أنا أؤمن بأنه توجـد عدالة سماويّة, وأن جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدنيا من مُنغصات انَّ هـو الاّ جـزاءٌ وفاق لِما أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور.ولهـذا يجب علينا أن نستقبلَ كلّ مـا يحـلّ بنـا من آلامِ الحياةِ ومآسيها غير مُتبرّمين ولا متذمّرين , بل قانعين بعدالةِ السماء ونُظمها السامية.

Highlighter
أحبُّ الكُتُبَ حبَّ السُكارى للخمر , لكنَّني كلَّما أزددتُ منها شرباً, زادتني صَحوا
ليس مّنْ يكتُبُ للهو كمَن يكتُبُ للحقيقة
الجمالُ والعفّــة فـردوسٌ سماويّ .
لا معنى لحياةِ ألأنسان اذا لم يقم بعملٍ انسانيٍّ جليل .
اعمل الخير , وأعضد المساكين , تحصل على السعادة .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقـوم بأعمالِ الخير نحـو ألأنسانيّة .
الموتُ يقظةٌ جميلة ينشُدها كل مَنْ صَفَتْ نفسه وطَهرت روحه , ويخافها كلّ من ثقُلت أفكاره وزادت أوزاره .
ان أجسامنا الماديّة ستمتدّ اليها يـد ألأقـدار فتحطِّمها , ثمّ تعمل فيها أنامل الدهـر فتتَّغير معالمها , وتجعلها مهزلةً مرذولة . أمّا ألأعمال الصالحة وألأتجاهات النبيلة السّامية , فهي هي التي يتنسَّم ملائكة اللّه عبيرها الخالد .
نأتي إلى هذا العالمِ باكين مُعولين، و نغادره باكين مُعولين! فواهً لك يا عالمَ البكاء والعويل!
جميعنا مُغترٌّ مخدوعٌ ببعضه البعض.
العدلُ كلمة خُرافية مُضحكة.
أمجادُ هذا العالم وهمٌ باطل، و لونٌ حائل، و ظلٌّ زائل.
لا باركَ الله في تلك الساعة التي فتحتُ فيها عينيّ فإذا بي في مكانٍ يطلقون عليه اسم العالم .
أنا غريبٌ في هذا العالم، و كم احنُّ إلى تلك الساعة التي اعود فيها إلى وطني الحقيقيّ.
الحياةُ سفينةٌ عظيمة رائعة تمخرُ في بحرٍ، ماؤه الآثام البشريَّة الطافحة، و امواجه شهواتهم البهيميَّة الطامحة، و شطآنه نهايتهم المؤلمة الصادعة.
كلّنا ذلك الذئبُ المُفترس , يردع غيره عن اتيانِ الموبقاتِ وهو زعيمها وحامل لوائها , المُقوّض لصروح الفضيلة , ورافع أساس بناءِ الرذيلة .
الحياةُ سلسلة اضطراباتٍ وأهوال , والمرءُ يتقلَّب في أعماقها , حتى يأتيه داعي الموت, فيذهب الى المجهولِ الرهيب , وهو يجهلُ موته , كما كان يجهلُ حياته .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقومَ بأعمالِ الخير نحو الانسانيّة .
المالُ ميزان الشرِّ في هذا العالم .
السعادةُ ليست في المال , ولكن في هدوءِ البال .
كلُّ شيءٍ عظيمٍ في النفسِ العظيمة , أمّا في النفسِ الحقيرة فكلُّ شيءٍ حقير .
الرُّوح نسمةٌ يُرسلها الخالق لخلائقه لأجل , ثم تعودُ اليه بعجل .
الرُّوح نفثةٌ الهيَّة تحتلُّ الخلائق , وكل منها للعودة الى خالقها تائق .
الرُّوح سرٌّ الهيٌّ موصَدْ لا يعرفه الاّ خالق الأرواح بارادته , فمنه أتتْ واليه تعود .
أنا أؤمن بأنه توجـد عدالةٌ سماويّة , وأنَّ جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدُّنيا من مُنغِّصاتٍ وأكدارٍ انَّ هـو الاَّ جـزاء وفاق لمِا أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور . ولهـذا يجب علينا أن نستقبل كلَّ مـا يحـلُّ بنـا من آلام الحياة ومآسيها غير م
الحرّيةُ منحة من السماءِ لأبناءِ ألأرض .
الموتُ ملاكُ رحمةٍ سماويّ يعطف على البشر المُتألّمين , وبلمسةٍ سحريّة من أنامله اللطيفة يُنيلهم الهناء العلويّ .
ما أنقى من يتغلّب على ميولِ جسده الوضيع الفاني , ويتبع ما تُريده الرُّوح النقيّة .
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
الراحة التامّة مفقودة في هذا العالم , وكيفما بحثت عنها فأنت عائدٌ منها بصفقةِ الخاسر المَغبون .
ليس أللّــه مع الظالم بل مع الحقّ.
ان الصديق الحقيقي لا وجود له في هذا العالم الكاذب.
ما أكثر القائلين بالعطف على البائسين وغوث الملهوفين والحنو على القانطين , وما أقلَّ تنفيذهم القول.
يظنُّ بعض ألأنذال ألأدنياء أنّهم يُبيّضون صحائفهم بتسويدِ صحائف الأبرياء , غير عالمين بأنَّ الدوائر ستدور عليهم وتُشهّرهم.
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السَّلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
رهبة المجهول شقاء للبشرِ الجاهلين للأسرارِ الروحيَّة , وسعادة للذين تكشّفت لهم الحقائق السماويَّة .
الموتُ نهاية كل حيّ , ولكنه فترة انتقال : امّا الى نعيم , وامّا الى جحيم .
الحياةُ خير معلِّمٍ ومُؤدِّب , وخيرَ واقٍ للمرءِ من الأنزلاقِ الى مهاوي الحضيض .
حين تشكُّ بأقربِ المُقرَّبين اليك تبدأ في فهمِ حقائق هذا الكون .
مَنْ يكون ذلك القدّيس الذي لم تخطرُ المرأة في باله ؟ لو وجدَ هذا لشبَّهته بالآلهة .
المرأة هي إله هذه الأرض الواسع السُّلطان. و هي تحملُ بيدها سيفاً قاطعاً لو حاولَ رجالُ الأرض قاطبةً انتزاعه منها لباؤوا بالفشلِ و الخذلان .

الرُّقِيُّ الحضاريُّ في ضَوءِ التعاليمِ الداهشيَّة

بقلَم الدكتور غازي براكْس

المُجتمعُ الراقي، وبتعبيرٍ آخَر المُجتمعُ الفاضل، ما زال هدفًا لمساعي المُفكِّرين الكِبار والمُصلِحين والهُداةِ الروحيِّين منذ أكثرَ من ثلاثةِ آلاف سنة. لقد كان همَّ فيثاغورس وسقراط وأفلاطون عند الإغريق، وهَمَّ لاوتسو وكنفوشيوس في الصين، وما زال همَّ كثيرين من عُلماء الاجتماع والفلاسفة. ومع أنَّ البشرَ قطعوا أشواطًا بعيدةً في العمران والتكنولوجيا، فإنَّ معظمَ الشعوب ما زالت مُتخلِّفة عن الرُّقيِّ الحضاريِّ الحقيقيّ وفقًا للمفهوم الداهشيّ، ذلك بأنَّ مظاهرَ المدنيَّة المادِّيـَّةِ المتطوِّرة، والأنظمةِ التحرُّريَّة، والمُجاملاتِ الاجتماعيَّة، والقوَّةِ الاقتصاديَّة والعسكريَّة لا تكفي وحدها لإقامةِ حضارةٍ راقيةٍ حقًّا مثلما سأُبيِّن.

وفي التعاليمِ الداهشيَّة أنَّ المُجتمعاتِ البشريَّة، شأنُها شأنُ الأفراد، محكومةٌ بقانونِ العدالةِ الإلهيَّةِ والاستحقاقِ الروحيّ. فالمجتمَعُ، بما هو مُتَّحَدٌ من الأشخاص المُتساندين المُتفاعلين الذين يخضعون معًا لنظامٍ واحد مُتعدِّدِ الأوجُه، إنَّما تطبعُ مُؤسَّساتِه جميعًا سيَّالاتُ أبنائه (أي طاقاتُهم النفسيَّة) بما تنطوي عليه من مداركَ ونزعاتٍ ورغباتٍ وإراداتٍ مُختلفةِ الاتِّجاهاتِ والأنواع والمُستَويات. فسيّالاتُ المُواطنين برُقيِّها أو انحطاطِها، بروحانيَّتِها أو مادِّيـَّتِها، هي التي تُبدِعُ دَورَ المجتمعِ ومكانتَه ومصيرَه بين سائر المُجتمعات. فكلُّ ما يحدثُ للمجتمع مسؤولٌ عنه أعضاؤُه؛ فهمُ الصرحُ كلُّه أساسًا وهيكلاً وهندسة. متانةُ البناءِ من قوَّتِهم الخُلُقيَّة والإدراكيَّة وانسجامِهم وتلاحُمِهم، وضعفُه من وهَنِهم الخُلُقيّ والإدراكيّ وتنافُرِهم وتزَعزُعِهم.

وللمجتمعِ حياةٌ ذاتُ مظاهرَ وأبعادٍ مُتعدِّدة مُتشابكة مُتفاعلة، أبرزُ المُتَّفَقِ عليها: البُعدُ الدينيّ، والبُعدُ السياسيّ، والبُعدُ الخُلقيُّ الاجتماعيّ، والبُعدُ الاقتصاديّ، والبُعدُ العسكريّ، والبُعدُ الثقافيُّ الذي هو نَمَطٌ مُتكاملٌ من المعارف والعلوم والتِقنيَّاتِ والآدابِ والفنونِ مشفوعةً بالمُعتقداتِ والأخلاقِ والعاداتِ والتقاليدِ وأساليبِ السلوك والتعامُل ومُستوى المنطق والذَّوق والحُكمِ على الأُمور؛ وبصيغةٍ أُخرى، البُعدُ الثقافيُّ هو المُحصَّلةُ المعرفيَّة والمِعياريَّة للأبعادِ جميعًا. ولِذا، إذا كانت الحضارةُ من المدنيَّة تُمثِّلُ نوعَ التقدُّم ومُستواه بمُختلف أبعادِ الحياة في المجتمَع، فالثقافةُ هي العُصارةُ الروحيَّةُ في كلِّ حضارة.[1] في ضوءِ هذا المفهوم سأتناولُ معنى الرُقيِّ الحضاريّ في هذا البحث. أبعادُ المُجتمع هذه سأتناولُها تِباعًا مُظهِرًا معنى الرُّقيِّ الحضاريِّ في كلٍّ منها في ضَوءِ التعاليمِ الداهشيّة.

