السلامِ الوعثاء

            دوَّنَ مُؤَسِّسُ الداهشيَّة كتابَه المُلهَم "مُذكِّرات دينار" في 24 ساعة مُوزَّعة على اثنَي عشرَ يومًا (من 3 إلى 14/1/1946). وقبل افتتاحِ الجلسةِ الأُولى لجمعيَّةِ الأُمَمِ المُتَّحدة بلندن في العاشر من الشهرِ نفسه كان رجلُ الروح قد أَعلنَ رأيَه في حَلِّ المُعضِلاتِ العالَميَّة المُستعصية على الجميع قائلاً بلسان جُنديٍّ بريطانيٍّ أُصيبَ بجُرحٍ مُميت في أَحداثِ الحربِ العالَـميَّة الأُولى: "إنَّ على ساسَةِ العالَم، في أَربعةِ أَقطار المعمور، أَن يبنوا (عالَـمًا واحدًا) إذا رغبوا في أَن يسود السلامُ العامُّ أَرجاءَ هذه الكُرةِ اللعينة."[i]

            لقد وردَت عبارةُ "عليكم أَنتم أَن تضَعوا أُسُسَ عالَمٍ جديد"[ii] في خطاب الملك جورج السادس الترحيبيَّة، قبل افتتاح المُؤتمَر العالَميّ عام 1946، كما وردَت عباراتٌ تُفيدُ المُساواةَ بين الشعوب، والسلامَ العالَميّ الدائم، والمصلحةَ العامَّة في عدَّة خُطَب؛ كذلك ذكرَت "شرعةُ حقوق الإنسان": "أَنَّ الناسَ يولَدون ويظلُّون أَحرارًا مُتساوين في الحقوق"، وأُقِرَّت مبادئُ كثيرةٌ تستهدفُ صيانةَ كرامة الإنسان والحِفاظَ على حُرِّيـَّتِه وسلامتِه، بمُعظمِها مُستوحاةٌ من الدستور الأمريكيّ وتعديلاتِه. لكنَّ الذي لم يَرِدْ هو فكرةُ "العالَـمِ الواحد" التي أَعلنَها رجلُ الوَحيِ والمُعجزات شرطًا لسيادة سلامٍ عالَميٍّ دائم.

لقد قامت "عُصبةُ الأُمَمِ المُتَّحدة" عامَ 1920، بعد الحربِ العالَميَّة الأُولى، وتبنَّت سُنَّةً للسلام العالَميّ، لكنَّها لم تمنعْ نشوبَ حربٍ عالَميَّة ثانية كانت أَفتكَ وأَضرى جدًّا من الأُولى. ثمَّ قامت "مُنظَّمةُ الأُمَمِ المُتَّحدة" بُعَيدَ الحربِ العالَميَّة الثانية، لكنَّ ميثاقَها، و"شرعةَ حقوق الإنسان" التي أَقرَّتها، وعشراتِ الاجتماعات التي عقدَها رُؤَساءُ الدوَل ومُمثِّلوها ، ومئاتِ الخُطَبِ التي أَلقاها دُهاةُ الساسة— جميعهالم تمنع نشوبَ عشراتِ الحروب التي سقطَ فيها عشراتُ الملايين من الضحايا، والتي كذَّبَت دوافعُها تأكيدَ الملك جورج السادس الوارد في خطابِه الافتتاحيّ الآنفِ الذكر، والقائل: "ومن الجَليِّ أَنَّ المظهرَ البارزَ لِعُضويَّةِ الأُمَمِ المُتَّحدة هو الخدمة—لا أَنانيَّةُ الدفاعِ عن المصالحِ القوميَّة— بل خدمةُ جماعةِ الأُمَمِ بأَسرِها. وهذا هو الغرضُ الأَوَّل الذي يجبُ أَن يبثَّ روحَه في جميع أَعمالِها؛ ويُمكنُ عندئذٍ مُجابهةُ كلِّ صعوبةٍ بروح التعاوُن وحُسنِ النيَّة."[iii] وما إخفاقُ المُنظَّمة العالَميَّة في نَشرِ السلامِ والوئام الدائمَين إلاَّ بسبب أنَّ نيَّاتِ قادةِ الدوَل غيرُ سليمة، وأقوالَهم لا تقترنُ بأَفعالِهم، وشعاراتِهم تبقى حبرًا على ورق. يقولُ الدكتور داهش مُتـنَـبِّـئًا، قبل أكثر من نصف قرن، بإخفاقِ المُنظَّمة العالَميَّة في مساعيها للسلام الدائم:

            إنَّني أَرى ما لا ترَونه، يا معشرَ الساسة،

            وأَعرفُ ما لا تعرفون، يا أَربابَ الدهاءِ والسياسة،

            فالغَيبُ قد تكشَّفَت لي بدائعُ أَسرارِه،

            والإلهامُ تدفَّقَت عليَّ روائعُ أَنوارِه (...)

            لقد رأَيتُ نيرَ القويِّ يُطوِّقُ أَعناقَكم،

            وسيفَ الجبَّارِ يكمُّ أَفواهَكم،

            وقنابلَه الفتَّاكةَ تُردِّمُ ديارَكم وتحصدُ أَرواحَكم (...)

            فالنيَّاتُ، يا ساسة، لن تصحَّ ما دام هناك

            مناجمُ تحتوي أَجوافُها على معادنِ

            الأَلماسِ والفضَّةِ والذهبِ والبلاتين؛

            ولن تصفوَ ما دام هنالكَ

            آبارُ النفطِ والزَّيتِ والبترول (...)

            -قايين، قايين! أَين هو أَخوكَ هابيل، يا قايين؟

            -لا أَعلمُ أَين هو، فهل أَنا حارسٌ عليه وأَمين! (...)

            يا مَن بأَيديكمُ القوَّاتُ المادِّيـَّة،

            ويا مَن تُسيطرون على الطاقةِ الذرِّيـَّة،

            ويا مَن تدَّعون بحُبِّكم للبشريَّة،

            إذا كان السلامُ بُغيتَكم، والحقُّ دَيدَنكم، والعدالةُ أُمنيَّتَكم،

            فهاتوا البرهانَ على صدقِ نيَّتِكم...

            أَعيدوا لكلِّ ذي حقٍّ حقَّه، وحَرِّروا المُستعبَدَ من رقِّه،

            والمغبونَ من غُبنِه، ومَكِّنوا ربَّ البيتِ من بيتِه؛

            فربُّ البيتِ أَدرى بالذي فيه، بظواهرِه وخوافيه.

            ولكنَّكم قلَبتم الآية، وعكستم الحقائق، وأَضعتم الغاية،

            فأصبحَ رَبُّ البيتِ يئنُّ تحت نيرِ الغُرم،

            وأَنتم، أَيُّها الأَقوياء، تتمتَّعون بالغُنم (...)

            وما دمتم مُجتمعين لتقريرِ صَرحِ سلامٍ عالَميّ

            تسودُه العدالةُ الشاملة، فلماذا— يا ليتَ شِعري—

            شحَذتم خناجرَكم،

            وحملَ كلٌّ منكم غُصنَ زيتونٍ في يُمناه،

            وشهرَ خنجرَه المُرهَفَ الحَدِّ بيُسراه مُتحيِّـنًا الفرصة

            كي يُغمدَه في ظهرِ زميلِه الجالسِ بقربِه وينتهي من أَمرِه؟[iv]

من العَـولَـمة إلى "العالَـمِ الواحد"

            مع إطلالةِ الأَلفِ الثالث بعد ولادةِ سيِّدِ السلام والخلاص، تلتفتُ الشعوبُ بعضُها إلى بعض وعيونُها جثمَت فيها أَشباحُ القلَقِ والحذَر والمخاوف. فالحربُ والإرهابُ يُهدِّدان الشرقَ والغربَ بأقبحِ الفواجع، والعوَزُ والجهلُ يفتكان بمئاتِ الملايين، والتسلُّطُ واستعبادُ الضعفاء يبطشان بكثيرٍ من الشعوب، والأوبئةُ وأَخطارُ البيئة يرزحُ العالَمُ كلُّه تحتَ أثقالِها. ومع ذلك كلِّه فمُؤتمراتُ العَولمة تقومُ على قدَمٍ وساق، تنتقلُ مجالسُها من بلدٍ إلى آخَر، ومعها تنتقلُ التظاهُراتُ المُعارِضة والاحتجاجاتُ العنيفة، بَدءًا من سِياتِل في ولاية واشنطن (حيثُ عُقِدَ أَوَّلُ مُؤتمَر للعولمة في الشهر الأخير من عام 1999).

