أنا أؤمن بأنه توجـد عدالة سماويّة, وأن جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدنيا من مُنغصات انَّ هـو الاّ جـزاءٌ وفاق لِما أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور.ولهـذا يجب علينا أن نستقبلَ كلّ مـا يحـلّ بنـا من آلامِ الحياةِ ومآسيها غير مُتبرّمين ولا متذمّرين , بل قانعين بعدالةِ السماء ونُظمها السامية.

Highlighter
أحبُّ الكُتُبَ حبَّ السُكارى للخمر , لكنَّني كلَّما أزددتُ منها شرباً, زادتني صَحوا
ليس مّنْ يكتُبُ للهو كمَن يكتُبُ للحقيقة
الجمالُ والعفّــة فـردوسٌ سماويّ .
لا معنى لحياةِ ألأنسان اذا لم يقم بعملٍ انسانيٍّ جليل .
اعمل الخير , وأعضد المساكين , تحصل على السعادة .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقـوم بأعمالِ الخير نحـو ألأنسانيّة .
الموتُ يقظةٌ جميلة ينشُدها كل مَنْ صَفَتْ نفسه وطَهرت روحه , ويخافها كلّ من ثقُلت أفكاره وزادت أوزاره .
ان أجسامنا الماديّة ستمتدّ اليها يـد ألأقـدار فتحطِّمها , ثمّ تعمل فيها أنامل الدهـر فتتَّغير معالمها , وتجعلها مهزلةً مرذولة . أمّا ألأعمال الصالحة وألأتجاهات النبيلة السّامية , فهي هي التي يتنسَّم ملائكة اللّه عبيرها الخالد .
نأتي إلى هذا العالمِ باكين مُعولين، و نغادره باكين مُعولين! فواهً لك يا عالمَ البكاء والعويل!
جميعنا مُغترٌّ مخدوعٌ ببعضه البعض.
العدلُ كلمة خُرافية مُضحكة.
أمجادُ هذا العالم وهمٌ باطل، و لونٌ حائل، و ظلٌّ زائل.
لا باركَ الله في تلك الساعة التي فتحتُ فيها عينيّ فإذا بي في مكانٍ يطلقون عليه اسم العالم .
أنا غريبٌ في هذا العالم، و كم احنُّ إلى تلك الساعة التي اعود فيها إلى وطني الحقيقيّ.
الحياةُ سفينةٌ عظيمة رائعة تمخرُ في بحرٍ، ماؤه الآثام البشريَّة الطافحة، و امواجه شهواتهم البهيميَّة الطامحة، و شطآنه نهايتهم المؤلمة الصادعة.
كلّنا ذلك الذئبُ المُفترس , يردع غيره عن اتيانِ الموبقاتِ وهو زعيمها وحامل لوائها , المُقوّض لصروح الفضيلة , ورافع أساس بناءِ الرذيلة .
الحياةُ سلسلة اضطراباتٍ وأهوال , والمرءُ يتقلَّب في أعماقها , حتى يأتيه داعي الموت, فيذهب الى المجهولِ الرهيب , وهو يجهلُ موته , كما كان يجهلُ حياته .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقومَ بأعمالِ الخير نحو الانسانيّة .
المالُ ميزان الشرِّ في هذا العالم .
السعادةُ ليست في المال , ولكن في هدوءِ البال .
كلُّ شيءٍ عظيمٍ في النفسِ العظيمة , أمّا في النفسِ الحقيرة فكلُّ شيءٍ حقير .
الرُّوح نسمةٌ يُرسلها الخالق لخلائقه لأجل , ثم تعودُ اليه بعجل .
الرُّوح نفثةٌ الهيَّة تحتلُّ الخلائق , وكل منها للعودة الى خالقها تائق .
الرُّوح سرٌّ الهيٌّ موصَدْ لا يعرفه الاّ خالق الأرواح بارادته , فمنه أتتْ واليه تعود .
أنا أؤمن بأنه توجـد عدالةٌ سماويّة , وأنَّ جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدُّنيا من مُنغِّصاتٍ وأكدارٍ انَّ هـو الاَّ جـزاء وفاق لمِا أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور . ولهـذا يجب علينا أن نستقبل كلَّ مـا يحـلُّ بنـا من آلام الحياة ومآسيها غير م
الحرّيةُ منحة من السماءِ لأبناءِ ألأرض .
الموتُ ملاكُ رحمةٍ سماويّ يعطف على البشر المُتألّمين , وبلمسةٍ سحريّة من أنامله اللطيفة يُنيلهم الهناء العلويّ .
ما أنقى من يتغلّب على ميولِ جسده الوضيع الفاني , ويتبع ما تُريده الرُّوح النقيّة .
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
الراحة التامّة مفقودة في هذا العالم , وكيفما بحثت عنها فأنت عائدٌ منها بصفقةِ الخاسر المَغبون .
ليس أللّــه مع الظالم بل مع الحقّ.
ان الصديق الحقيقي لا وجود له في هذا العالم الكاذب.
ما أكثر القائلين بالعطف على البائسين وغوث الملهوفين والحنو على القانطين , وما أقلَّ تنفيذهم القول.
يظنُّ بعض ألأنذال ألأدنياء أنّهم يُبيّضون صحائفهم بتسويدِ صحائف الأبرياء , غير عالمين بأنَّ الدوائر ستدور عليهم وتُشهّرهم.
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السَّلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
رهبة المجهول شقاء للبشرِ الجاهلين للأسرارِ الروحيَّة , وسعادة للذين تكشّفت لهم الحقائق السماويَّة .
الموتُ نهاية كل حيّ , ولكنه فترة انتقال : امّا الى نعيم , وامّا الى جحيم .
الحياةُ خير معلِّمٍ ومُؤدِّب , وخيرَ واقٍ للمرءِ من الأنزلاقِ الى مهاوي الحضيض .
حين تشكُّ بأقربِ المُقرَّبين اليك تبدأ في فهمِ حقائق هذا الكون .
مَنْ يكون ذلك القدّيس الذي لم تخطرُ المرأة في باله ؟ لو وجدَ هذا لشبَّهته بالآلهة .
المرأة هي إله هذه الأرض الواسع السُّلطان. و هي تحملُ بيدها سيفاً قاطعاً لو حاولَ رجالُ الأرض قاطبةً انتزاعه منها لباؤوا بالفشلِ و الخذلان .

الأَخطارُ والأَزماتُ العالَميَّة

والطريقُ إلى العالَمِ الواحد في ضوءِ المفاهيمِ الداهشيَّة (1)

بقلَم الدكتور غازي براكْس



تعقيبًا على الخسائر الفادحة والأضرار المُروِّعة التي أَنزلَتها الحربُ العالَميَّةُ الأُولى في النفوسِ والمُمتلَكات، يقولُ الجُنديُّ الجريحُ جِلبِرت مُمثِّلاً رأيَ مُؤَسِّسِ الداهشيَّة في كتابِه المُلهَم "مُذكِّرات دينار": "إنَّ على ساسَةِ العالَم، في أَربعةِ أَقطارِ المعمور، أَن يبنوا (عالَمًا واحدًا) إذا رغبوا في أَن يسودَ السلامُ العامُّ أرجاءَ هذه الكُرَةِ اللعينة."[1]

            بهذه الكلماتِ القليلةِ الحكيمة وضعَ الدكتور داهش أَهمَّ مبادئ الدستور الذي بإمكانِه أَن ينشرَ السلامَ في الأرض إذا طُبِّقَ بإخلاص. لقد توجَّهَ إلى أربابِ السياسة في الدوَلِ قاطبة، لا في دولةٍ واحدة مهما بلغَت من السُّؤدُدِ والقوَّة، مُؤَكِّدًا أَنَّ طريقَ السلامِ العالَميِّ الشامل يستحيلُ تحقيقُه إلاَّ ببناءِ "عالَمٍ واحد"، لا ثلاثة عوالم، وأَنَّ عليهم أَن يُدرِكوا أَنَّ هذه الأرضَ يُهدِّدُها من الأَخطار والأزمات الشاملة ما يجعلُها "كُرةً لعينة". لكنَّ هذه اللعنة المُتمثِّلة بالدواهي والويلاتِ العالَميَّة يُمكنُ القضاءُ عليها إذا جعلَ قادةُ العالَم واجبَهم بناءَ "العالَمِ الواحد".

            فكيف تتمثَّلُ تلك الأخطارُ والأَزماتُ العالَميَّة في بداياتِ الألفِ الثالث؟ وما هي صورةُ "العالَمِ الواحد"، والطريقُ المُؤَدِّية إليه في ضوءِ المفاهيمِ الداهشيَّة؟

أَوَّلاً- الأَخطارُ والأَزماتُ العالَميَّة

            ليس مُتعذِّرًا أَن يتمثَّلَ ذَوو البصائر النيِّرة أَهمَّ الأَخطارِ والأَزماتِ الشاملة التي يُهدِّدُ تفاقمُها العالَمَ بأَسرِه في بدايات القرن الحادي والعشرين؛ فأَخبارُها المشؤومة تكادُ لا تخلو منها، أَو من بعضِها، وسائطُ الإعلام يوميًّا. فـ"موسوعةُ المُعضلات العالَمِيَّة والإمكانات البشريَّة"[2]   (1991) عرَضَت 13167 مُعضلة ما يزالُ العالَمُ يشكو من مُعظمِها. وبتمامِ القرنِ العشرين ازدادت هذه المُعضلاتُ عددًا وتعقيدًا. ولو حاولنا أَن نُصنِّفَها في تعريفاتٍ جامعةٍ كُبرى، لَرَدَدنا أَهمَّها إلى ستّ: الحروب، انتشار الأُمِّـيَّة، تفشِّي الفَقر والمجاعات، الاستعباد الحديث، الأَوبئة، أخطار البيئة.وجميعُها تحولُ دون قيامِ العالَم الواحد. وسأُرسِلُ كلمةً موجَزة في كلٍّ منها مُبيِّـنًا مظاهرَها، ووخيمَ عواقبِها، ثمَّ أُوضحُ صورةَ العالَم الواحد الذي يسودُه السلام ومُقتضياتِ المسيرةِ المُؤَدِّية إليه.