1- الحياةُ الدينيَّة

إنَّ العقائدَ الدينيَّة رافقَت البشريَّةَ منذ طفولتِها، فهي ظاهرةٌ عامَّة في مُختلفِ العصورِ والشعوب؛ وشموليَّتُها وثباتُها على كرور آلاف السنين لا يسمحان باعتبارِها مُجرَّدَ إفرازٍ أو نتيجةً للبُنى الاجتماعيَّةِ أو الاقتصاديَّة تبعًا لظنِّ الواهمين. فهي من القوى التي لها أُصولٌ راسخة ليس في الثقافاتِ البشريَّةِ المُتَوارَثة فحَسب، بل في سيَّالات الإنسانِ الروحيَّة، أي في طاقاته النفسيَّة التي صاغت جيناتِه (مُورِّثاِته) وقَولَبتها.

إنَّ الإيمانَ الدينيَّ نابعٌ من رغبةِ الإنسانِ الفطريَّة في الالتجاءِ إلى قوَّةٍ توجيهيَّة غَيبيَّة، وهذه الرغبة مُتولِّدة من حاجتِه الأساسيَّة إلى الإطارِ التوجيهيِّ العامّ؛ ولذلك فالأديانُ جميعًا ذاتُ "صورة" واحدة، شأنُها شأنُ اللُغات، وهذه الصورة فطريَّة مُندمِجة في تكوين الخلايا الإنسانِيَّةِ نفسِها. هذه الحقيقةُ أكَّدَها، على الصعيدِ البيولوجيّ، العالِمُ الفرنسيُّ جاك مونود، حائزُ جائزة نوبِل في البيولوجيا؛[2] كما أكَّدها، على الصعيد السيكولوجيّ، العالِمُ النفسيُّ السويسريّ كارْل يونغ بقوله: "إنَّ فكرةَ الناموس الخُلُقيّ وفكرةَ الله تُكَوِّنان جُزءًا من الجوهرِ الأوَّل الصامد للنفسِ البشريَّة."[3] والبرهانُ التاريخيُّ على فطريَّة هذه "الصورة" الدينيَّة هو دَيمومةُ الأديان الكُبرى على امتدادِ الأزمنة وطولِها واندثارِ الدُّوَل وتغيُّرِ الأنظمة السياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة.

أَمَّا الغايةُ الإلهيَّةُ من كَونِ الصورة الدينيَّة فطريَّةً في الإنسان فقد كشفَ عنها مُؤسِّسُ الداهشيَّة، وهي بَعثُ الراحةِ والسلامِ في قلب الإنسان، وهدايتُه طريقَ الخلاص الحقيقيّ، ومَنحُ حياتِه معنًى. ولِذا قال:

"إنَّ العودةَ إلى الدين هي طريقُ الخلاص للجميع، ففيه يجدُ الإنسانُ راحتَه وأمنَه... فعليكم بالعَودةِ إليه والسَّيرِ في طريقِه المُستقيمة، لكي يكونَ معنًى لحياتِكم واستقرارٌ لوجودِكم..." [4]

وكَونُ الإنسانِ مفطورًا على الدين مَرَدُّه إلى أنَّ النفسَ مطبوعةٌ عليه؛ والنفسُ هابطةٌ من عوالِمِ الأرواح، موطنِ الحقائقِ الأزليَّة، ومبعثِ كلِّ طُمأنينةٍ نفسيَّة. ولِذا، لا غَروَ إن أعاد الدكتور داهش سببَ شقاء الإنسان المُعاصر إلى "أنَّ الحضارةَ المادِّيـَّةَ الكاذبة مَنَحَته مُتعةَ الجسَد، ودَعَته أن يشبعَ من مطالبِ اللحمِ والدَّم، لكنَّها عجزَت عن إشباعِ روحِه الظامئة لمعرفة الحقيقة الروحيَّة التي تطمئنُّ لها الروح."[5] فالنفسُ، مهما تجاهلَ البشرُ مطالبَها الجوهريَّة، تبقى في حنينٍ خَفيٍّ إلى ينابيعِها الأصليَّة، وبحاجةٍ مِلحاح إلى اكتناهِ الحقائق الروحيَّة، وليس إلاَّ الأديانُ والهداياتُ الروحيَّة يُمكنُ أن تُقدِّمَها إلى الإنسان.

            في هذا الضوءِ يستحيلُ أن يحيا الإنسانُ بلا دين، لأنَّه إذا تخلَّى عنه يكون قد أغفلَ وتجاهلَ أنشطَ دافِعٍ فطريّ في سيَّالاتِه، كما يكونُ قد خسرَ الجِسرَ الوحيدَ الذي يصلُه بالمُطلَق. فإلى أيِّ كمالٍ يصبو في مسيرتِه الإنسانيَّة؟ وإلى أيِّ ملجإٍ يهرع عندما يكادُ يسحقُه جبروتُ الكوارثِ الطبيعيَّة والنوائبِ البشريَّة؟ وما الذي يمنحُ حياتَه معنًى مُمَيَّزًا إن هو عاشَ شريفًا بين قومٍ أخسَّاء؟ وأيُّ رجاءٍ يكونُ له بعد حياته؟[6] وإن هو تخلَّى عن الدين، فسيضطرُّه تكوينُه النفسيُّ إلى أن يُحوِّلَ طاقةَ الدافعِ الدينيّ الفطريِّ فيه إلى دافعِ التوجيه البشريّ، فتتعاظمُ أمامه صورةُ الحُكَّام والزُعماء السياسيِّين والعسكريِّين، أو ربَّما العلماء والفلاسفة، ويخلعُ عليهم مجدَ الآلهة، ويُفرِطُ في تكريمِهم وتبجيلِهم وتقديسِهم، وفي ذلك مَسخٌ للحقيقة، وإهانةٌ للعَقل، وعَيشٌ في عالَمِ الأوهام، لأنَّ الإنسانَ مهما تعاظم، فوجودُه سرعانَ ما يزول، ومجدُه وُشكانَ ما يدول، وحينئذٍ سيُصابُ عابِدو أصنامِ الرجال والأوهام بالخيبةِ المريرة! وهوذا انهيارُ النظامِ الإلحاديِّ في الاتِّحادِ السوفياتيّ برهانٌ ساطعٌ صافِع، على الأقلِّ في ما يعودُ إلى قَمعِه الحُرِّيـَّات الدينيَّة. فشتَّانِ ما بين عبادةِ الإله الحَقِّ الكامل العادلِ السرمديِّ الذي أوجدَ كلَّ كائن، وإليه يحتاجُ كلُّ كائن، وعبادةِ آلهةٍ بشريَّةٍ مُزَيَّفةٍ تولَدُ لتموت، وسلطانُها أَوهى من بيوتِ العنكبوت!

ولكنْ هل يكفي أن يكونَ لمجتمعٍ ما عقيدةٌ دينيَّة يتمسَّكُ بها حتَّى يكونَ المجتمعُ راقيًا حضاريًّا؟

إنَّ الهداياتِ الروحيَّة، حتَّى المُعتقداتُ الميثولوجيَّة القديمة السابقة للأديان التوحيديَّة، جميعُها تدعو أصلاً إلى التمسُّك بالقِيَمِ الروحيَّة والابتعاد عن الأذى والشرّ. وقد أوضحتُ، في بحثٍ سابق (عدد أيلول/سبتمبر 1998) أنَّ مُؤسِّسَ الداهشيَّة إنَّما جعلَ القَصَصَ الميثولوجيَّ في كتاباته رديفًا للقَصَصِ الواقعيّ لأنَّه رأَى في معظمِه نواةً لحقيقةٍٍ روحيَّة؛ وهي حقيقةٌ كانت تُحرِّفُها، مع مرور القرون، رغباتُ الناس وأهواؤهم وحاجاتُهم وسيكولوجيَّاتُهم، ثمَّ يتدخَّلُ الشعراءُ فيزيدون في تحريفِها تملُّقًا لحُكَّامِهم وشعوبِهم وترويجًا لشعرهم، فتُصبحُ الآلهةُ على صورة البشر الفاسدين! من أجل ذلك انتقدَ أفلاطون في "جمهوريَّته" المِثاليَّة الشعراءَ اليونانيِّين الذين شوَّهوا صورةَ الآلهة الكاملين، كما انتقدَهم كزينوفانس Xenophanes وفيثاغورس Pythagoras.[7] وما أصابَ المعتقداتِ الميثولوجيَّةَ القديمة أصابَ بعضَ الأديانِ التوحيديَّة نفسها، فإذا بالقدّيسين والأولياء المُصنَّعين، وذَوي الشفاعات والوساطات والكرامات يُغالِبُ بعضُهم بعضًا؛ وإذا الأوهامُ والخُرافاتُ والابتداعاتُ الدينيَّة المُكَيَّفة وفقًا للمصالح والرغباتِ البشريَّة تغزو وتُفسِدُ ما جاءَ به الأنبياءُ والهُداةُ الروحيُّون. وهذا يكادُ لا يختلفُ في نتائجه عن الميثولوجيات القديمة إلاَّ بالأسماء.

            وقد تتبدَّلُ العاداتُ والتقاليدُ الدينيَّة بتبدُّلِ سيَّالات الشعوب مع كرور الأجيال. فالمسيحيُّون الأوائل كانوا يحتفلون بأعيادهم الدينيَّة بالفرَحِ البريء والتواضُع والتقوى الصحيحة، فإذا بأكثريَّتهم اليوم يجعلون من أعيادهم الدينيَّة فُرَصًا لإطلاق الشهوات الحسِّـيَّة، ومُناسباتٍ للتنافُس في عَرضِ الغنى والبَذخِ والتظاهُرِ الدُّنيَويّ؛ ذلك بأنَّ الحضارةَ فرغَت من نُسغِها الروحيّ، وتقنَّعَت، في الغالب، بأقنعةٍ برَّاقةٍ زائفة.

