أنا أؤمن بأنه توجـد عدالة سماويّة, وأن جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدنيا من مُنغصات انَّ هـو الاّ جـزاءٌ وفاق لِما أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور.ولهـذا يجب علينا أن نستقبلَ كلّ مـا يحـلّ بنـا من آلامِ الحياةِ ومآسيها غير مُتبرّمين ولا متذمّرين , بل قانعين بعدالةِ السماء ونُظمها السامية.

Highlighter
أحبُّ الكُتُبَ حبَّ السُكارى للخمر , لكنَّني كلَّما أزددتُ منها شرباً, زادتني صَحوا
ليس مّنْ يكتُبُ للهو كمَن يكتُبُ للحقيقة
الجمالُ والعفّــة فـردوسٌ سماويّ .
لا معنى لحياةِ ألأنسان اذا لم يقم بعملٍ انسانيٍّ جليل .
اعمل الخير , وأعضد المساكين , تحصل على السعادة .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقـوم بأعمالِ الخير نحـو ألأنسانيّة .
الموتُ يقظةٌ جميلة ينشُدها كل مَنْ صَفَتْ نفسه وطَهرت روحه , ويخافها كلّ من ثقُلت أفكاره وزادت أوزاره .
ان أجسامنا الماديّة ستمتدّ اليها يـد ألأقـدار فتحطِّمها , ثمّ تعمل فيها أنامل الدهـر فتتَّغير معالمها , وتجعلها مهزلةً مرذولة . أمّا ألأعمال الصالحة وألأتجاهات النبيلة السّامية , فهي هي التي يتنسَّم ملائكة اللّه عبيرها الخالد .
نأتي إلى هذا العالمِ باكين مُعولين، و نغادره باكين مُعولين! فواهً لك يا عالمَ البكاء والعويل!
جميعنا مُغترٌّ مخدوعٌ ببعضه البعض.
العدلُ كلمة خُرافية مُضحكة.
أمجادُ هذا العالم وهمٌ باطل، و لونٌ حائل، و ظلٌّ زائل.
لا باركَ الله في تلك الساعة التي فتحتُ فيها عينيّ فإذا بي في مكانٍ يطلقون عليه اسم العالم .
أنا غريبٌ في هذا العالم، و كم احنُّ إلى تلك الساعة التي اعود فيها إلى وطني الحقيقيّ.
الحياةُ سفينةٌ عظيمة رائعة تمخرُ في بحرٍ، ماؤه الآثام البشريَّة الطافحة، و امواجه شهواتهم البهيميَّة الطامحة، و شطآنه نهايتهم المؤلمة الصادعة.
كلّنا ذلك الذئبُ المُفترس , يردع غيره عن اتيانِ الموبقاتِ وهو زعيمها وحامل لوائها , المُقوّض لصروح الفضيلة , ورافع أساس بناءِ الرذيلة .
الحياةُ سلسلة اضطراباتٍ وأهوال , والمرءُ يتقلَّب في أعماقها , حتى يأتيه داعي الموت, فيذهب الى المجهولِ الرهيب , وهو يجهلُ موته , كما كان يجهلُ حياته .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقومَ بأعمالِ الخير نحو الانسانيّة .
المالُ ميزان الشرِّ في هذا العالم .
السعادةُ ليست في المال , ولكن في هدوءِ البال .
كلُّ شيءٍ عظيمٍ في النفسِ العظيمة , أمّا في النفسِ الحقيرة فكلُّ شيءٍ حقير .
الرُّوح نسمةٌ يُرسلها الخالق لخلائقه لأجل , ثم تعودُ اليه بعجل .
الرُّوح نفثةٌ الهيَّة تحتلُّ الخلائق , وكل منها للعودة الى خالقها تائق .
الرُّوح سرٌّ الهيٌّ موصَدْ لا يعرفه الاّ خالق الأرواح بارادته , فمنه أتتْ واليه تعود .
أنا أؤمن بأنه توجـد عدالةٌ سماويّة , وأنَّ جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدُّنيا من مُنغِّصاتٍ وأكدارٍ انَّ هـو الاَّ جـزاء وفاق لمِا أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور . ولهـذا يجب علينا أن نستقبل كلَّ مـا يحـلُّ بنـا من آلام الحياة ومآسيها غير م
الحرّيةُ منحة من السماءِ لأبناءِ ألأرض .
الموتُ ملاكُ رحمةٍ سماويّ يعطف على البشر المُتألّمين , وبلمسةٍ سحريّة من أنامله اللطيفة يُنيلهم الهناء العلويّ .
ما أنقى من يتغلّب على ميولِ جسده الوضيع الفاني , ويتبع ما تُريده الرُّوح النقيّة .
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
الراحة التامّة مفقودة في هذا العالم , وكيفما بحثت عنها فأنت عائدٌ منها بصفقةِ الخاسر المَغبون .
ليس أللّــه مع الظالم بل مع الحقّ.
ان الصديق الحقيقي لا وجود له في هذا العالم الكاذب.
ما أكثر القائلين بالعطف على البائسين وغوث الملهوفين والحنو على القانطين , وما أقلَّ تنفيذهم القول.
يظنُّ بعض ألأنذال ألأدنياء أنّهم يُبيّضون صحائفهم بتسويدِ صحائف الأبرياء , غير عالمين بأنَّ الدوائر ستدور عليهم وتُشهّرهم.
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السَّلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
رهبة المجهول شقاء للبشرِ الجاهلين للأسرارِ الروحيَّة , وسعادة للذين تكشّفت لهم الحقائق السماويَّة .
الموتُ نهاية كل حيّ , ولكنه فترة انتقال : امّا الى نعيم , وامّا الى جحيم .
الحياةُ خير معلِّمٍ ومُؤدِّب , وخيرَ واقٍ للمرءِ من الأنزلاقِ الى مهاوي الحضيض .
حين تشكُّ بأقربِ المُقرَّبين اليك تبدأ في فهمِ حقائق هذا الكون .
مَنْ يكون ذلك القدّيس الذي لم تخطرُ المرأة في باله ؟ لو وجدَ هذا لشبَّهته بالآلهة .
المرأة هي إله هذه الأرض الواسع السُّلطان. و هي تحملُ بيدها سيفاً قاطعاً لو حاولَ رجالُ الأرض قاطبةً انتزاعه منها لباؤوا بالفشلِ و الخذلان .

الحياةُ الثقافيَّةُ واالرُّقيُّ الحضاريُّ

في ضَوءِ التعاليم الداهشيَّة

بقلم الدكتور غازي براكْس

 


بيَّنتُ في ما تقدَّمَ من هذا البحث (أنظر العدد السابق، شتاء 2002) أنَّ لكلِّ مجتمعٍ بشريّ حياةً ذاتَ أبعادٍ مُتشابكة مُتفاعلة، أبرزُ ما اصطُلِحَ عليها يتمثَّلُ في المظاهر الدينيَّة، والسياسيَّة، والخُلقيَّة الاجتماعيَّة، والاقتصاديَّة، والعسكريَّة، والثقافيَّة. وقد أوضحتُ أهمِّـيَّةَ كلٍّ منها وخصائصَه ومقاييسَ رُقيِّه وأسبابَ انحطاطِه. لكنَّ البُعدَ الثقافيَّ أرجأتُ الخَوضَ فيه إلى هذا العدَد، لأنَّه مثلما ذكرتُالمُحصَّلةُ المعرِفيَّة والمِعياريَّة للأَبعادِ جميعًا، فضلاً عن شمولِه العُلومَ والآدابَ والفنونَ تلَقُّنًا وإبداعًا. ولِكون الثقافة ذاتَ صفةٍ مِعياريَّة، فإنَّها تُصبحُ بمنزلةِ العُصارةِ الروحيَّة في كلِّ حضارة. فما هو مدى الارتباط بين هذا البُعدِ الروحيِّ من الحضارة ورُقيِّها في ضَوءِ التعاليم الداهشيَّة؟

بناءً على مفهوم الثقافةِ الذي قدَّمتُه، يُصبحُ المُثقَّفُ، بالمفهوم الحديثِ العامّ، إنسانًا أحدثَت الثقافةُ تأثيرًا إيجابيًّا في إدراكِه بحيثُ أصبحَت مفاهيمُه وأعمالُه محكومةً بالعقلِ وأحكامِه الموضوعيَّة وليس بالأهواءِ والانفعالات والعواطف الشخصيَّة؛ ومُرادِفُ معناه بالإنكليزيَّة هو intellectual، وبالفرنسيَّة intellectuel. [1]

أمَّا في ضوءِ التعاليم الداهشيَّة فالمُثقَّفُ إنسانٌ أخضعَ سلوكَه ومواقفَه، فضلاً عن مفاهيمه المُحصَّلة من مختلف المعارف وأعمالِه المُكيَّفة بها، لأحكامِ العقلِ المُستنير كما لإيعازات الضمير ومُقتضَياتِ القِيَمِ الروحيَّة. ويرتقي المُثقَّفُ بقدرِ ما يضطلعُ بتَبِعةِ تقديمِ شعبِه وتطوير الحضارة فيه إلى ما هو أرقى، وذلك انطلاقًا من إدراكِه أنَّه بقدرِ معرفتِه وما يتمتَّعُ به من مواهبَ، تعظمُ مسؤوليَّتُه تجاهَ أُمَّتِه كما إزاءَ الإنسانيَّة. ولِذا فالمُثقَّفُ الراقي تترتَّبُ عليه المواقفُ الشُّجاعةُ الصادقة لإعلانِ صوتِ الحقِّ عاليًا، ولِجَبهِ المصاعب والمِحَن التي تعترضُ ارتقاءَ المجتمَع سواءٌ كان ذلك في نُموِّه الروحيّ أم الاجتماعيّ أم الاقتصاديّ؛ فيكون المُثقَّفون الراقون، والحالةُ هذه، أَشبهَ بعَقلٍ أو ضميرٍ جَماعيٍّ حَيٍّ للمجتمع، وربَّما للإنسانيَّة.