أَ- الحروب

            مَن يُراجِعْ تاريخَ القرنِ العشرين وَفقَ ما دوَّنَه أَعلامُ المُؤَرِّخين وعُلماءُ السياسةِ والاجتماع يتَّضحْ له أَنَّ الشعورَ السائد في بدايةِ القرن المذكور، سواءٌ عند عامَّة الناس أم الصَّحَفيِّين أم جمهور المُفكِّرين، كان شعورًا تفاؤُليًّا بأنَّ التقدُّمَ العلميَّ التكنولوجيَّ سيُساعدُ كثيرًا في نَشرِ السلامِ والوئامِ بين الشعوب وتعزيزِ الازدهارِ الاقتصاديِّ فيها بحيثُ تُصبحُ الحربُ حكايةً قديمة. وعام 1910 بينما كان الصِّحافيُّ الإنكليزيُّ البارز نورمان آنجِل Norman Angellيُؤَكِّدُ هذه الأفكارَ التفاؤُليَّة في كتابِه الأكثر رواجًا "الوهم الكبير: العلاقة بين القوَّة العسكريَّة والمصلحة القوميَّة" The Great Illusion: A Study of the Relation of Military Power to National Advantage، كان دايفِد ستار جوردن David Starr Jordan، رئيس جامعة ستانْفورد، يُعلنُ في خطابٍ أَلقاه في جامعة تافْس أَنَّه"أَصبحَ مُحالاً أَن تنشبَ حربٌ في المستقبل لأَنَّ الأُمَمَ لا تُطيقُ احتمالَها." لكنْ شَذَّ عن هذا الشعور التفاؤُليِّ السائد مُفكِّرون عباقرة، منهم الفيلسوفُ الأَمريكيُّ وِليام جايْمس William Jamesالذي كتبَ في العامِ نفسِه يقول: "إنَّ الحربَ الحديثة أَصبحَت باهظةَ النفقات إلى حَدِّ أَنَّنا نرى أَنَّ التجارةَ هي سبيلٌ أَفضل لِسَلبِ الناس... لكنَّ الإنسانَ الحديث يرِثُ من أَجدادِه فطرةَ المُسارَعة إلى القتال وحُبِّ المجد. ولا يردعُه إظهارُ ما في الحرب من حماقةٍ وهَول؛ فللأَهوال فيه تأثيرٌ أَخَّاذ."[3]

            وفي الواقع بات في حُكمِ المُؤَكَّد أَنَّ التاريخَ لم يعرف قرنًا أَشرسَ من القرنِ العشرين عُدوانيَّةً وأَفجعَ مأساويَّة. فقد حفلَ بالحروبِ المُدمّرة الضارية التي نكبَت كلَّ شعب. فبُعَيدَ انتهاء الحربِ العالَميَّةِ الثانية التي انطلقَت فيها مَرَدةُ الجحيم مُبيدةً ناكازاكي وهيروشيما، وعلى أَثَرِ انعقادِ المُؤتمَرِ الأَوَّل لجمعيَّة الأُمَمِ المُتَّحدة في أَوائل 1946، هذا المُؤتمَر الذي جعلَه قادةُ الشعوب بوقًا للتبشير بالسلام والوئام والمُساواة والازدهار العامّ، وضعَ الدكتور داهش كتابَه المُلهَم "مُذكِّرات دينار" مُسلِّطًا فيه الضوءَ على مطامع الدوَل وأحقادِ الناس وشرورِهم، ومُكذِّبًا دعايات قادةِ الشعوبِ التفاؤُليَّة بقولِه على لسان جِلبِرت، أَحد الجنودِ الجرحى في الحربِ العالَميَّةِ الأُولى:

            إنَّهم لا يتورَّعون من إحراقِ العالَمِ بأَسرِه في سبيلِ إشعالِ سيجارتِهم. وماذا يهمُّهم أَمرُ هذا الكون بما يحويه ما داموا هم سُعداء؟ فليَشقَ غيرُهم مثلما يُريدُ أَن يفعلَ به الشقاء، ولـتُنشِبِ الأَشجانُ أَظافرَها الفولاذيَّةَ في نفوسِهم، ولينقضَّ رسولُ الموتِ وليَختطِفْ أَرواحَهم... فهم آلَوا على أَنفسِهم إلاَّ الرقصَ على الأَشلاء من الضحايا، وقَذفَ جماجمِ الأَموات ثمَّ ركلَها بأَقدامِهم.[4]

            وبعد ستٍّ وثلاثين سنة يُعلنُ الدكتور داهش في "كلمتي لعام 1982": أَنَّ الفسادَ "سادَ... ربوعَ دُنيانا،" وأَنَّ "الشرَّ المُتواصل" و"الإرهابَ المتواصل" هما من مُميِّّزاتِ العصر، وأنَّ "القتلَ هو الوسيلة الوحيدة بها يتعاملُ الجميع؛ فالقويُّ يفترسُ الضعيفَ بشراسةٍ وعُنفٍ هائلَين..."[5]

            إنَّ وِليام جايمْس أَدركَ ببصيرتِه النيِّرة أَنَّ الإنسانَ من المُتعذِّر أَن يتغيَّرَ؛ ومُؤَسِّسُ الداهشيَّة أَدركَ بإلهامِه السامي أَنَّ قادةَ العالَم هم صورةٌ لشعوبِهم، وشعوبَهم أَسيرةٌ للنـزعاتِ والغرائزِ الدُّنيويَّةِ التي تُحرِّكُهم وضحايا للدعاياتِ المُغرِضةِ التي يُلفِّقُها زُعماؤُهم. يقولُ الدكتور داهش فاضحًا الأَساليبَ السيكولوجيَّةَ الإبليسيَّةَ التي يستعينُ بها الزُّعماء:

            إنَّ سلسلةَ الحروبِ التي نشبَت في خلال القرونِ البائدة حتَّى أَيَّامِنا الحاضرة اتَّخذَ لها مُثيروها أَسبابًا واحدة لم تتغيَّرْ رغمَ قِدَمِها. فهم يزعمون أَنَّهم يُعلنونها حربًا مقدَّسة، ويخوضون غِمارَها إعلاءً لكلمةِ الحقّ، ونَشرًا لمبادئ الطمأنينة، وإزالةِ الخوف، وإحلالِ السلامِ والوئام... وتوزيعِ العدالة العامَّة... وفرضِ هيبةِ القانون على الجميع، فلا سائد ولا مَسود (...) ودعاياتٌ مُغرِضةٌ كهذه تفعلُ فِعلَها بالأَعصاب كالأَفيون...[6]

            ويعمدُ الخُطباءُ المُغرِضون إلى استثارةِ العصبيَّةِ القوميَّة أَو الإتنيَّة أو الدينيَّة، ويمهرون الحربَ التي يُعلنونها بطابعٍ جهاديٍّ مقدَّس، فيُخدَعُ معظمُ المُواطنين في الدولة المحفوزة إلى الحرب، ويستميتون ذَودًا عن "المُثُلِ العُليا"، فتتوالى الفواجع، وتتكاثرُ الضحايا، ويعمُّ الخراب، ويتفاقمُ العَوَز، ويزدادُ الغنيُّ غِنًى والفقيرُ فقرًا، ويبقى السادةُ والزعماءُ مُتربِّعين على عروشِهم التي أُقيمت على جماجمِ الأَموات.

            لكنَّ نشوةَ النصرِ لا تطول، فرجُلُ الوَحيِ والمُعجزات يُؤَكِّدُ أَنَّ الدَّمَ يستسقي الدَّم:

            الأُمَّةُ الخاسرة تحملُ في نفسِها حقدًا هائلاً، وتصبرُ على جُرحِها المُميت كالأَسدِ الجريح. وتمضي الأَعوامُ وهي تنتظرُ الفرصةَ المُؤاتية كي تنقضَّ على الدولةِ التي أصابت منها مقتلاً، تلك الدولة التي أَذلَّتها في كبريائها وحطَّمَت من عُنفوانِها وهزأَت بها أَمام الدوَلِ الأُخرى. وعندما تدقُّ الساعة، تثِبُ وثبةَ الأَسدِ الصحيحِ المُعافى، وتُعمِلُ أَنيابَها القاطعة وبراثنَها الحادَّة في جسدِ الدولةِ التي أَذلَّتها، فتُقطِّعُ أَوصالَها، وتسكرُ من خمرةِ دمائها، وهكذا تعودُ فتثأَرُ لِما أَصابها منذُ أَعوامٍ ، طالت أَم قصُرَت. وتدورُ عجَلةُ الدهرِ القُلَّب، فيرتفعُ ميزانُ القدَر، فتعودُ هذه الدولةُ للانتقامِ والثأر، وهكذا دوالَيك.[7]

            ولا بُدَّ من لفتةٍ إلى عالَمِ الأَرقام، فهو يُيَسِّرُ فهمَ الوقائع. فالإحصاءاتُ التي جمعَها كِبارُ المُؤَرِّخين والمُؤَسَّساتُ العالَميَّة ومُنظَّمةُ الأُممِ المُتَّحدة تدلُّ على أَنَّ القرنَ العشرين، قرنَ التقدُّمِ العلميِّ المُذهِل، شهدَ أَكثرَ من 225 حربًا خارجيَّةً أَو داخليَّة بما فيها الحربان العالَميَّـتانسقطَ فيها لا أَقلَّ من 160 مليون ضحيَّة، من أَصلهم مئةُ مليون قتيل من المدَنيِّـين الأَبرياء. والجديرُ بالذكر أَنَّ تطوُّرَ التكنولوجيا الحربيَّة وازديادَ عددِ السكَّان جعَلا ضحايا الحروب في القرنِ العشرين عشرةَ أَضعافٍ أَكثرَ من ضحايا الحروب في القرن التاسعَ عشرَ، وأَنَّ السَّبَـبَين الآنفَي الذكر سيجعلان ضحايا الحروب المُقبلة أَكثرَ جدًّا مِمَّا شهدَه القرنُ العشرون. فالعقــدُ الأَخيرُ منه (1990-2000) سقطَ فيه أَكثر من عشرة ملايين قتيل من غير استخدام أَسلحةِ إبادةٍ جماعيَّة.[8]

            والجديرُ بالذكر أَنَّ شراسةَ القتال وتأَجُّجَ الشرِّ والأَحقادِ في المُتحاربين قدَّما أَمثلةً للتاريخ ساوَت بين المُتخلِّف والمُتمدِّن، كما بين المُنتمين إلى مُختلفِ الأَديان. ففي بداياتِ القرنِ العشرين كان الأَتراكُ في البلقان وعلى الأخصِّ في بلغاريا يُسمِّرون المساجينَ بآذانِهم إلى سياج طوالَ الليلةِ الأَخيرة من أَعمارِهم، وفي اليوم التالي يُعلِّقونهم بالمشانق. وكانوا يقتلون أَو يُحرقون أَو يغتصبون النساءَ والأَولاد. وإذا كانت النساءُ حبالى، عمدَ جنودُ الانكشاريَّة إلى قَتلِ الأَجنَّةِ طَعنًا في بطونِ أُمَّهاتِهم. وإذا كانت الأُمَّهاتُ يُرضِعنَ أَطفالَهُنَّ، انتَزَعوهم من أَيديهنَّ، وقذَفوا بهم في الهواء، ثمَّ تلقَّفوهم برؤوسِ الأَسنَّة وهم يضحكون مُبتهِجين.[9]