إنَّ الحضارةَ الراقية هي التي تكونُ مُعتقداتُها الدينيَّة مَبنيَّةً على مُمارسةِ الفضيلة والقِيَمِ الروحيَّة والإنسانيَّة الكُلِّـيَّة بقَدرِ ما هي مَبنيَّةٌ على العقل وأحكامِ المنطق السديد. وقد أوضحتُ ذلك مُطبِّقًا على الفرد في حلقاتٍ سابقة تحدَّثتُ فيها مَليًِّا عن الرُّقيِّ الروحيِّ والتنشئة القويمة في المفهوم الداهشيّ. فالمجتمعُ الذي يسوقُه دافعٌ دينيٌّ للخضوعِ الأعمى لرجالِ الدين المُتزمِّتين، فيُسيطرون عليه سيطرةَ السَّحَرةِ القُدامى على أقوامِهم بأوهامِهم الخُرافيَّة وطقوسِهم السحريَّة التي يُعطونها أسماء جديدة وبادِّعائهم الهيمنةَ على الأمراض بأدعيتِهم وتعاويذهم، أو بتأويلِهم الكُتُبَ المقدَّسة، كتبَ المحبَّةِ والتسامُح والرحمة، تأويلاً كاذبًا يُبرِّرُ أَعمالَهم الإرهابيَّةَ الإجراميَّة، والمجتمعُ الذي يرضى بأن تتحوَّلَ عقيدتُه الدينيَّة إلى مُؤَسَّسةٍ دُنيويَّةٍ مُقنَّعة بقناعٍ روحيّ، إنَّما هدفُها بَسطُ النفوذ ومُساندةُ القوى السياسيَّة المُسيطرة وزيادةُ المكاسبِ الماليَّة، كما الهيمنةُ على سائر الأديان أو الطبقات أو الطوائف بادِّعاءِ احتكارِ الحقيقة أو السلطة المُمثِّلة للههذا المجتمعُ، وإن عاشَ أبناؤه في الألف الثالث للمسيح، ما زال بقاعدتِه الدينيَّة مُجتمَعًا مُتخلِّفًا حضاريًّا يعيشُ على مُستوًى واحد مع قبائل الغابات الإفريقيَّة.[8] ولا تنفعُه، في هذه الحال، مدنيَّتُه المادِّيَّة القائمة على التقدُّم العُمرانيّ واستخدام الأسلحة المُتطوِّرة وأدوات التكنولوجيا الحديثة. فالشعوبُ التي يُهيمنُ عليها مثلُ هذا الإيمان لا تتحرَّجُ من الاقتتال وقِتالِ غيرها، وارتكابِ أفظعِ الجرائم بحقِّ أبنائها وحقِّ الإنسانيَّة، ثمَّ من ادَّعائها أنَّها إنَّما تفعلُ ذلك غَيرةً منها على الدين الذي تعتنقُه. وأمثالُ هذه الشعوبُ غيرُ قليلة في خلال الألفَي سنة الماضية، بل على عتبة الألف الثالث. ولنا من المُجتمعاتِ الأُوروبيَّة في القرون الوُسطى التي أَشعلَت الحروبَ الصليبيَّة ثمَّ التي حكَمَتها "محاكمُ التفتيش" الكاثوليكيَّة الرهيبة أجلى برهانٍ على ذلك. فلم نسمع بأيّ مُؤرِّخٍ أو عالِمٍ اجتماعيّ ينسبُ إلى تلك المُجتمعات حضارةً راقية، بل على العكس، أجمعَ الباحِثون على تسمية تلك الحقبة بـ"عُصور الظلام". ولنا من الغُلاةِ المُسلمين والمسيحيِّين والهندوس وغيرهم مِمَّن جرَفهم التعصُّبُ الدينيُّ الأعمى ليقترفوا أفظعَ الجرائم ضدَّ الأبرياء في القرن العشرين وبداية الألف الثالث ما يُنفِّرُ كلَّ نفسٍ شريفة. فالمجتمعُ المُنحرِفُ عن الجوهرِ الروحيِّ المُشتملِ على المحبَّة والشفقة والرحمة يُلاقي ويلاتِ هذه الدُّنيا وويلاتِ الآخرة. ولا غَروَ أنَّ الدينَ الذي يُفسِدُ القَـيِّمون عليه جوهرَه يتحوَّلُ إلى أداةٍ تهديميَّة للحضارة، ويُصبحُ هدفًا للنقدِ والتجريح من قِبَلِ المُفكِّرين الكبار. من أجل ذلك سمَّى الدكتور داهش في كلمته التي كتبَها في مطلع العام 1982 الحضارةَ المادِّيـَّةَ الراهنة الفارغة من القِيَمِ الروحيَّة الحقيقيَّة، التي هي جوهرُ الدين، "حضارةً كاذبة". ولا رَيبَ في أنَّ الظلمَ والعُدوانَ والإجرام بمُختلف أنواعه أعداء للقِيَمِ الروحيَّة بقدرِ ما هي الرذائلُ والمُنكَراتُ الأُخرى، إذا لم تكُن أكثر.

            ومن الجدير بالذكر أنَّ التعاليمَ الداهشيَّة تحضُّ على بنيان الدولة على أُسُسٍ من القِيَمِ الروحيَّة التي بدونها يستحيلُ أن ينهضَ مجتمعٌ ذو حضارةٍ راقية،[9] لكنَّها لا تُشجِّعُ على تسليط أيِّ دين على دينٍ آخر في الدولة، لأنَّ من صُلبِ الإيمان الداهشيّ أنَّ الأديانَ كلَّها صحيحة وضروريَّة، لأنَّ سيَّالات الناس على مُستوياتٍ مُتباينة، وكلَّ فئةٍ منهم تحتاجُ إلى دينٍ يُناسبُها وفقًا لمُستوى مداركها وقوَّة نزعاتها العُلويَّة أو الدُنيويَّة؛ فالأديانُ للنفوس بمثابة الأدوية للأجساد، لكلِّ داءٍ دواءٌ يحتلفُ عن الآخر نوعًا وكمِّـيَّة. فكلُّ إكراهٍ على اعتناقِ دينٍ غير مُناسبٍ للنفس لن ينفعَها، بل على العكس، ربَّما يضرُّها. وليس عبثًا ما وردَ في القرآن الكريم: {لا إكراهَ في الدين} (البقرة: 256)، وكذلك{لكلٍّ جعلنا منكم شِرعةً ومِنهاجًا، ولو شاءَ اللهُ لَجَعلَكم أُمَّةً واحدة، ولكنْ ليبلوَكم في ما آتاكم، فاستبِقوا الخيرات؛ إلى اللهِ مرجعُكم جميعًا فيُنبِّئُكم بما كنتم فيه تختلفون} (المائدة: 48). فتنوُّعُ الأديان امتحانٌ من الله للناس في مُمارسة الفضائل، وفي رأسها نزعةُ المحبَّة والرحمة وصُنع السلام والإخاء الإنسانيّ؛ ففي المُنافسة على هذا الصعيد يظهرُ الأخيارُ والأفاضل.

 

2- الحياةُ الخُلقيَّة الاجتماعيَّة

            إذا استثنَينا نُخبةً قليلةَ العدَد من المُفكِّرين، في مختلف العصور، استطاعوا ان يستلهموا قواعدَ سليمة لأخلاقهم وسلوكهم من مواقفهم الفلسفيَّة التي أملَتها عليهم سيَّالاتُهم الروحيَّة الراقية، فإنَّ معظمَ البشر يبنون حياتَهم الخُلقيَّةَ الاجتماعيَّة إمَّا على مُعتقداتهم الدينيَّة، من خلال فهمهم لها وبالتالي مدى أخذِهم بموجباتِها، وإمَّا على مواقفهم الفكريَّة المُستقلَّة عن أيِّ دين. لكنَّ الإنسانَ، وفقًا لتعاليم الداهشيَّة ، هو بحاجةٍ دائمة ماسَّة إلى مَن يَهديه سواءَ السبيل، لأنَّ هبوطَ سيّالاته إلى الدنيا من الفراديس العُلويَّة التي كانت تنعمُ فيها تكرَّر بطردِه من الفردَوس الأرضيّ. ولِذا ظهرَ الأنبياءُ رحمةً له وهداية. غير أنَّ البشرَ بأكثريَّتهم، بِفِعلِ نفوسهم "الأمَّارة بالسوء" والجَهلِ الروحيِّ المُسيطر عليها، كانوا وما زالوا يضطهدون الأنبياءَ والهُداةَ وينبذونهم. فهم لا يُطيقون تحمُّلَ أعباءِ مُجاهدة النفس التي تأمرُ بها تعاليمُهم. يقولُ مُؤسِّسُ الداهشيَّة: إنَّ السيِّدَ المسيحَ إنَّما أتى "كي يُحطِّمَ... كبولَ الظلم والإرهاق، ويُقطِّعَ أغلالَ الرقِّ والعبوديَّة، وكي يُحقِّقَ الحُلمَ الذهبيَّ الذي نشدَته البشريَّةُ الحائرة في أمرها منذ كوَّنَ الباري هذا العالَمَ البائسَ التاعِس."[10] والعبوديَّة التي يُشيرُ إليها ليست عبوديَّةَ الإنسانِ للإنسان فحَسب، بل عبوديَّة الإنسان لأهوائه ونزعاته السُّفليَّة وأوهامه أيضًا. ولِذا يقولُ الدكتور داهش مُعلِّقًا:

            وفي النهاية، عظُمَت التضحية وضخُمَ العِداء. فقد بذلَ الثائرُ حياتَه فداءً لحُرِّيـَّة البشريَّة المتألِّمة التي أعمَت الشهواتُ والنزواتُ بصرَها وبصيرتَها، فقدَّمَته ضحيَّةً على مَذبحِ جهلِها الصارخ، إذْ كافأَته على جهودِه في سبيل تحريرِها وحُبِّه إيَّاها بتعليقِها إيَّاه على خشبةِ الصليب. فيا لَلهَولِ الرهيب!

            وماذا كانت النتيجة؟

            كانت رهيبةً وذاتَ أثرٍ بعيد.

            فإنَّها منذ ذلك التاريخ المشؤوم وهي راسفةٌ في قيودِ الذلِّ والمهانة. وعوضًا عن حصولِها على إكليلِ الغار، قنعَت بتتويجِ مفرقِها بشارةِ العار. فيا لَلعار! (....)