وهكذا فالمُتعلِّمون عامَّةً وخِرِّيجو الجامعات خاصَّةً، في ضوءِ المفاهيم الداهشيَّة، لا يُمثِّلون الثقافةَ في مُجتمعِهم إلاَّ بقَدرِ ما تفعلُ فيهم فِعلاً إيجابيًّا فكريًّا وعمَليًّا، خُلُقيًّا وسلوكيًّا، أي بقَدرِ ما يُصبحون عُمَّالاً فكريِّين بنَّائين في مُجتمعِهم، يُشخِّصون نقائصَه ومعايـبَه ويُشهِّرونها، مُحاولين تطويرَ الأوضاعِ الثقافيَّةِ إلى حالٍ أفضل. ومن الطبيعيّ أن يدخلَ في طليعةِ هؤلاء المُثقَّفين المُبدِعون جميعًا، سواءٌ في العلم والفلسفة والمعرفة العامَّة أو في الأدبِ والفنّ. تبَعًا لذلك سأُعالجُ، أوَّلاً، عناصرَ الثقافة في المجتمع، ثمّ أنماطَها، فدورَ المُبدِعين ومسؤوليَّتَهم، وأخيرًا دورَ مُؤَسَّسات التعليم العالي ووسائل الإعلام ومسؤوليَّتَها وأهمِّيَّةَ الرأيِ العامّ المُستنير، في ضوء المفاهيم الداهشيَّة.

 

عناصرُ الثقافة الثلاثة

          أهمُّ العناصرِ الثقافيَّة في كلِّ مجتمَع ثلاثة: العُنصرُ الدينيُّ المِعياريّ، والعُنصرُ العقليُّ المعرِفيّ، والعُنصرُ السلوكيّ الاجتماعيّ. والبحثُ فيها سيكون تِباعًا.

 

أوَّلاً- الثقافةُ في عنصرِها الدينيّ المِعياريّ

لا رَيبَ في أنَّ العنصرَ الدينيَّ المِعياريَّ في المجتمع كان وما يزال، مباشرةً أو مُداورة، أساسَ الثقافة فيه، لأنَّه الينبوعُ الذي منه تتدفَّقُ القِيَمُ الروحيَّة، والميزانُ الذي به تُرازُ الأعمال، والمِعيارُ الذي تُقاسُ به الصالحاتُ وتُمَيَّزُ من الطالحات. حتَّى الدُولُ العَلمانيَّة تلتقي القِيَمُ الإنسانيَّةُ فيها، من عدالةٍ وخيرٍ وصدقٍ ونزاهة، القِيَمَ الروحيَّةَ التي بُنِيَت الأديانُ عليها.

لكنَّ المؤمنين بالدين قد يحيدون به عن غايتِه الأصليَّة التي ترمي إلى زَرعِ الفضيلةِ وتقوية الإرادة لِصُنع ما فيه خيرٌ للفرد والجماعة، فيُصبحُ، إذا انحرفَ، عائقًا للنموِّ الإنسانيِّ بدلَ أن يكونَ مُساعدًا له.

على أنَّ الداهشيَّةَ تزيدُ على غايةِ الدين الأصليَّة تنميةَ المداركِ العقليَّة التي توسِعُ آفاقَ الدين وتُبعِدُه عن الأوهام والخُرافات. وقد أوضحتُ الأضرارَ التي تنتجُ من الانحرافات الدينيَّة في ما تقدَّم من هذا البحث (أنظر العدد السابق).

وما يعنيني، هنا، هو الوجهُ النقيُّ من الدين وفقَ ما تفهمُه الداهشيَّة. فهذا الوجهُ هو العُصارةُ الروحيَّة التي إن سرَت في شجرة المُجتمع، زادت في رسوخِها وشموخِها، ومَدَّتها بثِمارٍ طيِّبةِ المَذاق، مُفيدةِ الغذاء. لكنَّ هذا المفهومَ الدينيَّ الراقي الذي نجدُه مع كلِّ بعثةٍ نبَويَّة أو هدايةٍ روحيَّةٍ صادقة، ترى الداهشيَّة أنَّه لا يستمرُّ قائمًا إلاَّ إذا توافرَت له عدَّةُ شروطٍ، أهمُّها خمسة:

          أَ- إعتبارُ مفاهيمِ الحقائق الدينيَّة، على أهمِّـيَّتِها وقُدسيَّتِها، مفاهيمَ نسبيَّة، لا مُطلَقة، كلٌّ منها يُصدِّقُ ما قبلَه. فالملائكةُ، إذْ تُخاطبُ الناسَ بواسطة الأنبياء، إنَّما تُخاطبُهم وفقًا لدرجةِ مداركهم وقوَّةِ استيعابِهم؛ وكذلك الأمرُ إذْ يُخاطبُهم الأنبياءُ أنفسُهم. وهذا الأمرُ مرهونٌ بما يكونُ عليه تقدُّمُ المعارف في عصر البعثة الدينيَّة، ولا سيَّما العلوم الطبيعيَّة والإنسانيَّة. وقد وردَ في "رسالة أفلاطون" التي أنزلَتها روحُ الفيلسوف اليونانيّ على مُؤسِّس الداهشيَّة، فارتَسمَت على ورقةٍ بيضاء بصورةٍ إعجازيَّة:       الوَيلُ لِـمَن يُحاولُ أن يُعلِّمَ الناسَ أَسرعَ مِمَّا يستطيعون أن يتعلَّموا."[2] كما قال الدكتور داهش: "الوَيلُ لِمَن يُخاطبُ الناسَ بأكثرَ مِمَّا يفهمون أو بأكثرَ مِمَّا يعتقدون، فجَدَثُه، إذْ ذاك، يكون أقربَ من حبلِ الوريد.[3]

          نسبيَّةُ مفاهيمِ الحقائق الدينيَّة في الداهشيَّة يوجِبُها، إذًا، اختلافُ عقول الناس باختلاف عُصورهم وبيئاتهم، وكَونُهم، مهما ارتقَوا، في مُستوًى من المعرفة يعلوه ثلاثُمئةِ ألفِ مُستَوًى تتدرَّجُ في عوالم النعيم (150 درجة كلٌّ منها يشتملُ على ألفَي مُستوًى)؛ هذا قبل أن يرتقيَ الإنسانُ إلى عوالم الروح القُدسيِّة حيثُ تنطلقُ المعرفةُ من كلِّ قَيد، وحيثُ تسطعُ أَنوارُ الله، عَزَّ وجَلَّ. فالعائقُ، إذًا، هو استحقاقُ البشر أن يعرفوا أكثرَ مِمَّا يعرفون. حقيقةُ الاستحقاق هذه أكَّدها الدكتور داهش في كتابه المُلهَم "مُذكِّرات يسوع الناصريّ" حيثُ يقول على لسان السيِّد المسيح إنَّه بعد عودته ثانيةً إلى الأرض "تتكشَّفُ الحقيقةُ لِمَن يجبُ أن يعرفَها كلٌّ حسبَ استحقاقِه."[4]

          إذا آمنَ أتباعُ الأديان جميعًا بأنَّ الحقيقةَ الدينيَّةَ نسبيَّة، دفعَهم ذلك إلى الانفتاح بعضهم على بعض للاستفادة والتكامُل، فتُصبحُ النظرةُ إلى الحياة والموت والوجود الأرضيِّ وما بعده أرحبَ وأشملَ وأقربَ إلى الصواب. فقد يكون في كلِّ دينٍ نورُ هدايةٍ لا نجدُه في دينٍ آخَر. فإذا تضافرَت الأنوارُ كلُّها، تمكَّنت من إضاءةِ ما يستحيلُ ظهورُه بفِعلِ نورٍ واحد.

          وقد دفعَت الحقيقةُ الدينيَّةُ النسبيَّة مُؤسِّسَ الداهشيَّة إلى أن يقول:

          ما أغربَ الآراءَ والمُعتقداتِ التي تدينُ بها النِّحَلُ المُختلفة التي تزخرُ بها الأرض، إذْ يظنُّ الجميعُ أنَّهم مُصيبون وغيرَهم مُخطئون؛ وكلُّهم، في رأيي، بالجهلِ يعمَهون.[5]

          إنَّهم بالجهل يتخبَّطون لأنَّ كلَّ فئةٍ تظنُّ أنَّ الحقيقةَ المُطلقة هي مُلكُ يَدِها؛ والحقيقةُ المُطلقة ليست إلاَّ لَدُن الله، واللهُ يستحيلُ أن يُدركَ كُنهَه أو عظمتَه أيُّ عقلٍ خارجَ العوالم الروحيَّة، سواءٌ كان عقلَ فيلسوفٍ عظيمٍ في الأرض أو عقلَ كائنٍ متفوِّقٍ في عالَمٍ من عوالم النعيم الراقية جدًّا. يُؤكِّدُ الدكتور داهش ذلك بقولِه:

          إنَّ عظمةَ الله لا يُحيطُ بها عقلُ بشريّ، ولا يُمكنُ أن يبلغَها أيُّ فيلسوف من فلاسفة عالَمِنا أو من عوالمَ أُخرى نجهلُها.[6]

          بل إنَّ داهِش يُؤَكِّدُ في قطعة بعنوان "استسلام" أنَّ "مقاصدَ [الله] الخفيَّة في خَلقِنا خفيَت حتَّى على الأنبياء."[7]

          فكم من جماعةٍ دينيَّة عَبرَ التاريخ اعتقدَ أفرادُها أنَّ الله بجانبِهم، فهُم جنودُه وقومُه المُختارون، يعرفون مقاصدَه وأفكاره؛ إن مات أَحدُهم وهو يقتلُ غيرَه، حتَّى لو كان المقتولُ بريئًا، فالقاتلُ شهيدٌ وله فراديسُ النعيم. ولِذا فهم يؤمنون بأنَّ اللهَ لا يخذلُهم، لأنَّ الحقيقةَ كلَّها معهم، وكلُّ مَن عَداهم على ضلال، وله الجحيمُ مقرٌّ إلى أبدِ الآبِدين. لكنْ هلاَّ يتساءَلُ هؤلاء الغُلاةُ العُميان بعد أن تنقرضَ دولتُهم ويتبدَّدَ شملُهم ويهبطوا من عزٍّ إلى ذُلّ لماذا تخلَّى اللهُ عنهم ما داموا أصفياءَه ومُختاريه!