            وفي أَواخر الحربِ العالَميَّةِ الثانية تفجَّرَت الأَحقادُ في انتقامٍ مَكيافيلّيٍّ مُروِّعٍ ضدَّ اليابان؛ فبُعَيدَ منتَصفِ ليلة 9-10 آذار (مارس) 1945، أَغارت أَسرابٌ من الطائرات الأمريكيَّة على طوكيو، وأَنزلَت من القنابل أَهوالاً لا توصَف بحيثُ أَثارت في المدينة عواصفَ ناريَّة اندفعَت تلتهمُ البشرَ والحجَر، وما كفَّت الزوابعُ الجحيميَّة إلاَّ بعد أَن قضَت على 97 أَلف شخص، معظمُهم من المدَنيِّـين الأَبرياء، وأَصابت ببليغ الحُروق والقُروح 125 أَلفًا آخَرين، وشرَّدَت مليونًا ومئتَي ألفِ شخص. وصباحَ السادس من آب (أُوغسطس) من العام نفسه أُسقِطَت القنبلة النَّوَويَّة الأُولى على هيروشيما، فقضى من تأثيرها الهائل حوالى 140 ألف شخص، وتحوَّلَ معظمُ المدينة إلى أرضٍ محروقة. وفي التاسع من آب (أُوغسطس) أُسقِطت القنبلة النَّوَويَّة الثانية على ناكازاكي، فقضَت على حوالى 80 ألف شخص. وعلَّق الأدميرال ليهي Leahy، قائدُ الأُسطول الأمريكيّ، عهدئذٍ، قائلاً: "إنَّ اليابانيَّـين كانوا قد هُزِموا [قبل إلقاء القنبلتَين النَّوَويَّـتَين]... واستخدامُ هذا السلاحِ الضاري ضدَّ هيروشيما وناكازاكي لم يكُن ليُقدِّمَ أَيَّة مُساعدة مادِّيـَّة في حربنا ضدَّ اليابان... فبكَونِنا أَوَّلَ مَن استخدَمه... نكون قد استخدمنا مِعيارًا خُلُقيًّا كان يستخدمُه البرابرة في عصور الظلام. لم أَتعلَّم أَن أشنَّ حربًا بهذا الأُسلوب، فالحروبُ لا تُكسَبُ بقَتلِ النساء والأطفال..."[10]

وفي أَواخر القرنِ العشرين سقطَ في الحربِ الرَّوَنديَّة التي سعَّرَتها العصَبيَّاتُ الإتنيَّة الإفريقيَّة أَكثرُ من مليون ضحيَّة، مُعظمُهم من قبيلة "التوتْسي" Tutsi. فقتلَ المُحاربون من قبيلة "الهوتو" Hutu ثُلثَ الضحايا بقَطعِ رؤوسِهم بحَدِّ المناجل، وقَضَوا على أَكثريَّةِ الآخَرين إمَّا بالضربِ المُميت أَو الاغتصابِ الضاري، وإمَّا تجويعًا أَو إحراقًا أَو إغراقًا. ولم يحظَ برحمةِ القتلِ رَميًا بالرصاص إلاَّ قليلون مِمَّن استطاعوا أَن يشتروا ميتةً سهلة برشوةِ قاتِليهم بما اختَزنوه من مالٍ قليل.[11] وأَفظعُ ما حدثَ في هذه الحرب الداخليَّة أَنَّ بعضَ رجال الدين المسيحيِّـين شاركوا في المجازر الرهيبة. فقد اتَّهمَت محكمةُ العَدلِ الدوليَّة القسِّيس إليزافان نتاكيروتيمانا Elizaphan Ntakirutimanaبتدبير مجزرة هائلة ضدَّ قبيلة "التوتسي". فقد انبرى الأُلوفُ من هذه القبيلة يتدفَّقون إلى كنيسة الأدفنتيست الواسعة التي كان يُشرفُ عليها القسِّيسُ المذكور كما إلى المُجمَّع الكبير التابع لها واثقين بأَنَّ الراعي المسيحيّ سيحميهم من انتقام أعدائهم "الهوتو" الذين استبدَّ الهياجُ بهم على أثر مقتل رئيس البلاد (الذي كان من إتنيَّتهم) في حادثٍ غامض. لكنَّ القسِّيسَ الذي كان يُشجِّعُ أرهاطَ "التوتسي" على الالتجاء عنده، ما لبثَ أن تقدَّمَ إلى المُجمَّـع، في 16/4/1996، على رأسِ موكبٍ من المُسلَّحين "الهوتو" ، وقاموا بمجزرةٍ مُروِّعة بالأسلحة الرشَّاشة والقنابل والفؤوس والهراوات المُدبَّبة بالمسامير، فقتلوا 8000 لاجئ في خلال 12 ساعة. وتابع القسِّّيسُ مآثرَه بمُطاردة فلول "التوتسي" في الشهرَين اللاحقَين.[12]

            ومع بداية القرن الحادي والعشرين، والبشريَّةُ لم تصحُ بعدُ من سكرةِ التفاؤُلِ والابتهاج بمَقْدمِ الأَلفِ الثالث، هزَّ العالَمَ زلزالٌ نفسيٌّ رهيب أَطلقَته عمليَّةٌ هجوميَّةٌ ضارية على المركزِ التجاريِّ العالَميِّ بنيويورك، عاصمةِ عواصمِ الدُّنيا، كما على البانتاغون، رمزِ الجَبروتِ العسكريِّ بواشنطن، فسقطَ الضحايا الأَبرياءُ بالآلاف، ووقعَت الخسائرُ المادِّيـَّةُ بمئاتِ البلايين من الدولارات. وتمخَّضت أرضُنا الحُبلى بجَمرِ الحقدِ والانتقام بحربٍ ضَروسٍ جديدة قد تعقبُها حروبٌ لم تخطرْ صُورُها ببال.

            وتذكَّرْ، يا قارئي، أَنَّ عواقبَ الحروبِ لا تقتصرُ على الخسائر الفادحة بالنفوس والمُمتلكات، فعشراتُ الملايين من الأَلغام المزروعة نتيجةً للحروب ما زالت تُهدِّدُ المدَنيِّـين الأَبرياءَ كِبارًا وصغارًا في أَكثرَ من 64 بلَدًا؛ وهي تُسبِّبُ قَـتْلَ زُهاء 30 أَلف شخصٍ سنَويًّا أَو بَـتْرَ أَعضائهم.[13] كذلك فالحصارُ الاقتصاديُّ المضروبُ على بعض الدوَل يُسبِّبُ حدوثَ كوارثَ إنسانيَّة.[14] زِدْ إلى هذه الكوارث نكبةَ اللاجئين المسحوقين الهاربين من الحروبِ والأخطار في مختلف أرجاء العالَم إلى بلدانٍ أُخرى كثيرًا ما تصدُّهم، وقد بلغَ عددُهم، عام 2000، أَحدَ عشرَ مليونًا و700 ألف شخص، وَفقَ تقريرٍ صادرٍ عن مُنظَّمة الأُممِ المُتَّحدة؛[15] واسكُبْ فوق هذا البحرِ المَوَّارِ بالأخطار والفواجع هيجانَ القلقِ العالَميِّ المُستحوِذِ على البشر حيثما كانوا خوفًا من مُفاجآت الإرهابِ الأَعمى الذي لا يُفرِّق، ومن شرٍّ عالَميٍّ غيرِ مُتوقَّع قد تُفلِتُ مرَدَتُه الجحيميَّة من 35 رأسًا نَوَويًّا ما تزالُ تنتظرُ تفجُّرَها في جهات الأرض الأربع وإذْ ذاك لا يبقى لكَ إلاَّ أَن تُردِّدَ قولَ مُؤَسِّسِ الداهشيَّةِ الحكيم: "إنَّ الحربَ إثمٌ رهيبٌ فادِح لا يغفرُ اللهُ لِمَن ارتكبَ جريمتَه. والسلامُ العالَميُّ هو حُلمي المنشود."[16] لكنْ أَيتحقَّقُ السلامُ العالَميُّ والأَرضُ مُنقسمة بعضُها ضدَّ بعض، والأحقادُ تتبارى في تأَجُّجِها، والأَطماعُ تتنافسُ في تسعُّرِها، وكلُّ شعبٍ يهمُّ بنَهشِ لحمِ شعب لا يثنيه عن رغبتِه الضارية دينٌ أَو قِيَم؟

ب- تَـفَشِّـي الأُمِّـيَّة

            كان الدكتور داهش عظيمَ النُّفورِ من الأُمِّـيَّة، يرثي لأَهلِها ولا يرتاحُ لمُجالستِهم. وكم مرَّةٍ حدَّثَنا عن استهجانِه انتشارَ الأُمِّـيَّةِ في بعضِ البلدان التي زارَها في رحلاتِه حول العالَم بين 1969 و1983، وعن تأثيرِ الجهلِ في تخلُّفِ الأَنظمةِ السياسيَّةِ والتقاليدِ الاجتماعيَّةِ والدينيَّة، كما في خَلقِ "اللصوصِ والقتَلة والمُحترفين للجرائم بمُختلف أَنواعِها"؛ حتَّى إنَّه كان يسخطُ على كلِّ حاكمٍ يقفُ موقفًا سلبيًّا من تفشِّي الجهل، ويعتبرُ كلَّ مَن يُغلِقُ مدرسةً مُجرِمًا طاغية يجبُ أَن تقتصَّ العدالةُ منه.[17] وكنتُ قد أَشرتُ، في سياقِ كلامي على "الحياة الثقافيَّة والرقيِّ الحضاريِّ في ضوءِ التعاليمِ الداهشيَّة" ("صوت داهش"، ربيع 2002) إلى أَنَّ مُؤَسِّسَ الداهشيَّة تعرَّفَ، في أَثناءِ إقصائه التعسُّفيِّ عن لبنان عام 1944، إلى الجهلِ الفاضِح الذي كفَّنَ بظلمتِه عقولَ كثيرين مِمَّن تعرَّفَ إليهم في بعض الأراضي السوريَّة، حتَّى إنَّه تذكَّرَ، في تلك المُناسبة المأساويَّة، جوابَ الشاعر الكبير حليم دمُّوس له، إذْ سأَلَه: أَيُّهما يختار القصر الشامخ يُساكنُ فيه بُلهاءَ جُهلاءَ أَم السّجن يُجالسُ فيه مدى الحياة الأُدباءَ والشعراء؟ فكان جوابُ الحليم: "أُفضِّلُ السِّجنَ المُخيف على القصرِ المُنيف." وقد عقَّبَ الدكتور داهش بحُكمِه على الجهالة بأَنَّها "العَيبُ نفسُه."[18]