            وحقيقةُ الأَمرِ أنَّ للعَـولَـمة، في طرحِها الحاليّ، جوانبَ إيجابيَّة، وأُخرى سلبيَّة. أمَّا أَبرزُ إيجابيَّاتِها فهو أنَّ فوائدَها تَـتفاوتُ بتفاوُت القِوى في الدُّوَل، ولا سيَّما الاقتصاديَّة والتكنولوجيَّة والثقافيَّةمنها، فيكونُ للتقدُّم الحضاريِّ مكاسِبُ من العَولَـمة لا رَيبَ فيها. وأَمَّا أَبرزُ سلبـيَّاتِها فهي، أَوَّلاً، أَنَّ الدوَلَ التي تقودُ مَسيرةَ العَولَـمة ما برحَ بعضُها يَكيلُ بمكيالَين في مُعالجتِه للمُعضلاتِ والنـزاعاتِ العالقة بين الشعوب؛ ثانيًا، التصرُّفُ الأَحادِيُّ الجانب من قِبَلِ بعض الدوَلِ الكُبرى؛ ثالثًا، القلقُ الشديدُ الذي يُخالجُ الشعوبَ المُتخلِّّفة على إمكانِ انحلالِ حضاراتها وثقافاتها القوميَّة وتلاشي حُكمِها واستقلاِلـها في اندماجها بِمَـدِّ العَولَـمة الجارف— وهذا ما يُثيرُ فيها مخاوفَ مشروعة؛ رابعًا، فقدانُ الثِّقة بين البلدانِ المُتخلِّفة والبلدانِ المُتقدِّمة نتيجةً لمُعاناةِ الأُولى أَحداثًا تاريخيَّةً مُؤلِمةً طويلة.[v] فهل من سبيلٍ للتغلُّبِ على هذه المخاوف، يا تُرى؟

الجوابُ هو أنَّ مَسارَ العَولَمة مرهونٌ بالقيَم التي تُوجِّهُها. فالقِـيَمُ التي تكتَـنِفُ العَولَمة والحوافزُ التي تدفعُ إليها ما تزالُ تبدو قِيَمَ بَرأَبـَّا[vi] ودوافِعَه، لا قِيَمَ المسيح. فالجشَعُ والتسلُّطُ وقوَّةُ البَطش فضلاً عن جواذبِ التَّرَفِ والمُتَعِ الدُّنيَويَّة هي التي تَحفِزُ العَولَمة أَو تُصاحِبُها، لا قِيَمُ المحبَّةِ الإنسانيَّةِ والشَّفقة على الضعيف والفقير وتعزيز الطاقةِ الروحانـيَّة. حتَّى التيَّاراتُ الدينـيَّة المُجارِية لِلعَولَمة بَدا فيها اللهُ ربَّ حربٍ وقِتال، لا ربَّ محبَّةٍ ورحمة وسلام.

          إنَّ الاعتباراتِ التجاريَّة النفعيَّةَ الصِّرف تُهدِّمُ مُعظمَ القِيَمِ الحضاريَّة التي نادى بها الأَنبياءُ والهُداةُ الروحيُّون وكِبارُ الفلاسفة والمُفكِّرين والمُصلحين. والفلسفةُ النفعيَّة خطأُها الجسيمُ هو في خَلطِها الغايةَ بالوسيلة. وجَعْلُ الوقتِ مُساويًا للمال بقَدرِ ما يُتيحُه من كَسبٍ جديد دونما اعتبارٍ لسلام النفس وإغناءِ ذاتِ الإنسان إنَّما يزيدُ في قلقِ الناس واضطرابِهم وإفقارِهم الروحيّ.[vii]

            من هذا المُنطلَق يُمكنُ تمهيدُ الطريق إلى "العالَـمِ الواحد"، وَفقَ المفهومِ الداهشيّ، بتَغليبِ المبادئِ التالية:

أَ- وحدةُ الـتُّراثِ الثقافيِّ العالَميّ

            إذا كان تفوُّقُ الحضارة الغربيَّة الحديثة، بمُعظمِ مجالاتِها، نتيجةَ النهضةِ الأُوروبيَّةِ التي ولَّدَت التحرُّرَ الفكريَّ الدينيَّ والسياسيَّ، ثمَّ الثورةَ التكنولوجيَّة والمعلوماتيَّة الحاليَّة، فإنَّ نهرَ النهضةِ الأُوروبيَّة نفسَه كان نتيجةَ عدَّةِ روافد ثقافيَّة. فأَوَّلُ قانونٍ مَدَنيٍّ معروفٍ في العالَم كان قانون حمورابي في ما بين النهرَين؛ وأُولى الأَبجديَّات المعروفة التي منها تفرَّعت الألفبائيَّاتُ الأُوروبيَّة كانت الأَبجديَّة الفينيقيَّة-الكنعانيَّة؛ وأَوَّلُ مكتبةٍ عالَميَّة حُشِدَت فيها زُبدةُ الثقافة البشريَّة كانت مكتبةَ الإسكندريَّة، وقد أُقيمَت على أرضٍ مشرقيَّة لتكونَ رمزًا لوحدةِ التراثِ الحضاريِّ العالَميّ منذ ثلاثة قرونٍ قبل المسيح— وها هي اليوم، بعد احتراقها مرارًا في النـزاعات المُسلَّحة في سياق الأجيال المُتعاقبة، تُحاولُ أن تستعيدَ المَشعلَ القديم بعد 16 قرنًا؛[viii]وقبلَ أَن تعرفَ أُوروبَّا تكنولوجيا الطباعة، عرَفتها الصين؛ فكان أَوَّلُ ما طُبِعَ فيها، عام 868 م (قبل حوالى ستَّة قرونٍ من طبع الكتاب المقدَّس على يَدِ غوتنبرغ)، دراسةً هنديَّةً عريقة عن البوذيَّة بعنوان "ماسَةُ سوتْرا" Prajnaparamitasutra، وقد نقلَها من السَّنسكريتيَّة إلى الصينيَّة عالِمٌ تُركيٌّ-هنديّ كان يعيش في شرقيِّ تركستان، يُدعىكوماراجيفا Kumarajiva ، وذلك في القرن الخامس بعد الميلاد. ففي مِثلِ هذا العمَل الفَذّ تتجلَّى خصائصُ العَولمة، وَفقَ رأيِ الباحث المُعاصِر أمارْتيا سِن Amartya Sen، إذ اشتركَ في إنتاجِه الهنودُ والأتراكُ والصينيُّون.[ix] وأَوَّلُ ما طُبِعَ في إنكلترا كتابٌ بعنوان Dictes and Sayings of the philosophers . وهذا الكتاب، الذي طُبِعَ عام 1477، هو ترجمةٌ إنكليزيَّة لمخطوطةٍ عربيَّة بعنوان " كتابُ مُختارِ الحِكَم ومحاسنِ الكَلِم"، وقد دوَّنَه مُباشِر بن فاتك في أَواسط القرن الحادي عشَر أَو أَوائل الثاني عشَر؛ فيما صدرَت أَوَّلُ طبعةٍ مُحقَّقة للنصِّ العربيّ الأَصيل عام 1958.[x] أَمَّا الصرحُ العِلميُّ الذي أَقامته أُوروبَّا في عِلمِ الفلَك والرياضيَّات العالية والطبّ، ففي أِساسِه مداميكُ وضعَها عشراتٌ من عُلماءِ العرَب والمُسلمين الأفذاذ من أَمثال ابنِ سينا والرازي وابن الهيثَم والبَيرونيّ والخُوارزميّ إلخ.[xi]