          ب- تُؤمنُ الداهشيَّة بوَحدةِ الأديانِ الجوهريَّة. فالأديانُ سواءٌ كانت موحاةً ومُؤيَّدة بالمُعجزات أو كانت مُلهَمةً أسَّسَها هُداةٌ روحيُّون كما الحال في الهند والشرق الأقصى (الهندوسيَّة والبوذيَّة والكنفوشيوسيَّة والطاويَّة) جميعُها تهدفُ إلى غايةٍ واحدة هي الإنماءُ الروحيُّ للإنسان، ومَدُّه بما يُساعدُه ويستحقُّه من الحقائق الروحيَّة النسبيَّة تبَعًا لمُستوى مدارك المَعنيِّـين وظروف عصرهم وبيئتِهم. وبناءً على ذلك تُصبحُ الكتُبُ الدينيَّة أشبهَ بفصولٍ في كتاب "الهداية الروحيَّة" الذي قد تمتدُّ فصولُه ما امتدَّت الحياةُ في الأرض، وارتقَت عقولُ البشر وازداد استحقاقُهم للمعرفة الروحيَّة.

          فضلاً عن ذلك فالسيَّالاتُ الروحيَّةُ التي تُحيي الرُّسُلَ والهُداةَ الروحيِّـين جميعًا تنتمي، وفقًا لتعاليم الداهشيَّة، إلى شجرةٍ روحيَّةٍ واحدة ، وإن اختلفَت درجاتُ أغصانها، ولِذا وردَ في القرآنِ الكريم: )تلك الرُّسُلُ فضَّلنا بعضَهم على بعض، منهم مَن كلَّمَ اللهُ، ورفعَ بعضَهم درجات( (البقرة: 253).

          ج- الإيمانُ بنسبيَّةِ الحقيقةِ الدينيَّة يُؤَدِّي حُكمًا، لا سيَّما في مجتمَعٍ راقٍ، إلى إعطاءِ الناس الحقَّ التامَّ في اختيار ما يعبدون حتَّى لو كان صنَمًا، وفي انتقاءِ العقيدة التي يَرَونها مُناسبةً لهم؛ ذلك بأنَّ العبادةَ لا نفعَ منها إلاّ إذا كانت مُطابقة ومُناسبة لسيَّالات المُؤمنين الروحيَّة. فالإكراهُ على الدين يضرُّ أكثرَ جدًّا مِمَّا ينفع. والتاريخُ حافلٌ بالشواهد على ذلك. هذا الموقفُ يُولِّدُ التسامُحَ في المجتمع، ويجعلُ مَن يتمتَّعُ بإدراكٍ أرقى ونزعاتٍ أسمى ينظرُ إلى مَن هو دونه لا نِظرةَ استعلاء، لكنْ نِظرةَ تفهُّمٍ واحترام؛ لأنَّ الرُّقيَّ الحقيقيَّ نُسغُه القِيَمُ الروحيَّةُ التي رأسُها المحبَّة. فالمُؤمنون الذين يتوسَّلون العُنفَ في نَشرِ مُعتقداتِهم وفَرضِها يُفرِغون دينَهم من نُسغِه الروحيّ، ويهبطون به إلى مُستوى حزبٍ دُنيَويّ قائمٍ على الإيمان بالغَيبيَّات.

          د- يرتقي الوجهُ الدينيُّ في الحياةِ الثقافيَّة، وفقًا للداهشيَّة، بقَدرِ ما يتنـزَّهُ عن روحيَّة القطيع herd spirit. فالمُؤمنون الذين يشلُّون عقولَهم، مُطفئين الأقباسَ الإلهيَّةَ فيهم، ليُصدِّقوا، دونما مُناقشةٍ أو تساؤل، كلَّ كلمةٍ يتلفَّظُ بها رؤساؤهم الدينيُّون، ويُنفِّذوا أوامرَهم تنفيذًا أعمى إنَّما يتخلَّون عن الاستقلال الفكريِّ الذي منحَهم إيَّاه الله، ويهبطون بأنفسهم إلى مُجتمعات القُطعان. فأمثالُ هؤلاء نجدُهم في جميع العصور ومُختلف الأديان، حينما تتقهقرُ الثقافةُ وتُظلِمُ العقولُ في الشعوب؛ فيتحوَّلُ الرؤساءُ الدينيُّون إلى شِبهِ قادةٍ عسكريِّـين مُستبدِّين، وتتحوّلُ شعوبُهم إلى شبهِ قُطعانٍ مَسوقة إلى تسعير الحروب.

          وروحيَّةُ القطيع، إذا سيطرت على مجتمعٍ ما، شلَّت فيه روحَ الإبداع وذهنيَّةَ النقد وإرادةَ التجديد والمُبادرة، فأسلمَ أفرادُه أمرَهم ومصايرَهم إلى الأقدار كما إلى زُعمائهم، يُسيِّرونهم تبَعًا لأهوائهم ونزواتِهم ومصالحهم الشخصيَّة أو الدينيَّة الضيِّقة، ويُثرون على حساب فَقْرِ المُؤمنين السُّذَّج، ويكبرون ويُمَجَّدون بقَدرِ ما يضعفُ أتباعُهم ويُرذَلون.

          هـ- بقَدرِ ما يتجرَّدُ الدينُ من الخُرافاتِ والأوهام والشكليَّات، وتتلاقى حقائقُه والحقائقُ العلميَّة الثابتة، تقتربُ الحقائقُ الدينيَّةُ من الصحَّة، لأنَّ الحقيقةَ العلميَّةَ الثابتة هي الوجهُ الطبيعيُّ للحقيقةِ الروحيَّة. هذا مع العلم بأنَّ الحقائقَ الموحاة تسبقُ ما يكشفُ عنه النشاطُ العلميُّ السائدُ في أَوان نزولِها شهادةً على تفوُّقِ مصدرِها الروحيّ وصحَّتِه. وهذا ما جعلَ الدكتور داهش يقول:

          أنا لا أُنكرُ أنَّ للإنسانِ يَدًا بيضاءَ بما استطاع الوصولَ إليه في عالَمِ الطبِّ والاختراعِ والأدبِ والفلسفة... ولكنَّ كلَّ ما أمكنَه بلوغُه ما هو إلاَّ نقطةٌ من بحرٍ مُتلاطمةٍ أمواجُه (...) وجميعُ ما توصَّلَ إليه لا يستطيعُ أن يجعلَه غيرَ خاضعٍ لنواميس الطبيعة التي أوجدَها الباري ، عَزَّ وجَلَّ.[8]

          وكلامُه شهادةٌ لتفوُّق المُعجزات التي تصنعُها قوًى عُلويَّة غيرُ بشريَّة؛ فهي أعمالٌ تتخطَّى العلمَ الأرضيّ، لأنَّها تخرقُ النواميسَ الطبيعيَّة إذا نظرنا إليها بمِنظارنا البشريّ، لكنَّها تتمُّ من خلال معرفة الكائنات العُلويَّة غير البشريَّة بأسرار تلك النواميس. كذلك فقد أشار روحُ أفلاطون في رسالته الآنفةِ الذكر إلى الفرقِ الشاسع وهو المُفكِّرُ العظيم بين ما كان يُعلِّمُه في الأرض والمعرفةِ الروحيَّة اللانهائيَّة التي تحصَّلَت له بعد انطلاقه من سجن المادَّة، فقال:

          وكنتُ، إذْ ذاك، أخبطُ خَبطَ عشواءَ في تعاليلي التي بتُّ أراها سخيفة، وذلك بعد اطِّلاعي على أسرار الحياة الروحيَّة منذ خلعتُ عنِّي ردائي المادِّيّ.[9]

 

ثانيًا- الثقافةُ في عُنصرِها العقليِّ المَعرِفيّ

عام 1944، في أثناء الإبعاد المُتعسِّف الذي قام به طاغيةُ لبنان، بشارة الخوري، للدكتور داهش إلى الحدود السوريَّةِ التركيَّة ليُلاقيَ هناك حتفَه على أيدي الجنودِ الأتراكإذْ كانت الحربُ العالَميَّةُ الثانية ما زالت مُستعرةَ الأُوارأَنقذَت العنايةُ الإلهيَّة رجُلَ الروح، وهَدَته إلى داخل الأراضي السوريَّة. وهناك كانت له تجربة مع الجهلِ الفادِحِ الفاضِح الذي كان يُغرِقُ كثيرين بظلمتِه. فتألَّمَ مُتذكِّرًا جلسةً له مع الشاعر الداهشيِّ حليم دمُّوس، إذْ قال له:

يا أُستاذ، إذا حُكِمَ عليكَ بالسَّجنِ الطويل، وأَعلمَكَ سَجَّانوك وجلاَّدوك أنَّهم يُخيِّرونك بالبقاءِ إمَّا في سِجنٍ رهيب، ولكنْ في أَعماقِه نخبةٌ مُختارة من شُعراءَ وأُدباءَ ومُثقَّفين، وإمَّا في قصرٍ شامخٍ مُنيف، لكنْ فيه مجموعةُ بُلَهاء وجماعةُ أَغبياء جُهلاء وغيرُ مُتعلِّمين، ففي أَيِّهما تُفضِّلُ أَن تمكث؟

فما كان من الشاعر إلاَّ أن أَجابَه: "أُفضِّلُ السجنَ المُخيفَ على القصرِ المُنيف."[10]

وقد دفَعَت مُؤسِّسَ الداهشيَّة هذه التجربةُ المُرَّة مع الجهل إلى أَن يُدليَ في اليوم التالي بهذا الحُكم: "أَمَّا الجهالةُ بهذا المِقدار العظيم، فهذا هو العَيبُ نفسُه."[11]

لم يكُن هَمُّ الدكتور داهش من المعرفة اختراقَ آفاقها الدينيَّة أو الروحيَّة فحسب، بل الإحاطة بكلِّ ما وسِعَه من حقولها الكثيرة أَيضًا. فالمعرفةُ لم تكُن له وسيلة، بل غاية. كانت له غذاءً روحيًّا يُنعِشُ عقلَه وقلبَه، لأنَّ الإنسانَ مثلما يرتقي بالفضيلة، فهو يرتقي بالمعرفةِ المُستنيرة أيضًا. يقول:

الكتُبُ هي طعامي المُفضَّل. ونَهَمي لالتهامِ مُتنوِّعاتِها لا يُشبِعُ فضولي مهما طالعتُ منها. فأَنا أَقرأُها وأَتذوَّقُ حلاوتَها، وأَنتشي بما تحويه من كنوزِ المعرفة التي أَودُّ فَضَّ مغاليقِها واستيعابَ أَسرارها المكنونة دومًا وأَبدًا.[12]

لقد كان بإمكان رجُل الروح الخارقِ بأعماله أن يستغنيَ عن كلِّ معرفةٍ بشريَّة لِما زوَّدَه اللهُ به من معرفةٍ روحيَّة خاصَّة، ولِما كانت تمدُّه به الأرواحُ القُدسيَّةُ من وَحيٍ أو إلهام تُفَضُّ فيه أسرارُ الحياةِ والموت كما أسرار الوجود الأرضيِّ وما وراءَه، ولكنَّنا نستنتجُ من العبارةِ السابقة ومن غيرها أنَّه كان حريصًا على أن يُحصِّلَ بنفسه أيضًا ما تفيضُ به قرائحُ العباقرة في كلِّ ميدانٍ من ميادين المعرفة والإبداع. وهذه الحقيقة نلحظُها في قولِه:

حُبِّي بل شغَفي الشديدُ لمُطالعة مُختلفِ أَنواع الكُتُب يسري مع الدماء في عروقي. وأجملُ ما أَتوقُ لمُشاهدتِه رُكامٌ من الكُتُب وتلالٌ من مُؤلَّفاتِ الفلاسفة والحُكماء، وجبالٌ مِمَّا أَنتجَته قرائحُ العُلماءِ والمُكتشفين والمُخترعين، وخُلاصةُ ما تمخَّضَت به عقولُ وأَفكارُ الأُدباءِ الأَفذاذ والشُّعراءِ المُلهَمين المُبدِعين.[13]

إذًا لم يحصر الدكتور داهش اهتمامَه بما هو موحًى، سواءٌ في الداهشيَّة أم في أيِّ دين، ولا دَعا أَتباعَه إلى قَصرِ اهتمامهم على المعرفة الدينيَّة، بل دعاهم إلى الاقتداء به، في الغَرْفِ من كلِّ إبداعٍ وكلِّ جديد، سواءٌ كان في العلم والتكنولوجيا أم في الفلسفة والأدبِ والفنّ، شرطَ ألاَّ يحيدَ بهم عن القِيَمِ الروحيَّة. ذلك بأنَّ المُبدِعين والعباقرةَ في كلِّ شعب يُشاركون المُرسَلين والهُداةَ الروحيِّـين في دَفع الثقافة إلى التقدُّم، كلٌّ في ميدانه الخاصّ. فمُجتمَعٌ يخلو من المُبدِعين والعباقرة في كلِّ ميدان لا يستطيعُ أن يصمدَ في حلبةِ السباقِ الحضاريِّ، خصوصًا في هذا العصرِ الموَّار بأفكاره الجديدة واختراعاته واكتشافاتِه. فالجهلُ، في كلِّ مجتمعٍ، هو عدوُّه الألدُّ الأَوَّل، ليس على الصعيد المعرفيِّ العامّ فحسب، بل على الصعيد الروحيِّ أيضًا.

وكثيرًا ما كان الدكتور داهش يُوازِنُ بين الثروةِ في بلدٍ ما والتقدُّمِ العلميِّ والفنِّيِّ في بلدٍ آخر، فإذا هو يُفضِّلُ الفكرَ والفنَّ على كلِّ مال الدُّنيا. وقد سمعتُه مرَّةً يطلبُ إلى واحدٍ من أتباعِه يتمتَّعُ بموهبةٍ أدبيَّة ملموسة أن يكفَّ عن إضاعةِ وقتِه بجَمعِ المال، وينصرفَ إلى المُطالعة والتأليف المُبدِع. كما سمعتُه يقولُ لواحدةٍ من تلميذاته تتمتَّعُ بموهبةٍ أدبيَّة ملحوظة: "إنِّي أُفضِّلُ أن يكونَ لي كتاب على أن تكونَ لي بنايةٌ شاهقة." وكان قد سجَّلَ موقفَه المَبدئيَّ هذا في قوله: "إنِّي أُفضِّلُ الكُتُبَ على الماس والزمُرُّدِ واليَشَبِ وكلِّ أنواع المُجَوهرات النادرة اليتيمة."[14]

وغيرَ مرَّة سمعتُه يتأَلَّمُ ويتحسَّر، بعد زيارته السياحيَّة لنيويورك، على عدمِ وجود مكتبةٍ عربيَّة فيها، ويقول: "الشعبُ الذي له جالية تُعَدُّ بمئات الآلاف في مدينةٍ عظيمة وليس له فيها مكتبةٌ تعرضُ ثقافتَه، يجبُ أن يخجلَ أبناؤه من أنفسهم."

وبقَدرِ ما كان مُؤسِّسُ الداهشيَّة يهتمُّ بالمُبدِعين من ذَوي المواهب العلميَّة والأدبيَّة ويُكبِرهمُ ، كان لا يحفلُ بخِرِّيجي الجامعات المُدَّعين الذين لا يتمثَّلون الثقافةَ بأذهانهم فيُحوِّلونها إلى عَطاءٍ شخصيٍّ وإبداع؛ وإذا سُئلوا عن رأيِهم في قضيَّةٍ ما، جاء أقربَ إلى رأي الجاهلين الإمَّعيِّـين. ذلك بأنَّ الثقافةَ إذا صادفَت ذهنًا خاملاً، لم تُفِده شيئًا، إلاَّ رُكامًا من المعارف ليس فيه أيُّ نور. فأمثالُ هؤلاء الذين تحفلُ بهم الجامعاتُ العربيَّة، وفقًا لرأيِ الباحثينفي النهضة القوميَّة،[15] ليس بوُسعِهم أن يزيدوا في جسم الحضارة أيَّ زَخم، لأنَّ الحياةَ الثقافيَّةَ يُمثِّلُها ويُغنيها الأحياءُ لا الأموات.

 

ثالثًا- الثقافةُ في عُنصرِها السُّلوكيّ الاجتماعيّ

إنَّ معنى الثقافة اللُغَويَّ الحديث، بالعربيَّة والإنكليزيَّة والفرنسيَّة، يدلُّ على تصحيح الاعوجاج والتسوية والتهذيب. وبذلك فهو يشملُ خُلُقيَّةَ الإنسان وسلوكَه، أي نزعاتِه وعواطفَه وأعمالَه الناتجة عنها بقَدرِ ما يشملُ إدراكَه ومواقفَه الفكريَّة. وبذلك يُصبحُ للثقافةِ في الفردِ والمجتمع دورٌ مِعياريّ أساسُه الدينُ، مثلما بيَّنتُ، أو الفلسفة، وبه يُمَيَّزُ الخيرُ من الشرّ والرذيلةُ من الفضيلة والقِيَمُ الحقيقيَّةُ البنَّاءة من القِيَم الوهميَّة الهدّامةِ.

