أنا أؤمن بأنه توجـد عدالة سماويّة, وأن جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدنيا من مُنغصات انَّ هـو الاّ جـزاءٌ وفاق لِما أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور.ولهـذا يجب علينا أن نستقبلَ كلّ مـا يحـلّ بنـا من آلامِ الحياةِ ومآسيها غير مُتبرّمين ولا متذمّرين , بل قانعين بعدالةِ السماء ونُظمها السامية.

Highlighter
أحبُّ الكُتُبَ حبَّ السُكارى للخمر , لكنَّني كلَّما أزددتُ منها شرباً, زادتني صَحوا
ليس مّنْ يكتُبُ للهو كمَن يكتُبُ للحقيقة
الجمالُ والعفّــة فـردوسٌ سماويّ .
لا معنى لحياةِ ألأنسان اذا لم يقم بعملٍ انسانيٍّ جليل .
اعمل الخير , وأعضد المساكين , تحصل على السعادة .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقـوم بأعمالِ الخير نحـو ألأنسانيّة .
الموتُ يقظةٌ جميلة ينشُدها كل مَنْ صَفَتْ نفسه وطَهرت روحه , ويخافها كلّ من ثقُلت أفكاره وزادت أوزاره .
ان أجسامنا الماديّة ستمتدّ اليها يـد ألأقـدار فتحطِّمها , ثمّ تعمل فيها أنامل الدهـر فتتَّغير معالمها , وتجعلها مهزلةً مرذولة . أمّا ألأعمال الصالحة وألأتجاهات النبيلة السّامية , فهي هي التي يتنسَّم ملائكة اللّه عبيرها الخالد .
نأتي إلى هذا العالمِ باكين مُعولين، و نغادره باكين مُعولين! فواهً لك يا عالمَ البكاء والعويل!
جميعنا مُغترٌّ مخدوعٌ ببعضه البعض.
العدلُ كلمة خُرافية مُضحكة.
أمجادُ هذا العالم وهمٌ باطل، و لونٌ حائل، و ظلٌّ زائل.
لا باركَ الله في تلك الساعة التي فتحتُ فيها عينيّ فإذا بي في مكانٍ يطلقون عليه اسم العالم .
أنا غريبٌ في هذا العالم، و كم احنُّ إلى تلك الساعة التي اعود فيها إلى وطني الحقيقيّ.
الحياةُ سفينةٌ عظيمة رائعة تمخرُ في بحرٍ، ماؤه الآثام البشريَّة الطافحة، و امواجه شهواتهم البهيميَّة الطامحة، و شطآنه نهايتهم المؤلمة الصادعة.
كلّنا ذلك الذئبُ المُفترس , يردع غيره عن اتيانِ الموبقاتِ وهو زعيمها وحامل لوائها , المُقوّض لصروح الفضيلة , ورافع أساس بناءِ الرذيلة .
الحياةُ سلسلة اضطراباتٍ وأهوال , والمرءُ يتقلَّب في أعماقها , حتى يأتيه داعي الموت, فيذهب الى المجهولِ الرهيب , وهو يجهلُ موته , كما كان يجهلُ حياته .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقومَ بأعمالِ الخير نحو الانسانيّة .
المالُ ميزان الشرِّ في هذا العالم .
السعادةُ ليست في المال , ولكن في هدوءِ البال .
كلُّ شيءٍ عظيمٍ في النفسِ العظيمة , أمّا في النفسِ الحقيرة فكلُّ شيءٍ حقير .
الرُّوح نسمةٌ يُرسلها الخالق لخلائقه لأجل , ثم تعودُ اليه بعجل .
الرُّوح نفثةٌ الهيَّة تحتلُّ الخلائق , وكل منها للعودة الى خالقها تائق .
الرُّوح سرٌّ الهيٌّ موصَدْ لا يعرفه الاّ خالق الأرواح بارادته , فمنه أتتْ واليه تعود .
أنا أؤمن بأنه توجـد عدالةٌ سماويّة , وأنَّ جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدُّنيا من مُنغِّصاتٍ وأكدارٍ انَّ هـو الاَّ جـزاء وفاق لمِا أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور . ولهـذا يجب علينا أن نستقبل كلَّ مـا يحـلُّ بنـا من آلام الحياة ومآسيها غير م
الحرّيةُ منحة من السماءِ لأبناءِ ألأرض .
الموتُ ملاكُ رحمةٍ سماويّ يعطف على البشر المُتألّمين , وبلمسةٍ سحريّة من أنامله اللطيفة يُنيلهم الهناء العلويّ .
ما أنقى من يتغلّب على ميولِ جسده الوضيع الفاني , ويتبع ما تُريده الرُّوح النقيّة .
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
الراحة التامّة مفقودة في هذا العالم , وكيفما بحثت عنها فأنت عائدٌ منها بصفقةِ الخاسر المَغبون .
ليس أللّــه مع الظالم بل مع الحقّ.
ان الصديق الحقيقي لا وجود له في هذا العالم الكاذب.
ما أكثر القائلين بالعطف على البائسين وغوث الملهوفين والحنو على القانطين , وما أقلَّ تنفيذهم القول.
يظنُّ بعض ألأنذال ألأدنياء أنّهم يُبيّضون صحائفهم بتسويدِ صحائف الأبرياء , غير عالمين بأنَّ الدوائر ستدور عليهم وتُشهّرهم.
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السَّلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
رهبة المجهول شقاء للبشرِ الجاهلين للأسرارِ الروحيَّة , وسعادة للذين تكشّفت لهم الحقائق السماويَّة .
الموتُ نهاية كل حيّ , ولكنه فترة انتقال : امّا الى نعيم , وامّا الى جحيم .
الحياةُ خير معلِّمٍ ومُؤدِّب , وخيرَ واقٍ للمرءِ من الأنزلاقِ الى مهاوي الحضيض .
حين تشكُّ بأقربِ المُقرَّبين اليك تبدأ في فهمِ حقائق هذا الكون .
مَنْ يكون ذلك القدّيس الذي لم تخطرُ المرأة في باله ؟ لو وجدَ هذا لشبَّهته بالآلهة .
المرأة هي إله هذه الأرض الواسع السُّلطان. و هي تحملُ بيدها سيفاً قاطعاً لو حاولَ رجالُ الأرض قاطبةً انتزاعه منها لباؤوا بالفشلِ و الخذلان .

أَهلُ الفكرِ والأَدبِ والفنِّ

دَورُهم ومَسؤوليَّـتُهم في الرُّقيِّ الحضاريِّ في ضَوءِ المفاهيمِ الداهشيَّة


بقلم الدكتور غازي براكْس

 


لا رَيبَ في أنَّ أهلَ العلمِ والفكرِ والأدبِ والفنّ كانوا من خيرِ جُلَساءِ الدكتور داهش، ومن الأقربِ إلى روحه السامية المُتطلِّعة دومًا إلى الإبداع، والأَكثرِ إيناسًا وتشويقًا في مُحادثتِهم إيَّاه، والأكبرِ قيمةً إذا اضطُرَّ إلى وَزنِ قيمةِ الزائرين. فلا رجالُ الدين، ولا رجالُ الحُكمِ والنفوذ، ولا ذَوو الجاهِ العريض والثروة، كانوا ليملأُوا عينَه وقلبَه مثلما كان المُبدِعون في كلِّ مجال.

وكثيرون هم الأُدباءُ والمُفكِّرون الذين كان يُفوِّضُ إليَّ أَمرَ زيارتِهم، بعد أَن يُؤتى الوحيَ بضرورةِ هدايتِهم ومُساعدتِهم إلى ما فيه خيرُهم؛ فكنتُ إذا ما ذكرتُ اسمَ داهش على مسامعهم، أحسَستُ كأنَّ شعلةً روحيَّةً ألهبَت نفوسَهم، فسأَلوا بإلحاحٍ عن كيفيَّة مُقابلته وإمكان ذلك. وكثيرًا ما كنتُ أُرافقُهم إلى زيارتِه وأُشاركُ في مُجالستِهم بحضورِه.

            ولا غَروَ أن يستأنسَ بالكُتُب والكنوز الفنِّـيَّة عند غياب أَهل الفكر والأدبِ والفنّ، فتحلُّ محلَّهم. فطالَما كان يتملَّى وجوهَ لوحاتِه الرائعة التي كانت تأهلُ جدران منـزله الفسيح والتي ستعمرُ، فيما بعد، مُتحفَه الشهير بنيويورك. أمَّا مُصاحبتُه الكتُب، بل مُنادَمتُه لها، فقد تكلَّمتُ عليها مَليًّا في ما سبَق؛ فحَسبي، في هذا المقام، أن أُلمِعَ إلى أَنَّه بين 9/3/1976، اليوم الذي هاجَرَ فيه إلى الولايات المُتَّحدة، و4/12/1978، إذْ كان في زيارةٍ لفرنسا، كان قد طالع 225 كتابًا، عددُ صفحاتها 61368 صفحة.[1] كلُّ ذلك وهو يُعِدُّ حوالى سبعين مُؤلَّفًا كتبَها لتُنشَرَ في السنوات التالية، فضلاً عن عدَّة رحلاتٍ قام بها إلى المغرب وكنَدا كما في داخل الولايات الأمريكيَّة.  