            فالاستعلاءُ الثقافيُّ الغربيُّ لا يستندُ إلى واقعٍ تاريخيّ، فالتُّراثُ الحضاريّ العالَميّ ذو وحدةٍ لا تتجزَّأ. بل حتَّى لو كان هذا الاستعلاءُ ذا أُصولٍ تاريخيَّة، فهو ليس مُبرَّرًا على الصعيدِ الخُلُقيّ والروحيّ. إنَّ خطيئةَ إبليس الكُبرى كانت الاستكبار؛ والاستكبارُ هبطَ به من عِلِّـيِّـين إلى أَسفل سافِلين. ذلك فضلاً عن أَنَّ كلَّ حضارةٍ راقية لا تقومُ إلاَّ باقتران النشاطِ العقليِّ فيها بمُمارسةِ القِيَمِ الروحيَّة والإنسانيَّة. فإذا جُرِّدَت أَيَّةُ حضارةٍ من هذا النسغ الروحيّ الذي يجبُ ان يتغلغلَ في كلِّ إبداعٍ فكريٍّ كبير كما في سلوكِ الراقين وتعامُلهم، أصبحَت الحضارةُ أَشبهَ بدُميةٍ جميلةٍ مُتحرِّكة قد يكون فيها حصيلةُ ما ولَّدَته التكنولوجيا المُتطوِّرة، لكنَّها خالية من النشاط الحيِّ الحقيقيّ الذي يبلغُ ذروتَه في الضميرِ الحَيّ. وإنَّما العقائدُ الدينيَّة هي الينابيعُ الكُبرى للقِيَمِ الروحيَّة؛ وما من دينٍ أَصيل إلاَّ انبجسَ ينبوعُه في الشرق، حتَّى أَصبحَ الشرقُ معروفًا بمهبطِ الوَحيِ ومسقطِ الهداياتِ الروحيَّة، وأَصبحَ الغربُ معروفًا بمهبطِ العقلِ ومسقطِ الاتِّجاهاتِ المادِّيـَّة.

            فاستنادًا إلى ما تقدَّم تُصبحُ الحضارةُ الحديثة، بأَفضلِ ما فيها، مُحصَّلةً لتُراثٍ ثقافيٍّ أَبدَعَته السيَّالاتُ الروحيَّة المُتفوِّقة بإدراكِها العالي ومواهبِها العظيمة ونزعاتِها الخَيِّرة في الشرقِ والغربِ معًا؛ وبذلك ينتفي حَقُّ المُفاخرة لأَيٍّ من الشعوب. بل إنَّ الداهشيَّة تكشفُ عن حقيقةٍ روحيَّةٍ أَبعدَ من ذلك، فتُؤَكِّدُ، استنادًا إلى التعاليمِ الموحاة إلى مُؤَسِّسِها، أنَّ مُعظمَ السيَّالات الروحيَّة التي تُطوِّرُ الحضارةَ في كلِّّ دَورٍ من أَدوارِ التاريخ هي نفسها، تنـزحُ من قُطرٍ إلى آخَر، وتنتقلُ من شعبٍ إلى شعب وَفقًا لحكمةٍ إلهيَّة مَبنيَّة على العدالة والاستحقاق الروحيَّـين.

ب- الارتقاءُ الـمُتكامِل

            إذا كانت الحضارةُ الغربيَّةُ الحديثة، ولا سيَّما بوجهِها الأَمريكيّ، تتفوَّقُ على مُعظمِ حضارات الشعوبِ الأُخرى، فإنَّما تفوُّقُها محصورٌ بمُولَّدات النشاطِ العقليّ؛ أَمَّا النشاطُ النـزوعيُّ في معظمِ الغربيِّـين فما يزالُ مُتخلِّفًا، ومظاهرُ هذا التخلُّف تتجلَّى في تفكُّكِ الأُسرةِ وتضعضُع القِيَمِ العائليَّة، كما في الإباحيَّةِ الخُلقيَّة التي تتعدَّى السلوكَ الفرديَّ إلى الأعمالِ الأدبيَّةِ والفنِّـيَّة. ذلك فضلاً عن أنَّ العدالةَ التي تنصُّ عليها الدساتيرُ الغربيَّة لا نراها ماثلة في الفجوةِ الهائلة بين الأثرياءِ والفقراء؛ وهذا ما يجعلُ النـزعةَ الإنسانيَّة غيرَ مُعافاةٍ على صعيد الحُكمِ تشريعًا وتطبيقًا. فبعدما أَمضى مُؤَسِّّسُ الداهشيَّة حوالى 14 عامًا في رحلاتِه حولَ الكُرةِ الأرضيَّة، وخصوصًا العالَمَ الغربيَّ، وبعد أن خبرَ الناس، لا سيَّما الذين عرفَهم في عواصمِ أُوروبَّا وأمريكا، كتبَ قائلاً:

            كلٌّ منهم يُحاولُ أَن يجدَ حياةً نفسيَّةً هادئة ليستقرَّ فيها، بعدما أَضناه التعَب، وأَشقاه الإلحاد، ولكنْ دونما جدوى؛ لأَنَّ الحضارةَ المادِّيـَّةَ الكاذبة منَحَته مُتعةَ الجسَد، ودَعَته أَن يشبعَ من مطالبِ اللحمِ والدَّم، لكنَّها عجزَت عن إِشباعِ روحِه الظامئة لمعرفةِ الحقيقةِ الروحيَّة التي تطمئنُّ لها الروح. فالحياةُ لهؤلاء أَصبحَت جحيمًا مُتلظِّيًا بالنيران المُتأَجِّجة الخالدة.[xii]