            منطقٌ أعوج، وخُلُقٌ أعرج، واتِّجاهٌ سفيه... إنَّ الضررَ البليغ قد حاقَ بهم وبذُرِّيـَّتهم، والأسفَ الفادحَ قد غمرَ أرواحَهم وتغلغلَ في أفئدتِهم... فناحوا ولكنْ بعدما انطلقَ الطائرُ إلى فراديس الجِنان، وتوارى عن العَيان. فما كان قد كان.[11]

            لقد وضعَ أفلاطون في كتاب "الجمهوريَّة" أسُسَ المجتمع الفاضل. هذا المجتمع، برأيه، لا يستمدُّ رُقيَّه من عُمرانه واقتصاده وجيوشه، بل من العدالة النفسيَّة التي تُهَيمنُ على حُكَّامه وحُرَّاسه. والعدالةُ النفسيَّة يقصدُ بها هيمنةَ الأحكام العقليَّة الصائبة والنـزعات الروحيَّة على عواطف الإنسان الدُّنيا وانفعالاته الهوجاء وغرائزه الحيوانيَّة، ذلك بأنَّ للقوى النفسيَّة تراتُبًا أصليًّا سليمًا يقتضي مثلَ هذه الهيمنة؛ فإن راعَته النفسُ، استقرَّت وسَلِمت، وإلاَّ أصابَها ما يُصيبُ دولةً سيطرَ عليها أرذالُها. ولا شكَّ بأنَّ لتربيةِ الفرد تأثيرًا بالغًا في بنيان نفسيَّته وشخصيَّتِه.

            وكنتُ قد تحدَّثتُ عن التنشئة القويمة في المفهوم الداهشيّ في ثلاث حلقاتٍ سابقة (أعداد الشتاء والربيع والصيف، 2001). لكنِّي أزيدُ هنا أنَّ حجَرَ الزاوية في بناءِ الحياةِ الاجتماعيَّة هو الأُسرة. فالمحبَّةُ إذا كانت تجمعُ الوالدَين بيدَيها، والفضيلةُ تُظلِّـلُهما بجناحَيها، فمُباركَةً تكونُ تلك الأُسرة؛ لأنَّّ الأولادَ، وهم امتداداتٌ لسيَّالاتِ آبائهم وأُمَّهاتهم، سيكسبون منهم الرُّقيَّ الروحيَّ بالفطرة أوَّلاً، وبالاقتداء الحَيِّ ثانيًا. أمَّا إذا كانت المطامعُ والشهواتُ والمآربُ والمصالحُ الدُّنيَويَّة قد جمعَت الوالدَين، فهي التي ستُفرِّقُهما أيضًا؛ وحينئذٍ، لا مناصَ للأُسرةِ من التفكُّك، مثلما نشهدُ في معظم الدوَل، ولا سيَّما الغربيَّة منها التي تُفاخِرُ بمدنيَّتِها المُتطوِّرة. فالتباغضُ تنتقلُ عدواه إلى الأبناء، والتنابُذُ يحلُّ محلَّ الوِفاق، ومثلما تخونُ المرأةُ بعلَها، ويخونُ الرجلُ زوجتَه، هكذا يعقُّ الأولادُ والدِيهم، ويلعنُ بعضُهم بعضًا؛ لأنَّ الأنانيَّةَ تُحرِّكُهم، والرياءَ يُوجِِّهُهم، وجواذبَ الدُّنيا تُفرِّقُهم.

            وليس عن عبَث أصدرَ المُفكِّرُ الأمريكيُّ والنائبُ العامُّ بالوكالة للولايات المُتَّحدة سابقًا، روبرت بورْك Robert Bork، كتابَه  Slouching towards Gomorrah "نمشي الهُوَينى صَوبَ عَمورة"،[12] وفيه يردُّ سببَ معظم المفاسد الُخلقيَّة والاجتماعيَّة التي اجتاحت الغربَ عامَّةً وكانت عاملاً مهمًّا في هبوط رُقيِّه الحضاريّ ، في العُقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين، إلى "النـزعة التحرُّريَّة الحديثة" modern liberalism التي فكَّكَت العائلات، وأضعفَت التهذيب، وأطلقَت إباحيَّةَ الشهوة، وجرَّأَت الشذوذَ الجنسيّ، ودنَّت مُستوى وسائلِ الإعلام ومُستوى العُروضِ السينمائيَّة والتِّلفازيَّة والموسيقى وسائرِ الفنون، وخنَّثَت الجنديَّة، وأفسدَت برامجَ الجامعات بل حتَّى الأديان.ويرى بورْك أنَّ مستقبلَ أمريكا الحضاريّ، وبالتالي الغرب، يبدو قاتمًا، إذا استمرَّت النـزعةُ التحرُّريـَّة المتطرِّفة هي السائدة.

            لقد أكَّدَ كثيرون من المُفكِّرين الغربيِّين أنَّ "النزعةَ التحرُّريَّة الحديثة" بتشديدها على فردانيَّة الإنسان واللامِعياريَّة في وَصف الأخلاق والقِيَم، وإحلال طاعة القوانين الجزائيَّة والمدنيَّة ومُمارسة المناقب الاجتماعيَّة الاستنسابيَّة (كالتقيُّد بالأنظمة والصدق في التعامُل والالتزامات والإخلاص للوظيفة) محلَّ مُمارسة الفضائل الروحيَّة وطاعة الشرائع الإلهيَّة التي قامت عليها الأديانُ كلُّها، فضلاً عن نشاط الحركات النسائيَّة المتطرِّفة التي أطلقَت استقلاليَّةَ المرأة في سلوكها وتصريفها للأُمور، بما فيها حُرِّيـَّة الإجهاضهي التي جعلَت المجتمعاتِ الغربيَّة في مهبِّ رياحٍ مجهولة الاتِّجاهات قد تكون عاقبتُها وخيمة، أو قد تُؤدّي إلى يقظةٍ روحيَّةٍ جديدة، إذا صدقَ التاريخُ في دوراته الروحيَّة المُتجدِّدة، وفقًا لرأي المُفكّر الكبير فرنسيس فوكوياما Francis Fukuyama.[13]

            ومن الأفراد الفاضلين والأُسَرِ الفاضلة تُبنى المدارس والأندية والمُؤسَّساتُ الصالحة والمُجتمَعُ الصالح، والعكسُ بالعكس. فالعِيالُ أشبهُ بالحِجارة، بها يُشادُ صرحُ المُجتمَع؛ ضعفُه من ضعفِها، وقوَّتُه من قوَّتِها. ولا عجَبَ إذا كان مُعظمُ الآباء في دولةٍ ما أنانيِّـين، مُتعجرفين، مُتسلِّطين، مادِّيـِّين، غيرَ مُكترثين بصلاحِ عِيالِهم، أن يكونَ رئيسُ دولتِهم وحُكَّامُهم ومُمثِّلوهم على شاكلتِهم بالنسبة لرعاياهم. فكما تكونون يُوَلَّى عليكم.

            ولا رَيبَ بأنَّ النـزعاتِ النفسيَّة والتقاليدَ والعاداتِ الاجتماعيَّة من العوامل الفعَّالة في صياغة مدى رُقيِّ الشعوبِ الحضاريّ. فالشعبُ الذي يغلبُ الرياءُ على سيَّالاتِ أبنائه، يكثرُ التملُّقُ والمُجاملاتُ الكاذبة بينهم، ويشيعُ الكذبُ والغشُّ في تعامُلهم التجاريّ، ويقوى التظاهرُ الدينيُّ المُخادِع في صلواتِهم، والنواحُ المُتكلَّفُ والنَّدبُ المأجورُ في مآتمِهم، وتتفشَّى الخياناتُ في زيجاتهم ومُؤسَّساتهم.زِدْ إلى ذلك أنَّ الأخلاقَ إذا تعدَّدت معاييرُها في المجتمع، فأصبحَت ذا وجهٍ يلبسُه الشعب، ووجهٍ آخرَ يلبسُه السياسيُّون، ووجهٍ ثالث يلبسُه رجالُ الدين، فإنَّ المجتمعَ يُصبحُ تربةً خصبة لنُموِّ النفاقِ في أبنائه، إذْ تتضعضعُ فيهم المعاييرُ هربًا من المسؤوليَّة الروحيَّة؛ فكلُّ فئةٍ تُحاسِبُ الأُخرى بغيرٍ ما تُحاسِبُ به نفسَها، ورُعاةُ الدين يحتكرون التأويلَ والفتوى وتحديدَ المسؤوليَّة، علمًا بأنَّهم قد يكونون أكثر الفئاتِ تَبِعةً عن أوضاع الأخلاق لدى المُؤمنين.[14]

            والمجتمعُ الذي تفقدُ فيه القِيَمُ معانيها وتراتبَها الأصليّ يحكمُ على نفسه بفَقدِ توازنِه الحضاريّ وتماسُكِه تدريجيًّا. يقولُ إدْ إيريس Ed Ayres، رئيسُ تحرير مجلَّة "وُرلد ووتش" World-Watch : "مَن كان يحلم، قبل نصف قرن، أنَّ مَن يُغنُّون أغانيَ شعبيَّة سيتقاضَون من المال ألفَ ضعفِ ما يتقاضاه معظمُ الذين يُنتِجون أطعمةَ العالَم، ومساكنَ الناس، وأدويتَهم؟ أو أنَّ لاعبًا وظيفتُه أن يُلقيَ كُرةً في سلَّةٍ عالية يتقاضى مئةَ ضعفِ ما يتقاضاه مَن وظيفتُه أن يخيطَ قثطرةًcatheter بعروقِ مُصابٍ بذبحةٍ قلبيَّة ليُنقذَه من الموت؟..."[15] ذلك بأنَّ الشعوبَ التي يتعاظمُ غِناها وترفُها، تتكاثرُ ملاهيها، ويُصبحُ همُّ أكثر الناس فيها أن يعيشوا اللحظةَ الآنيَّة، وأن يُمتِّعوا حواسَّهم ويُثيروا انفعالاتِهم، غيرَ حافلين بما يأتي به الغَد، وغيرَ مُهتمِّين بالأولويَّات والقِيَم الإنسانيَّة. بل إنَّهم يتحوَّلون إلى مُجتمعٍ استمتاعيٍّ استهلاكيّ همُّه اقتناءُ الكماليَّات لا الضروريَّات من الحوائج، وانصرافُه إلى عبادة الجسَد لا إلى عبادة الخالق.[16]

            والمجتمعُ الذي تطبعُ العنجهيَّة، بدويَّةً كانت أم مدنيَّة (كالقبائل العربيَّة والنازيَّة)، سيَّالاتِ أبنائه، يغلبُ فيه النظامُ التسلُّطيُّ الاستبداديُّ، مُتجلِّيًا في تصرُّف الآباء مع آبائهم والرؤساءِ مع مرؤوسيهم، ورجال الدين مع المُؤمنين؛ فتُقمَع حُرِّيـَّةُ الفكر والحوار، وبالتالي تُسَدُّ الطريقُ على أيِّ إبداعٍ وتقدُّم، وتُفسَحُ أمام هجرةِ الأدمغة الحُرَّة. فالعاداتُ والتقاليدُ تُصبحُ مقدَّسة، ولا مجالَ للتغيير فيها، لأنَّ التغييرَ يجبُ أن يسبقَه تغييرٌ ثوريّ أو تبديلٌ في سيَّالات القَوم، وهذا يعني تغييرًا في جيناتهم (مُورِّثاتهم)، الأمرُ الذي يقتضي مُجاهدةً هائلةً للنفس في أعمارٍ (أي تقمُّصاتٍ) متعدِّدة. وهلُمَّ جَرًّا...