            إنَّ الأُمِّـيَّة (بمعنى جهل القراءة والكتابة تمامًا أو بما يُقاربُ ذلك) لآفةٌ عظيمة ما زالت مُتفشِّية بدرجاتٍ مُتفاوتة في كثيرٍ من البلدان، بحيثُ إنَّ سُدسَ البشريَّة (أَي حوالى بليون نسمة) ما يزالُ غارقًا في دياميس الجهلِ المُطبِق. وبينما ترى نسبةَ الأُمِّـيَّة مُتدنِّـية جدًّا في أُوروبَّا والولايات المُتَّحدة وكنَدا وأُوقيانيا، نجدُها مُرتفعةً في أَمريكا الوُسطى وأكثر بلدان أمريكا الجنوبيَّة، حيثُ تبلغُ في البرازيل، مثلاً، 15% للرجال كما للنساء، وَفقَ إحصاءات الأُونسكو لعام 2000؛ وعالية جدًّا في البلدان الإسلاميَّة، وعلى الأخصّ الإفريقيَّة، وكذلك في أكثر البلدان العربيَّة. أَمَّا الصين فبينما تبلغُ نسبةُ الأُمِّـيَّة في رجالها 8.3% فقط، فهي ترتفعُ في النساء إلى 23.7%. في حين أَنَّ الهند تبلغ نسبةُ الأُمِّـيَّة في رجالها 31.6%، وفي نسائها 54.6%.[19]

            إنَّ عواقبَ انتشار الأُمِّـيَّة في أيِّ بلدٍ لَوخيمة ومُتعدِّدة. فهي، أوَّلاً، تشلُّ النشاطَ العقليَّ وعملَ المنطق الصحيح في فئةٍ كبيرةٍ من الناس، وخصوصًا النساء، إذْ إنَّ نسبتَها بينهنَّ، بصورةٍ عامَّة، أرفعُ مِمَّا هي بين الرجال. وبما أَنَّ تَبِعةَ التربية يُلقى القسطُ الأَوفرُ منها على عاتقِ الأُمَّهات، فبوُسعِنا أن نتمثَّلَ البيئةَ الجاهلة الفائضة بالأوهام والخُرافات والآراء الانفعاليَّة والأحكامِ الاعتباطيَّة التي ينشأُ فيها أَطفالُ الأُمِّـيَّات. وهكذا تُصبحُ جماعاتٌ غفيرة من الشعب يُمكنُ أن يبلغَ تعدادُها الملايين، أو عشراتِ الملايين كما الحال في إيران ومصر وباكستان وإندونيسيا، أو مئاتِ الملايينكما الحال في الهند والصينتعيشُ في ما يُشبهُ العصورَ الحجَريَّة في قرنٍ تطمحُ الشعوبُ المُتقدِّمةُ فيه إلى بَسطِ سلطانِها على الكواكب. وهذا لا يعني التخلُّفَ الحضاريَّ فحسب، بل الحيلولة دون إحرازِ قطاعٍ كبيرٍ من الشعب أَيَّةَ إفادة مُمكنة من التقدُّمِ المُطَّّرد في بِقاعٍ أُخرى من العالَم، وبالتالي قَطْعَ الحوار المُؤَدِّي إلى التفاهُم والوئام بين شعبٍ تعظمُ فيه الجهالة وشعبٍ تعظمُ فيه المعرفة.

            ثانيًا، إنَّ تفشِّي الأُمِّـيَّة يزيدُ في نسبةِ البِطالة حارمًا الدولةَ من تعبئة معظم طاقاتها للنهوضِ بها، خصوصًا في عصرٍ حدثَت فيه الثورةُ التكنولوجيَّة المعلوماتيَّة، بحيثُ أصبحت الخبرةُ في الأَجهزة الإلكترونيَّة، ولا سيَّما الكمبيوتر، لا غِنى عنها لكلِّ شركةٍ أو متجرٍ بل بَيت. وللأَسف، بينما ينعمُ الغربُ، ولا سيَّما الولايات المًتَّحدة، بنسبةٍ عالية جدًّا من مُستخدمي شبكة الاتِّصالات العالَميَّة للكسبِ التجاريِّ أو الثقافيِّ، فإنَّ شعوبَ العالَم الثالث، وبينها الشعوبُ العربيَّة، ما تزالُ في بداية الرحلة الطويلة. فإحصاءاتُ مُنظَّمة الأُمَمِ المتَّحدة تُشيرُ إلى أَنَّ البلدانَ العربيَّة تتراوحُ نسبةُ استخدام الكمبيوتر فيها بين 8 و65 بالأَلف، ونسبةُ استخدام الإنترنيت بين 1 و15 بالألف.[20]

            ثالثًا، إنَّ اتِّساعَ نطاقِ الأُمِّـيَّة في شعبٍ ما يُوسِّعُ نطاقَ الإجرام، ويُسهِّلُ استنفارَ عزائم الجُهَّال لحروبٍ دينيَّة أو طائفيَّة أو إتنيَّة ضدَّ الآخرين في البلدِ نفسه أو البلدان المُجاورة. وحسبُ الراغب في تكوين صورةٍ واضحة عن هذا الأمر أن يتأَمَّلَ الأحداثَ الجارية في عدَّةِ دُوَلٍ إفريقيَّة أو غيرها من الدوَلِ التي تتفشَّى الأُمِّـيَّةُ فيها.

            وبعد اتِّضاح عواقبِ الأُمِّـيَّة الوخيمة، هل يبقى لنا إلاَّ أن نقولَ مع الدكتور داهش: إنَّ الجهالة الكبيرة "هي العَيبُ نفسه"؟ فهي أُمُّ آفاتٍ خطيرة وويلاتٍ كثيرة. لكنْ كيف السبيلُ إلى العالَمِ الواحد وبليونٌ من البشر ما زالوا يعيشون حياةً شبيهةً بحياة الناسِ في العصور الحجَريَّة؟

ج- إنتشارُ الفقر والمجاعات

            إنَّ تفشِّي الفقر وتكرارَ حدوث المجاعات في بقاعٍ كثيرةٍ من الأَرض لَـلَطخةُ عارٍ تَصِمُ وجهَ الشعوبِ الغنيَّة؛ وإنَّها لَـوَصمةٌ تزدادُ قُبحًا كلَّما ازدادت الفجوةُ الهائلة الفاصلة بين أَثرياء العالَم وفُقرائه. فأَيُّ إنسانٍ نبيلٍ لا يهتزُّ ولا ينتفضُ ضميرُه حيالَ التفاوُت الهائل الحاصلِ بين الناس؟ فكيف بِـهادٍ يحملُ للإنسانيَّة رسالةً روحيَّة!

            ففي 18/9/1944 اضطُرَّ مُؤَسِّسُ الداهشيَّة، وهو في منفاه القسريِّ في شماليِّ سوريا، إلى دخولِ حَيٍّ أَرمنيّ، فدوَّنَ في كتابه "بريء في الأغلال" قائلاً:

            وفي هذا اليوم تجوَّلتُ قليلاً في الأَحياءِ الأَرمنيَّة وشاهدتُها، فإذا بالعَينِ تنبو عن رؤيتِها ورؤيةِ منازلِها. وقد شبَّهتُها بقُفرانِ النحل لالتصاقِ بعضِها ببعض! وشاهدتُ بعضَ المنازل يسكنُها لا أقلَّ من ستِّ عائلات، كلٍّ منها في غرفةٍ واحدة!

            والحقُّ يُقال، إنَّ معيشةَ هؤلاء الأرمن لَمِن القسوةِ على شيءٍ كثير. فإنَّهم يكادون لا يستطيعون أَن يحصلوا على قوتِ يومِهم. والبؤسُ ظاهرٌ على وجوهِهم. وغُرَفُهم تصدمُ العينَ بالفراغِ الذي تحويه. فلا رياش، ولا ما هو ضروريٌّ للإنسان لقضاءِ أَرَبِـه الدُّنيَويّ.

            لقد حزنَت نفسي، وأَيمُ الحقّ، من رؤيةِ هذه المشاهدِ المُؤسِفة، وقلتُ: تاللهِ، أَيحيا شعبٌ برفاهية ونعيم حتَّى تفيضَ عنه المادِّيـَّات، بينما يعيشُ أَقوامٌ آخَرون معيشةً يعيشُ أَفضلَ منها بأَضعافٍ حيواناتُ تلك الشعوب! فأَين هي العدالةُ التي يتبجَّحون بها؟ وأَين التحرُّرُ من العوَز والفَقر؟ والتحرُّر من الخوف؟...

            وإذ اضطرَّته الظروفُ القاسية إلى أَن ينـزلَ في ضيافةِ عائلةٍ أَرمنيَّة كانت تتأَلَّفُ من ثمانية أَشخاص (أب وأُمّ وستَّة أَولاد) يسكنون جميعًا في غرفةٍ واحدة "هي أَشبهُ بعُلبةٍ منها بغرفة"، يُعلِّقُ قائلاً في يوم 21/9/1944:

            وسرعانَ ما تذكَّرتُ السِّجنَ الذي كان يضمُّ في كلِّ غرفةٍ من غُرَفِه عشراتِ الأَشخاص، وقلتُ إنَّ الفارقَ الوحيدَ بين هذا المكان والسِّجن أَنَّنا نتمتَّعُ هنا بالحُرِّيـَّة؛ أَمَّا هناك فلا وجودَ لها.

            وأَحضرَت الابنةُ البِكرُ للعائلة طبَقًا من القَشِّ المُمزَّق، ورصَفَت عليه بضعةَ صحونٍ كان في أَحدِها دِبسٌ أَسودُ اللون، وفي آخَرَ بصلٌ مُقطَّع، وفي آخَرَ كُبَّة، وفي سواه حبوبٌ من الزيتون الأَعجف. وعَدَدتُ الأَرغفة، فإذا بها لا تزيدُ عن ستَّة، بينما نحن عشرة [كان حاضرًا أيضًا شخص أرمنيّ اسمُه توروس].

            وهنا أَصدُقُ القارئَ أَنِّي شعرتُ بحُزنٍ مزَّقَ روحي لهذا الفَقرِ العظيم. ومع أَنِّي كنتُ جائعًا جدًّا، فقد صدَّتْ نفسي عن الطعام. وبالرُّغم من دعوتِهم إيَّاي كثيرًا، فإنَّني شكرتُهم، وأَقسمتُ لهم على أَنِّي لا أشعرُ بالجوع.

            ورحتُ أُعلِّلُ المُعضلةَ في نفسي مُتسائلاً: لماذا يوجَدُ مع بعض الناس آلافٌ عديدة من الليرات الذهبيَّة، وهم يُبدِّدونها في سبيل ملذَّاتِهم يمينًا ويسارًا، ويملأُون بطونَهم الشَّرِهة بأَشهى الأَطعمة وأَنفسِها وأَفدحِها ثمنًا؟ ولِمَ يوجَدُ سواهم، كهؤلاء المساكين، وهم يكدحون طوالَ يومِهم، ويكادون لا يتبلَّغون ويملأُون بطونَهم بالخبزِ الأَسودِ الجافّ؟

            أَهذه هي العدالةُ التي يتبجَّحون بها؟ أَهذه هي نصوصُ "الميثاق الأَطلنتيكيّ" الذي يقولُ أَوَّلُ بنوده بـ"التحرُّر من العَوَزِ والفَقر"؟

            كنتُ في ثورةٍ نفسيَّة عنيفة على الأَنظمةِ البشريَّة القاسية غيرِ العادلة. وكنتُ أَحترقُ دون أَن أَستطيعَ عملَ شيءٍ ما.