 

المواهبُ الكبيرةُ في العِلمِ والفكرِ والأدبِ والفنِّ

هي سيَّالاتٌ عُلويَّة

سببُ اهتمامِ مُؤسِّسِ الداهشيَّةِ بأَهل العِلمِ والفكر والأدبِ والفنّ في كلِّ عصرٍ ومصر أَنَّهم بُناةُ الحضارةِ ومُطوِّروها ومُجدِّدو نسغ الحياةِ فيها بعد الأَنبياءِ والمُرسَلين؛ ذلك بأَنَّ السيَّالاتِِ الروحيَّة (أي الطاقات النفسيَّة) التي تحملُ مواهبَ العباقرةِ منهم هي سيَّالاتٌ عُلويَّةٌ هابطةٌ من عوالِمَ فردوسيَّةٍ خاصَّة، أو هي، على الأقلِّ، سيّالاتٌ راقية. ووفقًا لِما حصَّلتُه من رجُلِ الروح، يُمكنُ اعتبارُ كلِّ عبقريٍّ مُزوَّدًا برسالةٍ محدودةٍ عليه أن يُتِمَّها إذا لم يُسفِّل سيَّالَه العُلويَّ، وذلك في مجالٍ خاصّ، سواءٌ أَكان في العلم اكتشافًا أو اختراعًا، أم في الفكرِ والأدبِ هدايةً أو كِفاحًا وإصلاحًا، أم في الفنِّ إعلاءً لغرائز الإنسان الدُّنيا ونهوضًا به إلى سماءِ الجمال؛ فسيَّالاتُ العباقرةِ تابعةٌ لسيَّالات الهداية الروحيَّة التي تُرسِلُها العنايةُ الإلهيَّة إلى الأرض في كلِّ فترة لتُجدِّدَ حيويَّةَ الروحِ وتُنمِّيَ الحضارةَ فيها. وبسببِ هذه الموهبة الفطريَّة وما تحملُه من مَهمَّةٍ روحيَّة من المُحال أن يُصبحَ الإنسانُ من عباقرةِ الفلسفة أو العلم أو الأَدبِ أو الفنّ بمجرَّدِ المُطالعة وحيازة الشهادات الجامعيَّة ومُمارسةِ فنٍّ من الفنون، إن لم يُعطَ الموهبةَ من فوق. فالثقافةُ تصقلُ الموهبةَ، لكنَّها لا تُبدِعُها.

لقد أكبرَ الدكتور داهش أمامي كثيرين من العباقرة، منهم سقراط وأَفلاطون وعليّ بن أَبي طالب وشكسبير وتولستوي وتوماس غراي وطاغور وجبران وآينشتاين وغاندي، وقال إنَّ سيَّالاتِهم هبطَت من عوالِمَ عُلويَّة، وأدَّى كلٌّ منها رسالتَه. وإذْ سألتُه: "لماذا لم يظهر في العالَم شاعرٌ آخرُ بقوَّةِ شكسبير وروعتِه، أو بسُمُوِّ جبران وشفافيَّتِه؟" أجابني: "لأنَّ سيَّالاتِهما الأَدبيَّة المُبدِعة عادت إلى العوالمِ التي هبطَت منها بعد أداء رسالتِها، ولم تهبط إلى الأرض مرَّةً أُخرى."

كذلك ألمعَ في أكثرَ من موضع في كتاباتِه إلى انتماء العباقرة من أهل الفكر والأدب والفنّ إلى عوالمَ فردوسيَّة خاصَّة، وإلى أنَّ هبوطَهم إلى الأرض هو لأَداء رسالة. فهو يُخاطبُ جبران بقوله:

أَي أَخي جبران المُنطلق في الفضاء

بعد أداء الرسالة التي أُلقِيَتْ على عاتقِه!...

إنَّني أَغبطُكَ على نعيمِك، وأَرثي لنفسي المُعذَّبة الهائمة![2]

وذكر أسماءَ موسيقيِّـِين قاطنين في "كوكب النور الوضَّاء"، منهم بتهوفن وفاجنر وشوبان وكريك وليسْت وبرليوز وباخ وأُوفنباخ ومندلسون وشومان وهندل؛ كما ذكرَ لامرتين في "كوكب الخلود الباهر".[3]

وبعد تملِّيه التماثيلَ الرائعة في مُتحف الفاتيكان الحافل بكنوزٍ لا مثيلَ لها، يقول: "وقد بُهِرنا لجمالِ هذه التماثيل التي أَنتجَتها عبقريَّةُ عُظماء المثَّالين الذين زاروا عالَمنا، ثمَّ رحلوا عن أَرضِنا الفانية."[4]

إنَّها زيارةٌ عابرة يقومُ بها العباقرةُ للأرض ليُزوِّدوا أهلَها بفِكْرٍ ثاقبٍ عميق يتخطَّى مُستواهم الدُّنيَويَّ العامّ فيُساعدَهم في فَهْمِ أوضاعهم وتذليل مصاعبِهم، أو ليمدُّوهم بملامحَ من الجمال الذي استلهموه من بارقات القدرةِ المُبدِعة، فيُعزُّوهم ويُعوِّضوهم بعضَ الشيءِ عن قباحةِ واقعهم وشقائه.

 

دَورُ أهلِ الفكرِ والأَدب ِوالفنِّ ومسؤوليَّتُهم

ما دامت سيَّالاتُ العباقرة عُلويَّةَ المصدر، ومُزوَّدةً برسالةٍ عليهم أداؤها، وإن تكُن محدودةَ الأهداف، فعليهم أن يكونوا أُمناءَ لمَهمَّتِهم السامية، فلا يُفسِحوا المجالَ لإغراءاتِ الدُّنيا من شهواتٍ وأمجادٍ باطلة ونزعاتٍ دنيئة في أن تُهيمنَ على سيَّالاتِهم العُليا وتُسخِّرَها لنـزواتِ سيَّالاتِهم الدُّنيا. هذا الزَّلَلُ فالسقوط يُصيبان، أحيانًا، المُفكِّرين، علماءَ كانوا أم فلاسفة، كما يُصيـبان الأُدباءَ والشعراءَ والفنَّانين، بعد أن تُسكرَهم خمرةُ الشهرة، ويُرنِّحَهم الغرور، ويُعميَهم الاستكبار عن رؤيةِ الطريقِ الذي عليهم أن يسلكوه، فيتيهوا في مهامه الضلال الفكريِّ ويتوهَّموا السرابَ حقيقة، وينتهي كثيرون منهم إلى عبادةِ ذواتهم بدلَ عبادةِ الخالق. فمن أجل أَن يصونَ العباقرةُ سُمُوَّ مَهمَّتِهم ونجاحَها، ويُؤَدُّوا دورَهم على الوجهِ الأَفضل، عليهم أن يُحافظوا على الخصائص التالية التي زُوِّدَت بها سيَّالاتُهم العُلويَّة، فتكونَ سياجًا لها:

أَ- الإخلاصُ للمَهمَّة السامية

            إنَّ تفرُّدَ العباقرة بمواهبَ معيَّنة يجبُ أن يزيدَهم إدراكًا لخطورة مسؤوليَّتِهم في أَداءِ مَهمَّاتِهم، ويدَعَهم يُفكِّرون بضرورةِ المُحافظة على التأثيرِ الخيِّرِ السامي في إبداعِهم. فقد أكَّدَ لي مُؤسِّسُ الداهشيَّة أَنَّ ما يكتبُه أو يبتكرُه الإنسانُ في أيِّ مجال لا يُؤَثِّرُ في ارتقائه أو هبوطِه روحيًّا ما دام حيًّا فحسب، بل يدومُ تأثيرُه في مصيره الروحيِّ حتَّى بعد موته ما دام هناك أُناسٌ يتأَثَّرون بما خلَّفَه. فالأُدباءُ الذين يُصوِّرون الرذيلةَ تصويرًا يحضُّ الناسَ على ارتكابِها بدلَ الابتعادِ عنها، مثلاً، تستمرُّ سيَّالاتُهم في الهبوط من دركٍ إلى دركٍ أسفلَ منه ما دام يقرأُهم أُناسٌ تهبطُ سيَّالاتُهم من جرَّاء قراءتِهم لِما كتبَه أولئك الأُدباء. فأَعمالُ أهل الفكر والأدبِ والفنّ تُلاحقُهم، بعد موتهم، في جميع أدوارهم الحياتيَّة.