            والمُجتمعُ الذي تتَّسعُ فيه الهوَّةُ بين الأثرياء والفُقراء، وتقومُ فيه طبقات، عُلياها في السياسة أو العمل أو الجاه   تستعلي على دُنياها وتزدريها، والأذكياءُ فيه يستخدمون ذكاءَهم للاحتيالِ على البُسطاء وابتزازهم مِثلُ هذا المُجتمَع، مهما تقدَّمت فيه مظاهرُ المدنيَّة من عُمرانٍ واقتصادٍ وتكنولوجيا، فإنَّه يبقى مُتخلِّفًا حضاريًّا، لأنَّ كلَّ مُواطنٍ هو إنسانٌ قبلَ أن يكونَ مُواطنًا، وبصفتِه الإنسانيَّة يُساوي غيرَه، ويستحقُّ منه الاحترام؛ وهو لا يفضلُ أحدًا إلاَّ بمدى عطائه الإنسانيّ والقِيَمِ الروحيَّةِ التي تتجلَّى في سلوكه مع الآخرين. هذا المفهومُ الداهشيّ عبَّرَ عنه إتسيوني من خلال نظرته إلى الأمور كعالِمٍ اجتماعيّ، فقال: "المجتمعُ الصالحُ هو مُجتمَعٌ يُعاملُ فيه الناسُ بعضُهم بعضًا كغاياتٍ بحَدِّ ذاتها، وليس كمُجرَّدِ أدوات؛ إنَّه مُجتمعٌ يتمتَّعُ فيه كلُّ إنسان بكاملِ الاحترام والكرامة، ولا يكون غرَضًا للاستخدام والتلاعُب تحقيقًا لمآربَ معيَّنة. إنَّه عالَمٌ اجتماعيّ فيه يُعامِلُ الناسُ بعضُهم بعضًا كأعضاء في مُتَّحَد في أُسرةٍ مُوسَّعة لا كمُجرَّد مُوظَّفين، وتُجّار، ومُستهلِكين أو حتَّى مُواطنين."[17]

            وبما أنَّ المجتمعَ الراقي حضاريًّا لا يُمكنُه أن يتنازلَ عن الحُرِّيـَّة التي هي"هديَّةُ الخالقِ للخلائق" و"مِنحةُ السماء لأبناءِ الأرض"،[18] على حَدَّ تعبيرِ الدكتور داهش، وذلك من أجل تغييرِ نمطِ حياتِه أو تفكيره بالعَنتِ والإكراه، وبما أنَّ الإكراهَ على عملِ شيءٍ ما يحرمُ الإنسانَ من فضلِه، ولا يُرقِّي سيّالاتِه تبعًا للتعاليم الداهشيَّة، فإنَّ على الدولة الراقية أن يلجأَ مُفكِّروها المُستنيرون إلى إقناع المُواطنين بمختلف الوسائل العلميَّة والدينيَّة والفلسفيَّة والتاريخيَّة، وبتعبيرٍ موجَز بالبراهين الثقافيَّة، ليُغيِّروا ما هم عليه، لأنَّ استمرارَهم فيه يُؤَدِّي إلى ضعفِهم التدريجيّ كمُجتمَع ثمَّ إلى خرابهم الدُّنيَويّ وهلاكهم الروحيّ. وفي التاريخ أمثلةٌ كثيرة على انهيار الدُّوَلِ العُظمى والإمبراطوريَّات من جرَّاء استسلام شعوبِها إلى أنماطٍ فاسدة من الحياة كانوا يعتبرونها من مظاهر الحضارة المُتطوِّرة، وهي ليست سوى سرابٍ كاذب.

 

3- الحياةُ السياسيَّة

قد تتعاظمُ النـزَعاتُ المادِّيـَّة في مجتمَعٍ ما حتَّى تطغى على معظم أبنائه، فتنجذبُ، إذْ ذاك، سيّالاتُهم إلى أقطاب التوجيه البشريّ، بدلَ انجذابِها إلى أقطاب التوجيهِ الروحيّ، وتحلُّ وصايا الناس في نفوسهم محلََّ وصايا الله؛ فتستغني الدولةُ عن حياتِها الدينيَّة فتُزيلُها من أرضِها أو تُضعِفُها جدًّا، وتجعلُ العقيدةَ السياسيَّةَ بديلاً عنها. فمَثَلُ هذه الدولة مَثَلُ شجرةٍ قُطِعَت منها الجُذور، أو بُتِرَت مُعظمُ الأُصول حتَّى كادت ساقُها تُصبح ركيزتَها الوحيدة في التربة. إنَّ عُمرَ تلك الدولة بين الدُّوَل لن يكونَ أطولَ من عُمر مِثلِ هذه الشجرة بين الأشجار. ولنا من عُمر الدُّوَلِ الإلحاديَّة الدليلُ الدامغُ المُفحِم.

وإذا كانت الحياةُ الدينيَّةُ الخُلقيَّةُ الاجتماعيَّة أشبهَ بالجذورِ في شجرةِ المُجتمَع، بها يتغلغلُ النُّسغُ ليمتدَّ في فروعِ الشجرة كلِّها، وبها ترسخُ الشجرةُ وتقوى على مُغالَبةِ عواصفِ الأحداثِ والتقلُّبات الطارئة، فإنَّ الحياةَ السياسيَّةَ هي الجذعُ المُصعِّدُ الضابطُ لمُؤسَّساتِ المجتمع، والذي منه تتفرَّعُ الأغصانُ وتستمدُّ قوَّتَها. وأعني بالحياة السياسيَّة كيفيَّةَ مُمارسةِ الحُكم التنفيذيّ، والحُكمِ التشريعيّ، والحُكمِ القضائيّ في جميع مُؤسَّساتِ الدولة الرئيسة والفرعيَّة.

إنَّ نوعَ النظامِ السياسيِّ في دولةٍ مُستقلَّة مُرتبطٌ، إلى حدٍّ بعيد، بمُستوى سيَّالاتِ الشعب؛ ولذلك لا يصحُّ القولُ إنَّ ثَمَّةَ نظامًا سياسيًّا هو الأفضلُ لكلِّ الشعوب. فالنظامُ السياسيُّ هو أشبهُ بالنظامِ الصحِّـيِّ الذي على الفردِ أن يتقيَّدَ به إذا كان يُعاني مرضًا مُعيَّـنًا، فإن هو استبدلَ به غيرَه وهو ما زال في مرضِه، فقد تسوءُ صحَّـتُه. وما من مُجتمَعٍ مُعافًى تمامًا؛ لكنَّ الأمراضَ على أنواعٍ ودرجات. على أنَّ الدولةَ يجبُ أن تتمتَّعَ بشروطٍ ضروريَّة لتكونَ على حَدٍّ أدنى من الصحَّة، أو بعبارةٍ أُخرى من الرُّقيِّ الحضاريّ.

إنَّ الدولةَ الراقية، في المفهوم الداهشيّ، لا بُدَّ من ان تتجلَّى القِيَمُ الروحيَّة في إنجازاتها ومُؤسَّساتها؛ فتسودُ الفضيلةُ والروحُ الإنسانيَّةُ شعبَها وسُلطاتِها الثلاث. إذْ ذاك تكونُ الحكومةُ، ولا سيَّما رئيسُها، قُدوةً صالحةً للمُواطنين في رُقيِّ نزعاتِها وروحانيَّةِ اتِّجاهاتِها، فيترسَّمون خُطاها في مُمارسةِ الفضائل والمناقب، ويستلهمون قِيَمَها السامية في نظرتِهم إلى الأُمور ومُعالجتِهم للقضايا؛ كما تكونُ الأنظمةُ التشريعيَّة والقضائيَّة فيها لخَيرِ الشعبِ كلِّه الروحيِّ والمادِّيِّ، وليس لمصلحةِ فئةٍ دون أُخرى. مِثلُ هذه الدولة الفاضلة، تبعًا لِما رأى أفلاطون في "الجمهوريَّة"، تمتدُّ الروحُ الراقية من رُؤسائها إلى مرؤوسيها بصورةٍ عفويَّة، فيكون انسجامٌ بين الرأس والأعضاء، فلا يتمرَّدُ المرؤوسون على الرؤساء لأيِّ داعٍ، سواءٌ كان ظُلمًا أم فقرًا أم تحيُّزًا إلخ... لكنْ إذا عاث الفسادُ في أجهزة دولةٍ ما، فحلَّ شراءُ ضمائر الناخبين محلَّ حُرِّيـَّة اقتراعهم للأفضل، ومنطقُ القوَّة مكانَ الحقّ، وانتشرت الرشوة، وعمَّ الابتزازُ والتهديد، وساد التحيُّزُ في أحكام القضاء وفي تطبيق القوانين فمِثلُ هذه الدولة لا يُمكنُ تصنيفُها على الإطلاق بين الدوَل الراقية حضاريًّا، مهما بلغَت من الغنى والتطوُّر في العمران وفنون الملاهي، ومهما تعدَّدت جامعاتُها ومُستشفياتُها ومُختبراتُها ومعابدُها...[19]