          فبناءً على المفهومِ الداهشيِّ لمعنى الارتقاء، أي ذاك الذي يسمو بالإدراك والنـزعاتِ معًا معنَويًّّا وعمَليًّا، سلوكيًّا وإبداعيًّا، على الشعوب أَن تعملَ على تطويرِ مداركها في جميع مجالات المعرفة النظريَّة والتطبيقيَّة، ولكن أَيضًا على تقويمِ مناقبِها الاجتماعيَّة وأخلاقِها الفرديَّة ونظامِ الحُكمِ فيها، لأنَّ مِثلَ هذا الارتقاءَ المُتكامل يجعلُ الشعبَ، في سياق الزمن، مُستحقًّا أن يُمنَح سيَّالاتٍ روحيَّةً عالية تمدُّه بقوًى إدراكيَّة ونزوعيَّة مُتفوِّقة تُخَوِّلُه أَن يحتلَّ الصدارةَ في المجتمَعِ العالَميّ. فالصراعُ في هذا المُجتمَعِ الأَكبرِ الشامل لن يكونَ بين دولةٍ ودولة أو أُمَّةٍِ وأُمَّة بقدرِ ما سيكونُ بين نظامٍ ونظام، وكفاءةٍ وكفاءة، وإبداعٍ وإبداع، ومَسلكٍ ومَسلك، وخُلُقيَّة وخُلقيَّة، على الصعيد الفرديِّ والجَماعيّ. فوراءَ ارتفاعِ الأُمَمِ وهبوطِها أسبابٌ روحيَّة تُهيمنُ عليها العدالةُ الإلهيَّة. يقولُ مُؤَسِّسُ الداهشيَّة: "وهذه هي العدالةُ الإلهيَّة، إذْ يُجازى كلٌّ منَّا بحسَبِ عملِه، أَو بالأحرى نحن الذين نُجازي أَنفسَنا فنوصِلُ سيَّالاتِنا إلى درجةٍ عُلويَّةٍ أَو سُفليَّة؛ وما ربُّكَ بظالِمٍ خلائقَه، إنَّما لأنفسِهم يظلمون."[xiii] هذه العدالةُ الإلهيَّة تُؤَكِّـدُها الآيةُ الكريمة القائلة: ]إنَّ الله لا يظلمُ مثقالَ ذرَّة.[[xiv] والعدالةُ الكاملة تقضي بأَن يكونَ الأفضلُ هو الرأس، لأنَّ كلَّ كيانٍ حَيٍّ مُركَّب يقتضي طاقةً قياديَّة. لكنَّ الجسمَ المُجتمَعيَّ إذا قارَنَّاه بالجسمِ البشريّ، نرى كلَّ عُضوٍ فيه له أَهمِّيـَّـتُه شرطَ أن يكونَ سليمًا ومُتعاونًا مع الأعضاء كلِّها. فليس لليَد أن تقولَ للرِّجل : "أَنا أَشرفُ منكِ." فالعَولَمةُ السليمة هي التي يكونُ فيها جسمُ العالَمِ كلِّه أَشبهَ بجسمِ الإنسان: كيانٌ واحد تُؤَلِّّفُه أَعضاءُ مختلفة لكلٍّ منها وظيفةٌ ضروريَّة معيَّنة؛ فبصحَّة الأعضاء جميعِها وتعاوُنِها وتكامُلِها تكونُ صحَّةُ الجسم. وإن أَصابت الجراثيمُ أو علَّةٌ ما أيَّ عُضْوٍ، تأَثَّرَ الجسمُ كلُّه بضرِرها.

ج- الإيمانُ بوحدةِ الأَديانِ الجوهريَّة

          إذا تأَمَّلنا في أَسبابِ الحروب والنـزاعات وعمليَّات الإرهاب الحديثة لَرأَينا أنََّ كثيرًا منها، إن لم يكُن أَكثرها، يعودُ إلى صراعٍ عقائديٍّ دينيّ ذي أُصولٍ تاريخيَّة بعيدة؛ وقد يتقنَّعُ أَو يقترنُ الصراعُ أَحيانًا بوجوهٍ سياسيَّة أو اقتصاديَّة. فبَدءًا بالحروبِ الإسلاميَّة ضدَّ بيزنطيا وأُوروبَّا، ومرورًا بالحروبِ الصليبيَّة ضدَّ الشرقِ الإسلاميّ، وانتهاءً بحروب الهندوس والمُسلمين وعمليَّات الإرهاب ضدَّ الغرب، شريطٌ مأساويٌّ طويلٌ من المشاهد المُفجِعة للاقتـتال الدينيّ الذي يُسعِّرُه الإيمانُ بأنَّ ربَّ كلِّ فريقٍ هو الربُّ الحقيقيّ، وأنَّ الحقيقةَ الدينيَّةَ المُطلقة هي مُلكُ يَـدِ كلِّ فريق. مثلُ هذا الإيمانِ ولَّدَ أَجيالاً من الغُلاةِ العُميان في كلِّ دين، ودفعَ المُؤمنين، ولا سيَّما السُذَّجَ فيهم، إلى أن يُنصِّبوا عليهم زُعماءَ دينيِّـين قادةً مُستبدِّين يزجُّون بهم في جحيم المعارك التي لا تُنتِجُ إلاَّ الخُسرانَ والفواجع.

          إنَّ التعاليمَ الداهشيَّة تُقدِّمُ إلى البشريَّةِ التاعِسة حَلاًّ مُوحًى به لِمُعضلةِ اقتتالها الدينيّ، وبالتالي لتقارُبِ شعوبِها من أَجلِ الوصولِ إلى عَولَـمةٍ عادلة. ففي مبادئها أَنَّ الأَديانَ جميعَها، حتَّى التي ظهرَت في الهند والشرقِ الأَقصى، تجمعُها وحدةٌ روحيَّةٌ جوهريَّة تنبثقُ من الوحدةِ الروحيَّةِ لمُؤَسِّسيها أَنفسِهم، ومن وحدة الخالِقِ القديرِ الذي أَوجدَها، وتتجلَّى في رَدعِ البشرِ عن الرذائل (من قَتلٍ وظُلمٍ وسرقةٍ وزِنًى وشهادةٍ بالزور...)، كما في النـزعاتِ الإنسانيَّة المُشترَكة والفضائل التي تُعلِّمُها (وفي رأسها المحبَّة والرحمة والتواضُع والزُّهدُ بالدُّنيَويَّات...)؛ وهذه هي الغايةُ الأُولى من كلِّ دين: مُساعدةُ الإنسانِ على ارتقائه الروحيّ بالصلاحِ والاستقامة وعملِ الخَير لكي يتخطَّى درجةَ الأرضِ الروحيَّة ويُعاوِدَ ارتقاءَه في درجاتِ النعيم التي هبطَ منها. زِدْ إلى ذلك أَنَّ في مبادئِ الداهشيَّة أَنَّ الأَديانَ جميعَها ضروريَّةٌ لنفوس البشَر ضرورةَ الأدويةِ المخـتلفة لأمراضِهم الجسديَّة المخـتلفة، وذلك لتفاوُتِ درجاتِ سيَّالاتِهم المُتضمِّنة لقواهم الإدراكيَّة والنـزوعيَّة. فالله الكاملُ في معرفتِه إنَّما أَرسلَ الأَنبياءَ والهُداةَ الروحيِّـين مُؤَيَّدين بتعاليمَ تُفيدُ كلَّ قومٍ— سواءٌ كانوا شعوبًا أم أَفرادًا— تكونُ درجةُ سيَّالاتِهم مُوافقة لها، وإلاَّ لَـما حصلَت الإفادةُ للمُؤمنين. فالإكراهُ الدينيُّ يُفسِدُ الدينَ مع كُرور السنين، لأنَّه يجعلُ بين المُؤمنين الصادقين مُنافقين كثيرين. وصاحِبُ البصيرةِ النيِّرة من السَهلِ عليه أن يرى ما أَحدثَه النفاقُ من تصدُّعٍ وانحرافٍ ووُصوليَّة ومطامعَ في كلِّ دين.

          ومن مُقوِّماتِ وحدةِ التعاليمِ الدينيَّة الجوهريَّة الأَهدافُ الإنسانيَّة المُشترَكة ذاتُ المرمى العالَميّ. فليس من هِدايةٍ روحيَّة كبيرة إلاَّ كانت بدايتُها في قومٍ تُخاطبُهم حتَّى تبدوَ كأَنَّها مقصورة عليهم، ثمَّ ما تلبثُ أَن تُخاطبَ العالَـمَ كلَّه لاحتضانِه. فبعد أَن أَكَّدَ موسى النبيُّ أَصلَ الإنسان الواحد في سِفْرِ التكوين، وانحصرَ اهتمامُ مَن أَتى بعدَه مِن الهُداة والقادة بإنقاذِ الشعبِ العِبرانيّ وإقامةِ دولةٍ مُستقرَّة له، نسمعُ داوود النبيَّ—وهو القائدُ الهادي الأبرز بعد موسى— يُكثِرُ من مُخاطبةِ الله كإلهٍ ومُنقِذٍ لشعوبِ الأرضِ طُـرًّا. مِمَّا يقولُه في مزاميره التي استقطرَ فيها آلامَ نفسه وآمالَها:

          "أَنتَ [يا الله] تُخلِّصُ البشرَ والبهائم" (35/36).