إنَّ العقلَ المُتلقِّي للمعارف هو، أصلاً، قَبَسٌ إلهيٌّ نَـيِّر، كثيرًا ما مجَّدَه الدكتور داهش في مُحادثاته ومُعاطاتِه مع أتباعِه كما في كتابتِه؛ وقد ألمعتُ إلى ذلك في حلقاتٍ سابقة. وبنورِه يتمكَّنُ العبقريُّ من أن يفضَّ أسرار الكون كما يتمكَّنُ الإنسانُ العاديُّ من أن يُميِّزَ الخيرَ من الشرّ. من أجل ذلك قال رجلُ الروح بلسان العالِم ماندال في إحدى قِصَصِه، إذْ كان على وشكِ تحقيقِ إنجازٍ علميٍّ كبير:

الشكرُ لخالقِنا وواهبِنا العقلَ النيِّرَ لِـنُـمَيِّزَ به الصالـحَ من الطالح، ولِنستطيعَ إنجازَ اختراعٍ عظيمٍ كهذا يعودُ نفعُه على البشريَّة قاطبة.[16]

وفقًا للتعاليم الداهشيَّة تخفتُ طاقةُ العقلِ المُنيرة بقدرِ ما تتكاثفُ غشاواتُ الرغباتِ المادِّيـَّة والشهَوات السُّفليَّة في الإنسان، ذلك بأنَّ كلَّ سيَّالٍ من سيَّالات الإنسان الروحيَّة التي تتألَّفُ منها نفسُه يشتملُ على طاقةٍ إدراكيَّة كما على طاقةٍ نُزوعيَّة. من أجل ذلك إذا استبدَّ الغرورُ أو الكبرياءُ، مثَلاً، بأديبٍ أو عالِمٍ ما، فمن شأن ذلك أن يُعميَه عن رؤيةِ الحقيقة ما لم يكُن فيه سيَّالٌ عُلويٌّ أيضًا يهديه إليها، وهذا من النادر حصولُه. وأمثالُ هؤلاء كثيرون في الأوساط التي تدَّعي صحَّةَ الباراسيكولوجيا. فالطبيبُ الفرنسيُّ شاركو Charcot الذي كان أبرزَ مَن أشاع قضيَّة "التنويم" في فرنسا في أواخر القرن التاسع عشَر، لم يتراجَع عن ضلالِه رغمَ اعترافات روزالي Rosalie، الآنسة التي كان يُجري عمليَّات "التنويم" عليها، بأنَّها كانت تخدعُه في جميع ما قام به، لأنَّ في اعترافِه إقرارًا بضعفِه وانخداعِه.[17]

إنَّ النَّـزعاتِ والرغباتِ في الفردِ كما في المجتمَع تتَّخذُ لها مجاريَ فكريَّة واجتماعيَّة مُختلفة اختلافَ الأشخاص والمجتمعات في مُقوِّماتهم الثقافيَّة التي تضمُّ، في ما تضمّ، التربيةَ والتقاليدَ والعاداتِ والحياةَ الدينيَّة والنظامَ السياسيّ. فكلُّ عملٍ أو موقفٍ حُرٍّ يتَّخذُه إنسانٌ ما يكون حصيلةَ اتِّجاهٍ نفسيٍّ مُقترنٍ بمجرى اجتماعيّ-دينيّ-سياسيّ معيَّن.

فاتِّجاهُ الدعارة، مثلاً، قد يلبسُ أشكالاً فكريَّةً واجتماعيَّة مختلفة تتراوحُ بين المُمارسة الصريحة للعمل والمُمارسة المُفرِّجة عن نفسها في قصيدةٍ أو قصَّة أو التي تتنكَّرُ باللياقات والآداب الاجتماعيَّة في الملاهي الإباحيَّة. لكنَّ وجوهَها جميعًا صادرة عن النـزعة نفسِها، أي الاستسلام للشهوة الجنسيَّةِ الجامحة. فالمُجتمَعُ الذي يلبسُ قناعًا يُنكِّرُ به نـزعةً كهذه مُتفشِّيةً في أبنائه يبتعدُ عن الرُقيِّ الثقافيّ بقدرِ ما تستشري فيه مثلُ هذه النـزعة.

كذلك الموقفُ الرافِضُ للنَّقد، سواءٌ كان النقدُ مُوجَّهًا إلى رأيٍ سياسيّ أم قطعةٍ أدبيَّة أم فكرةٍ علميَّة أم موقفٍ سلوكيّ إلخ، إنَّما في أصله الديناميّ نزعةُ الكبرياء أو الغرور التي قد تقترنُ، أحيانًا كثيرة، بشعورٍ مرَضيٍّ بالدونيَّة أو بنَرجسيَّة ترى في نَقدِ أيِّ فكرٍ أو عطاءٍ أو موقفٍ للفردِ تهديدًا لذاتِه المُنتفِخة عينها. هذا الموقفُ الشائع في البلدان العربيَّة شعوبًا وحُكَّامًا، كيفما تكُن مُحاولاتُ تأويله وتعليله من قِبَل المُحلِّلين، يبقَ مُتأصِّلاً في العنجهيَّة القَبَليَّةِ المُتوارَثة منذ قرون، ويُبقِ الثقافةَ في هذه البلدان بعيدةً عن الرُقيِّ الحقيقيّ بقَدرِ ما تُؤثِّرُ هذه النـزعةُ في إبعاد المجتمَع عن مُمارسة الحوار البنَّاء والحُرِّيـَّة وحقوق الإنسان.

وتكثيرُ المال بلا حدود قد يتَّخذُ مجاريَ اجتماعيَّة وصُورًا اقتصاديَّة مُختلفة، كإنشاءِ شركاتٍ تجاريَّة أو صناعيَّة أو زراعيَّة أو مشاريعَ مصرفيَّة أو استثماريَّة في بلدٍ واحد أو عدَّةِ بُلدان مثلما نرى في اتِّجاه العَولَمة globalization؛ لكنَّ تكثيرَ المال الذي لا تحدُّه قناعةٌ ما، تُحيي نشاطَه نـزعةُ الجَشَع، وهو جشعٌ يقترنُ دائمًا بالأنانيَّة ذات الرؤوس الثلاثة: الحبِّ الضيِّق للنفس، وعدمِ الاكتراثِ بخيرِ الآخَرين، والرياءِ في التعاطي معهم. فالحُبُّ الضيِّقُ للنفس لا يرى إلاَّ مصلحتَها المادِّيـَّة ويعمى عن فائدتها الروحيَّة؛ وعدمُ الاكتراثِ بخَيرِ الآخَرين قد يُوجِّهُ الإنسانَ إلى حسَدِهم وسَلبِ نعمتِهم وابتزازِ أموالِهم؛ والرياءُ يُولِّدُ الخداعَ والغشَّ في التعامُل معهم. من أجل ذلك قال السيِّدُ المسيح: "لا يستطيعُ أحدٌ أن يعبدَ ربَّين، لأنَّه إمَّا أن يُبغضَ الواحدَ ويُحِبَّ الآخَر، أو يُلازمَ الواحدَ ويرذلَ الآخَر. لا تقدرون أن تعبدوا اللهَ والمال" (متَّى: 6:24). فمُجتمَعٌ يُبنى اقتصادُه على الجشَع هو مُجتمَعٌ ثقافتُه تخلو من القِيَم الروحيَّة بقَدرِ ما يأكلُ القويُّ فيه حقَّ الضعيف، وبقَدرِ ما لا يلتفتُ الشعبُ فيه حكومةً وأثرياءَ إلى مُساعدة الشعوبِ المُتخلِّفة الفقيرة.

كذلك فالإيمانُ بعقيدةٍ اجتماعيَّة أو سياسيَّة-اقتصاديَّة قد يتَّخذُ مجاريَ نفسيَّة جَماعيَّة مُختلفة. فقد تكون العقيدةُ تعصُّـبًا قوميًّا يجعلُ المُواطنين يتوهَّمون بأنَّ مُجتمعَهم أفضلُ المُجتمَعات وسيِّدُها، ووطنَهم مهبطُ العباقرة والنوابغ عَبرَ التاريخ، فيستعلون على الشعوبِ أو الجماعات الأُخرى، ويسعَون إلى ابتزازها أو السيطرةِ عليها؛ أو تكونُ العقيدةُ تعصُّـبًا حزبيًّا سياسيًّا يجعلُ المُحازِبين يتوهَّمون بأنَّ حزبَهم خيرُ الأحزاب وأعدلُها، وأجمعُها للمناقب، فينساقون إلى مَنعِ قيامِ أحزابٍ أُخرى أو إلى ازدرائها ومُقاومتِها بطرُقٍ غير شريفة. فمُجتمَعٌ مَبنيٌّ على مِثلِ هذه العقائد الحَصْريَّة الاستئثاريَّة هو مُجتمَعٌ يقومُ على غريزةِ القطيع البدائيَّة ودافعِ الطاعةِ العمياء للسلطة الأبويَّة مقرونتَين بنـزعةِ العنجهيَّة؛ ومن المُحال أن تقومَ في مِثلِ هذا المُجتمَع ثقافةٌ راقية ما دام أبناؤه وحُكَّامُه لا يَدَعون في الحضارة مكانةً لائقةً عادلة للجماعاتِ والشعوب الأُخرى، أو لا يُفسِحون للأحزابِ المُخالفة مجالاً للنشاط وتكافُؤِ الفُرَص وللتعبير الحُرّ عن آرائهم.