            كان ذلك منذ 57 عامًا، في خلالها أُسِّسَت مُنظَّمةُ الأُمَمِ المُتَّحدة، ووُضِعَت "شرعةُ حقوق الإنسان"، وعُقِدت مئاتُ المُؤتمرات، وأُرسِلَت آلافُ النداءات لإغاثةِ الجائعين والفقراء... ومع كلِّ ذلك كان يعيشُ في العالَم، في نهاية القرنِ العشرين، حوالى بليون و300 مليون شخص بدولار واحد أو أقلّ في اليوم،[21] وكان يحقُّ على تلك الدوَلِ الأفقر دَينٌ يبلغُ مجموعُه 422 بليون دولار.[22] ولا يخطُرَنَّ في بال القارئ أَنَّ الفقراءَ يعيشون في دوَلِ العالَمِ الثالث فقط؛ ففي تقريرٍ لـ"وكالة إغاثة الأطفال" التابعة للأُمَمِ المُتَّحدة أَنَّ في أُوروبَّا الشرقيَّة والاتِّحاد السوفياتيّ سابقًا 18 مليون طفل يعيشون في فَقرٍ مُدقِع. كذلك أَسفرَت الإحصاءاتُ الأمريكيَّة السكَّانيَّة، عام 1998، عن أنَّ 36 مليونًا وخمسمئة أَلف أَمريكيّ ما زالوا يعيشون في حالة الفَقر؛ وهذا المجموعُ يُشكِّلُ نسبة 13.7% من سكَّان الولايات المُتَّحدة. ومن ناحيةٍ أُخرى، يُقَدَّرُ أَنَّ واحدًا من كلِّ خمسة أَولاد أَمريكيِّـين يُعاني الفَقر، أي بنسبة 22.4%، وذلك من جرَّاء ارتفاع نسبة الولادات في الأُسَرَ البائسة بصورةٍ عامَّة. ووَفقَ دراسةٍ أَجرَتها مُنظَّمةُ الأُممِ المُتَّحدة، تحتلُّ الولاياتُ المُتَّحدة الدرجةَ العُليا في نسبة عددِ الأولادِ الفقراء بين 18 دولة صناعيَّة، تَليها المكسيك ، مع مُلاحظة أنَّ حَدَّ الفَقر في الولايات المُتَّحدة أَرفعُ مِمَّا هو في العالَم الثالث.[23]  

            إنَّ كارثةَ الفَقر التي تنكبُ حوالى بليون وثلاثمئة مليون شخص تتفاقمُ خطورتُها عندما تقترنُ بتفشِّي الأُمِّـيَّة في الشعب. فتعظمُ نسبةُ البِطالة،[24] ويضعفُ مُعدَّلُ دَخل الفرد،[25] وترتفعُ نسبة التناسُل بصورةٍ عامَّة. فازديادُ الولادات في الهند وإفريقيا والبلدان الإسلاميَّة أو العربيَّة نسبتُه أعلى جدًّا مِمَّا هو عليه في أُوروبَّا أو الولايات المُتَّحدة؛ ولا يشذُّ عن هذه القاعدة إلاَّ الصين من جرَّاء فرضِ الدولة فيها قوانينَ للحَدِّ من النَّسل. وبينما يتوقَّعُ الخُبراءُ أَن يتناقصَ عددُ السكَّان في أكثر البلدان المُتطوِّرة خلال نصف القرنِ المُقبِل، فإنَّ العكسَ سيحصل في البلدان الفقيرة، إذْ سيزدادُ عددُ السكَّان في أكثرها ازديادًا كبيرًا؛ فيرتفعُ في كلٍّ من إيران ومصر إلى 115 مليون شخص، وفي نيجيريا إلى 244 مليونًا، وفي باكستان إلى 345 مليونًا، وفي الصين إلى 1478 مليونًا، وفي الهند يبلغُ الذروة فيصل إلى 1529 مليون نسمة.[26] والجديرُ بالذكر أَنَّه كان على البشريَّة أن تُمضيَ حوالى عشرة آلاف سنة ليبلغَ عددُها البليون عام 1800. لكنَّ عددَ البشر تضاعف في خلال 130 سنة؛ وبعد حوالى قرنَين من المُتوقَّع أن يبلغ 135 بليون شخص. وعُشرُ هذا العدَد من السكَّان، الذين سيعيشُ أكثرُهم في عالَمٍ بائسٍ مُتخلِّف، يكفي ليجعلَ الأرضَ جحيمًا فعليًّا، إذا بقيَت الظروفُ العالَميَّة على ما هي عليه اليوم.[27] ومتى عرفنا أَنَّ 70% من فُقراء العالَم هم من الإناث، و66% من أُمِّـيِّي العالَم هم من النساء (وَفقَ إحصاءات مُنظَّمة الأُمَم المُتَّحدة عام 1995)، وأَنَّ حوالى ثلاثين مليون شخص يموتون، كلَّ عام، من جرَّاء المجاعات، و800 مليون شخص يُعانون أمراضَ نقصِ الغذاء، وبليونَي شخص (أي ثُلث البشريَّة) يُكابدون داءَ فَقرِ الدَّم،[28] فإذْ ذاك يتَّضحُ لنا حجمُ كارثة الفَقرِ المقترنِ بالأُمِّـيَّة.

            عام 1983 قام الدكتور داهش برحلةٍ إلى الهند دامت بضعةَ أَشهر. وكدأبِه في جميع رحلاته كان يُدوِّنُ مُلاحظاتِه وانطباعاتِه تدوينًا فوريًّا. فقد جوَّلَ في نيودلهي وبومباي وجيبور وكلكتَّا ومَدراس وكشمير وضواحي هذه المدُن؛ فاهتزَّت نفسُه للفَقرِ والشقاءِ والمهانة تضربُ أَهوالُها معظمَ السكَّان: فحيثما كان يتَّجه كان الشحَّاذون يُطوِّقونه أرتالاً أرتالاً كبارًا وصغارًا، نساءً ورجالاً. أَمَّا بيوت الملايين منهم فقد كانت أَكواخًا مُتلاصقة شيدَت من الحُصُر والخِرَق البالية والتَّنَكِ الصَّدِئ والأخشابِ المُتهرِّئة، وسُقِفَت بالخَيش (الجنفاص). وعند وصولِه إلى مطار مَدراس شاهدَ شخصَين يتوسَّدان الرصيفَ الحجَريّ؛ فانتفضَ قائلاً بحزنٍ بالغ: "تُرى، هل نحن حقًّا في القرنِ العشرين، قرنِ العلمِ والمعرفة والمُساواة! إنَّها ألفاظٌ جوفاءُ مُخزِية! فأَين أَين هي الإنسانيَّة؟ وبأَيِّ مكانٍ توارَت؟ حقًّا إنَّها مأساةٌ مُخزِية مُخجِلة!"[29]

رابعًا- الاستعبادُ الحديث

            كان الدكتور داهش، طولَ حياته، يرفضُ الاستعانةَ بأَيِّ خادم؛ بل لقد سمعتُه ينصحُ بعضَ الداهشيِّـين الميسورين مِمَّن كانوا، قبل تعرُّفِهم إلى الحقائق الروحيَّة الداهشيَّة، يستعينون بالخدَم في منازلِهم، بأَن يُقلِعوا عن هذه العادة السيِّئة. فالبشرُ جميعُهم إخوة، وليس من سيِّدٍ أو عبدٍ في الأُسرة الواحدة. فأَصلُ الناس واحد، والأرضُ بمُستواها الروحيِّ ساوت بيننا جميعًا، ولا فضلَ لأَحدٍ على آخَر إلاَّ بالخيرِ الذي يُقدِّمُه لنفسه وللبشر، وليس خيرًا إذلالُ الناس وازدراءُ كرامتهم الإنسانيَّة.

            لقد رأَى الدكتور داهش في أَثناءِ تجوالِه في مُدُنِ الهند أَوضاعَ البُؤسِ والمذلَّة واستعبادَ الإنسانِ للإنسان بأَبشعِ مظاهرها، وهي تعمُّ أَرجاءَ البلاد قاطبة. فانتفضَ أَلَمًا وسخطًا على التقاليد الظالمة التي ما تزالُ تجعلُ فئةً من الهنود تُعاملُ فئةً أُخرى مُعاملةَ الأسيادِ للعبيد، تلك المُعاملة التي ثار المهاتما غاندي عليها ساعيًا إلى إبطال نظامِ الطبقات التي ترزحُ في أَدناها طبقةُ المنبوذين، لأنَّ الطبقيَّةَ المُهينة والاستعباد ليسا من جوهرِ أيِّ دين. لكنَّ مُؤسِّسَ الداهشيَّة اضطربَ أيَّما اضطراب لِما شاهدَه في كَلكَتَّا، فدوَّنَ في كتاب رحلته:

            كانت أرتالٌ من الشحَّاذين والشحَّاذات يُحاصرون سيَّارتَنا، ويطلبون حسَنة. وبعضُهم كان مقطوعَ اليَد، وآخَرُ مبتورَ الرِّجْل، وشحَّاذةٌ مبتورةَ الشفتَين، وسواها جاحظةَ العَينَين، وأُخرى تُمثِّلُ العتَه التامَّ بأَجلى معانيه وأَتمِّ مبانيه. إنَّها مناظرُ مُؤذية للغاية! فكيف تسمحُ حكومةُ الهند بهذه المشاهد التي تعودُ بالضررِ الكبير على سمعة الهند وحكومةِ الهند وشعبِ الهند! أَنا ما كنتُ أَظنُّ أَنَّني سأُشاهدُ ما شاهدتُه! إنَّه فظيعٌ للغاية، ومُزعِجٌ للغاية![30]

            واستفظاعُ الدكتور داهش لم يكُن للحالةِ البالغةِ البُؤس والشقاء التي عاينَها فحسب، بل لأنَّه عرفَ أنَّ هذه المذلَّة التي يرزحُ تحت نيرها مئاتُ الأُلوف وربَّما الملايينُ من الهنود إنَّما سببُها استعبادُ الإنسان للإنسان، بل استعبادُ أُولئك المُشوَّهين من قِبَلِ أَهاليهم وذَويهم، فهم الذين بتَروا أَعضاءَهم ومسَخوا خلقتَهم، ودرَّبوهم على الاستعطاء بمعرفةِ الدولة وسكوتها. إنَّها الاستهانةُ العُظمى بالكرامةِ الإنسانيَّة![31] وزاد الطينَ بَلاًّ أَولئك الأُلوف من الشبَّان الحُفاة الذين يجرُّون العربات راكضين لاهثين بدلَ الجياد أو الجواميس. فقد انتفضَت نفسُ رجلِ الروح من منظرِهم. ومع أَنَّهم يملأون شوارعَ كَلكَتَّا، فقد رفضَ أن يعتليَ عربةً يجرُّها إنسان؛ علمًا بأنَّه كان يسيرُ مُجهَدًا، مُتوكِّئًا على عصاه، والآلامُ المُبرِّحة تنهشُ ظهرَه. فقال:

            إنِّي أَربأُ بنفسي عن أن أدعَ رجُلاً يتحمَّلُ مشاقَّ إيصالي إلى مكانٍ حتَّى لو كان يبعدُ بضعةَ أَمتار فقط. إنَّ الإنسانيَّة تتأَلَّم لهذه المشاهد المُؤذية جدًّا. فليت حكومةَ الهند تمنعُ هذه البِدعةَ الغريبة رحمةً بهؤلاء الشبَّان وصَونًا لكرامتِهم، وحِفاظًا على صحَّتِهم.[32]

            مُنطلَقُ الداهشيَّة في ضرورة صَون كرامة الإنسان هو المُنطلَقُ نفسُه الذي تعتمدُه الكتُبُ المُقدَّسة. فتعاليمُ الأنبياء مَبنيَّة كلُّها على الأصلِ الواحد الذي ينحدرُ منه البشر كما على واجبِ الإخاء والمحبَّة بينهم، وليس فيها ما يُشيرُ إلى فضلِ الغنيِّ على الفقير. وإذا راعى الرسولان بطرس وبولس النظامَ السائدَ في الدولةِ الرومانيَّة منذُ ألفَي سنة، فذلك عن حكمةٍ وبُعدِ نظَر. فنظامُ العبيد لم يكُن راسخًا في تقاليد الرومان الاجتماعيَّة فحسب، بل كان راسخًا في بِنيتهم العسكريَّة أَيضًا منذ آلاف السنين، وكلُّ تحريضٍ على تقويضِ ذلك النظام، والدولةُ الرومانيَّةُ في ذروةِ سطوتِها، والمسيحيَّةُ في طفولتِها، كان يُهدِّدُ المسيحيّـين بالإبادة. كذلك نرى الموقفَ نفسَه في تعاليم القرآن الكريم. ففي الآيةِ الأُولى من سورة النساء: )يا أَيُّّها الناسُ اتَّقوا ربَّكم الذي خلقَكم من نفسٍ واحدة وخلقَ منها زوجَها، وبَثَّ منهما رجالاً كثيرًا ونساءً.( تذكيرٌ للناس بأَصلهم الواحد وبأَنَّهم عائلة واحدة، وبأَنَّ عليهم أن يخشَوا الله في التباهي بأُصولٍ شريفة. ومرمى هذه الآية يتَّضحُ أكثر في الآية 13 من سورة الحُجُرات القائلة: )يا أَيُّها الناسُ، إنَّا خلقناكم من ذكَرٍ وأُنثى، وجعلناكم شعوبًا وقبائلَ لتَعارَفوا؛ إنَّ أَكرمَكم عند اللهِ أَتقاكم...(فالغايةُ الإلهيَّة، إذًا، من تفريق الناس شعوبًا وقبائلَ مختلفة في اللون والجنس والعِرق ليس إظهارَ أفضليَّةِ أقوامٍ على آخَرين، بل التعارُف والتفاهم وكَبح العنجهيَّة. والقرآنُ الكريمُ يحوي كثيرًا من الآيات التي تحضُّ وتُشجِّعُ على إعتاق العبيد.[33]             وهكذا نرى، في ضوءِ التعاليم الداهشيَّة، أَنَّ الخروجَ على مبدإ التآخي والتساوي في الكرامة الإنسانيَّة في الشعوبِ المسيحيَّة أو الإسلاميَّة لا علاقةَ له البتَّة بقواعدِ الدين الموحاة، بل هو ظرفيٌّ أو طارئٌ عليها. وإن وافقَت المُؤَسَّساتُ الدينيَّة على نظام الاستعباد أو الاستبداد، قديمًا أو حديثًا، فإنَّما ذلك بدافعٍ من تحالُفها مع الإقطاعيِّين والأثرياء وذَوي النفوذ السياسيّ والاجتماعيّ؛ وهذا السلوكُ ضلالٌ يُبعِدُها عن جوهر الدين الحقّ.

            إنَّ الاستعبادَ بمعناه القديـم يكادُ يتلاشى من العالَم من جرّاء نشاط مُؤَسَّسات الذَّود عن حقوق الإنسان داخل مُنظَّمة الأُممِ المُتَّحدة وخارجها. لكنَّ نوعًا من الاستعباد الجديد ما زال ينتشرُ في العالَم، وهو لا يقلُّ خطرًا عن القديم وإن اختلفَت أَنواعُه الحديثة؛ ولا يقتصرُ على الشرق، بل إنَّ نسبةَ بعضِ أنواعه، مثلما سأُبيِّن، أَرفعُ في الدوَلِ الغربيَّة منها في البلدان الشرقيَّة باستثناء الهند وباكستان. وفي ما يأتي أَشكالُه الأربعةُ الأبرز:

            أَوَّلاً- التجنيدُ الإكراهيُّ للأَحداث: إنَّّّّّّّّ مُؤَسَّسةَ "صندوق إنقاذ الأطفال" السُوَيديَّة أَجرَت تحرِّياتٍ في 26 بلدًا أسفرَت عن أَنَّ رُبعَ مليون من الأحداث، بين السابعة والخامسة عشرة من أعمارهم، قد جُنِّدوا وأُشرِكوا في 33 نزاعًا مُسلَّحًا في خلال العامَين 1995 و1996، وأنَّهم استُخدِموا بصفةِ قتَلة أو جواسيس أو مُخبِرين، في حين أنَّ جماعاتٍ قليلة منهم استُخدِموا في الطَّبخِ والحَملِ والبريد في ظروفٍ خَطِرةٍ جدًّا. وتجنيدُ الأحداث الإكراهيّ جرى من قِبلِ الحكومات وأعدائها المُسلَّحين على السواء. ومن الأحداثِ مَن كانوا يُخطَفون ويُستَخدَمون، ومنهم مَن كانوا يُجبَرون على الدفاعِ عن أُسَرِهم، ومنهم مَن كان يدفعُهم أَهاليهم إلى الانخراط في الجُنديَّة ليُساعدوهم على إعالةِ أُسرِهم. وفي بعضِ البلدان كانت تُجنَّدُ الفتياتُ المُراهقات فيُرغَمنَ على القتال كما على تعاطي الجنس. أمَّا البلدانُ المَعنيَّة بالتقرير السُّوَيديّ فمنها كولومبيا وغواتيمالا والبيرو والإكوادور في أمريكا الجنوبيَّة، وجنوب إفريقيا وأَنغولا وأُوغَندا وجيبوتي وروَندا والصومال والسودان والجزائر في إفريقيا، وكشمير وإيران وكمبوديا وميانمار وشِشْنيا في آسيا، وتركيَّا والبوسنَه وكرواتيا في أُوروبَّا.[34] وعام 2000 كان عددُ الأحداث المُجنَّدين في كردستان 3000، وفي روندا 20 ألفًا، وفي السودان 25 أَلفًا، وفي أَفغانستان 100 ألف.[35]

            ثانيًا، الاستعبادُ نتيجةً للعجز عن إيفاء الديون الطفيفة: يُرجِّحُ الخُبراءُ أَنَّ عددَ المُستعبَدين على هذا الوجه يتراوحُ في الهند بين 18 و22 مليون فرد، وفي باكستان بين مليونَين ونصف مليون وثلاثة ملايين ونصف مليون فرد. وقد درجَ كثيرون من أرباب الأراضي في الدولتَين المذكورتَين على أن يستعبدَ كلٌّ منهم العشرات وربَّما المئات من العائلات كبارًا وصغارًا بتشغيلهم في أراضيه الزراعيَّة أو مقالع الحجارة أو خدمة منـزله وقضاء حاجاته، وذلك بسببِ عجزهم، وأحيانًا عجزِ آبائهم أو جدودهم الذي انتقلَ إليهم بالوراثة، عن إيفاء قروضٍ طفيفة تكادُ لا تكفي ثمنَ خبزهم اليوميّ.

            ثالثًا، الرقيقُ الأبيض: خَطفُ عصاباتٍ إجراميَّة للمئات وأحيانًا للآلاف من الأشخاص شُبَّانًا وفتيات، وبَيعُهم في دُوَلٍ أُخرى رقيقًا أبيض لتعاطي الدعارة بالعُنفِ والإكراه أوَّلاً، ثمَّ بالتهديد والإغراء الماليِّ ثانيًا. وهذا النوعُ من الاستعباد ما زال يحدثُ في عدَّةِ بلدانٍ أهمُّها السودان وباكستان والبرازيل. ففي جنوبيِّ السودان، حيثُ النـزاعُ المُسلَّحُ قائمٌ بين قوَّات السلطة الحاكمة والمُتمرِّدين الجنوبيِّين المُنتمين إلى المسيحيَّة أو الأديان الإفريقيَّة الشعبيَّة، يقومُ العربُ البَدوُ، بين الفينةِ والأُخرى، بغاراتٍ مُسلَّحة على القُرى الجنوبيَّة، فيخطفون النساءَ والأولادَ ويستعبدونهم من أجل خدمتهم المجَّانيَّة وقضاءِ شهواتِهم الجنسيَّة، وذلك بمعرفة السلطات السودانيَّة. وقد أَدانت لجنةُ حقوق الإنسان التابعة للأُممِ المُتَّحدة حكومةَ السودان لسماحها باستمرار الاستعباد على أراضيها.[36]

            رابعًا، استعبادُ العصابات للمُهاجرين بطُرُقٍ غير مشروعة: يرى الخُبراءُ أنَّ هذا النوعَ من الاستعباد مُزدهرٌ في مُختلف الدوَلِ الغربيَّة. فالعصاباتُ الدوليَّة تُؤَمِّنُ سُبُلَ السَّفَر للتائقين إلى الهِجرة سعيًا وراء الارتزاق مِمَّن هم عاجزون ماليًّا، ثمَّ تزجُّ بهم في أوضاعٍ خطِرةٍ وغير قانونيَّة، بحيثُ يبقَون يعملون في الخفاء مُستعبَدين للعصابات ولأصحاب العَمَل المُتعاملين معها. ويرى الخُبراءُ أنَّ عددَ هؤلاء المُستعبَدين يتراوح بين 1000 و1500 شخص في سويسرا ، وبين 2000 و3000 شخص في السُّوَيد، وبين 4000 و5000 شخص في بريطانيا ، وبين 10 آلاف و20 ألف شخص في كنَدا ، وبين 30 ألفًا و40 ألف شخص في إيطاليا ، وبين 100 ألف و150 ألف شخص في الولايات المُتَّحدة.