          "سُكَّانُ أَقاصي الأَرضِ يتَّكلون عليكَ،

          وسُكَّانُ البحار البعيدة" (64/65).

          "تحنَّنْ، يا الله، وبارِكنا، وأَنِرْ وجهَكَ علينا،

          فيعرفَ أَهلُ الأرضِ طريقَكَ وكلُُّ الأُمَمِ خلاصَك.

          يحمدُكَ الشعوبُ، يا الله، يحمدُكَ الشعوبُ كلُّهم،

          ويفرحُ الأُمَمُ ويُرنِّمون،

          تهدي الشعوبَ بالاستقامة وتَهدي الأُمَمَ في الأرض" (66/67).

          هذه العالَـميَّة أَكثر ُبروزًا في البوذيَّة التي نشأَت في بينارس Benares (في الشمال الشرقيِّ من وسطِ الهند) في القرنِ الخامس قبل الميلاد، وما لبثَت أَن انتشرَت في أَكثر بِقاع الأرض. فالمحبَّةُ والأُخوَّةُ البشريّة من صُلبِ تعاليمِها، وفيها كما في الكنفوشيَّة تُعتبَرُ عاطفةُ الشفقة كما الإحساس بشعور الآخرين صفتَين مُمَـيِّزتَين للطبيعة الإنسانيَّة الصحيحة، بهما تتفرَّدُ أكثر من العقلانيَّة. وحسبُنا أن نتأَمَّلَ في تعاليمِ المهاتما غاندي وسيرةِ حياته حتَّى تتأَكَّدَ لنا عالَميَّةُ مراميه، ونُدركَ أنَّ الهندوسيَّة تلاقت في شخصِه مع الأديانِ جميعها بكلِّ ما فيها من محبَّةٍ وصلاح. والمسيحيَّة التي نشأَت في بقعةٍ ضيِّقة هي الناصرة وأورشليم وما يُحيطُ بهما امتدَّت وانداحت تعاليمُها مُنتشرةً في كلِّ أَرجاء الدنيا حاملةً معها "القاعدةَ الذهبيَّة" سُنَّةً يتَّبعُها الناسُ في تعامُلِهم بعضهم مع بعض، و"مَـثَلَ السامريِّ" حافِزًا للتآخي الإنسانيِّ وللعطفِ على البشرِ المحرومين والمتأَلِّمين جميعًا. أَمَّا الإسلامُ فبعد أَن نشأَ في مكَّة واحـتَضَـنَته المدينةُ المُنوَّرة، أَخذَ يتَّسِعُ مَـدُّه وترحبُ اندياحاتُه حتَّى تغلغلَ في أَقطار العالَمِ كلِّها، مُتَوِّجاً أَدعيةَ المُؤمنين "بسمِ الله الرحمنِ الرَّحيم"، ومُشرِعًا رايةَ "إله العالَمين." ولا أظنُّ أَنَ أيَّ كتابٍ مقدَّس تضمَّن عبارةَ "الرحمة" ومُشتقَّاتِها مثلما تضمَّنَ القرآنُ الكريم؛ وفي ذلك من الترسيخِ في النفسِ لأَهمِّـيَّةِ الرحمة مبلغٌ كبير. كما لا أَظنُّ أنَّ التصوُّفَ بلغَ من اتِّساع المجال وتسنُّمِ ذُرى الأدبِ في أيِّ دينٍ مثلما بلغَ في الإسلام. وفي التصوُّفٍ من الإخاءِ الإنسانيِّ الشامل والمحبَّة الغامرة ما لا يُبقي زيادةً لمُستزيد. وإنِّي على يقينٍ من أنَّ الرسولَ العربيَّ الكريم كان صدرُه يتَّسعُ للأَديانِ جميعها حتَّى إنَّه— وهو "المُسلِمُ" إرادتَه لله— لم يتأَخَّر عن الإيعازِ إلى أَتباعِه الأَوائل، حينما رأَى المخاطرَ تُحيقُ بهم من قومِه الظالِمين، في أَن يلجأُوا إلى ملِكٍ مسيحيٍّ مُجاوِر، هو نجاشيُّ الحبَشة، ليكونوا آمنِين في حِماه.

          إنَّ الأَديانَ والهداياتِ الروحيَّةَ جميعَها تُؤمنُ بأَنَّ البشرَ أُسرةٌ واحدة ذاتُ أَصلٍ واحد، وأنَّ عليهم أن يتعايشوا بسلامٍ وتعاوُنٍ وتآخٍ ويُمارسوا الخيرَ والفضيلة ويبتعدوا عن الشرّ والرذيلة. فالمُعضِلةُ، إذًا، ليست في قواعدِ الأديانِ والهداياتِ الروحيَّةِ الأَصليَّة، بل في مُمارِسيها ومُحرِّفيها والمُتاجرين بها لأَغراضٍ سياسيَّة أو دُنيَويَّة مُختلفة. فعلى المُتكلِّمين باسم الأَديان، إذا أَرادوا حقًّا سلامًا شاملاً وتعاوُنًا وعدالةً وتراحُمًا وبالتالي تقارُبًا في العالَم، أَن ينطلقوا من الأَهدافِ والمبادئِ الإنسانيَّة المُشترَكة بين العقائدِ الدينيَّة جميعها دونما التركيز على التفاصيل والطقوس والشروح اللاهوتيَّة، ودونما رفضِها. فليس من دينٍ يملكُ الحقيقةَ المُطلَقة، لأنَّ الحقيقةَ المُطلَقة هي لَدُن اللهِ وحده. ومَن يُصرَّ على امتلاكِه الحقيقةَ المُطلقة يعزلْ نفسَه عن سائر العالـَم ليذويَ ويتلاشى في صدَفتِه الضيِّقة. فمَن يُريدُ أَن يُلغيَ دينًا مُعيَّنًا مَـثَـلُه كمَـثَـلِ مَن يُريدُ إلغاءَ الله— عَـزَّ وجَـلَّ— وإلغاءَ الكونِ الذي هو من خَلقِه وإبطالَ نظامِ الحياةِ الذي هو من تدبيرِه. وفي ذلك من الغباء والغطرسةِ العمياء والضلال ما تنوءُ به رواسي الجبال.

د- الحِوارُ بين الثقافات

          إنطلاقًا من وحدةِ التُّراثِ الثقافيّ العالَميّ ووَحدةِ الأديان الجوهريَّة ومفهومِ الارتقاءِ المُتكامِل—الثالوثِ الذي أَوضحناه— يتوجَّبُ على الشعوب كافَّةً، إذا رغبَت في البلوغِ إلى "عالَـمٍ واحدٍ" عادِل يستفيدُ الجميعُ من قِيامِه، أَن تعتنقَ مبدأَ الحِوار المُنفتِح بين الثقافات؛ وهذا ما تنبَّهَت له منظَّمةُ الأُمَمِ المُتَّحدة، فجعلَت بدايةَ الأَلفِ الثالث (أَي عام 2001) سنةَ "الحِوار بين الحضارات."[xv]

          فبالحِوار المُنفتِح بين الثقافات المتنوِّعة تتلاقَحُ الأَفكارُ وتتولَّدُ فلسفاتٌ جديدة قد تكونُ خيرًا من الأُولى. وبالحِوار المُنفتِح تتلاقحُ العلومُ والآدابُ والفنون وتتولَّدُ إنجازاتٌ وإبداعاتٌ قد تُفيدُ البشريَّةَ كلَّها. والتاريخُ حافِلٌ بشواهدَ على مِثلِ هذا التفاعُل الخَـيِّر. فالثقافةُ العربيَّة ما كانت ليشتدَّ ساعدُها وتسمقَ دوحتُها وتُظلِّلَ أَغصانُها حتَّى أَرضَ أُوروبَّا لولا انفتاحُها وتلقُّحُها، في عصرها الذهبيِّ، بالفكرِ اليونانيِّ والفارسيِّ والهندوسيّ. وكذلك الحضارةُ الأُوروبيَّةُ في القرونِ الوُسطى ما كانت لتشهدَ نهضةً تبثُّ الحياةَ في جسدِها الذاوي لو لم تنفتحْ على الحضارتَين الكلاسيكيَّـتَين (الرومانيَّة واليونانيَّة) وكذلك على الحضارة العربيَّة، وتنهل من ينابيعها. والحضارةُ الصينيَّة استفادَت تنوُّعًا غنيًّا من روافدِ الثقافةِ البوذيَّةِ المُقبِلة عليها من الهند.