وقد تستعيرُ دولةٌ ما شرائعَها وأنظمتَها من دولةٍ أُخرى مُتقدِّمة، مثلما يحصلُ عادةً في بعضِ دُوَلِ العالَمِ الثالث، وبينها الدوَلُ العربيَّة، لكنْ إن لم يفعَلْ في شعبِ تلك الدولة جوهرُ الإنسانِ السامي، ولم تفعل الشرائعُ الراقيةُ فيه بدَورِها، وإنْ لم يُحيِها وهجٌ من ضميرِ المُجتمَع الذي هو مُحصَّلةُ ضمائر أفرادِه، ولم تُساعِدْه وتَحمِه الشرائعُ بدورها، فإنَّها تبقى حروفًا مُذهَّبةً مَيتة وناووسًا برَّاقًا ينطوي على مومياء. يقولُ الدكتور داهش في رسالته الأُولى إلى الدكتور حُسَين هَيكل، رئيسِ مجلسِ الشيوخ المصريّ ورئيسِ الحزبِ الدستوريِّ في الأربعينيَّات:

إنَّ الدستورَ اللبنانيّ، يا أَخي، أُشبِّهُه ببَـيت عنكبوت واهي الخيوط لا يقوى على مُجابهة النَّسيمِ الخفيف خوفًا من تمزيقِه، بل مُلاشاتِه... ومن العارِ أن نقولَ إنَّنا شعبٌ ديمُقراطيّ دُستوريّ ما دُمنا لا نُطبِّقُ القولَ بالفِعل، وما دام في لبنان ظُلمٌ خطيرٌ هائلٌ كهذا.[20]

ويتَّهمُ الدكتور داهش السلطتَين اللبنانيَّتَين التشريعيَّة والقضائيَّة أيَّام رئاسة بشاره الخوري بمُمالأةِ الحاكم على ظُلم الأبرياء وإفراغ الديمُقراطيَّة من معناها بتجاوُزِ السلُطات الثلاث حدودَ صلاحيَّاتِها الدستوريَّة. وقد كتبَ تحت عنوان "الرئيس الظالِم":

أُشبِّهُ رئيسَ الدولة الظالِمَ المُستبِدَّ بمزبلةٍ مَوبوءَةٍ تكدَّسَت فيها أنتنُ الأقذار... أمَّا المُتزلِّفون له، والمُلتفُّون حوله، والناسجون على مِنوالِه، والضاربون على طبلِه، والعازفون على مِزمارِه... فهم أحطُّ أنواعِ الحشرات المَوبوءَة وأدناها... أمَّا الشُّرَفاءُ، أمَّا النُّبلاءُ، أمَّا مَن يدعونهم فُقراء وهم الأغنياءُ بأخلاقِهم فإنَّهم ينظرون من قِمَّةِ نزاهتِهم وعدالتِهم إلى هذه الحشرات الحقيرة التي يُزاحِمُ بعضُها بعضًا على وليمةِ الأقذار الناضحةِ بالنتانة...[21]

إنَّ النظامَ الخارجيَّ وكيفيَّةَ مُمارستِه تعبيرٌ عن نظامِ الإنسانِ النفسيّ وامتدادٌ له؛ وقيمةُ النظامِ الحقيقيَّة مُستمَدَّةٌ من قيمةِ الإنسانِ الذي يُمارسُه؛ فإمَّا أن يكونَ الإنسانُ صالحًا، وإمَّا أن يكونَ طالحًا. وليس من نظامٍ أو قانونٍ صالح إلاَّ نجدُ المبادئَ والقِيَمَ الروحيَّةَ فيه مُـتَّفقةً مع الشرائع الإلهيَّة.

بناءً على ذلك يصحُّ القولُ إنَّ الزعيمَ الحقيقيّ، سواءٌ كان مُنتَخَبًا انتخابًا ديمُقراطيًّا أم حاكِما بموجِب رضى الشعبِ ومُمثِّّليه، هو مَن يتمتَّعُ بسيَّالٍ راقٍ يبرزُ فيه دافعُ السلطة الطبيعيَّة المعنويَّة، فيُعبِّرُ عنه بالعَدل، ويقرنُه بالوداعةِ والتواضُع والإخلاص لرعيَّتِه، كما بالسَّعْيِ لخيرِها من جميع الوجوه؛ فيُحبُّه شعبُه، وتلتفُّ القلوبُ حوالَيه. أمَّا المُتزعِّمُ الذي يتسلَّطُ على شعبِه تسلُّطًا، فيتجبَّر، ويظلم، ويفسق، ويكبتُ الحُرِّيـَّات، ويستغلُّ منصبَه لمطامعِه ومآربِه الشخصيَّة أو العائليَّة أو الحزبيَّة أو الطائفيَّة، فإنَّه يكونُ لعنةً مُجسَّدة قد حلَّت على الشعب؛ فإذا استحقَّها أفرادُه، خنَعوا وذَلُّوا وصاروا له أشبهَ بالعبيد، أو تطبَّعوا بطباع رئيسِهم، فأخذَ بعضُهم يظلمُ بعضًا، وهَيمنَت الأنانيَّةُ عليهم فأصبحَت شريعتَهم، وشاع فيهم التباغُضُ والتحاسُدُ والرياء، وتحكَّمَت فيهم الرذائل. وهكذا يتفكَّكُ مُجتمعُهم، وتُصبحُ فيهم كلُّ جماعةٍ دولةً وفقًا للأهواء والمصالح المادِّيـَّة التي تتلاقى. ولا يرفعُ اللهُ هذه اللعنةَ عنهم إلاَّ إذا عادت السيَّالاتُ الراقية فتكاثرَت فيهم، فأيقظَتهم على حقيقتِهم، ودفعَتهم إلى الثورةِ وتقويض كُرسيِّ الفساد، وترئيس الشخص الفاضل عليهم. و{إنَّ اللهَ لا يُغيِّرُ ما بقومٍ حتَّى يُغيِّروا ما بأنفسِهم.} يقولُ الدكتور داهش:

لا يهزُّ أعصابَ المُستبدِّين ويُقوِّضُ أفئدةَ الحُكَّامِ الزَّرِيِّـين سوى صوتِ الحقِّ الصارخ في وجوههم وصدورهم، وسَوطِ العدالةِ الذي يقرعُ ظهورَهم، فيتمنَّون اختفاءَهم لا ظهورَهم.[22]

وكنتُ قد أفضتُ في الحديث عن الحُرِّيـَّةِ وأبعاد العدالة في التعامُل الاجتماعيّ كما في سُلطاتِ الحُكم الثلاث في عدَّة أبحاثٍ سابقة.[23] فليس من حياةٍ سياسيَّة راقية في ظلِّ الطغيان والاستبداد، وقَمع الحُرِّيـَّات، وحَجبِ حقوق الإنسان. وقد ذكرتُ أنَّ الدكتور داهش يرى العدالةَ في الأرض، على انتشار القوانين التي تحميها، ما تزالُ مطلبًا غيرَ مُحقَّق في كثيرٍ من البلدان. وهي مفقودة فيها على صعيد التعامُل الاجتماعيّ والاقتصاديّ كما على صعيد المُؤسَّساتِ الحكوميَّة. وقد أعطى الدكتور داهش مثلاً للرئيس العادل الفاضل الملكَ فَيصل الأوَّل وللرئيس الفاسد الطاغية رئيسَ لبنان الأسبق، بشاره الخوري (1943-1952).

على أنَّ قياسَ الرُقيِّ للحياة السياسيَّة في دولةٍ ما لا ينحصرُ في سلوك الحُكَّام وفي نسبةِ ما يُقدِّمونه للشعب من عدالةٍ وحُرِّيـَّةٍ وأمنٍ ونسبةِ ما يصونون من كرامةِ المواطن وحقوقِ الإنسان في الدولة، بل يشملُ أيضًا موقفَ الدولةِ من سائر الدوَل، ولا سيَّما الضعيفة والفقيرة، وكيفيَّة التعامُل معها.

            يقولُ الدكتور داهش بصوت "الدينار" في كتاب "مُذكِّرات دينار":

            يا مَن بأيديكم القُوَّاتُ المادِّيـَّة،

            ويا مَن تُسيطرون على الطاقة الذرِّيـَّة،

            ويا مَن تدَّعون بحُبِّكم للبشريَّة،

            إذا كان السلامُ بُغيتَكم، والحقُّ دَيدَنَكم، والعدالةُ أُمنيَّتَكم،

            فهاتوا البرهانَ على صدقِ نيَّتِكم.

            هاتوا، يا أقوياء، وأشهِدوا الكونَ على تضحيتِكم...

            أعيدوا لكلِّ ذي حقٍّ حقَّه، وحرِّروا المُستعبَدَ من رِقِّه، والمغبونَ من غَبنِه، ومَكِّنوا ربَّ البيت من بيتِه، فربُّ البيتِ أدرى بالذي فيه، بظواهرِه وخوافيه.

            ولكنَّكم قلَبتم الآية، وعكستُم الحقائق، وأضعتم الغاية. فأصبحَ ربُّ البيت يئنُّ تحت نيرِ الغُرم، وأنتم، أيُّها الأقوياء، تتمتَّعون بالغُنم.[24]

            إذًا بالتعامُل العادل مع الشعوب يُكتَسَبُ ودُّها، وبالتضحيات الماليَّة التي لا تنـزعُ إلاَّ نُتَفًا من ثروة الدوَل الغنيَّة، بإمكان الشعوب الراقية نسبيًّا أن تمنعَ الوصوليِّـين والانتهازيِّـين والطائفيِّين المُتعصِّبين من إشاعة الفِتَن والقلَق في العالَم. فبدلَ زيادة النفقات على التسلُّح زيادةً خياليَّةً لا حدودَ لها، بإمكان الدوَل الغنيَّة أن تُخصِّصَ بعض تلك النفقات على الدول الضعيفة والفقيرة، فتُنعِشَ اقتصادَها، وتُخفِّفَ آلامَها وامراضَها، وتُزيلَ جهلَها وكراهيَّتَها، وهكذا تأمنُ شرَّها، وتُساعدُ في بسطِ الرُقيِّ الحضاريِّ في العالَم، بدل تقليصه وتهديمه. هذا فحوى ما كتبَه رئيسُ تحرير مجلَّة World-Watchالتي تُراقبُ القضايا العالَميَّة وتُعالجُها.[25] وكنتُ قد أوضحتُ موقفَ الداهشيَّة من العدالة بين الشعوب في بحثٍ سابق (عدد حزيران/يونيو 1998).