إنَّ التَّقنِـيَةَ الاجتماعيَّةَ للاتِّجاهاتِ النفسيَّة تُعطي الفردَ، فضلاً عن وجهِه الأصيل الذي يعكسُ الصورةَ العارية لدوافعِه ونزعاتِه الأصليَّة، وجهًا آخَرَ مُستعارًا يُنكِّرُه الرياءُ ويُقنِّعُه التكييفُ الاجتماعيّ بفِعلِ الضغطِ أو الإكراهِ أو المُجاراةِ الاجتماعيَّة؛ ومثلما أنَّ قيمةَ المُواطن-الإنسان هي في حقيقةِ وجهِه الأصيل لا وجهِه المُستعار كما في مقدار عطائه ذي النفعِ الإنسانيّ، فقيمةُ الأُمَّةِ الحقيقيَّة هي في مُستوى السيّالات الروحيَّة التي تُحيي مُعظمَ أبنائها أي في درجة الدوافع والنـزعاتِ والمداركِ والمواهبِ الفطريَّة التي تُحرِّكُ نشاطَهمكما في مِقدار عطائها ذي المنفعةِ الإنسانيَّة.

 

السيَّالُ الروحيُّ الجَماعيّ

          قد تَـتَعاصرُ في دولةٍ واحدة جماعاتٌ مُتفاوتةُ المُستويات الحضاريَّة، بحيثُ تُشكِّلُ كلُّ جماعةٍ من المُواطنين وحدةً بشريَّة ذاتَ كيانٍ ثقافيٍّ مُختلفٍ عن غيرها. لكنْ مع ذلك، يبقى الطابعُ الثقافيُّ للجماعةِ الكُبرى في ذلك الشعب هو المُهَيمنَ عليه. هذا الطابعُ، في نظر الداهشيَّة، إنَّما هو سيَّالٌ روحي ٌّجماعيٌّ يُميِّزُ الشعبَ بخصائصَ معيَّنة عن غيره من الشعوب، ويستمرُّ فيه ما دامت الحيويَّةُ ناشطة في ثقافة الشعب. وقد حادثـتُ مُؤسِّسَ الداهشيَّة في هذا الأمر غيرَ مرَّة، فأكَّدَ لي أنَّ هذا السيَّالَ حقيقةٌ واقعة، وليس مُجرَّدَ خصائصَ ثقافيَّة مُشتركة؛ فهذه الخصائصُ ناتجة عنه، وليس هو ناتجًا عنها. وهذا الأَمرُ أشار إليه في كتابه "مُذكِّرات دينار" حيثُ تحدَّث عن "سيكولوجيا الجنسيَّات"، فقال:

          كان المُسافرون من مُختلف الجنسيَّات. فأَحببتُ أن أَتمعَّنَ في أَساريرهم لأرى الانطباعاتِ التي تنقشُها عواملُ الوراثة والبيئة على صفحاتِ وجوهِهم التي هي مرآةٌ صادقة عن نفسيَّاتِهم.

          فتمعَّنتُ في وجوهِ بضعةِ أَشخاصٍ من الإنكليز، وهم خليطٌ من الجنسَين، فإذا بملامِحهم الجامدة وعدمِ اكتراثِهم الملحوظ يُبرهنان، بصورةٍ جَليَّة، عن برودةِ دمائهم السَّكسونيَّة. وهذا ما دَعاهم لأن يكسبوا معاركَ العالَم السياسيَّة والحربيَّة، ويظفروا بما يُريدون....

          ونقلتُ بصري إلى ألمانيّ، وأظنُّه ضابطًا. فإذا بالعزمِ والقوَّةِ والبطش والجبَروت تتدفَّقُ كلُّها في عروقِه، وتنبثقُ من ملامحِ وجهِه... فتحيَّرتُ من أمر هذه الأُمَّة التي لا يزالُ العزمُ الحديديُّ يجيشُ في صدورِ أبنائها، بالرُّغم من خسارتِها للحرب، وبالرغم من الملايين الذين سقطوا من أبنائها في حَوماتِ الوَغى. وتأكَّدَ لي أنَّ أُمَّةً كهذه حيَّةٌ لا تموت...

          وانتقلتُ ببصري إلى جمهرةٍ من الإفرنسيِّـين والإفرنسيَّات، وإذا بي أرى الديناميتَ يسري في دماءِ رجالِهم، والرقَّةَ تنثالُ من أفواهِ نسائهم. فقلتُ إنَّ هذه الأُمَّة التي يحملُ رجالُها أعصابًا كهذه لا تهدأُ لها ثائرة...

          وامتدَّ بصري إلى آخر القاعة، وإذا بإيطاليّ يتلهَّى برَسمِ المناظر التي تمرُّ أمامه. وكانت تجلسُ بالقرب منه فتاةٌ أظنُّها خطيبتَه، وقد استندَت إلى آلةٍ موسيقيَّة... فقلت: أيَّتُها الأُمَّة التي خُلِقتِ وأنتِ مغمورةٌ بالفَنّ! ويا مُنجِبةَ رفائيل، أشهرِ مَن رسمَ لوحةً فنِّـيَّة! ويا واهبةَ ميكال آنج، أعظمِ مَن نحتَ تمثالاً وبعثَ الحياةَ في الرخام، وخلَّفَ ثروةً خالدةً لا تفنى، ثروةً تعجزُ ثرواتُ الملوك قاطبةً عن ابتياعِها والتمتُّعِ بمحاسنِها الخلاّبة! ويا مُلهِمةَ دانْتي، الأديبِ العظيم، والمئاتِ من مشاهير الرسَّامين والموسيقيِّـين والبنَّائين والأُدباء والنحَّاتين... إنَّكِ لم تُخلَقي كي تتقلَّدي السيفَ، يا إيطاليا، ولم توجَدي كي تخوضي ساحاتِ المنايا... وليتكِ قنعتِ بما وهَبتكِ إيَّاه ربَّاتُ الفنون.[18]

          في ضوءِ كلام الدكتور داهش يتأَكَّدُ أنَّ المجتمعَ، بجميع وَحداتِه الصُّغرى والكُبرى، بَدءًا بالأُسرة وانتهاءً بالدولة، ليس بوُسعِه أن يُغيِّرَ دوافعَ الأفراد فيه ونزعاتِهم واستعداداتِهم الإدراكيَّة ومواهبَهم، لأنَّها كلَّها فطريَّة مُرتبطة بسيَّالاتهم، وتنتقلُ مُعظمُها بالوراثة؛ لكنَّ المجتمعَ بمقدورِه أن يُحمِّلَها شُحناتٍ ثقافيَّة قليلة أو كثيرة، ويُجريها في تَقْنِياتٍ اجتماعيَّة مُختلفة. غير أنَّ التأثيرَ الأكبرَ في هذا التغيير، إن حصَل، يتولَّدُ من جُهد الإنسان نفسِه ونشاطِه الإراديّ. ولذلك فالشعوبُ الخاملة المُستسلمة للأقدار واللائذة بأحضان الراحةِ الفكريَّة والجسديَّة يتعذَّرُ أن تنهضَ من تخلُّفِها، في حين أنَّ الشعوبَ النشيطةَ ذاتَ العزمِ والحيويَّةِ الدافقة سرعانَ ما تنهضُ من كبواتِها وسقطاتِها.

 

أَنماطُ الثقافة

          بصورةٍ عامَّة، ينقسمُ الناسُ ، تبعًا لفريقٍ من علماء النفس بطليعتهم كارل يونغ C. G. Jung وأتباعُه، إلى فئةٍ انبساطيَّة extrovert وفئةٍ انطوائيَّة introvert. الأُولى تنجذبُ إلى مُخالطة الناس والإفادة من المُتَعِ الحسِّـيَّة، وتميلُ إلى الفردانيَّة وتحصيل المنفعة المادِّيـَّة، ويكون شعارُها الأكلَ والشربَ واللهوَ والرفاهية. والفئةُ الثانية تنجذبُ إلى العزلة والإفادة من المُتَع العقليَّة، وتميلُ إلى القِيَمِ الروحيَّةِ والإنسانيَّةِ الكُلِّـيَّة، ويكون شعارُها التقشُّف والتأمَُّل. لكنَّ كثيرين من الناس قد يشذّون عن هذه القاعدة فيلتقطون بعضًا من هذه وبعضًا من تلك بحيثُ يُمثِّلون مزيجًا من النمَطَين.[19]

          وباعتبار أنَّ الثقافةَ في مجتمعٍ ما هي تعبيرٌ عن نمطٍ من الحياة مَبنيٍّ على مُستوًى روحيٍّ مُعيَّن يكون عليه معظمُ المواطنين، وينعكسُ في مختلف الميادين الحضاريَّة، فلا بُدَّ من الكلام على أربعة أنماطٍ ثقافيَّة عرَفتها المُجتمعاتُ الحضاريَّة في سياق التاريخ: الثقافة الذهنيَّة الانطوائيَّة، والثقافة الحسِّـيَّة الانبساطيَّة، والثقافة المزيج، والثقافة الإنسانيَّة المُتعدِّدة الأَوجُه.

 

أَوَّلاً- الثقافةُ الذهنيَّةُ الانطوائيَّة

          شهدَ التاريخُ هذا النمطَ من الثقافةِ الذهنيَّةِ التأَمُّليَّة في جماعاتٍ متفرِّقة عبرَ التاريخ، كجماعة الفيثاغوريِّـين أو السقراطيِّـين أو إخوان الصفاء أو الرهبنات البوذيَّة أو المسيحيَّة؛ لكنَّنا لا نعرفُ مُجتمَعًا قام بكُلِّـيَّـتِه وحرِّيـَّـتِه على هذه الثقافة. فدُوَلُ أُوروبَّا التي قامت في العصورِ الوُسطى أُرغِمَ مسيحيُّوها على الصومِ والصلاة والتقشُّف والتأَمُّل. وهذا الإرغامُ الثقافيُّ الصارم ولَّدَ عصورَ الظلام بدلَ أن تُولِّدَ الثقافةُ الذهنيَّةُ التأَمُّليَّة عصورَ نورٍ مثلما كان يُريدُ لها مُؤسِّسوها أفلاطون وأفلوطين وأُوغسطينس. ولذلك فإنَّ هذا النمطَ من الحياة الرتيبة الصارمة الخالية من البهجة أحدثَ في الشعوب المسيحيَّة ردَّةَ فِعلٍ قويَّة ظهرَت في عصر النهضة.