            وقال لي مرَّة: "إنَّ صاحبَ الموهبة الحقيقيَّة يجبُ ألاَّ يهتمَّ بإقبال الدنيا عليه أو باهتمام رجال الحُكم به من أجل أن يُتابعَ كتابتَه أو أبحاثَه التي يُمكنُ أن تُؤدِّيَ إلى اكتشافاتٍ أو اختراعاتٍ تُفيدُ البشريَّة. فكثيرٌ من أَكابر الأُدباء والعُلماء في العالَم كانوا فقراء، وكثيرون من أعاظم الفنَّانين ماتوا فقراء. بل إنَّ بعضَهم كان يُمضي شطرًا كبيرًا من عُمره من أجل أن يطلعَ بكتابٍ ينفعُ الناس." وقد سمَّى لي الموسيقار النابغة موزار Mozart والعالمة ماري كوري Marie Curieالتي أحرزَت جائزة نوبل مرَّتَين كمثَلين على العباقرة الذين عاشوا في ضيق حال، ولم يَثنِهم ضيقُهم عن الإخلاص لموهبتهم، كما سمَّى لي العالِمَ الإنكليزيَّ الأنثروبولوجيَّ،جيمس فريزر James Frazer، صاحبَ كتاب "الغُصن الذهبيّ" The Golden Bough،[5] والبحَّاثةَ الألمانيّ بروكلمان Brockelmann الذي وقفَ معظمَ حياته على الكتابة عن الأدبِ العربيّ والشعوب الإسلاميَّة، كمثلَين عن المُفكِّرين الذين يقفون حياتَهم على إنتاجِ عملٍ كبير ولا يتراجعون مهما اعترضَهم من صعوبات. وتأَسَّف لحال أكثر المُفكِّرين والأُدباء العرَب الذين لا يُباشرون عملاً جليلاً حتَّى يتوقَّفوا عن العمل فيه، بزَعمِ أنَّ الإمدادَ الماليَّ الخارجيَّ كفَّ عنهم. واليومَ يتبادرُ إلى ذهني أنَّ مجمعَ اللُغة العربيَّة في مصر كان قد بدأَ عملَه لوضع "المُعجَم الكبير" عام 1956، فإذا بنحو نصف قرنٍ يمضي وهو لمَّا يُخرِج للعرب إلاَّ أربعة أَحرُف (ا-ث)!

            وكان مُؤَسِّسُ الداهشيَّة يُكبِرُ كلَّ الذين التزموا الإيمانَ من العباقرة، فلم يُطوِّح بهم الغرورُ والاستكبار، ولم يُداخِلْ أحدًا منهم أنَّ الكونَ خُلْوٌ من قوَّةٍ إلهيَّةٍ موجِدة نظَّمَته وجعلَت للخلائقِ غاية، وبينهم مَن تسنَّموا ذروةَ المجدِ الفكريِّ أو العلميِّ أو الأدبيِّ كأفلاطون وشكسبير وملتُن وكيتس ولامرتين وهوغو وتولستوي وكوبرنيكس وغاليليو ونيوتن وأَينشتاين، وذلك بعكسِ موقفِه من بعض العُلماء أو الأُدباء أو الشُّعراء المُنجرِفين في عاصفةِ غرورهم التي قذَفَت بهم في مُستنقعِ الإلحاد. لكنَّ رجلَ الروح لم يكُن يُزري بشأن المُفكِّرين أو العُلماء الذين، لا عن غرور أو كبرياء، بل عن اقتناعٍ فكريّ، حادوا عن الإيمان إلى الإلحاد أَو التشكيك.

 

ب- الشجاعةُ الروحيَّة

            يرى الدكتور داهش أَنَّ أَهلَ الفكر والأدبِ والفنّ يجبُ أن يتميَّزوا بالشجاعةِ الروحيَّة، لأنَّها صِفةٌ مُلازمةٌ أصلاً لسيَّالِهم الراقي. فإذا هم جبَنوا، فنكوصُهم إنَّما يعني سقوطَ سيَّالهم المُميَّز. قال لي مرَّةً عن شاعرٍ مهجريّ وقفَ وقفةَ الذُّلِّ أمام الطاغية بشاره الخوري، رئيس لبنان الأسبق: "إنَّه عفَّرَ سيَّالَ موهبتِه السامي بالرّغام." وخلَّدَ موقفَ العار الذي وقفَه ذلك الشاعر بقوله في كتابه "كلمات":

            ما كان أَشدَّ احتقاري للأَديبِ النِّحرير والشاعرِ الكبير عندما شاهدتُه ينحني للرئيسِ المُعتدي على الحُرِّيـَّة، وإذاه يكادُ يُكنِّسُ الأَرضَ بذقنِه لفداحةِ انحنائه! إنَّ هذا الأَديبَ والشاعر لَهو ضحكةُ الأَنام وسُخريةُ الأَيَّام، وموتَه خيرٌ له من حياتِه الدَّنيَّة.[6]

            وكان يُزري بالمُفكِّرين والأُدباء الذين يحملون على أَهلِ الباطل أو البَغْيِ بعد أن يُطوِّحَ بهم الدهرُ من عزٍّ إلى ذُلّ أو بعد أن يُغيِّبَهم الرَّدى،[7] بينما يُكبِرُ الذين يُقارعون أَصحابَ الشرِّ والظلمِ غيرَ هيَّابين من وجودهم في مراكز النفوذ. ومرارًا سمعتُه يقولُ: "إنِّي لم أبطش بالطاغية بشاره الخوري إلاَّ وهو مُتسنِّمٌ سُدَّةَ الرئاسة، ولم أُشهِّر بمخازي زبانيتِه من رجال الحُكم والنفوذ والدين والصحافة المأجورة إلاَّ وهم في أَوجِ عزِّهم." وخلَّدَ موقفَه الجريءَ هذا بقوله:

            قارعتُ ثلاثمئةِ شخصٍ هاجموني... بحُجَجي، وصعقتُهم بحقائقي، ورجَمتُهم برجومي، وزلزلتُهم بوثائقي، وسُطتُهم ببراهيني، وأَلجمتُهم برواعدي، وأَفحمتُهم بردودي... وأَخرستُ باطلَهم، وحطَّمتُ كذبَهم... فانكفأُوا والأَلمُ المُميتُ يُحيطُ بهم إحاطةَ السوارِ بالمِعصم، وتركتُهم يرتدون لباسَ العار والذلِّ والشنار...[8]

            كان مُؤسِّسُ الداهشيَّة يُجِلُّّ مهابةَ الكلمة ونفوذَها إن سدَّدَها قلمٌ شُجاعٌ صوبَ الباطل والظلم، ويعتبرُ أنَّ الكتابات النيِّرة الجريئة هي التي غيَّرَت وجوهَ الدوَل، ودفعَت الحضارةَ إلى الأمام، بعد أن أنارت العقولَ وأَلهبَت مشاعرَ الجماهير فأَشعلوا الثورات، وأطاحوا بالحُكَّام الفاسدين أو غيَّروا الأنظمةَ الجائرة. يقولُ في هذا الصَّدَد:

            للكلمةِ قوَّةٌ تخشعُ أَمامها القنابلُ المُتفجِّرة، وتنحني لدَيها الصواريخُ المُدمِّرة، وتجثو لسيطرتِها المدافعُ الهادرةُ بجَبروت؛ فالثورةُ الإفرنسيَّةُ ما كانت لتنداحَ وتجتاحَ المَلَكيَّة إلاَّ بفَضلِ ما دوَّنَه يراعُ فولتير وديدرو وروسُّو وغيرِهم... ودريفوس ما كان له أَن يُغادرَ سجنَه الرهيبَ بجزيرةِ الشيطان، لو لم يُنقِذه دفاعُ إميل زولا، ذلك الدفاعُ الرائع!...[9]

 

ج- صدقُ الموقفِ الفكريِّ الشعوريّ

في الإبداعِ الفكريِّ والأَدبيِّ والفنِّيّ

            سأَلتُ مُؤَسِّسَ الداهشيَّة مرَّةً: ما هي الميزة التي تراها الأهمّ في الكتابة الإبداعيَّة؟ فأجابني: "الصدق." ومن مُحادثتي له مرارًا وتكرارًا حصَّلتُ أنَّه يُضمِّنُ الصدقَ العفويَّةَ في الأداء، لأنَّه بدون العفويَّة ينقطعُ التواصلُ بين الأديبِ الموهوبِ أو الشاعرِ الكبير وسيَّالِه العُلويّ الذي يمدُّه بالإلهام. فإن لم يكُن بُدٌّ من إعادة النظر في الصيغةِ الفنِّـيَّة، فيجب ألاَّ يُفسِدَ ذلك الاندفاقةَ العفويَّةَ الأصليَّة، لأنَّ الصدقَ الفكريَّ الشعوريَّ كامنٌ فيها. وكان الدكتور داهش يقول لي: "اكتبْ مثلما أكتب؛ فأنا أَكتبُ بسرعة، ولا أدعُ شيئًا يُعطِّلُ عفويَّتي." وصدقُ الموقف الفكريِّ الشعوريّوقد تُسمِّيه فئةٌ من الباحثين "صدق التجربة النفسيَّة" أَخذَ به معظمُ النقَّاد والأُدباء الكبار في القرن العشرين، وتميَّزَ بالإلحاح عليه الفيلسوفُ والناقدُ الإيطاليُّ المُعاصر بنيديتُّو كروتشِه Benedetto Croce. وقد استشفَّ العلاَّمةُ عبد الله العلايلي هذا الصدقَ في أدبِ الدكتور داهش، فقال في مقدِّمتِه لكتاب رجُل الروح "عواطف وعواصف":

            بين يَدَيَّ طائفةٌ من تأَمُّلاتٍ روحيَّة

            تحرَّكَت بها نفسٌ وخفقَ بها جَنان...