            ويتراوحُ عددُ المُستعبَدين من النَّوعَين الأخيرَين في البلدان العربيَّة: بين 1000 و1500 شخص في لبنـان، و1000 و2000 شخص في كلٍّ من مرَّاكش والجزائر ومصر والكُوَيت والبحرَين وعُمان وقطَر ودولة الإمارات واليمَن، وبين 2000 و5000 شخص في السعوديَّة، وبين 20 ألفًا و50 ألف شخص في السودان.[37]

خامسًا- تفَشِّـي الأَوبِـئة

            لقد لاحظَ مُؤَسِّسُ الداهشيَّة بأُمِّ عينه، في أَثناء تجواله في مُدُنِ الهند عام 1983، مدى تفشِّي الفقر والأُمِّـيَّة والاستعباد البشريّ، ومدى إسهامِ هذه العوامل الثلاثة في نَشرِ الأمراض الفتَّاكة والأوبئة من جرَّاء تلوُّثِ مياه الشُّرب وانعدامِ المنافع الصحِّـيَّة. واستفظعَ مشاهدَ الرجال والنساء يستحمُّون في المياهِ القَذِرةِ السوداء، وفيها يغسلون ثيابَهم، بل يغسلون أَوانيَ الطعام! ذلك فضلاً عن أَنَّ "دُخانَ المازوت مُخيفٌ رهيب ، فهو يملأُ الخياشيمَ ويُسمِّمُ الأجواء، ورائحتُه الكريهة تدَعُ الرأسَ في دوَّامة الدُّوار."[38] إنَّها مأساةٌ رهيبةٌ مُخجِلة تنطبقُ أيضًا على إفريقيا وكثيرٍ من دوَلِ العالَمِ المُتخلِّفة.

            فمن أصل أربعة بلايين شخص يعيشون في دُوَلٍ يعظمُ فيها الفقرُ والجهلُ أكثرُ من بليون و300 مليون شخص محرومون من مياهٍ صالحة للشُّرب، وحوالى بليون و800 مليون شخص محرومون من مرافقَ صحِّـيَّة. وهذا الوَضعُ البائس يُؤَدِّي إلى قَتلِ حوالى ثلاثة ملايين شخص بالجراثيم الفتَّاكة والأوبئة كلَّ عام.[39] فبينما نجدُ أنَّ سكَّانَ الولايات المُتَّحدة وكنَدا وإنكلترا ودوَل أوروبَّا الغربيَّة يتمتَّعون بمياهٍ صالحة للشُّرب كما بمرافقَ صِحِّـيَّة للخلاء والاستحمام بنسبة 100 بالمئة، فمياهُ الشُّرب الصالحة لا يحظى بها في أَفغانستان إلاَّ 13%، وفي كلٍّ من الصين والجزائر 75%، وفي سوريا 80%، وفي مرَّاكش 82%، وفي الهند 88%. أمَّا المرافقُ الصحِّـيَّة فلا يحظى بها في أَفغانستان إلاَّ 12%، وفي الهند 31%، وفي الصين 38%. ومع تفشِّي الأُمِّـيَّة والفَقر وازدياد نسبة الولادات تُصبحُ المنازلُ مُكتظَّة بالمُتساكنين من جهة، وخالية من المرافق الصحِّـيَّة من جهةٍ أُخرى؛ وهذا الوضعُ يزيدُ في التلوُّث وتفاقُم العدوى. فبينما نجدُ أنَّ لكلِّ شخصٍ في الولايات المُتَّحدة وإنكلترا غرفتَين، كمُعدَّلٍ عامّ، نجدُ أَنَّ الغرفةَ الواحدة في باكستان يتساكنُ فيها ثلاثةُ أَشخاص في المعدَّلِ العامّ.[40]

            ولتكوين فكرةٍ عن مدى فَتكِ الأوبئة، إليكَ هذه الأرقام: يبلغُ مُعدَّلُ عددِ الوفَيات سنَويًّا من جرَّاء الملاريا أكثر من مليون ومئة ألف شخص معظمُهم من النساء الحوامل والأطفال. ويقضي سنَويًّا بذات الرئة والإسهال الحادّ مئةُ ألف طفل في أَفغانستان وحدها.[41] أَمَّا الإيدز فقد أَصبحَ أخطرَ وباء، إذْ بلغَ عددُ ضحاياه حتَّىأواخر القرن العشرين 20 مليون شخص، كما أُصيبَ بعدواه 50 مليون شخصٍ آخرين. ومن المُتوقَّع أن يرتفعَ عددُ الأحداث الأيتام بسبب هذا المرض، بحلول عام 2010، إلى حوالى 25 مليون ولد مُعظمُهم في إفريقيا السوداء.[42]

سادسًا- الأخطارُ العامَّةُ على البيئة

            ذاتَ يومٍ من ربيع عام 1970، كنتُ مع عُصبةٍ من الداهشيِّـين نُجالِسُ مُؤَسِّسَ الداهشيَّة مُتسقِّطين منه الحقائقَ الروحيَّة. وأَفضَت بنا المُحادَثة إلى التطرُّق إلى حكمةِ اللهِ في خَلقِه. قال الدكتور داهش ما مَفادُه:

            كيف يعمى كثيرون من المُثَقَّفين عن رؤيةِ حكمةِ الله في صنائعه! خُذوا مثَلاً حزام فان أَلِن [Van Allen]، وهو الغلافُ الأعلى لفضاء الأرض؛ هذا الحزام له وظيفة معيَّنة تُفيدُ كوكبَنا. فليس الإنسان هو الذي أَقامَه ولا تطوُّرُ الحياة في الأرض. كذلك طبقة الأُوزون [الأُوكسيـجين النشيط O3] التي هي أَشبهُ بدرعٍ واقية تحمي الأرضَ من أَذى الأشعَّة ما فوق البنفسجيَّة. فلو لم تكن هذه الدرعُ موجودة، أو لو أصابَتها خروقٌ واسعة، لسببٍ من الأسباب، لَكانت تسرَّبَت أشعَّةُ الشمس ما فوق البنفسجيَّة إلى سطح الأرض وقَضَت على الحياة فيها، سواءٌ في الإنسان أو الحيوان أو النبات. أَلا يعقلُ مُدَّعو الثقافة من المُلحِدين فيُفكِّروا بأَنَّ هذه الطبقةَ الواقية إنَّما وضعَها عقلٌ مُدبِّرٌ في مُنتهى القدرة والحكمة لأنَّ لها غاية واضحة هي حمايةُ الحياة! فكلُّ ما في الأرض من خَلقٍ وما في الكَون من نظام وراءَه تصميمٌ إلهيٌّ وحكمةٌ فائقة.

            عام 1970 لم يكُن أَحدٌ، حتَّى من عُلماء الفضاء ليقفَ مَليًّا عند حزام فان أَلِن أَوطبقة الأُوزون. لكنْ عام 1985 (أي بعد 15 سنة) اكتشفَ العُلماءُ، لأَوَّل مرَّة، خَرقًا في طبقة الأُوزون فوق القُطبِ الجنوبيّ. وعام 1998 بلغَ اتِّساعُ الخَرقِ نفسِه 25 مليون كيلومتر مربَّع، بعد أن كان 3 ملايين كيلومتر مربَّع عام 1993. وهذا الأمرُ أَثار مخاوفَ العُلماء، ودفعَ قادةَ الشعوب إلى عَقد مُؤتَمَرٍ عالَميّ في كيوتو باليابان عام 2001، لإبرام مُعاهدة دُوَليَّة تُلزِمُ الحكومات بخَفضِ إنتاج ثاني أُوكسيد الكربون الذي اعتبرَه العُلماءُ من أهمِّ العوامل التي أَسهمَت في خَرقِ طبقةِ الأُوزون. لكنَّ الولايات المُتَّحدة وللأَسَف رفضَت التوقيع على المُعاهدة بحُجَّة أَنَّها تُهدِّدُ مصالحَها الاقتصاديَّة.[43] مع أنَّ عبقريَّ الفيزياء، ستيفِن هوكِنغ Stephen Hawkingكان قد أرسلَ نداءً، قبل بضعة أَشهر، اجتمعَت فيه أصواتُ جميع العُلماء، يقولُ فيه إنَّ الجنسَ البشريَّ قد لا يُتاحُ له أَن يستمرَّ قَيدَ الحياة حتَّى نهايةِ القرن، من جرَّاء الارتفاع المُطَّرِد في حرارة الجَوِّ العامَّة بسبب ازدياد الخَرقِ في طبقة الأُوزون اتِّساعًا، الأَمرُ الذي قد يجعلُ جوَّ الأرضِ شبيهًا بجَوِّ كوكبِ الزُّهرة، يغلي فيه الحَمضُ الكبريتيّ.[44]

            وزيادةً على أخطار الأشعَّة ما فوق البنفسجيَّة المُتسرِّبة إلى الأرض، فإنَّ ارتفاعَ الحرارة الشامل بدأَ يُذيبُ الجبالَ الجليديَّةَ الدُّهريَّة في القُطبيَن؛ وهذا سيُؤَدِّي إلى ارتفاع مُستوى البحار وتهديدِ المُدُن الشاطئيَّة المُنخفضة في كثيرٍ من أَنحاء العالَم؛ ذلك فضلاً عن إثارةِ الأَعاصير المُدمِّرة وانتشار الأَوبئة المحمولةِ بالبرغش...[45] في 6/9/2000، وقفَ رئيسُ المَلديف على منبرِ الأُممِ المُتَّحدة مُنذِرًا قادةَ العالَم بقولِه: "عندما تجتمعُ مُنظَّمةُ الأُمم المُتَّحدة في العام المُقبِل للاحتفاءِ بقرنٍ جديد، تُرى،هل ستكون المَلديف والبلدانُ الأُخرى المُنخفضة مُمثَّلة هنا؟"[46]

            لنَزِدْ على هذه الأخطار العامَّة تقلُّصَ التُّربة الخصبة المُطَّرِد، إذْ يتحوَّلُ سنَويًّا حوالى 200 ألف كيلومتر مربَّع من الأراضي الزراعيَّة إلى صحارى؛[47]وتلوُّثَ البيئة بفِعلِ ملايين الأطنان من الأجهزة الإلكترونيَّة التي تُرمى مع النفايات كلَّ عام؛ وتسارُعَ انقراضِ الأنواع الحيَّة بمُعدَّل مئة نوع كلَّ يوم، الأمرُ الذي يجعلُ الأراضي الزراعيَّة أقلَّ خِصبًا؛[48]وعشراتِ آلاف الأطنان من نفايات الموادِّ العاليةِ الإشعاع التي تُدفَن في الولايات المُتَّحدة كما في مناطقَ أُخرى من الأرض، علمًا بأنَّ فعَّاليَّـتَها الإشعاعيَّة الخطِرة ستستمرُّ 10 آلاف سنة[49] وإذْ ذاك لِنتساءََلْ: أَيُمكنُ مُعالجةُ جميعِ تلك الأخطار المُحدِقة بالأرضِ كلِّها من دون أن نُفكِّّّرَ بمصلحة الشعوبِ قاطبة وبالمصير المُشتَرك للعالَم؟ وهل يكونُ طريقُ الإنقاذ هو طريقَ "العالَم الواحد" مثلما تراه الداهشيَّة ؟ هذا ما سنبحثُه في الحلقة المُقبلة.