 

4- الحياةُ الاقتصاديَّة

أمَّا الكلامُ على حياةٍ اقتصاديَّة مُتقدِّمة فلا يصحُّ إلاَّ عند انتقال الإنسان من طور البداوة والتتقُّل إلى طورِ المدنيَّة والاستقرار. لكنَّ ذلك لا يعني بالضرورة انتقالَ المجتمَع إلى مرحلة الرُّقيِّ الحضاريّ. فمظاهرُ العُمران في مجتمعٍ ما ونظامُه الاقتصاديّ تُؤثِّرُ فيهما مُباشرةً سيَّالاتُ الشعب (أي قواه النفسيَّة) بمُختلف النـزَعات المُهَيمنة عليها، ومُداورةً الحياةُ الدينيَّةُ والخُلقيَّةُ الاجتماعيَّةُ والسياسيَّة؛ أي إنَّ أفرادَ المجتمع هم الذين يصوغون مُستوى اقتصادهم ونوعَ عُمرانهم بما يغلبُ عليهم من نزعاتٍ غَيريَّة أو أنانيَّة، وإيثارٍ للمصلحة العامَّة أو لمصالحهم الشخصيَّة، وتنافُسٍ في الطمعِ والجشَعِ أو الرِضى بالعَيشِ العَدلِ القَنوع، وثِقةٍ مُتبادلة فيما بينهم من تعاطٍ تجاريّ أو خِداعٍ وغشّ... فمن المُحالِ أن يقومَ اقتصادٌ مُزدهرٌ عادل في دولةٍ يعمُّها النفاقُ الدينيّ، أو تسودُها المفاسدُ الخُلقيَّةُ الاجتماعيَّة، أو يقمعُها الطغيانُ السياسيّ. فمهما تكُن القوانينُ الاقتصاديَّة واضحةً ودقيقةً بل عادلة، تَبقَ عاجزة عن بناء الدولةِ الراقية حضاريًّا، ما لم تنبع العدالةُ والمحبَّةُ والرحمةُ وعواطفُ الإخاء والمُساواة من نفوسِ المُواطنين أنفسِهم، بحيثُ تكونُ ضمائرُهم هي الرقيـبةَ على أعمالهم، لا سَيفُ السلطة الدُّنيَويَّة، لأنَّ الإكراهَ الخارجيَّ على التحسين لا يُنتِجُ التحسُّن؛ فما هو مكنونٌ في خلايا كلِّ فَرد لا يمحوه أو يُعدِّلُه إلاَّ إرادةُ الفردِ نفسِه على مدى أزمنةٍ طويلة. وبكلمةٍ واحدة إنَّ النظامَ الاقتصاديَّ الراقي هو الذي لا يُبـعِدُ الإنسانَ عن إنسانيَّتِه، ولا يجعلُ قلبَه في ثروتِه بل في خالقِه.

إنَّ المجتمعَ الراقي حضاريًّا لا يسمحُ بأن يملأَ شوارعَه عشراتُ الأُلوف من المحرومين والمُشرَّدين المُعوِزين بينما تكون منازلُ المُترَفين من أثرياء وأصحابِ سلطة فائضة بما يُطعِمُهم جميعًا. فمِثلُ هذا المُجتمَع يكون خاليًا من الروح الإنسانيَّة التي اعتبرَها الدكتور داهش شرطًا أساسيًّا في بناء الحضارات الراقية. فضلاً عن أنَّه يكون يُنمِّي مُداورةً نزعات الحقد والحسَد والعدائيَّة في المحرومين والفقراء ضدَّ الأغنياء. كذلك لا تسمحُ النـزعةُ الإنسانيَّةُ بأن يملأَ الشوارعَ آلافُ المرضى والمُتخلِّفين عقليًّا، بحُجَّةِ أنَّ الاعتماداتِ الماليَّة في الدولة لا تكفي لإيوائهم وتطبيـبهم في حين أن البلايين تُنفَقُ على التسلُّح. فمِثلُ هذه الدولة لا تُعتَبَرُ حضاريًّا راقية، ما دامت الحضارةُ تفتقرُ إلى عُنصرِها الخُلُقيِّ الراقي؛ ولا يتمُّ التغيير إلاَّ بتطوُّرٍ "مَبـنِيٍّ على ارتقاءٍ خُلُقيٍّ مُهمّ،" تبعًا لِما يراه عُلماءُ الاجتماع والاقتصاد والسياسة.[26]كذلك لا تسمحُ روحُ الحضارةِ الراقية بأن يملكَ ثلاثةُ أفرادٍ أغنياء ما يُعادلُ ثروةَ 43 دولة هي الأفقرُ في العالَم؛ ولا أن يغرقَ بضعةُ ملايين في الترَفِ بينما ما يزال نصفُ البشريَّة (ثلاثة بلايين) يتعيَّشُ على أقلّ من دولارَين أو دولار في اليوم؛ ولا أن تُرمى أطنانٌ من الأطعمة كلَّ يوم تُجمَع من نفايات المطاعم والقصور، بينما يموتُ يوميًّا حوالى أربعين ألف طفل من سوءِ التغذية والأمراض، على حدِّ ما يقول أحد رؤساء التحرير في مجلَّة .U.S. News & World Report[27]

            وكنتُ في عددٍ سابق (آذار /مارس 1998) قد أوضحتُ ما هي واجبات السلطاتِ العادلة تجاه الشعب على الصعيد الاقتصاديّ والمعَيشيّ ولا سيَّما في ما يتعلَّقُ بتكافُؤ الفُرَص وتأمين الحاجات الأساسيَّة للشعب، فإنَّها إذا لم تُؤمَّن، فلا يستطيعُ الشعبُ أن يرتفعَ إلى الاهتمام بالقِيَمِ الفكريَّةِ والجماليَّة والروحيَّة عامَّةً. وكم من سرقةٍ ارتُكِبَت ومن رذيلةٍ اقتُرِفَت ما كان الإنسانُ لِيُقدِمَ عليها لو لم يُرغِمه الفقر. من أجل ذلك قال الدكتور داهش:

            فالحُرَّةُ تُرغِمونها على الأكل من ثَديَيها ثمَّ تطلبون مُحاكمتَها. وسارِقُ الرغيف تُلقونه في غياهبِ السجون... أمَّا سارقُ الأُلوف فإنَّكم تُشاركونه الغنيمةَ وتتقاسمونها فيما بينكم؛ فيا لَلعار![28]

            إنَّ تفاصيلَ النظامِ الاقتصاديِّ العادل قد تتغيَّرُ فتتَّخذُ وجوهًا مُختلفة، لكنَّ الذي لا يتغيَّرُ في المجتمَعِ الراقي حضاريًّا وفقًا لرأي أميتاي إتزيوني Amitai Etzioniالأُستاذِ في جامعة واشنطن وصاحبِ تسعةَ عشرَ كتابًا في علم الاجتماع والاقتصاد والسياسة، بينها كتابُ "الخُطوة التالية: الطريق إلى المجتمع السليم" هو إيجادُ التوازُن الضروريِّ بين الدولة والسوق الاقتصاديَّة ومصلحةِ المُتَّحد، وبعبارةٍ أُخرى حرصُ الدولة على تأمينِ قاعدةٍ اقتصاديَّة مَعيشيَّة سليمة تمدُّ الشعبَ بشعورِ أمانٍ من الفَقر والعوَز كما بشعورِ اطمئنانٍ للقدرةِ على التطبُّب والاستشفاء ومُتابعة التعلُّم، وذلك بغَضِّ النظر عن سلوك الفرد؛ فالمُواطِنُ كإنسان يجبُ ألاَّ يُحرَمَ من ضرورات الحياة الأساسيَّة التي تُؤمَّنُ حتَّى للمساجين أنفسهم.[29]

 

5- الحياةُ العسكريَّة

            القوى العسكريَّة، مثلما تتمثَّلُ اليومَ في العالَم، نراها على أحد وجهَين:

            أَ- القوى المُسلَّحة التي يستخدمُها الرُّؤساءُ الدكتاتوريُّون والأحزابُ الحاكمة لتنفيذ مآربِهم والمُحافَظة على مصالحهم وسلطانهم حتَّى لو كان في ذلك قَمعُ الحُرِّيـَّات وسَجنُ المُفكِّرين واغتيالُ المُعارضين. فبالانخراطِ في أمثال هذه المُؤسَّسات العسكريَّة، التي يكثرُ وجودُها في دُوَلِ العالَمِ الثالث، يجدُ المحرومون والمُتخلِّفون ثقافيًّا وربَّما عقليًّا، وكذلك ذَوو الرَّغباتِ المصدودة والنـَّزعات المكبوتة، المجالَ المُلائمَ لمداركهم واستعداداتهم والمُشبِع لدوافعِهم ورغباتهم. والتسلُّطُ الأبَويُّ والقَهرُ الاجتماعيّ، في مِثل هذه الدوَل، يُؤدِّيان دَورًا فعَّالاً في توجيهِ ضحاياها إلى مِثل هذه التنظيمات العسكريَّة التي سرعانَ ما تُصبحُ بؤرةً يجتمعُ فيها كلُّ حاقِدٍ وحاسِدٍ وناقِمٍ وظالِمٍ وطامِعٍ في التسلُّط أو المغانم. هذا الوجهُ للحياةِ العسكريَّة يُضِرُّ أكثرَ مِمَّا ينفع؛ وكثيرًا ما عانت الشعوبُ من بلاياه منذ العهود الرومانيَّة حتَّى يومنا هذا.

            ب- القوى العسكريَّة التي تعرفُها الدوَلُ الديمُقراطيَّة. وفي هذه الحال يكون لحياة الجنديَّة مَهمَّتان:

            الأُولى حمايةُ المُواطنين ومُمتلكاتهم، والسَّهَرُ على راحتهم وأمنهم، ومُؤازرةُ القضاء لاستعادة الحقوق المهضومة وإجراء العدالة، وحراسةُ القِِيَمِ السامية؛ وكذلك الدفاعُ عن حُرمةِ الوطن ضدَّ مُعتَدٍ أو غاصِب.