            فجاءَت آيةَ فنٍّ كما شاءَت تهاويلُ عبقريَّةِ الفنَّان،

            ورائعةَ أدبٍ أَشرقَت بسنى إلهامِ الروحِ في قلبِ الإنسان!...

            فهذه رسالةُ أَدبِ الصِّدقِ دون ما زورِ أَضاليلَ

            ينطقُ بها أَدبُ البهتان...

            فليس إلاَّ (أَدبُ الصدقِ) خالدًا على لسانِ الدهورِ والأَزمان...[10]

            لكنَّ الصدقَ، في نظر الدكتور داهش، أوسعُ من العفويَّة وصدقِ المُعاناة مثلما يفهمُهما نُقَّادُ الأَدب. إنَّه مَبنيٌّ على أساسٍ فلسفيّ، وبالأصحّ، أساسٍ روحيٍّ تنطوي عليه تعاليمُه الموحاة. هذا الصدقُ واجبٌ في الفلسفة والفنّ مثلما هو واجبٌ في الشعر والأدب عامَّةً.

           فالصنيعُ الإبداعيّ، أَكان فلسفةً أم أَدبًا (نثرًا أو شعرًا) أم فنًّا، من أجل أن يكونَ صادقًا يجبُ أن يُبنى على صدقٍ في الفكر والشعور كما في نَقل الرؤية أو الرؤيا من خلالِهما. فمِمَّا حصَّلتُه من الوَحيِ الداهشيّ أنَّ كلَّ ما في الطبيعة، سواءٌ أَكان في الأرض أم في العوالم المادِّيـَّة الأُخرى معروفةً كانت أم مجهولة، له مَثَلٌ أَعلى في العوالمِ الروحيَّة، وأنَّ الحقيقةَ والمعرفةَ المطلقتَين يستحيلُ وجودُهما خارج تلك العوالم المُجرَّدة من قيود الزمان والمكان. وهذه الحقيقةُ استطاع أَفلاطون العظيم إدراكَها ببصيرة سيَّالِه السامي. وبناءً على هذا المفهوم الذي أخذَ به الرومَنسيُّون، كلَّما دَنا المُفكِّرُ أو الأَديبُ أو الشاعرُ أو الفنَّانُ في مُعالجتِه لموضوعِه، تصويرًا وتشكيلاً وتحليلاً، أو استنتاجًا واستدلالاً وتعليلاً، من كُنه المِثال الأعلى لموضوعه، دَنا صنيعُه الإبداعيُّ من إبداع القدرةِ الموجِدة، واكتسبَ قيمةً أكبر وطابعًا أَسمى وَسَمَه بسِمةِ الخلود؛ ذلك بأنَّه يكونُ قد انطوى على إلهامٍ صادق مثَّلَ له تلك الحقيقةَ الخالدة وُسعَ ما يُستَطاع. في هذا الضوء الداهشيِّ ، نفهمُ الصدقَ لا مُطابقةً مع الواقع الطبيعيِّ فحَسب، بل انطلاقٌ منه تساميًا إلى الحقيقةِ المثاليَّة التي لا تتأَتَّى إلاَّ بالإلهام لدى العباقرة من أَهل الفكر والأَدبِ والفنّ. فكثيرون هم الذين صوَّروا الواقعَ البشريَّ أو الطبيعيَّ أو حلَّلوه وعَلَّلوه، وحاولوا تزيينَه بزخارفِ اللونِ أو اللحنِ أو اللفظ، لكنَّ الإلهامَ كان يُعوِزُهم، أي السيَّالَ العُلويَّ الخاصَّ بالعباقرة؛ ولِذا خلَت صنائعُهم الإبداعيَّة من ذلك اللَهبِ الإلهيّ الذي يُكسبُها التأثيرَ السامي والفرادةَ والخلود.

            فالفلسفةُ التي يُحاولُ أَصحابُها أن يُحِلُّوها محلَّ العِلم أو الدين بدلَ أن يوسِعوا حدودَهما بها، أو التي تقومُ على مجموعةٍ من الألفاظ المُختلَقة والمُضمَّنة مفاهيمَ لا أساسَ لها في واقعٍ علميٍّ ثابت أَو دينيٍّ موحًى، وأصحابُها ينطلقون من مُسلَّماتٍ شخصيَّة لا كُلِّـيَّة، أو من ظروفٍ سياسيَّة أو اجتماعيَّة أو اقتصاديَّة هذه الفلسفة غيرُ صادقة بالنسبة للحقيقة التي تدَّعي تمثيلَها، وأَعني غيرَ صحيحة، وليس لها حظٌّ في البقاء، لأنَّها لا تستقي من ينبوع المعرفة الأَزليَّة، بل تغترفُ من ينابيعَ أرضيَّةٍ سرابيَّة. يكفي الإشارة، في هذا المجال، إلى الفلسفات المادِّيـَّة التي نشأَت في أواسط القرن التاسعَ عشرَ، وهي الآنَ تلفظُ أَنفاسَها. هذا لا يعني أنَّ مُؤسِّسَ الداهشيَّة يزدري الفلسفاتِ الخاصَّة، بل هو لا يُقيمُ وزنًا لِما هو غيرُ صادق، بالمعنى الذي بيَّنتُه. فنيتشه معروفٌ بفلسفتِه المُضادَّةِ للأَديان، ومع ذلك أنصفَه الدكتور داهش وأعطاه حقَّه سلبًا وإيجابًا، بعد أن قرأَ كتابَه "هكذا تكلَّمَ زرادَشت". قال:

            إنَّ كتابَ زرادَشت للفيلسوف الأَلمانيِّ نيتشه مُعقَّد، وفيه مُتناقضاتٌ عديدة، لكنَّه لا يخلو من فلسفةٍ خاصَّة رغبَ نيتشه بإذاعتِها بين الناس. وهذا الكتابُ جديرٌ بالمُطالعة، فهو عميقٌ في بعضِ فصولِه، وعاديٌّ في بعضِها الآخَر؛ فالكمالُ للهِ وحده.[11]

            وعلى إعجابِ الدكتور داهش بتولستوي، في إخلاصِه لرسالتِه الأَدبيَّة وصدقِه وشجاعتِه، فإنَّه قال لي مرَّةً: "أنجزتُ الليلةَ البارحة قراءةَ كتاب ’الحرب والسِّلم‘ لتولستوي، فوجدتُه كتابًا ذا فوائدَ جليلة، لكنَّه مع ضخامتِه دون "جُمهوريَّة" أفلاطون عُمقًا وقدرًا وأَهمِّـيَّة مع ضآلةِ حجم ’الجمهوريَّة‘ بالنسبة له."

            وليس الشعراءُ الكبارُ وحدهم يُلهَمون، فقد أَعطاني الدكتور داهش عدَّةَ أمثلة على عباقرة الأُدباء الذين كانوا مُخلصين لِما تُلهِمُهم به سيَّالاتُهم العُلويَّة؛ منها أَنَّ رواية بِرنردان ده سان بيار Bernardin de Saint Pierre "بول وفرجيني" Paul et Virginie كانت مُلهَمة، وكذلك "رافائيل" Raphael للامرتين، و"هي أو عائشة" She لرايْدِر هاغَرد Rider Haggard ، و"النبيّ" لجبران. وإذْ سألتُه عن روايات جول فِرن Jules Verneالذي سبقَ في تخيُّـلِه الروائيِّ كثيرًا من الاختراعاتِ الحديثة بمدَّةٍ طويلة: كيف استطاع ذلك؟ أجابني: "أَلهمَه سيَّالُه العُلويُّ الذي عاش على الأرض في دورةٍ سابقةٍ لدورة آدَم، وكانت الحضارةُ البشريَّةُ فيها قد وصلَت إلى تقدُّمٍ أبعدَ مِمَّا وصلنا إليه اليوم."

            وسأَلتُه: بين الشعُراء مَن يستمرُّ شعرُه رفيعًا على تقدُّمِه بالسنّ، وبينهم مَن يهبطُ مُستوى شعره أو ينقطعُ عن الإبداع وهو ما يزالُ في شبابه، فما سببُ ذلك؟ فأَجابني: "الشاعرُ الذي يستمرُّ رفيعَ الشعر، غزيرَ العطاء، يكونُ سيَّالُه العُلويُّ ما يزالُ يمدُّه بالإلهام؛ أمَّا الآخَر فيكونُ سيّالُ الشعر فيه قد هجَرَه، أو قد انحطَّ ، فامتنعَ اتِّصالُه بمصدرِ إلهامِه، لأنَّه إذا لم يكُن مُستوى السيَّال الذي في الشاعر أو في أَيِّ عبقريّ يُؤهِّلُه للاتِّصال بسيَّالِه العُلويّ، فإذْ ذاك يمتنعُ الاتِّصالُ الإلهاميّ."