          وليكونَ حوارُ الحضارات إيجابيًّا بَنَّاءً، يجبُ أن يكونَ جميعُ الأطراف، كبارِهم وصغارِهم، على استعدادٍ للإصغاء والاقتناع إذا بدَرَت الحُجَّةُ العُليا حتَّى من الصغير الضعيف، أَي بغيرِ مُسلَّماتٍ تجمَّدَت فيها أَذهانُهم فأَصبحَت سُدودًا دون الآخَرين. فلا سُدودَ يجبُ أَن تُقامَ بين الثقافات إلاَّ السدَّ الذي يصدُّ تعزيزَ الشرِّ في الأرض ومَنعَ الخيرِ المادِّيِّ والروحيِّ عن العالَـمِ كلِّه. ولارتفاعِ الجميعِ إلى هذا المُستوى يجبُ أَن يكونَ التسامُحُ الثقافيُّ عامَّةً، والدينيُّ خاصَّةً، واحترامُ الهُويَّاتِ الثقافيَّة من عقائدَ وتقاليد مبدأً سيِّدًا لدى الجميع.

          أَمَّا تخوُّفُ بعضِ الشعوب من انحلالِ ثقافاتِها فناتِجٌ عن ضعفِ المُقاومةِ التي في سيَّالاتِ أَبنائها الروحيَّة، أي بعبارةٍ أُخرى عن وهَنِ جهازِ المناعةِ الثقافيَّةِ فيها. فالشعبُ الشرقيُّ الذي يتعلَّمُ أَبناؤُه في منازلهم كما في مدارسهم أَن يفرزوا الخيطَ الأبيضَ من الخيطِ الأسودِ في النسيج الثقافيِّّ الغربيّ، بوُسعِه أَلاَّ يقتبسَ من الغربِ إلاَّ الأفضلَ في كلِّ شيء: فكرًا وفنَّـا وعِلمًا وتكنولوجيا ونظامَ حُكم. والأمرُ نفسُه لكلِّ شعبٍ غربيٍّ راغِبٍ في اقتباسِ بعضِ ما يجذبُه في الشرق. فليس بين الناس قومٌ عرَفوا الكمال؛ فالكمالُ لا وجودَ له على أرضِ البشر.

          أَمَّا الذين يُؤثِرون الانعزالَ والتجمُّدَ في الماضي على الحِوار، فهؤلاءِ بَشِّرهم بذُبولٍ فمَوتٍ بطيء، لأَنَّ الحياةَ حركةٌ مُستمرَّة، وليس من سببٍ للتخوُّف من التطوُّر المُستمرِّ إلاَّ إذا كان حركةً إلى الوراء. كذلك ليس من سببٍ للحذَرِ من الانفتاحِ على الأفكار الجديدة إلاَّ بقدرِ ما تحملُه من جراثيمَ وأَوبئةٍ خُلُقيَّةٍ واجتماعيَّة.

هـ - التنوُّعُ الثقافيُّ في الوحدةِ الحضاريَّة العالَميَّة

          إنَّ التنوُّعَ الثقافيَّ يستحيلُ زوالُه من العالَـم إلاَّ متى أَصبحَت سيَّالاتُ البشر الروحيَّة جميعُها مُتقاربة جدًّا في مداركِها ونزعاتِها واستعداداتِها؛ وهذا أمرٌ سيبقى حُلمًا إلى أَمدٍ بعيد. فالتنوُّعُ الثقافيُّ أَرادَه مَن جعلَ الناسَ شعوبًا ليتنافَسوا في التسابُقِ إلى الخير لا إلى الشرّ. ففي التنوُّعِ غِنًى للبشريَّة الواحدة، وامتحانٌ لإدراك الناس، وتجربةٌ لنـزعاتِهم.

          والغِنى الكامِنُ في هذا التنوُّع أدركَه المُصنِّفون لكتاب "عُبور الحَدِّ الفاصل" الصادر عن الأُممِ المثتَّحدة. فقد وردَ فيه: "إنَّ دِرايتَنا بالغِنى والتنوُّع للمواردِ الروحيَّة المُتاحةِ للمجُتمَعِ العالَميّ تُمكِّـنُنا من أَن نرتفعَ فوق غطرستِنا القَيصريَّة التسلُّطيَّة ونبحثَ عن النصيحةِ والهداية والحكمة في ثقافاتٍ تُراثيَّةٍ أُخرى."[xvi]

          ومِثلُ هذا الأَساسِ الخُلُقيِّ الروحيِّ المُشترَك يستحيلُ الوصولُ إليه ما لم يتغلَّبْ زُعماءُ الشعوب على "الخطايا الاجتماعيَّة السبع للجنس البشريّ" مثلما حدَّدَها المهاتما غانْدي، أَبو السلام في القرنِ العشرين، وهي:

          "سياسة بلا مبادئ؛

          ثروة بغيرِ عمَل؛

          إستمتاعٌ بدون ضمير؛

          معارفُ بلا سلوكٍ قويم؛

          عملٌ بغيرِ أَخلاقٍ سليمة؛

          عِلمٌ مُجرَّدٌ من الإنسانيَّة؛

          دينٌ لا يقترنُ بالتضحية."[xvii]

و- إقتناعُ الدُّوَل بتهديد الأَخطار العالَميَّة للجميع

وبضرورةِ التعاوُن للتغلُّبِ عليها

          على المسؤولين في الدوَلِ جميعها أَن يُصغوا إلى أَصواتِ ضمائرهم، فلا يجعلوا غطرستَهم ومصالحَهم القوميَّة تُعميهم عن الأَخطار الشاملة التي تُحدِقُ بالقويِّ كما بالضعيف. فمِن الجهالة أَن ينعمَ الأَقوياءُ بالسيطرةِ على الأرض بضعَ سنين ليَرَوا بعدها الأرضَ كلَّها قد أصبحَت غيرَ صالحة لسُكنى البشر. ذلك فضلاً عن أَنَّ العدالةَ الإلهيَّة، من المنظورِ الداهشيّ، من المحتومِ أَن تُعطيَ الحاصِدَ ما زرَعَته يَداه. فالظلمُ لا بُدَّ من أَن يُولِّدَ ظُلمًا، والقتلُ لا مناصَ من أَن يُولِّدَ قتلاً، والشعبَ الداعِم لأَعمالِ حُكَّامِه لا مفرَّ من أَن يُجزى بمِثلِ أَعمالِهم.

          زِدْ إلى ذلك أَنَّ الأَوبئةَ وتلويثَ البيئة وأَعمالَ العُنفِ التي يُولِّدُها الجهلُ والحِرمانُ في مناطق التخلُّف إذا لم تُقدِم الشعوبُ القويَّةُ المتقدِّمة على مُعاونةِ الشعوبِ الضعيفة في إزالتِها، فإنَّّها ستتسرَّبُ إلى أرضِ الأَقوياء الأَثرياء، فتُنكِّدُ عيشَهم، ويُصبحُ من المُتعذِّرِ صَدُّها.