          إنَّ الحياةَ الثقافيَّة التي سادت أُوروبَّا في عصور الظلام لها ما يُماثلُها في عدَّةِ بُلدانٍ إسلاميَّة حيثُ يظنُّ القائمون على الأُمور السياسيَّة أو الدينيَّة أنَّ التمسُّكَ الحرفيَّ بالشرائع الدينيَّة وصرامةَ العَيش هما اللذان يُقرِّبان الناسَ من الله، عَزَّ وجَلَّ. من أجل ذلك قد يستهلكُ طالبُ المعرفة من الوقت في تقصِّي الأمور الدينيَّة أكثرَ مِمَّا يستهلكُ في العلوم الطبيعيَّة والإنسانيَّة والآداب. هذا النمطُ الثقافيُّ شهدَته أُوروبَّا في حقبة الظلام، إذ لم تعرف جامعاتُها طوالَ ألف سنةٍ تقريبًا إلاَّ دراسةَ اللاهوت والقانون والطبّ.

 

ثانيًا- الثقافةُ الحسِّيَّة الانبساطيَّة

          يُعتَبَرُ عصرُ النهضة في أُوروبَّا الذي ما زال الغربُ يجني نتائجَه ويعيشُ في مناخ فلسفتِه نموذجَ هذا النمطِ الثقافيّ. فالغربُ عامَّةً ما يزالُ حتَّى يومنا هذا يميلُ إلى الفلسفة المادِّيـَّة، والانطلاق في الحرِّيـَّة الفرديَّة إلى أقصى حدودها، كما ينجذبُ لا إلى التأَمُّل بل إلى التجربة الحسِّـيَّة والمُعاينة العلميَّة التي أدَّت به إلى تطوير العلوم الطبيعيَّة والإنسانيَّة وتكثير الاكتشافات والاختراعات.

          على أنَّ عصرَ النهضة الأُوروبيَّة ظهرَت فيه أيضًا حركةُ الإنسانيِّـين المسيحيِّـين Christian Humanists التي اتَّجه أعلامُها، وفي طليعتهم إراسموس Erasmus وتوماس مور Thomas More وكولِه Colet بأنظارهم وعقولهم إلى الثقافة اليونانيَّة-الرومانيَّة، وأخذوا يُترجمون آثارَها الفكريَّة والأدبيَّة، وبطليعتها مُؤلَّفات أفلاطون وأرسطو وشيشرون، ويستلهمونها في ما يكتبون، فضلاً عن استلهامِهم التراثَ الدينيَّ المسيحيّ. وقد كان لهذه الحركة تأثيرٌ بالغ في الأوساط الفكريَّة، فعدَّلَت الثقافةَ الأُوروبيَّة إلى حدٍّ بعيد.[20]

          ويرى العالِمُ الاجتماعيُّ سوروكِن Sorokin أنَّ التطرُّفَ في كلِّ نمطٍ من الحياة الثقافيَّة يُؤدِّي إلى التحوُّل إلى نمطٍ نقيض. فنـزعةُ الانغماسِ في اللذائذ الحسِّـيَّة التي كثيرًا ما تُرافقُ النـزعةَ العلميَّةَ التجريبيَّة قد تُؤدِّي المُغالاةُ فيها اعتناق الثقافةِ الذهنيَّةِ الانطوائيَّة بسببِ عدمِ الاكتفاء والقلَق، والأمراض والأوبئة، والشعورِ بالفراغ الروحيّ. وكذلك رتابةُ الصلاة والتقشُّف وخُلُوُّ العَيش من الفرَح قد تدفعُ المُغالاةُ فيها الإنسانَ إلى الانتهاءِ بتلبية نداءِ جسدِه حالما تسنحُ الفرصةُ له. وما دام الإنسانُ على الأرض فسيبقى هذا التواتُر الدَّوريّ.[21]

 

ثالثًا- الثقافةُ المزيج

          الثقافةُ الحسِّـيَّةُ-الذهنيَّة لم نَرَها تعمُّ مجتمعًا ما بأكملِه؛ لكنَّها بدأَت تسودُ قطاعًا كبيرًا من العالَم المُتحضِّر هو قطاعُ الجامعات والمُؤسَّسات العلميَّة العالية. ولذلك فتأثيرُها ما يزالُ محصورًا، لا نلمسُه على صعيد الشعوب إلاَّ بمقدار ما يكون للجامعات في المجتمَع تأثيرٌ فكريٌّ واجتماعيٌّ بالغ. ولا رَيبَ في أنَّ دورَها في الغرب، ولا سيَّما في الولايات المُتَّحدة، أهمُّ مِمَّا هو في الشرق. يقولُ المُؤرِّخ دانيال بورستين D. Boorstin: "إذا كان لا بُدَّ من أن يكونَ للتعليم دينٌ أمريكيٌّ جديد، فالجامعاتُ ستكونُ معابدَه..."[22]

          على أنَّ الثقافةَ المزيج تُساعدُ في الإبقاءِ على البحثِ التجريديِّ التأَمُّليِّ، بما فيه الاهتمامُ الدينيُّ النظَريّ، كما على البحثِ العلميِّ التجريبيّ، لكنَّها، حتَّى لو عمَّت مجتمعًا ما، لا تُتيحُ الارتقاءَ الحقيقيَّ له ما لم تُهيمن القِيَمُ الروحيَّةُ فيه وتردَعْه عن الانجراف بتيَّار الشهوةِ الحسِّيـَّة والاستسلام للتحرُّريَّة الإباحيَّة؛ وهذا يتعذَّرُ تحقُّقُه ما لم يعتدل المُواطنون في سَعيِهم وراءَ الرفاهية والرغبات الحسِّـيَّة. وهذا يقودُنا إلى النمطِ الأخير من أنماط الحياة الثقافيَّة، وهو أرقاها.

 

رابعًا- الثقافةُ الإنسانيَّة المُتعدِّدة الأَوجُه

          إنَّ حركةَ الإنسانيِّـين المسيحيِّـين التي ظهرَت في عصر النهضة الأُوروبيَّة، وحاولَت أن تجمعَ الفكرَ الإنسانيَّ الإغريقيَّ-الرومانيّ إلى الدينِ مُحرَّرًا من سلطة رجالِه الطاغية كما من الشكليَّات والبِدَعِ التي اخترعوها، وتُسلِّطَ الضوءَ على حُرِّيـَّة التفكير والاعتقاد وأهمِّـيَّة التسامُح كما على القِيَمِ الإنسانيَّةهذه الحركة هي النموذجُ الأنجح لقيادةِ حضارةٍ راقية، وهي الأقربُ إلى مفهوم الداهشيَّة لهذه الحضارة، ذلك بأنَّها تعملُ على خيرِ الإنسانِ عامَّةً، خيرِه المادِّيِّ وخيرِه الروحيّ، وتقرنُ السعيَ إلى المعرفة بمُمارسةِ الفضيلة، واستلهامَ الدين باستلهام العلم والفلسفة والأدب والفنّ، بحيثُ يجتمعُ الحقُّ والخيرُ والجمالُ في كلِّ نشاطٍ ثقافيٍّ شامل.

          إنَّ الداهشيَّة تُنبِّهُ إلى أنَّ سقوطَ الملائكة من عوالمها الفردوسيَّة إلى عالَمِ الشقاء والفناء إنَّما أَدَّى إليه سَعيُها إلى مزيدٍ من المعرفة مع عصيان الأوامر الإلهيَّة؛ وإلى أنَّ طردَ آدمَ وحوَّاء من الفردَوس الأرضيّ إنَّما أَدَّى إليه سعيُهما إلى المعرفة مع عصيان الأوامر الروحيَّة. ولذلك فالتقدّمُ في العلوم الطبيعيَّة والإنسانيَّة مع التقهقُرِ الروحيّ، وطاعةُ العقلِ مع عصيانِ الضمير، والاهتمامُ بالإنسان مع سلوان الله لا تُساعدُ في ترقية الحضارة ولا في خلاص الإنسان أو تقريـبِه من السعادة.

          إنَّ الثقافةَ الراقية، في المفهوم الداهشيّ، يجبُ أن تكونَ غيرَ عُنصُريَّة أو إقليميَّة أو قوميَّة ضيِّقة، بل ثقافةٌ إنسانيَّة تكونُ أشبهَ بالبُحيرةِ التي تصبُّ فيها روافدُ الثقافات كلِّها بأفضلِ ما فيها من قِيَم، أو أشبهَ بمرآةٍ كلُّ إنسانٍ يرى فيها أجملَ ما فيه، لأنَّ مسيرةَ الرُّقيِّ الحضاريِّ لا تتَّجهُ صوبَ مزيدٍ من التجزُّؤِ القوميِّ أو الإقليميِّ أو الدينيِّ بل نحو أُسرةٍ عالَميَّةٍ واحدة، ونحو الإيمان بوحدةِ الأديانِ الجوهريَّة.