            وإن يمنح الدكتور داهش صدقَ التجربة الفكريَّة الشعوريَّة في الأَدبِ أَهمِّـيَّةً كُبرى، فإنَّ اعتبارَه الجمالَ الفنِّيَّ لا يقلُّ عنده اعتبارًا، شرطَ أن تكونَ وظيفةُ الإخراج الفنِّيِّ تصويرَ االواقع النفسيِّ أو الطبيعيِّ الذي يصلُه بمثلِه الأعلى الجدير بالبقاء تصويرًا أَمينًا، بدون لعبٍ كلاميٍّ أو تأَنُّقٍ لفظيِّ يُخفيه ويُضيعُ على القُرَّاء "الغايةَ التي يهدفُ [الأُدباءُ] إليها،" لأنَّ ما يخلدُ في الأدبِ هو صورةُ الحقيقةِ المثاليَّة التي استطاع الأديبُ أن يتمثَّلها في رؤيته أو رؤياه، و"الحقيقةُ أَتَت عارية، وهي لا تلتحفُ بالخَفاء."[12]

 

د- الواقعيَّةُ الحيَّة

            فالجمالُ الفنِّيُّ، سواءٌ في الأدبِ أو الرسم أو النحت أو الموسيقى، خيرُ ما يُجسِّدُه، في رأي الدكتور داهش، هو الواقعيَّةُ الحيَّة، وبعبارةٍ أُخرى، صدقُ الواقع الموضوعيّ المُتناوَل ، نفسيًّا كان أم طبيعيًّا، وحيويَّتُه. فبقَدرِ ما يدعُ الأديبُ أو الفنّانُ هذه الواقعيَّةَ الحيَّة ترفعُ صنيعَه الإبداعيَّ إلى مرتبةٍ تُداني ما أَبدَعته القدرةُ الموجِدة، يكونُ قد نجحَ في مَهمَّتِه، وإبلاغِها إلى القارئ أو المُتأَمِّل، كما نجحَ في تأدية دَورِه في المجتمع.

            والواقعُ، في رأي الدكتور داهش، لا يعني المحسوساتِ الأرضيَّة فحسب، بل يشملُ أيضًا كلَّ ما يُبدِعُه الخيالُ من آلهةٍ وشياطين وأبطالٍ أُسطوريِّـين، ومن كائناتٍ تاريخيَّة أو غير تاريخيَّة. الواقعُ عنده هو كلُّ ما له دلالةٌ يستطيعُ القارئُ أو المُتذوِّقُ أن يقبضَ عليها. فقد وصفَ هو نفسُه الآلهةَ والشياطين، وعالجَ التاريخَ الجليَّ كما الأساطير؛ لكنَّ كلَّ ما تناولَه كان يفيضُ بالواقعيَّة الزاخرة بالحيويَّة. هذه الواقعيَّة الموحِية كانت من أسباب إعجابه بكتاب "ولدي" للدكتور محمَّد حسَين هيكل الذي نوَّهَ بوصفِه البديع الحَيِّ في رسالتِه الأُولى إليه، ولا سيَّما وصفهُ لغروب الشمس بين بودابست وفيـيِنَّا، ثمَّ تحوُّلات مشهد الثلج والنورُ يُخضِّبُه عند المغيب، وكذلك مناظرُ مساقط المياه.[13]

            هذه الواقعيَّة الحيَّة يراها مُؤَسِّسُ الداهشيَّة ضروريَّةً أيضًا في الفنِّ، أموسيقى كان أم رسمًا أم نحتًا. فهو إذْ يصفُ عَزفَ بتهوفن، في "كوكب الخلود الباهر"، لـ"نشيد الوداع" الذي يُصوِّرُ فيه حُزنَ أهل النعيم لفراق الغادة أحلام والسعادةَ الفردوسيَّة التي ستتخلَّى عنها، يجعلُ "موسيقاه العُلويَّة" تُؤَثِّرُ في نفوس المُصغين إليها حتَّى تدعَهم "يلمسون بأرواحِهم أَبوابَ النعيم الحافل باللذاذات التي لا يُمكنُ لقلمِ بشريٍّ أن يصفَها أبدًا..."؛ وكذلك يقولُ عن هَندِل الذي "برهن... أَنَّه عبقريٌّ في تجسيم الآلام التي تُساورُ الأرواح بشكلِ أَنغامٍ سماويَّة"، إذْ جعلَ المُستمعين "يلمسون الأَلمَ لمسَ اليَد، فيسري في أَعصابِهم ويقطنُ في أَعمقِ أَعماقِ تخيُّلاتِهم، مثلما فعلَ في المرَّةِ الأُولى عندما كان يحيا في أرضِ البشر، يومَ أَذاعَ مقطوعتَه الموسيقيَّة الشهيرة مُعبِّرًا فيها عن آلامِ السيِّدِ المسيح له المجد."[14]

            كذلك يُؤَكِّدُ في الرسم والنحت أَهمِّـيَّةَ حيويَّةِ الواقعيَّة.[15] ففي مُتحف الفنون الجميلة بلوس آنجلوس تجتذبُ انتباهَه لوحةٌ لتوماس لورانس "تُمثِّلُ شابًّا في مُقتبل العُمر. فأنتَ تحسبُه حيًّا تنبضُ الحياةُ فيه، وتأسرُكَ نظراتُه الحيَّة فتظنُّ أَنَّه يكاد أن يُخاطبَك."[16] وفي المُتحفِ نفسه أَثارت إعجابَه لوحةٌ لأَلِكسندر وايانْت A. Wyant "تُمثِّلُ منظرًا طبيعيًّا بأشجارٍ مُتقَنة الفنّ، وأعشابٍ هي الفتنةُ نفسُها، وبُحيرةِ ماءٍ تكادُ تروي غليلَكَ من مائها السلسبيل."[17] وفي مُتحف الفنون الجميلة بسان فرانسِسكو راعته لوحةٌ للفنَّان الأمريكيّ وِليَم هارنِت W. Harnett، وهي تُمثِّلُ "بوقًا نُحاسيًّا مُعلَّقًا، وأرنبًا قد عُلِّقَ من قدَمِه، و"زمزميَّة" ماء، ورِتاجًا حديديًّا صَدِئًا كُسِرَ منه جزء. والناظرُ إلى هذه اللوحة المُذهلة لا يُمكنُه أن يشكَّ بأنَّ البوقَ النُّحاسيَّ هو بوقٌ طبيعيّ قد عُلِّقَ في فراغ اللوحة، كما يظنُّ أنَّ الأرنبَ هو أرنبٌ حقيقيّ قد صُبِّرَ وعُلِّق، وكذلك "الزمزميَّة"؛ كما لا يُخامرُ المُشاهدَ أيُّ شكّ بالرتاج الحديديّ وواقعيَّتِه، ولا يُمكنُه أن يُصدِّقَ بأنَّه أمام لوحةٍ زيتيَّة رسمَها فنَّانٌ فَذّ، فإذاها طُرفةٌ لا تُثَمَّنُ بمالٍ تافِه."[18] وقد خدَعت حيويَّةُ الواقعيَّة في هذه اللوحة بعضَ مُرافقيه.

            وفي المتحف الوطنيِّ بآثيناراعَه تمثالُ إلاهةٍ تبدو تقاطيعُها "من وراء ثوبِها الشفَّاف، فإذا بها غضَّةٌ بضَّة، كأنَّها امرأَةٌ يسري الدمُ في شرايينِها، وما هي إلاَّ حجرٌ أصمّ!"[19] وكذلك نوَّهَ بهذه الواقعيَّة الحيَّة في نحت التماثيل التي تخدعُ الناظرَ إليها في ما رآه من تماثيلَ في مُتحف بورغيزي بروما، فإذا هو يقولُ أمام تمثالٍ يمثِّلُ فراشًا تجلسُ عليه شقيقةُ نابوليون:

            وأَيمُ الحقِّ، لقد ظننتُه فراشًا حقيقيًّا، لأَنَّ المَـثَّالَ العظيم أَتقنَ نحتَه للدرجةِ القُصوى. فأَنتَ تنظرُ إلى هذا الفراش الحجَريِّ الصَّلد فتظنُّه فراشًا حقيقيًّا تلمسُ فيه الطراوة، وما ذلك إلاَّ لِلَمساتِ ذلك الفنَّان الصَّناع الذي أَبدعَ في نحتِه، وجعلَ ثَنِيَّاتِ الفِراش تبدو للعَيان كأنَّها فراشٌ حقيقيّ لا حجَريّ.[20]

            ذلك هو مفهومُ الدكتور داهش لِما هو ناجحٌ خالد في الأدب والفنّ. أمَّا الذي يجعلُ همَّه إرضاءَ ذاته المُنـتفخة، فلا يحفلُ بالقارئ أَوالمُتذوِّق، سواءٌ أَوَصلَ إليه مُؤَدَّى كلامِه أو فنِّه أم لم يصِل، فيكون حتمًا بلا رسالة، مُجرَّدًا من الإلهام، مُهرِّجَ ألفاظٍ ومعانٍ أو أشكالٍ و ألوان أو أنغامٍ توقِرُ الآذان. وأمثلةُ هؤلاء العابثين بعقول السذَّجِ كثيرون في مُختلف البلدان والمجالات. حسبي الإشارة إلى الذين حوَّلوا الأدبَ إلى لعبةٍ لفظيَّة، والذين مسَخوا الرسمَ خطوطًا وألوانًا لا معنى لها، والنحتَ أشكالاً لا مدلولَ لها إلاَّ في نفوسهم. وما أَكثرَهم في هذا العصر!