          ومن الحكمةِ أَن يتخلَّى المسؤولون في الدُّوَلِ جميعِها عن عنجهيَّتِهم ويُصغوا إلى أَصواتِ العُلماء، ولا سيَّما أَنَّها أَجمعَت على الإنذارِ بالأَخطار الشاملةِ الداهِمة التي مَرَدُّ مُعظمِ أَسبابِها إلى جَشعِ الأَقوياء. فبمُناسبة المُؤتَمرِ المُنعقِد لليوبيل المِئَويِّ لجائزة نوبِل، في أُوسلو بالنروج، عام 2001، أَصدرَ مئةٌ من الحائزين لجائزة نوبل— مِمَّن أَحرزوها منذ سنة 1972 حتَّى 2001، مع كثيرين غيرهم من الفائزين في السنوات السابقة—بيانًا وقَّعوه؛ وقد جاءَ فيه:

          "إنَّ أَبلغَ خطَرٍعلى السلامِ العالَميّ في الأَعوامِ المُقبِلة سينتجُ ليس من الأَعمالِ الخرقاء الصادرة عن الدوَلِ أو الأفراد، بل عن المطالبِ المشروعةِ التي يلتمسُها المحرومون في العالَم... فالارتفاعُ الحراريُّ الشامل، الذي ليس من صُنعِهم بل هو مُتولِّدٌ في البلدان الثرِيَّةِ القليلة، سيُحدِثُ الإصابةَ الكُبرى في بيئاتِهم الواهِنة، فيُصبحون في أَوضاعٍ يائسةٍ وغير عادلة.

          "ولِـذا فليس من المُتوقَّع أَن ينتظروا، في جميع الأحوال، إحسانَ الأَغنياء إليهم. فإذا أَتَحنا، إذْ ذاك، لقوَّةِ الأسلحةِ الحديثةِ الجائحة أَن تنتشرَ في هذه البقاعِ البشريَّةِ القابلة للالتهاب، فنكونُ نُحرِّضُ على تفجُّرٍ قد يُصيبُ الأَثرياءَ والفُقراءَ معًا. والأملُ الوحيدُ للمُستقبل يكمنُ في عملٍ دُوَليٍّ تعاوُنيّ تُكسِبُه الديمُقراطيَّةُ شرعيَّة.

          "لقد حان الوقتُ لنجعلَ البحثَ الأَحاديَّ الجانب عن الأَمان وراءَ ظهورِنا... ونستمرَّ في السَّعيِ لعملٍ مُوحَّد نجبَـهُ به ارتفاعَ الحرارةِ الشامل وتسليحَ العالَمِ كلِّه معًا..."[xviii]

          هذا البيانُ الصادرُ عن مئةِ عالِمٍ تصدَّروا واجهةَ التاريخ في أَواخر القرنِ العشرين يلتقي بعقلانيَّتِه وإنسانيَّتِه النداءَ الذي أَطلقَه اثنان من عباقرةِ الفكرِ في هذا القرن نفسِه هما أَلبرت أَينشتاين وبِرتراند راسِّل في 9 تمُّوز (يوليو) 1955. قالا: "إنَّنا بصفتِنا كائنَين إنسانِيَّـين نُناشِدُ كائناتٍ إنسانيَّة أَن تذكَّروا إنسانيَّتَكم وانْسُوا ما عَداها؛ فإن استطعتم أَن تفعلوا هذا، فالطريقُ تُشرَعُ أَمامكم إلى فردَوسٍ جديد."[xix]

          أَجَل. إغترارُ آدم وحوَّاء أَضلَّهما وأَنساهما أَنَّهما بشَرٌ وليسا من الآلهة، وبالتالي ولَّدَ الانقسامَ والطمعَ والحسدَ والقتلَ وسائرَ الشرور، وسبَّبَ جميعَ أنواعِ الشقاء لنَسلِهما. فإذا استطاع البشرُ أَن يُرسِّخوا في أَذهانِهم أَنَّهم جميعًا كانوا أُسرةً واحدة، وأَنَّ عليهم أَن يعودوا أُسرةً مُوحَّدةً واحدة يكونُ الحقُّ رائدَها، والفضيلةُ نهجَها، واللهُ غايتَها، فإذْ ذاك يكبرُ الأَملُ في أَن يجعلَ الناسُ من الأرضِ فردوسًا جديدًا. يقولُ مُؤَسِّسُ الداهشيَّة في هذا الصَّدَد:

          فالأرضُ التي كوَّنَها اللهُ، والخيراتُ التي ملأَ بها أَرجاءَها، تستطيعُ أَن تُغرِقَ كلَّ حَـيٍّ على ظهرِها، وتكفيه مَؤونـةَ الاعتداءات؛ هذا إذا سلُمَت النيَّات، وأَخلصَت القلوب، وإذا طرَدنا منَّا شياطينَ الأَطماع التي تقطنُ في داخلِنا مثلما تقطنُ الأَفاعي في الشقوقِ والنخاريب.[xx]

عالَـمٌ جديـد ذو نظـامٍ جديـد

          تلك هي المبادئُ الأَوَّليَّة التي على الشعوبِ جميعِها، قويِّها وضعيفِها، غنيِّها وفقيرِها، أَن تعتنقَها لتُمَهَّدَ الطريقُ إلى العَولَـمةِ العادلة، وبكلمةٍ داهشيَّة، إلى قِيام "العالَـمِ الواحد". عالَـمٌ مُفاخِرٌ بوَحدةِ تُراثِه الثقافيِّ الإنسانيّ؛ مُتكامِلٌ في ارتقائه الحضاريِّ الروحيِّ والمادِّيّ، الإدراكيِّ والنُّـزوعيّ، الاجتماعيِّ والفرديّ؛ مُؤمِنٌ بوحدةِ أَديانِه الجوهريَّة ووحدةِ غايتِها الخُلُقيَّةِ والخَلاصيَّة؛ عالَمٌ بانٍ التفاهُمَ في القضايا المصيريَّة بين شعوبِه وحَلِّ المُعضلاتِ العَصيَّةَ بين دُوَلِه على الحِوار المُنفتِحِ الدائم؛ مُقتنِعٌ بأَنَّ التنوُّعَ الثقافيَّ فيه يزيدهُ غِنًى روحيًّا وتجاربَ حضاريَّة؛ وأَخيرًا مُدرِكٌ تمامًا أَن لا سبيلَ لِدَفعِ الأَخطار الشاملة المُحْدِقـة به إلاَّ سبيلُ التقارُب والتسامُح والتحـابّ والتراحُم، سبيلُ المبادئِ الإنسانيَّةِ المُشترَكة بين الأَديانِ والـهداياتِ الروحيَّـةِ جميعها كما بين الإنسانيِّـين اللامُؤمنين أَنفسهم.