          إنَّ الروحَ السامية التي ميَّزَت كتاباتِ أفلاطون وأَفلوطين وأُوغسطينس تتراءى وجوهُها المُشرقة في كتابات دانتي وبِترارك وملتن وشكسبير ولامرتين وهيغو وغوتِه وإمرسن وتولستوي وكثيرين غيرهم في الشعوب الغربيَّة، كما تلتمعُ بوارقُها في الروح السامية التي ميَّزَت كتابات طاغور وغاندي وأقوالَ عليِّ بن أبي طالب ورسائلَ إخوان الصفاء ولُزوميَّاتِ أبي العلاء المعرِّيّ وشعرَ الصادقين من المتصوِّفين وكتابات جبران خليل جبران وكثيرين غيرهم في الشعوب الشرقيَّة.

          من أجل ذلك تدعو الداهشيَّة إلى تعميم الثقافة الإنسانيَّة التي تُعزِّزُ الإخاءَ البشريَّ والسلامَ بين الشعوب وتُشيدُ بالقِيَمِ الروحيَّة والعدالة وحقوق الإنسان من غير تعصُّبٍ لدينٍ معيَّن أو عقيدةٍ خاصَّة أو جنسٍ بعينِه. فمن المُحال أن يتمَّ ارتقاءٌ حقيقيٌّ في مجتمعٍ بنى ثقافتَه على ادِّعاءِ التفوُّق الدينيّ أو الاجتماعيّ. فمِثلُ هذا الادِّعاء إنَّما هو نرجسيَّةٌ جماعيَّة تُعمي أصحابَها عن رؤيةِ أيَّةِ حقيقةٍ غير حقيقتِهم، وأيِّ خيرٍ غير خيرِهم، وأيِّ جمالٍ غيرِ جمالهم. إنَّ قبولَ التعدُّدِ الثقافيِّ في مجتمَعٍ ما يُفضي إلى إغنائه وتوسيع آفاقِه وانفتاحِه على الشعوبِ جميعًا؛ فهو باحترامه معتقداتِ الشعوب وعاداتِها وتقاليدَها وآدابَها وفنونَها ينهلُ ويستفيدُ من ينابيعِها جميعًا. فكلُّ ثقافةٍ تكتفي بنفسها تعزلُ ذاتَها عن مسيرة التقدُّم، لأنَّ الارتقاءَ الحقيقيَّ لا يتمُّ إلاَّ بالحوار بين مُختلف الثقافات.

          إنَّ المسؤوليَّةَ الثقافيَّةَ في المجتمعِ الراقي تُلزِمُ الدولةَ شعبًا وحكومةً باستلهام مبادئها الدينيَّة والخُلقيَّة الاجتماعيَّة المَبنيَّـة على كفاحها التاريخيِّ توطيدًا لقواعد العدالة والحُرِّيـَّة والقِيمِ الروحيَّة فيهاتُلزِمُها بأن تُحافظَ على المُستوى الحضاريِّ الذي وصلَت إليه، وذلك بمعُاملة الدوَلِ الأُخرى مُعاملةً عادلة، وتفهُّم أوضاعها وثقافاتها، والدفاع عن حقوقها، ومَدِّ يَدِ المعونة إلى الشعوبِ الفقيرة، والامتناع عن استغلالها، ذلك بأنَّ الحُرِّيـَّةَ والعدالةَ والرفاهية والمعرفة التي يتمتَّعُ بها شعبٌ راقٍ تُحمِّلُه مسؤوليَّةً كبيرة تجاه سائر الشعوب، لأنَّ مَن يرفعُه اللهُ على ذروةِ تلَّة مُشرفة تراه جميعُ العيون، ويُصبحُ لها أشبهَ بمنارةٍ هادية.[23]

          إنَّ العبرانيِّـين، على الاضطراب والحاجة والقسوة التي حفَّت بحياتهم، بعد خروجِهم من عبوديَّة مصر، خاطبَهم موسى النبيُّ قائلاً في الشريعة التي علَّمَهم إيَّاها:

          "إذا حصدتَ حصادَك في حقلِك َفنسيتَ حزمةً في الحقل، فلا ترجعْ لتأخذَها. دَعْها للغريب واليتيمِ والأرملة، فيُباركَكَ الربّ... وإذا خبطتَ زيتونَك، فلا تُراجعْ ما بقيَ في الأغصان. دَعه للغريب واليتيم والأرملة... واذكُرْ أنَّكَ كنتَ عبدًا بمصر..." (التَّثنِية 24:19-22)

          تلك كانت جولةً في الحياة الثقافيَّة والرقيِّ الحضاريِّ في ضوءِ التعاليم الداهشيَّة. فما هو دورُ أهل الفكر والأدب والفنّ والعلم، ودَورُ مُؤَسَّسات التعليم العالي والإعلام، ودورُ الرأيِ العامّ؟ وما هي مسؤوليَّتُهم جميعًا في المجتمع الراقي في ضوءِ المفاهيم الداهشيَّة؟ هذا ما سنراه في العددِ المُقبِل.


 



1. ظهرَت كلمةُ "المُثقَّف" بمعناها الحديث، أوَّلَ مرَّة، بلفظها الفرنسيّ، وذلك في بيانٍ يحملُ عنوان Manifeste des intellectuels "بيان المُثقَّفين" (بترجمة حرفيَّة "بيان الفِكريِّـين") بتاريخ 14/1/1898؛ وقد حملَ توقيعات إميل زولا E. Zola ومارسيل بروسْت M. Proust وأناتول فرانْس A. France وغيرهم من مُفكِّري فرنسا وأُدبائها الأعلام، وذلك احتجاجًا ومُعارَضةً لاتِّهامِ الضابطِ الفرنسيِّ اليهوديّ ألفريد دريفوس A. Dreyfus بخيانة بلاده لمصلحة ألمانيا استنادًا إلى وثائقَ مُزوَّرة والحُكم عليه ظُلمًا بالنفي. وقد لمعَ اسمُ زولا في دفاعِه الشهير عنه واتِّهامِه السلُطات   العسكريَّة والقضائيَّة الذي نشرَته صحيفة "لورور"L’aurore. تحسنُ مُراجعة محمَّد عابِد الجابريّ: "المُثقَّفون في الحضارة العربيَّة: مِحنة ابن حَنبَل ونكبة ابن رُشد" (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربيَّة، 1995)، ص 23-26.

2. حليم دمُّوس: "المُعجزاتُ والخوارقُ الداهشيَّة المُذهِلة" (بيروت: دار النار والنور، 1983)، ص 43.

3. الدكتور داهش: "جبلُ المسرَّات"، سلسلة "فراديس الإلاهات" (بيروت: دار النسر المُحلِّق، 1979)، ص 120.

4. الدكتور داهش: "مُذكِّرات يسوع الناصريّ" (نيويورك: الدار الداهشيَّة، 1991)، ص 87.

5. الدكتور داهش: "كلمات" " (بيروت: دار النار والنور، 1983)، ص 135.

6. الدكتور داهش: "الرحلاتُ الداهشيَّة حول الكُرةِ الأرضيَّة"، ج 4 (بيروت: دار النار والنور، 1983)، ص 61.

7. الدكتور داهش: "بروق ورُعود" (بيروت، 1946)، ص 108.

8. الدكتور داهش: "جبلُ المسرَّات"، ص 120.

9. حليم دمُّوس: "المُعجزاتُ والخوارقُ الداهشيَّة المُذهِلة"، ص 42.

10. الدكتور داهش: "بريء في الأغلال" (مخطوطة قيد النشر)، يوم 22/9/1944.

11. المصدرُ نفسُه، يوم 23/9/1944.

12. الدكتور داهش: "كلمات"، ص 82.

13. المصدرُ السابق، ص 82-83.

14. المصدرُ السابق، ص 84.

15. أُنظرْ مثالاً على ذلك: علاء الأَعرَجيّ: "ثُنائيَّةُ الإبداع والاتِّباع وأَزمةُ العقلِ العربيّ المُعاصر" في ثلاث حلقات نُشِرت في "صوت داهش" (أَعداد ربيع، صيف، وخريف 2001). كذلك أنظرْ مقالَه "أَزمةُ التطوُّر الحضاريّ في الوطن العربيّ" في هذا العدد وما بعده.

16. الدكتور داهش: "قِصَص غريبة وأساطير عجيبة، ج 2 (بيروت: دار النسر المُحلِّق، 1979)، ص 111.

17. أنظر غازي براكس، فارس زعتر وملحم شُكر: "أضواء جديدة على مُؤسِّس الداهشيَّة ومُعجزاتِه الروحيَّة مع فَضحٍ ونَقضٍ للعلوم الكاذبة ولمزاعم روجيه الخوري الباراسيكولوجيَّة" (بيروت، 1997) ص 70-79. وقد نشرَ دِكسون اعترافات روزالي في كتابه "حِيَلي مكشوفة". أنظر :

Dicksonn. Mes trucs dévoilés. Paris: Albin Michel, 1922.

18. الدكتور داهش: "مُذكِّرات دينار" (نيويورك: الدار الداهشيَّة، 1986)، ص 132-134.

Dean Keith Simonton. Greatness: Who Makes History and Why (New York/London: Guilford Press, 1994), pp. 19. أنظر: 278-283.

J. R. Hale. The Renaissance in Europe (London: The Folio Society, 2001), pp. 272-278. 20. أنظر:

21. Ibid.

Daniel Boorstin. The Americans: The Demacratic Experience (New York: Random House, 1973), p. 47822.

R. Bellah, R. Madsen, W. Sullivan, A. Swiddler, S. Tipton. The Good Society (New York: A. Knopf, 1991), pp. 23. أنظر: 241-253.

 

  Back to التعاليم الداهشيَّة بقلم الدكتور غازي براكس 

Developed by Houssam Ballout        Copyright 2019 This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.nfo All Right Reseved This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.