            وكان رجُلُ الروح يُعلِّقُ حزينًا على شيوع أُكذوبة الفنَّ الـفوقواقعيّ surrealist أو التجريديّ abstract، حتَّى إنَّ الحكومات صدَّقَت بها فأدخلَت أَعمالاً تافهة إلى متاحفها الوطنيَّة. حسبي، في هذا المقام، أن أذكرَ تعليقًا واحدًا من بين تعليقاته الكثيرة المُنتثرة في مُعظمِ "رحلاته". يقولُ بعدما شاهدَ في المُتحف الوطنيِّ بأُوسلو في النروج كثيرًا من اللوحات التجريديَّة أو الفوقواقعيَّة:

            أَبـإمكانِ أَيِّ مخلوقٍ أَن يُقنِعَ المؤمنين بالرسوم الزيتيَّة أو المائيَّة التي هي من نوع "السرياليزم" بأَنَّها لا قيمةَ لها على الإطلاق؟ إنَّ هذا لَمِن المُستحيلات. حتَّى المتاحفُ العالَميَّة أَصبحَت تضمُّ هذه الأُكذوبة، وتُعلِّقُها على جدرانِها! فكيف لا يُؤمنُ الجمهورُ بحقيقتِها بعدما تبنَّتها الحكومات! إنَّ هذا شأنُهم؛ أمَّا أنا فإنّي أَقول، بل أُعلنُ بصوتي الجَهوريّ، أنَّ الفنَّ الحقيقيَّ هو "الرياليسم"، أي الفنُّ الواقعيّ."[21]

            والواقعيَّة مثلما يفهمُها تشملُ الفنَّ الانطباعيَّ أيضًا، إذْ إنَّ صنائعَه الإبداعيَّة تُبنى على موضوعٍ ذي مدلولٍ معيَّن يستطيعُ القارئُ القبضَ عليه؛ فالاختلافُ ينحصرُ في الأُسلوبِ الفنِّيّ. وقد أبدى إعجابَه بروائع الانطباعيِّـين، ومنهم رنوار وسيزله وفان غوغ وكلود مونه، حينما زار المُتحفَ الخاصَّ بهم في باريس.[22]

            ولم يكُن الدكتور داهش يتأَثَّرُ في أحكامه بشهرة الأُدباء والفنَّانين أو عدمِها أو بمدى حُبِّه لهم؛ فقد قال لي مرَّة: "إنَّ رسمَ جبران أَقلُّ أَهمِّـيَّةً من أدبِه، وهو دون رسمِ وليَم بلايك." وبعد أن شاهد لوحاتٍ لشاعر الهند الأكبر، طاغور، معلَّقة في مُتحف "تيت غالري" بلندن بين لوحاتٍ هنديَّة فوقواقعيَّة، قال مُعلِّقًا:

            وقد لفتَت نظري بضعُ لوحاتٍ للشاعر العالَميّ الهنديّ رابندرانات طاغور؛ وهي لوحاتٌ عاديَّة جدًّا، ومن نوع السرياليزم أيضًا. وليت طاغور اكتفى بأَدبِه العظيم وروائعِه المُبدِعة. فلوحاتُه لا قيمةَ لها إطلاقًا، وهي لا تعني شيئًا البتَّة.[23]

            زِدْ إلى ذلك أَنَّ صورةَ الحقيقةِ المِثاليَّة في الصنائعِ الأدبيَّة والفنِّـيَّة لا تستقيمُ إلاَّ بأن يكونَ فيها مُتَّحِدًا ثالوثُ الحقِّ والخيرِ والجمال، لأنَّه بكماله يُمثِّلُ صورةَ الحقيقة الإلهيَّة المُطلقة. ولِذا يُلِحُّ الدكتور داهش على أن يقتديَ الكُتَّاب به في قِصَصِهم، فيَخرجوا، مثلما فعَل، "بعظةٍ ونتيجة ٍتحضُّ على الخير وتشجبُ الشرّ."[24] كذلك في الفنّ، يأنفُ من أن يُسمِّيَ   الرسومَ التي تُثيرُ الغرائزَ البهيميَّة فنًّا حقيقيًّا. فقد أعاد، مرَّةً، رسومًا من هذا النوع إلى صاحبِها، لأنَّ طريقةَ إخراجها تنـزعُ بالنفس إلى الرذيلة بدلَ أن تسموَ بها. علمًا بأَنَّه لا يجعلُ غايةَ الفنِّ غايةً خُلقيَّة مُباشرة، فإنَّ كثيرًا من اللوحات الفنِّـيَّة في مُتحفِه لا يخلو من العُريِ الفنِّيّ، لكنَّ المُتأَمِّلَ في إخراجِ اللوحات وموضوعاتِها لا يسَعُه إلاَّ التسامي أمام جمالِها الفنِّيِّ محمولاً بالسيَّالات العُلويَّةِ التي أَبدَعته وأَودَعَته إشعاعاتٍ خفيَّةً منها. وهذا ما جعلَ مُؤسِّسَ الداهشيَّة يقولُ مُعلِّقًا، بعد أن زار مُتحفَ اللوفر في باريس ومُتحفَ واشنطن، علمًا بأَنَّ فيهما كثيرًا من اللوحات التي تُمثِّلُ عُريًا فنِّـيًّا:

            "هذه اللوحاتُ العظيمة هي تُراثٌ للإنسانيَّة، يتناقلُها الخلَفُ عن السلَف لنرى ما بلغَه الفنُّ من رُقيّ، وما سجَّلَه لنا من حوادثَ تاريخيَّة بارزة نستطيعُ مُشاهدتَها عيانًا بأُسلوبٍ حَيٍّ فيه مُتعة، وفيه جمال، وفيه حقيقة ما أَجدرَها بالبقاء في عالَمٍ كلُّ ما فيه صائرٌ إلى زوال."[25]

ذلك بأَن الجمالَ الحقيقيَّ لا ينفصلُ عن الخير والحقيقة. و"مَن أَدركَ سرَّ الجمال فإنَّه قد خَطا خُطواتٍ واسعة في فهمِ أَسرارِ الأَزَلِ والخلود... ومَن كان بعيدًا عن حُبِّ الجمال فإنَّه لن يفقهَ معنى الحياة ولا النهايةَ المجهولة."[26]

            كذلك كان الدكتور داهش ينفرُ من سماعِ الموسيقى ذات الصخبِ الفارغِ التي تستثيرُ الغرائز وتُرهِقُ الأَعصاب، ويُمجِّدُ الموسيقيِّين الكلاسيكيِّين والرومَنسيِّين العِظام الذين "تركوا لِعالَمِ الأرض تُراثًا إلهيًّا من الأَنغام، تفنى الأَجيالُ دون أَن يزولَ خلودُه المُستمَدُّ من السماء".[27]

 

هـ - النشوةُ السامية

            من نتائجِ اجتماع الخصائص الأربع السابقة في الإبداع الفكريِّ أو الأدبيِّ أو الفنِّي، في رأيِ الدكتور داهش، أَن تُخالجَ النشوةُ السامية قارئَ العملِ الأدبيِّ أو الفكريِّ أو مُتأمِّلَ العملِ الفنِّيّ أو سامعَه. وأَقصدُ بالنشوةِ السامية ذلك التأثيرَ الذي يهزُّ النفسَ بالعواطف النبيلة، ويسمو بها إلى ما يتخطَّى العاديَّ من الحياة، حتَّى لَتشعرُ كأنَّكَ في خشوعِ الصلاة. وقد يكونُ الموقفُ مأساويًّا، ومع ذلك يغمرُ الإبداعُ النفسَ بمُتعةٍ غير عاديَّة. هذه المُتعةُ المُفيدة سيكولوجيًّا تَنبَّهَ لها أرسطو في كتابه "فنُّ الشعر"، فسمَّاها "كاثَرسيس" catharsis، أَي تنقية الأهواء.