1. د داهش: "مُذكِّراتُ دينار" (نيويورك: الدار الداهشيَّة، 1981)، ص 108.

The Union of International Associations, Ed., Encyclopedia of. 2World Problems and Human Potential, Third Edition. Muenchen, New York, London, Paris: K. G. Saur, 1991.

Robert S. McNamara & James G. Blight, Wilson’s Ghost: 3. Reducing the Risk of Conflict, Killing, and Catastrophe in the 21st Century (New   York: Public Affairs, LLC, 2000), Chapter I

4. د. داهش: "مُذكِّراتُ دينار"، ص 116-117.

5. د. داهش: "الرحلاتُ الداهشيَّة حول الكُرَةِ الأرضيَّة"، الجزء 18 (نيويورك: الدار الداهشيَّة، 1994)، ص 401-403.  

6. د. داهش: "مُذكِّراتُ دينار"، ص 105-106.

7. المصدرُ السابق، ص 107-108.

McNamara &Blight, Wilson’s Ghost, Chapter I8.

Jonathan Gloves, Humanity: A Moral History of the Twentieth 9.Century (New Haven & London: Yale Univ. Press, 1999), p. 2.

                        وقد ذكرَ المُؤَلِّّف أَعمالَ الأتراك في سياق حديثِه عن إيفان كرَمازوف في رواية دوستويفسكي الشهيرة.

C. L. Sulzberger and the Editors of American Heritage, The 10. American Heritage Picture History of World War II (New York: Bonanza Books, 1966), pp. 589, 612-617; Time, Aug. 7, 1995, pp. 42-53; Gar Alperovitz, “Why the US Dropped the Bomb?” in Technology Review, Aug./Sept. 1990, p. 29.

وكاتب المقال، هو المُؤَرِّخ الرئيس "للَّجنة التنظيميَّة النَّوَويـَّة"، وهو يرى أنَّ إسقاط القنبلتَين النَّوَويَّـتَين كان أُسلوبًا مكيافيليًّا هدفُه ترجيحُ ميزان القوى لمصلحة الولايات المُتَّحدة ضدَّ الاتِّحاد السوفياتيّ. أمَّا المجلَّة فتصدر عن جامعة MIT البارزة.  

New York Times, Feb. 20, 200211.

Newsweek, Feb. 9, 1998; 12. http://www.wcw.org/ictr/indictments/ntakiturimana2.txt

علمًا بأَنَّ عددَ الألغام والبلدان في ازدياد.Time, May 13, 1996.13.

14. أَعلنَت وكالةُ الصحافة النيوزيلانديَّة الرصينة ، عام 2000، أَنَّ مليونًا ومئتَي طفلٍ عراقيّ، بينهم 750 أَلف طفل دون الخامسة من العُمر، قضَوا نحبَهم من جرَّاء نُقصان الغذاء والدواء بسبب الحصار الاقتصاديِّ المضروب على العراق منذ عدَّة سنوات. واحتجاجًا على استمرار عواقب الحصار استقال ثلاثةُ مُوظَّفين كبار يعملون في ميدان الأَعمالِ الإنسانيَّة بمُنظَّمة الأُمَمِ المُتَّحدة مع المُنسِّقة دنيس هاليداي (New Zealand Press Association/World Press Rev., July 2000)

UN High Commissioner for Refugees, 2000.15.

16. د. داهش: "مُذكِّراتُ دينار"، ص 117.

17. د. داهش: "الرحلاتُ الداهشيَّة حول الكُرةِ الأرضيَّة"، ج 14 (نيويورك: الدار الداهشيَّة، 1992)، ص 100-101.

18. د. داهش: "بريء في الأغلال" (مخطوطة قَيد النشر)، 22 و23/9/1944.

UN Statistics Division, Indicators on Literacy. Estimated adult (15+). 2000 . http://unstats.un.org/unsd/demographic/default 19.

إليك نِسَبَ الأُمِّـيَّة في البلدان التالية وَفقَ الإحصاء نفسِه:

تركيَّا: 6.7% للرجال، 23.4% للنساء

إندونيسيا: 8.1% للرجال، 17.9% للنساء.

إيران: 34.4% للرجال، 54.1% للنساء.

موزمبيق: 39.9% للرجال، 71.3 للنسا%.

باكستان: 40،1% للرجال، 68،9% للنساء.

بنين: 43.1% للرجال، 75.3% للنساء.

أَفغانستان: 48.1% للرجال، 67.1% للنساء.

غامبيا: 56% للرجال، 70.6% للنساء.

النيجر:: 76.2% للرجال، 91.6% للنساء.

                        أماَّ البلدانُ العربيَّة فنِسَبُ الأُمِّـيَّة المئويَّة فيها هي على الوجه التالي:

الأُردنّ: 5.2% للرجال، 15.7% للنساء.

لبنان: 7.9% للرجال، 19.6% للنساء.

البحرَين: 9.0% للرجال، 17.4% للنساء.

ليبيا: 9.2% للرجال، 31.7% للنساء.

سوريا: 11.7% للرجال، 39.5% للنساء.

الكُوَيت: 15.4% للرجال، 19.7% للنساء.

العربيَّة السعوديَّة: 15.9% للرجال، 32.8% للنساء.

تونس: 18.6% للرجال، 39.4% للنساء.

قطَر: 19.6% للرجال، 16.9% للنساء.

عُمان: 19.8% للرجال، 38.4% للنساء.

الجزائر: 21.8% للرجال، 42.9% للنساء.

جيبوتي: 24.4% للرجال، 45.6% للنساء.

الإمارات العربيَّة: 25.9% للرجال، 21.1% للنساء.

السودان: 30.2% للرجال، 53.7% للنساء.

اليَمَن: 32.5% للرجال، 74.8% للنساء.

مصر: 33.3% للرجال، 56.1% للنساء.

العراق: 34.4% للرجال، 54.1% للنساء.

القُمُر: 33.5 للرجال، 47.2% للنساء.

مرَّاكش: 38.1% للرجال، 63.9% للنساء.

موريتانيا: 47.2% للرجال، 67.9% للنساء.

(ليس من بيان لنسبة الأُمِّـيَّة في فلسطين والصومال.)

United Nations Human Development Organization, 2000.20.

World-Watch: State of the World 1999.21.

World-Watch, July/Aug. 2000.22.

American Demographics, Feb. 1998; UNICEF (poverty).23.

UN Statistics Division, International Labour Office, Yearbook of Labour Statistics 2001 (Geneva, 2001).24.

                       عام 1999، بلغَت نسبةُ البِطالـة في المغرب، مثَلاً، 20.3% للرجـال، و27.6 للنساء، وبعد عام بلغَت النسبةُ في الجزائر 33.9 للرجال، و29.7 للنساء.

25. المصدر السابق. مثلاً على ذلك بلغَ مُعدَّلُ مدخولِ الفردِ السَّنَويّ، تبَعًا لإحصاءات الأُممِ المُتَّحدة لعام 2000: في أَفغانستان 100 دولار أمريكيّ، في الحبشة 102$، في تشاد 112$، في الكونغو 129$، في غانا 251$. أمَّا في الهند فبلغ 476$، وفي الصين 866$. أَمَّا في البلدان العربيَّة الأفقر فكان مُعدَّلُ دَخلِ الفردِ السَّنَويّ أعلى قليلاً، بصورة عامَّة، إذْ بلغَ في اليَمَن465$، في مرَّاكش 1101$، في مصر 1355$، في الأُردنّ 1556$، في سوريا 2721$، في العراق 3352$، وفي لبنان 4788$. في حين أنَّه بلغَ في الدوَلِ العربيَّة الأغنى مُستوياتٍ أعلى، على انتشار الأُمِّـيَّة فيها. ففي السعوديَّة بلغَ معدَّلُ مدخول الفرد السَّنَويّ 8309$، في البحرَين 9939$، في الكُويت 19871$، في الإمارات العربيَّة المُتَّحدة 20457$، وفي قطَر 29100$. (المصدرُ السابق)

Beyond Malthus/The Futurist, Oct. 1999.26.

World-Watch, May/June 1998, & July/Aug. 2002.27.

28. World Press Review, Feb. 1999/ The World Resource Institute

29. الدكتور داهش: "الرحلاتُ الداهشيَّة..." المجلَّد 20، ج 2 (نيويورك: الدار الداهشيَّة، 2001)، ص 16-17. أنظر أيضًا الجزء الأوَّل من الرحلة نفسها، ص 76، 91-93، 288-291، 424-428.

30. د. داهش: "الرحلاتُ الداهشيَّة..."، المجلَّد 20، ج 1، ص 426-427.

31. أنظر المصدر نفسه، ص 289-290.

32. المصدرُ نفسُه، ص 454.

33. أنظر سورة النساء: 92، المائدة: 89، المُجادلة: 3، التوبة 60، النور:33، محمَّد: 4، البلد: 13.

  1. 34.   World-Watch, May/June 1997

Amnesty Intern.: Coal. to stop the Use of Child Soldiers, 2000 35.

36.World-Watch Review, Aug. 1998.

37. UN/Scientific American, April 2002.

38. ]د. داهش: "الرحلاتُ الداهشيَّة..."، المجلَّد 20، ج 1، 424-428.

39. World Press Review, Feb. 1999./Le Monde, Nov. 1998.

HABITAT, WHO, UNICEF: Indicators on Housing; Global Water Supply and Sanitation Assessment, 2000 Report.40.

www.abcnews.com; World-Watch, Jan./Feb. 2002. 41.

42.World-Watch, Jan./Feb. 2000; UNICEF 14th Conv. 2002

43. World-Watch, May/June 2002, pp. 30-35.

44. NASA/ cs.com/new/topstory (10/2/2000).

See S. Salem. “Global Warming”, Dahesh Voice, Winter 200145.

Bob Reiss. The Coming Storm: Extreme Weather and أنظر أيضًا: Terrifyung Future. New York: Hyperion, 2001.

46.New York Times, Sept. 7, 2000.

47.World-Watch, Nov./Dec. 1998.

48.Time, Dec. 25. 2000.

49. Time, Jan. 21, 2002; Scientific American, June 2002.

 

  Back to التعاليم الداهشيَّة بقلم الدكتور غازي براكس 

Developed by Houssam Ballout        Copyright 2019 This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.nfo All Right Reseved This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.