          بَيدَ أنَّ اعتناقَ الشعوب لهذه المبادئ الإنسانيَّة اعتناقًا نَظريًّا لا يكفي وحده لِبناء "العالَـم الواحد" العادلِ الفاضِل وَفقًا للمفهوم الداهشيّ. فالخلافاتُ بين القوميَّات والثقافات المُتنوِّعة لا يُمكنُ أَن تزولَ بسهولة، خصوصًا إذا اصطبغَت عَبر العصور بالدماء؛ والطامعون الغاصبون لِسُدَّة الأحكام، المُتسلِّطون على حقوقِ الإنسان، لن ينقرضوا من الأرضِ عاجلاً؛ والغطرسةُ التي تُرنِّحُ الحُكَّامَ بخمرتِـها لن تتحـوَّلَ إلى تواضُعٍ سريعًا؛ والجماعاتُ الوُصوليَّة المُغالِـية في عصبيَّاتها العمياء وعدائيَّتِها لجميع "الآخَرين" لن تتبدَّدَ بين سنةٍ وأُخرى... ذلك بأَنَّ مُورِّثات البشر الفطريَّة قد ترسَّخَت فيها أَنواعُ ميولِهم ومُستوياتُ مداركهم وأَمراضُ عقولِهم ونفوسهم، ولا يُمكنُ أَن تتغيَّرَ في جيلٍ واحد؛ فتغييرُها إلى الأفضل يقتضي تهذيبًا وتثقيفًا دائمَين ومُجاهَدةً للنفسِ مُستمرَّةً طوالَ أَجيالٍ وأَجيال حتَّى تتمكَّنَ السيَّالاتُ الروحيَّة من الارتقاء، وبالتالي من تغييرِ المضامين النفسيَّة المُبَرمَجة التي تبني شخصيّاتِ الأَفراد والشعوب. ولِذا لا بُـدَّ من قيامِ نظامٍ عالَميٍّ جديد يكونُ أَفضلَ من النظام القائم في الأُمَمِ المُتَّحدة، هذا النظام الذي تنبَّأَ مُؤَسِّسُ الداهشيَّة بفشلِه منذُ قِيامِه. لكنْ ما هي أَبرزُ الخطوطِ في صورة النظامِ الجديد؟

          يقولُ الدكتور داهش بلسان جلبِرت، الجنديِّ الجريح، عند كلامِه على ضرورة بناء "عالمٍ واحد" من أَجل أَن "يسودَ السلامُ العامُّ" الكُرةَ الأَرضيَّة:

          فالاتِّفاقُ العامُّ بين زُعماءِ الممالك الكُبرى ورؤَساء الدوَلِ القويَّة؛ وإجماعُ الآراءِ المُخلِصة، لا المُزَيَّفة، حول هذا الموضوع البالِغ في خَطَرِه وجلالِ قدره وشأنِه؛ وطَرحُ الأَطماعِ جانبًا من الجميع في سبيل سعادة الأُسرة الإنسانيَّة؛ وعدمُ التكالُب على المادَّةِ بجشعِهم الجارفِ الخطير؛ وبنيانُهم قانونًا عالَميًّا شاملاً يُدخِلون فيه الدوَلَ الصُّغرى التي تنقادُ إلى آرائهم؛ وتوحيدُ أَهدافِهم ومُثُلِهم العُليا... هو ما يُؤَدِّي إلى السلام العامّ.

          هذا إذا خلَصَت النيَّات، وطُرِحَت جانبًا الغايات؛ وهذا ما أَراه صعبَ التحقيق، ولا أَظنُّه يتمُّ في عصرِنا، هذا العصرِ الذي أَصبحَت فيه المادَّةُ معبودةَ الجميع، وسيطرَت فيه الأَطماعُ على العقول وتشبَّثَت بالنفوس وهَيمنَت على الأَرواح... فأَصبحَت جميعُ هذه المُثُل العُليا عبيدًا للمادَّةِ الحقيرةِ الفانية.[xxi]

          يُستَخلصُ من الكلماتِ السابقة لرجُلِ الروحِ والإلهامِ أَنَّ "العالَمَ الواحد" يجبُ أن يكونَ على صورة الأُسرة الواحدة، لكنَّها أُسرةٌ تضمُّ أَواصرُها العالَمَ كلَّه، أَي "أُسرةٌ إنسانيَّة"، وأَنَّ الغايةَ من قيامِ هذا "العالَم الواحد" هو مَدُّ "الأُسرة الإنسانيَّة" بـ"السعادة"، وأَنَّ تحقيقَ هذه "السعادة" لا يتمُّ إلاّ ببناء "قانونٍ عالَميٍّ" جديد تدخلُ تحت أَحكامِه الدولُ الصُّغرى برِضاها، وأَنَّ رُوَّادَ الطريق إلى هذا القانون يجب أن يكونوا قادةَ الدوَلِ الكُبرى، وأَنَّ على هؤلاء "أن يُوحِّدوا أَهدافَهم ومُثُلَهم العُليا" ويتخلَّوا عن مطامعِهم لتنجحَ مساعيهم. فكيف يُمكنُ أَن يتمَّ هذا والطريقُ ما تزالُ وعثاء طويلة؟ هذا ما سنبحثُ فيه في العددِ القادم.


[i] . الدكتور داهش: "مُذكِّرات دينار" (نيويورك: الدار الداهشيَّة، 1986)، ص 108.

[ii]. المصدرُ نفسُه، ص 347.

[iii]. المصدرُ نفسُه، ص 348.

[iv]. المصدرُ السابق، ص 374-375.

[v]. لمزيدٍ من الاطِّلاع على هذه المُعضلات والعقبات، يُمكنُ مُراجَعة الكتاب الصادر عن مُنظَّمة الأُمَمِ المُتَّحدة بعنوان "عُبورُ الحَدِّ الفاصل"

Giandomenico Picco and Others.Crossing the Divide: Dialogue Among Civilizations (New Jersey: School of Diplomacy and International Relations, Seton Hall University).  

وكذلك "تقريرُ الأمين العامّ للأُمم المُتَّحدة لسنة 2000". ذلك فضلاً عن عدَّة مصادرَ مهمَّة في الصحافة، من أبرزِها المقالاتُ المنشورة في العددَين التاليَين لمجلَّتَيْ:

The American Prospect, Winter 2002

Wilson Quarterly, Nov. 2002.

[vi]. بَرأَبَّـا هو زعيمُ عصابة يهوديَّة من القتَلة واللصوص قبضَ الرومان عليه أَيَّامَ السيِّد المسيح، وقد طالبَ اليهودُ بإطلاقِ سراحِه بدلَ يسوع عندما خيَّرَهم بيلاطس، الوالي الرومانيّ، في أَيِّ الاثنَين يُطلِق.

[vii]. أنظرْ رأيَ العالِم كونراد لورِنتز، حائز جائزة نوبل، في هذا الصَّدَد:

Konrad Lorenz. Les huit péchés capitaux de notre civilisation. Traduit de l’allemand par Elizabeth de Miribel (Paris: Flammarion, 1973), pp. 49-57.

[viii]. افتُتِحَت مكتبةُ الإسكندريَّة الجديدة في حَفلٍ عالَميّ، بتاريخ 16/10/2002.

[ix]. The American Prospect, Winter 2002, pp. A3-A4

[x]. Bernard Lewis. Islam and the West (New York: Oxford University Press, 1993), p. 61.

Bernard Lewis. What Went Wrong? (New York:. [xi] Oxford University Press, 2002), pp. 3-17 & 151-160.

[xii]. الدكتور داهش: "الرحلاتُ الداهشيَّة حول الكُرةِ الأَرضيَّة"، المجلَّد 18 (نيويورك: الدار الداهشيَّة، 1994)، ص 402.

[xiii]. الدكتور داهش: قِصَص غريبة وأَساطير عجيبة"، الجزء الثالث (قَيد النشر)، قصَّة "حُلم رهيب".

[xiv]. سورة النساء: 40.

UN Document. A/RES/53/22, November 16, 1998 (unanimously adopted). .[xv]

[xvi]. Crossing the Divide, p. 52.

[xvii]. Ibid., p. 209.

[xviii]. World-Watch, May/June 2002, p. 2.

[xix]. Crossing the Divide, p. 38.

[xx]. الدكتور داهش: "مُذكِّرات دينار"، ص 121.

[xxi]. المصدرُ السابق، ص 108.

  Back to التعاليم الداهشيَّة بقلم الدكتور غازي براكس 

Developed by Houssam Ballout        Copyright 2019 This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.nfo All Right Reseved This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.