            يروي الدكتور داهش أنَّه في أَثناء رحلةٍ سياحيَّة قام بها في ضواحي لندن، أَعلنَت الدليلة عن مقبرة الشاعر توماس جراي T. Gray ، فيقول:

            "فأَرهفتُ السمعَ، وشملَتني الكآبة، فتوماس جراي، هذا الشاعرُ الفَذّ، قرأتُ له، في مطلعِ صباي، قصيدةً رائعة اسمُها "مرثاة في مقبرة" كان لها التأثيرُ البالغُ في نفسي، فلُحمتُها الحزنُ وسَداها الشَّجَن. إنَّها مرثاةٌ خالدة نمَّقَتها ريشةُ هذا الشاعر الكبير الثاوي في المقبرة التي كتبَ مَرثاتَه فيها..." [28]

فهذه القصيدة، على مأساويَّتها، أحدثَت في نفسه تأثيرًا لم يمحُه مرورُ عشرات السنين، لأنَّ القصيدةَ وجدها "رائعة"، وروعتها تسمو بالنفس؛ ولِذا أعقبَ تعليقَه الآنفَ الذكرَ بقوله: "وقفتُ أمام قبره البسيط باحترامٍ وحُزنٍ عميق..."[29]

            وفي تعليقِه على وصف حسَين هيكل لغروب الشمس في كتابه "ولَدي"، يقول: "ومَن هو الشخصُ وهَبه مُتحجِّرَ العاطفة، صخريَّ القلب، فولاذيَّ الأعصاب الذي لا يطربُ ويُحلِّقُ في المَلإ العُلويّ بعد قراءتِه لوصفِكَ السحريِّ العجيب (....) وهل بإمكاني أَن لا أَنتشيَ برحيقِ الغبطةِ والسرور وأَندمجَ في لُجَجِ الانشراحِ والحبور؟..." وبعد عرضِه لوصفِ هيكل لمنظر النهر المُرغي المُزبِد، يقول: "إنَّه وصفٌ يأخذُ بمجامع القلوب ويسمو بالروح فتُحلِّقُ عاليًا، هناك بعيدًا وراءَ العوالم المجهولة حيث تحيا الطمأنينة، وتسودُ العدالة، وترتعُ السعادة في مدينة السلام المقدَّسة."[30]

            هل سببُ هذا التأثيرِ السامي هو الموضوعُ المُعالَج؟ لا. فقد أكَّدَ لي مُؤَسِّسُ الداهشيَّة أَنَّ الصُّورَ العارية التي رسمَها ميكال آنج في الكنائس تبعثُ على الخشوع لأَنَّها ذاتُ جمالٍ فنِّيٍّ أَحيَته سيَّالاتٌ عُلويَّة هي امتدادٌ روحيٌّ لسيَّالاته، ولذلك هي تسمو بالنفوس.

            وليس كلُّ عملٍ أدبيّ أو فنِّيّ يكون ناجحًا، برأيه، إذا صدرَ عن أديبٍ أو فنَّانٍ كبير. فقد ألمعتُ إلى رأيه في رسم طاغور الذي استهان به، في حين أنَّه يُكبِرُ التأثيرَ السامي لأدبِه، فيقول مُعلِّقًا على فِعلِ "أُغنية طاغور" في نفس مَدلين (إحدى شخصيَّات روايته "مُذكِّرات دينار"): "وفعَلت معاني هذه الأُغنية بنفس مَدلين فِعلَ الترياق تُقدِّمُه الآلهةُ بأَكوابٍ من النور لِمَن استحقُّوا البلوغَ إلى مواطنِ النعيم الخالدة في الفراديس الإلهيَّة العجيبة."[31] بينما يُعلِّقُ الدكتور داهش على قصَّة "زوجة رجُل آخَر" للأديب الكبير دستويفسكي، بعد قراءته لها: "الحقيقةُ أنَّني لم أُعجَب بها بالنسبة لمكانة هذا الأديب الروسيّ، إذْ كان يجبُ أَن تُؤثِّرَ في القارئ، ولكنَّها لم تُحدِث أيَّ أثرٍ في نفسي."[32]

هذه النشوةُ السامية يتحدَّث عنها مُؤسِّسُ الداهشيَّة مرارًا عند سماع الموسيقيِّـين العِظام في قصَّته "الحُلم الهابط إلى أرض البشر". وحسبي أن أشيرَ في هذا المقام إلى قوله، بعد عزف بتهوفن البالغ التأثير في النفوس: "وما إن فرغَ بتهوفن من عَزفِ نشيدِه حتَّى "انتشى الجميع بخمرة هذه النغمات السماويَّة المُستمَدَّة من اللهجلَّت قدرتُه."[33]

           وقد جعلَ الدكتور داهش المهابةَ والخشوع،َ فضلاً عن التأثيرِ المُمتِع السامي، يكتنفان سِيَرَ العباقرة والتأَمُّلَ في إبداعِهم ذي المصدرِ العُلويّ. فهو يقول آنَ زار الأَكروبول في اليونان:

وقفتُ بخشوعٍ كأَنَّني في معبد... وكيف لا أَخشعُ والصمتُ يُهيمنُ عليَّ! أَوَ ليس سقراط كان يأتي إلى هذا المكان الذي أَقفُ فيه الآن؟ سقراطُ الفيلسوفُ العظيم، وكذلك أَفلاطون الجليل، صاحبُ "المدينة الفاضلة"، الذي سبقَ بتفكيره الصائب أَهلَ زمانه، فخلَّدَ التاريخُ اسمَه العظيم!...[34]

وحينما زار مُتحَفَ بورغيزي بروما وتملَّى الرسومَ والتماثيلَ الرائعة التي تُطِلُّ منها ملامحُ الجمالِ الفردَوسيّ الذي يأسرُ العقلَ والقلبَ معًا، قال مُعلِّقًا: "لقد بُهِرنا من روعةِ الفنِّ العظيم وذلك الإبداعِ الذي لا يعلو عليه إبداعٌ مُطلقًا. إنَّه مُتعةٌ للبصَر، وفردَوسٌ للحواسّ، تستمتعُ بروعتِه العيونُ وتجتليه النواظرُ وهي خاشعةٌ لهذا الفنِّ العُلويِّ الذي يأخذُ بمجامعِ القلوب."[35] كذلك حينما زار "مُتحَفَ لوس آنجلوس كاونْتي للفنون الجميلة"، وأنعمَ النظر في لوحةٍ فذَّة للفنَّان المُبدِع أَلبرت بيرشتات Bierstadt تُمثِّلُ غابةً وبحيرةً في ليلةٍ قمراء، قال مُعلِّقًا: "فوقفتُ أَتأَمَّلُها وكأَنَّني في معبَد..."[36]

            وعلى عكس ذلك سمعتُ رجُلَ الروح، مرَّةً، يطلبُ هاتفيًّا من أُختٍ داهشيَّة كانت تبتاعُ له عدَّةَ كُتُب ألاَّ تشتريَ مُؤلَّفاتِ شاعرٍ مُعيَّن، لأنَّ مُؤلَّفاتِه حملَت سيَّالاتٍ سُفليَّة من الشاعر نفسه؛ فسألتُه: هل عرفتَ ذلك بوَحيٍ أم بقراءتِك إيَّاه؟ فأجابني: "أعرفُ ذلك من التأثير السيِّئ الذي يُحدِثُه العمل في النفس، وإلهامي لا يُخطِئ، وعليَّ أن أَتبعَه." وقال لي: "لا تظنَّ أنَّ شهرةَ الكاتب أو الفنَّان أو الموضوعات التي يُعالجُها هي التي تُخلِّدُ أَعمالَه، بل يُخلِّدُها السيَّالُ العُلويُّ الذي فيها، إن وُجِد؛ فقد كُتِبَت مئاتُ الأَناجيل، لكنْ لم يخلد منها إلاَّ أربعة، لأنَّ سيَّالات الذين كتبوها هي التي خلَّدَتها." كذلك نصحَ الدكتور داهش بعضَ الأخوات الداهشيَّات أَلاَّ يقرأنَ شاعرًا فرنسيًّا، مع شهرته، لأنَّ شعرَه يحملُ سيَّالاتٍ سُفليَّة. فسألتُه عن سببِ استمرار شهرة ذلك الشاعر وذيوع اسمه؛ فأجابني: "إنَّ الناس يُخدَعون بالأدب مثلما يُخدَعون بالفنّ. لكنَّ هذه الخِدَع قد تُعمِّرُ قرنًا أو قرنَين ثمَّ تُفضَح، لأنَّ عاملَ الخلود ليس فيها."

 

عُروضُ السينما والتِّليفزيون والمسرح

            لم يكن الدكتور داهش ينظر إلى عُروض السينما والتليفزيون والمسرح نظرةً خاصَّة، بل يُطبِّقُ عليها ما يُطَبَّقُ على الفنِّ والأدبِ بصورةٍ عامَّة، فبِقَدرِ ما كانت تجتمعُ فيها عناصرُ الحقِّ والخير والجمال كان يراها راقية. مرَّةً صحبتُه إلى حضور فيلمِ "وصايا الله العشر" وندرَ أن حضرَ برنامجًا سينمائيًّا أو تلفازيًّا من جرَّاء انشغاله بالأهمّ فكان مُعجَبًا بفنِّ التمثيل فيه كما بعبقريَّةِ مُخرِجِه. وحينما لازمتُه في الولايات المُتَّحدة بضعةَ أشهر، عام 1978، سمعتُه يقول: "هيهاتِِ أن تبلغَ البرامجُ التليفزيزنيَّة العربيَّة برامجَ أمريكا العظيمة في فائدتها وقوَّةِ إخراجها."