            والثانية تمريسُ المُواطنين بالمناقب الاجتماعيَّة كالتعاوُن، والشجاعة، والبطولة، والنجدة، والمروءة، والصمود، والإقدام، وحُسنِ الدفاعِ عن النفس، والثقة بها والاعتماد عليها في المُلمَّات، ونهوض العزيمة، والحَيويَّة، وخشونة الحياة، والنظام؛ وأهمُّ من ذلك تنميةُ قوَّة الخَير في نفوس الجنود بجَعلِهم حريصين علىالدفاعِ عن الحقِّ والعدالة والحُرِّيـَّة وسائر القِيَم العُليا، ودَفعِهم إلى التضحية بمصالحهم الفرديَّة وراحتهم الشخصيَّة من أجل تأمين سلامة المجتمَع والخَير العامّ. وإنَّ في ذلك لغايةً شريفة ومَهمَّةً سامية أشار إليهما أفلاطون في كتاب "الجُمهوريَّة" الذي تمثَّلَت فيه رؤيتُه للمُجتمَع الفاضل.

            أمَّا إذا تحوَّلت القوى العسكريَّة إلى أداةٍ ضاربة لتنفيذ مآربِ المُتسلِّطين الجَشِعة، أو أهدافِهم الاستعماريَّة التوسُّعيَّة، وإذا تنازلَت حياةُ الجُنديَّة عن مَهمَّتِها الدفاعيَّة الإصلاحيَّة المناقبيَّة، فإنَّها تفقدُ، إذْ ذاك، مُبرِّرَ وجودها، بل تُصبحُ نكبةً على المجتمعِ، وخطرًا على تقدُّم الدولة ورُقيِّها الحضاريّ. ومن مصائب الشعوب أنَّ قواها العسكريَّة كثيرًا ما تتَّجهُ هذا الاتِّجاهَ الحربيَّ العُدوانيَّ حالما تشعرُ بازدياد قدرتها وجبروتها.

            ومن أبلغِ ما قيل في أضرارِ الحرب العُدوانيَّة وأوزارِها ما قاله مُؤسِّسُ الداهشيَّة. فالحربُ على الصعيد السياسيّ "أكبرُ خدعة"، وعلى الصعيد الروحيّ "إثمٌ رهيب فادح لا يغفرُ اللهُ لِمَن ارتكبَ جريمتَه."[30]

(في العدد القادم: "الحياةُ الثقافيَّة والرُّقيُّ الحضاريّ في ضَوءِ التعاليم الداهشيَّة)



1. اختلفَ عُلماءُ الاجتماع في تحديد معاني المدنيَّة urbanism والحضارة civilization والثقافة culture. وكثيرون منهم خلطوا المدنيَّة بالحضارة والحضارةَ بالثقافة. وفي دراسةٍ قام بها الباحثان كروبر A. L. Kroeber وكلايد كوكهون Clyde Klickhohn تمكَّنا من جَمع لا أقلّ من 164 تحديدًا لمفهومَي الثقافة والحضارة. غير أنَّ المعنى الغالب لكلَيهما هو ما تبنَّيتُه في بحثي هذا. أنظر:

Dictionary of the History of Ideas. P. P. Wiener, ed. (NY: Charles Scribner’s Sons, 1973), Vol. I, pp. 613-621.

ولمزيدٍ من الإيضاح انظر:

Ernst Cassirer. An Essay on Man: An Introduction to the Philosophy of Human Culture. New Haven: Yale University Press, 1956.

2. J. Monod. Le hazard et la nécescité: Essai sur la philosophie naturelle de la biologie moderne (Paris: Le Seuil, 1970), pp. 209-212.

3. C. G. Jung. L' homme à la découverte de son âme (Ed. Du Mont-Blanc, 1962), p. 244.

4. الدكتور داهش: "الرحلاتُ الداهشيَّةحول الكُرةِ الأرضيَّة"، الجزء 18 (نيويورك: الدار الداهشيَّة، 1994)، "كلمتي لعام 1982"، ص 403.

5. المصدرُ السابقُ نفسُه.

6. أكَّدَ العالِمُ النفسيُّ الألمانيُّ وِلفرِد دايْم أنَّ "المُطلَق" ضرورة نفسيَّة يستحيلُ أن يحيا الإنسانُ بدونها؛ والمُطلَقُ الصحيح هو الله. أنظر:

Wilfried Daim. Transvaluation de la psychanalyse, l’homme et l’absolue. Trad. De l’allemand par P. Jundt (Paris: Albin Michel, 1956), pp. 129-173.

                وجاراه في تأكيد هذه الحقيقة عدَّةُ عُلماء، منهم الدكتور أ شتوكِر. أنظر:

A. Stocker. De la psychanalyse à la psychosynthèse (Paris: Beauchesne et ses fils, 1957), pp. 207-239.

Dictionary of the History of Ideas, Vol. III, pp. 272-274.7.

8. أنظر سلسلة "نَقدُ السحر وفَضحُ أساليب الشعوذة" التي نشرَها كاتبُ هذا البحث في مجلَّة "بروق ورعود" عام 1968 من 23آذار (مارس) إلى 23 تمُّوز (يوليو).

9. وردَ النصُّ الروحيُّ الموجِب في الأجوبة الاثنَين والسبعين التي ارتسمَت بصورة عجائبيَّة تحت الأسئلة الاثنين والسبعين التي وضعَها المُحامي والوزير اللبنانيّ السابق إدوار نون في ظرف، فلمسه الدكتور داهش بعد ان ارتعشَ بالروح.

10. الدكتور داهش: "مُذكِّرات دينار" (نيويورك: الدار الداهشيَّة، 1986)، ص 379.

11. المصدرُ السابق، ص 380.

Robert Bork. Slouching towards Gomorrah (New York: Regan Books/Harper Collins, 1990). 12.

13. أنظر في هذا الصدَد مقالاً نفيسًا للمُفكِّر البارز فرنسيس فوكوياما :

Francis Fukuyama, “The Great Disruption: Human Nature and the Reconstitution of Social Order”, in The Atlantic Monthly, May 1999, pp. 55-80.

                Alan Wolfe. Moral Freedom: The Search for Virtue in a World of Choice, N. Y.: W.W. Norton, 2001. أنظر كذلك:

14. أنظر مقالاً مهمًّا لتشارلز كراوتهامِر في مجلَّة "تايم" في هذا الصدَد:

Charles Krauthammer, “In Praise of Mass Hypocrisy” in Time, April 27, 1992, p. 74.

Ed Ayres, ed. World-Watch, May-June, 1999. 15.

Robert H. Frank. Luxury Fever: Why Money Fails to Satisfy in an Era of Excess, Princeton: Princeton Univ. Press, 2000.16.

                فضلاً عن الاهتمام المُسِرف بالملاهي وإشباع الرغبات الحسِّـيَّة، فقد تكاثرَت أنديةُ الرشاقة البدنيَّة وعمليَّاتُ التجميل الجراحيَّة للنساء تكاثرًا مُفرِطًا جدًّا في السنوات العشر الأخيرة. وفيما يأتي بعض الأمثلة:   عام 1992 سُجِّلَت 13501 عمليَّة لرَفع جِلد الجبهة، و32461 عمليَّة لتقويم الجفون، و32607 عمليَّات لزرع أثداء اصطناعيَّة، و16810 عمليَّات لإضمار البَطن، و47212 عمليَّة لامتصاص الشحم، و291 عمليَّة لرَفع الردفَين، و1023 عمليَّة لشَدِّ الفخذَين؛ أمَّا في عام 2001 فقد سُجِّلَت 41668 عمليَّة لرَفع جلد الجبهة، و172244 عمليَّة لتقويم الجفون، و187755 عمليَّة لزَرع أثداء اصطناعيَّة، و58463 عمليَّة لإضمار البطن، و229588 عمليَّة لامتصاص الشحم، و1356 عمليَّة لرَفع الردفَين، و5096 عمليَّة لشَدِّ الفخذَين. (Source: American Society of Plastic Surgeons/U.S.News & World Report, June 25, 2001)

17. Amitai Etzioni. Next-The Road to the Good Society, pp. 1-2.

18. الدكتور داهش: "كلمات"، ص91.

19. أنظر تغطيةً واسعة للفساد السياسيّ في الدوَل في مجلَّة World Press Review، عدد تشرين الأوَّل/أكتوبر، 2001. وفي رأس الدوَل الفاسدة أجهزتُها: بنغلادش، ونيجيريا، وإندونيسيا، وأوغَندا، وآذربيجان، وبوليفيا، وكاميرون، وكينيا، ويوكرينيا، وتنزانيا. أمَّا طليعةُ الدُوَل الأقلّ فسادًا سياسيًّا وإداريًّا فهي: فنلندا، ودانمارك، ونيوزيلاندا، وآيسلاندا، وسنغفوره، والسوَيد، وكنَدا، وهولندا، ولوكسمبورغ، والنروج.

20. "الرسائلُ المُتبادَلة بين الدكتور داهش مُؤسِّسِ الداهشيَّة والدكتور حُسَين هيكل باشا" (بيروت:دار النسر المُحلِّق، 1981)، 41.

21. الدكتور داهش: "كلمات" (بيروت: دار النار والنور، 1983)، ص 102.

22. الدكتور داهش: "كلمات"، ص 97.

23. أنظر "صوت داهش" أعداد آذار/مارس، وكانون الأوَّل/ديسمبر 1997، وآذار /مارس، وحزيران/يونيو 1998.

24. الدكتور داهش: "مُذكِّرات دينار"، ص 375.

Ed Ayres, ed.. World Watch, January/February, 1999.25.  

26. أنظر الكتابَ النفيس الذي وضعَه خمسة عُلماء بهذا الشأن:

Robert N. Bellah, Richard Madsen, William M. Sullivan, Ann Swidler, Steven M. Tepton. The Good Society (N. Y.: Knopf. 1991), pp. 5, 29-33,

David Gergen, Ed. at large. U.S. News & World Report, Sept. 25, 2000 27.  

28. الدكتور داهش: "كلمات"، ص 94.

Amitai Etzioni. Next-The Road to the Good Society (N. Y.: Basic Books,2001), pp. 2, 53-62, 74.29. أنظر:

30. الدكتور داهش: "مُذكِّرات دينار"، ص 122و و117.

 

 

  Back to التعاليم الداهشيَّة بقلم الدكتور غازي براكس 

 

Developed by Houssam Ballout        Copyright 2019 This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.nfo All Right Reseved This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.