            ولم يكُن يُمانع في الرقص، بل حتَّى المُختلط منه، شرطَ أن يكونَ فنِّـيًّا ومُحتشمًا لا يُثيرُ الغرائزَ الجنسيَّة. ففي رحلته إلى اليابان عام 1969، حضرَ برفقة الدكتور خبصا عَرضًا في "الأُوبرا" بطوكيو، فقال مُعلِّقًا: "وتتالت المشاهدُ بديعةً رائعة: فكلُّ مشهدٍ يدلُّ على براعةٍ فنِّـيَّةٍ فائقة، وإخراجٍ قويّ، وموسيقى مُبدِعة. وقد شاهدنا الرقصَ اليابانيَّ الفنِّيَّ تقومُ به بضعُ عشراتٍ من الراقصات اليابانيَّات بصورةٍ إيقاعيَّة ولا أَبدعَ منها. وفي السابعة والربع، اختُتِمَ البرنامج بظهور لا أقلَّ من مئةِ راقصٍ وراقصة بحلَلٍ زاهية الألوان، وهم يُؤدُّون رقصةً فنِّـيَّةً رائعة يُرافقُها غناءٌ عذبٌ وموسيقى يابانيَّة ناعمة تنسجمُ مع الرقصةِ الفنِّـيَّة كلَّ الانسجام."[37] وفي مسرح البولشوي بموسكو شهدَ عرضًا لباليه "كسَّارة البُندُق" لتشايكوفسكي، فعلَّق قائلاً: "وتتالت المشاهدُ رائعة؛ فرَقْصُ الفتيات بديع، والأَداءُ فنِّيّ، والديكور أَخَّاذ، والموسيقى رفيعة..."[38] وفي لوس آنجلوس حضرَ عرضًا للرقصِ الأمريكيّ علَّقَ عليه قائلاً: "رقصَت مجموعةٌ من الفتيات رقصاتٍ مُحتشمة رائعة شاركَهنَّ فيه بعضُ الشبَّان. وقد أَتقنَ الجميعُ فنَّهم إتقانًا تامًّا."[39] وهكذا أكَّد مُؤَسِّسُ الداهشيَّة أنَّ الفنونَ، إذا كانت راقية، لا تُنافي المُعتقداتِ الدينيَّة الموحاة، بل إنَّها تدعمُها في تنقية النفسِ من أهوائها والسُّمُوِّ بنـزعاتِها، وهي تدفعُ الحضارةَ إلى الأمام شأن الروائع الأدبيَّة والمُنجَزاتِ العلميَّة الجليلة.

(في العدد المُقبِل "العُلماءُ وأربابُ التعليم العالي ووسائطِ الإعلام")



1. الدكتور داهش: "الرحلاتُ الداهشيَّة حول الكُرةِ الأرضيَّة"، ج 14 (نيويورك: الدار الداهشيَّة، 1991)، ص 328-329. من الجدير بالذكر أنَّ مُؤسِّسَ الداهشيَّة كان يُدوِّنُ في مُفكِّرته اليوميَّة ما يقرأُه، وعددَ صفحات كلِّ كتابٍ يُطالعُه وما استغرق من وقت، كما كان يُدوِّنُ مثلَ هذه الملاحظات على الكتاب نفسه، فضلاً عن أنَّه كان يخطُّ تحت كلِّ سطرٍ يقرأُه.

2. الدكتور داهش: "القلبُ المُحطَّم" (بيروت: دار النسر المُحلِّق، 1984)، قطعة "أَخي جبران"، ص 179-184. كذلك يقول الدكتور داهش في قصَّة "الحُلم الهابط إلى أرض البشر" إنَّ هبوط أحلام إلى الأرض كان "لأَداء رسالة" لم تكن تعرف شيئًا عنها وهي في عالَمِها الفردوسيّ. أنظر الدكتور داهش: "قِصص غريبة وأساطير عجيبة"، ج 1 (بيروت: دار النسر المُحلِّق، 1979)، ص 34.

3. المصدرُ السابق، ص30-32.

4. الدكتور داهش: "الرحلاتُ الداهشيَّة..."، ج 1 (بيروت: دار النسر المُحلِّق، 1979)، ص 475.

5. نوَّهَ الدكتور داهش بكتاب "الغصن الذهبيّ" في المجلَّد 6 من "الرحلاتُ الداهشيَّة..." (نيويورك: الدار الداهشيَّة، 1990، ص 32) حيث قال: "حقًّا إنَّ هذا الكتابَ نفيس، وترجمته كانت واجبة كي يطَّلعَ عليه مَن لا يُتقنُ اللغةَ التي كُتِبَ فيها."

  1. 6.   الدكتور داهش: "كلمات"، ص 99.

7. تجدُ مثالاً على ذلك في "الرحلاتُ الداهشيَّة..."، المجلَّد 20، ج 1 (نيويورك: الدار الداهشيَّة، 2001)، ص 48.

8. الدكتور داهش: "كلمات"، ص 100-101.

9. المصدرُ السابق، ص 83.

10. الدكتور داهش: "عواطف وعواصف" (بيروت: دار النسر المُحلِّق، 1971)، المُقدِّمة، ص 5-9.

11. الدكتور داهش: "الرحلاتُ الداهشيَّة..."، ج 2 (بيروت: دار النار والنور، 1983)، ص 78.

12. الدكتور داهش: "مُذكِّرات دينار" (نيويورك: الدار الداهشيَّة، 1986)، ص 21.

13. "الرسائلُ المُتبادَلة بين الدكتور داهش مُؤَسِّس الداهشيَّة والدكتور حسَين هيكل باشا"، جمعَه الدكتور فريد أَبو سليمان ( بيروت: دار النسر المُحلِّق، 1981)، ص32-36.

14. الدكتور داهش: "قِصص غريبة وأساطير عجيبة"، ج 1، ص 30-32.

15. يُمكنُ الإفادة في مفهوم الواقعيَّة الفنِّـيَّة لدى الدكتور داهش من مقال "الدكتور داهش والفنّ" للأستاذ طوني شعشع، "صوت داهش"، حزيران 1997.

16. الدكتور داهش: "الرحلاتُ الداهشيَّة..."، ج 1، ص 223.

17. المصدرُ السابق نفسه.

18. الدكتور داهش: "الرحلاتُ الداهشيَّة..."، ج 12 (نيويورك: الدار الداهشيَّة، 1991)، ، ص71.

19. الدكتور داهش: "الرحلاتُ الداهشيَّة..."، ج 4 (بيروت: دار النار والنور، 1983)، 32.

20. الدكتور داهش: "الرحلاتُ الداهشيَّة..."، ج 2، ص 72-73.

21. الدكتور داهش: "الرحلاتُ الداهشيَّة..."، ج 6، ص 293-294. يُمكنُ الوقوعُ على تعليقاتٍ مُماثلة على الفنِّ التجريديّ أو الفوقواقعيّ في مواضعَ مختلفة من "الرحلات"؛ منها الجزء 1، ص 369 حيث يقول: "كيف تسمحُ الحكومات بوضع هذه اللوحات التي هي عبارة عن ألوانٍ مُمتزجة بعضها ببعض ولا معنى لها على الإطلاق! أقول كيف تسمح بوضعها وهي لا تُمثِّلُ إلاَّ الوهم، ولا تعني شيئًا ما يُثيرُ الإنسان أو يدعُه يلمسُ جمالَه أو يتملَّى معانيه، وهذا الأمر يُحيِّرُ حقًّا!"؛ وكذلك ج 18، ص 114حيث يقول: "أَمَّا لوحاتُ ’السريالزم‘ فأَنا بعيدٌ عنها بُعدَ السماوات عن الأَرَضين. فما هي سوى شَرَكٍ لاصطياد أَغبياءِ العقول الذين تنطلي عليهم أَضاليلُ يدفعون ثمنَها مبالغَ طائلة وهي لا تُساوي شروى نقير."

22. الدكتور داهش: "الرحلاتُ الداهشيَّة..."، ج 1، ص 359.

23. الدكتور داهش: "الرحلاتُ الداهشيَّة..."، ج 19 ، ص 105.

24. الدكتور داهش: "قِصص غريبة وأساطير عجيبة"، ج 1، 5.

25. الدكتور داهش: "الرحلاتُ الداهشيَّة..."، ج 1، ص360.

26. الدكتور داهش: "ضجعةُ الموت" (القُدس: مطبعة دار الأَيتام السوريَّة، 1936)، ص 10.

27. الدكتور داهش: "قِصص غريبة وأساطير عجيبة"، ج 1، ص 30.

28. الدكتور داهش: "الرحلاتُ الداهشيَّة..."، ج 6، 317-318.

29. المصدرُ السابق نفسه.

30. "الرسائلُ المُتبادَلة..."، ص 32 و34 و36.

31. الدكتور داهش: "مُذكِّرات دينار"، ص 157.

32. الدكتور داهش: "الرحلاتُ الداهشيَّة..."، ج 2، ص 33-34.

33. الدكتور داهش: "قِصص غريبة وأساطير عجيبة"، ج 1، ص 30-31.

34. الدكتور داهش: "الرحلاتُ الداهشيَّة..."، ج 4، ص 28-29.

35. الدكتور داهش: "الرحلاتُ الداهشيَّة..."، ج 2، ص 73.

36. الدكتور داهش: "الرحلاتُ الداهشيَّة..."، ج 12، ص 96.

37. الدكتور داهش: "الرحلاتُ الداهشيَّة..."، ج 1، ص140-141.

38. الدكتور داهش: "الرحلاتُ الداهشيَّة..."، ج 7 (نيويورك: الدار الداهشيَّة، 1990)، ص 138.

39. الدكتور داهش: "الرحلاتُ الداهشيَّة..."، ج 12، ص 114.

 

   التعاليم الداهشيَّة بقلم الدكتور غازي براكس Back to

Developed by Houssam Ballout        Copyright 2019 This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.nfo All Right Reseved This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.