أنا أؤمن بأنه توجـد عدالة سماويّة, وأن جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدنيا من مُنغصات انَّ هـو الاّ جـزاءٌ وفاق لِما أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور.ولهـذا يجب علينا أن نستقبلَ كلّ مـا يحـلّ بنـا من آلامِ الحياةِ ومآسيها غير مُتبرّمين ولا متذمّرين , بل قانعين بعدالةِ السماء ونُظمها السامية.

Highlighter
أحبُّ الكُتُبَ حبَّ السُكارى للخمر , لكنَّني كلَّما أزددتُ منها شرباً, زادتني صَحوا
ليس مّنْ يكتُبُ للهو كمَن يكتُبُ للحقيقة
الجمالُ والعفّــة فـردوسٌ سماويّ .
لا معنى لحياةِ ألأنسان اذا لم يقم بعملٍ انسانيٍّ جليل .
اعمل الخير , وأعضد المساكين , تحصل على السعادة .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقـوم بأعمالِ الخير نحـو ألأنسانيّة .
الموتُ يقظةٌ جميلة ينشُدها كل مَنْ صَفَتْ نفسه وطَهرت روحه , ويخافها كلّ من ثقُلت أفكاره وزادت أوزاره .
ان أجسامنا الماديّة ستمتدّ اليها يـد ألأقـدار فتحطِّمها , ثمّ تعمل فيها أنامل الدهـر فتتَّغير معالمها , وتجعلها مهزلةً مرذولة . أمّا ألأعمال الصالحة وألأتجاهات النبيلة السّامية , فهي هي التي يتنسَّم ملائكة اللّه عبيرها الخالد .
نأتي إلى هذا العالمِ باكين مُعولين، و نغادره باكين مُعولين! فواهً لك يا عالمَ البكاء والعويل!
جميعنا مُغترٌّ مخدوعٌ ببعضه البعض.
العدلُ كلمة خُرافية مُضحكة.
أمجادُ هذا العالم وهمٌ باطل، و لونٌ حائل، و ظلٌّ زائل.
لا باركَ الله في تلك الساعة التي فتحتُ فيها عينيّ فإذا بي في مكانٍ يطلقون عليه اسم العالم .
أنا غريبٌ في هذا العالم، و كم احنُّ إلى تلك الساعة التي اعود فيها إلى وطني الحقيقيّ.
الحياةُ سفينةٌ عظيمة رائعة تمخرُ في بحرٍ، ماؤه الآثام البشريَّة الطافحة، و امواجه شهواتهم البهيميَّة الطامحة، و شطآنه نهايتهم المؤلمة الصادعة.
كلّنا ذلك الذئبُ المُفترس , يردع غيره عن اتيانِ الموبقاتِ وهو زعيمها وحامل لوائها , المُقوّض لصروح الفضيلة , ورافع أساس بناءِ الرذيلة .
الحياةُ سلسلة اضطراباتٍ وأهوال , والمرءُ يتقلَّب في أعماقها , حتى يأتيه داعي الموت, فيذهب الى المجهولِ الرهيب , وهو يجهلُ موته , كما كان يجهلُ حياته .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقومَ بأعمالِ الخير نحو الانسانيّة .
المالُ ميزان الشرِّ في هذا العالم .
السعادةُ ليست في المال , ولكن في هدوءِ البال .
كلُّ شيءٍ عظيمٍ في النفسِ العظيمة , أمّا في النفسِ الحقيرة فكلُّ شيءٍ حقير .
الرُّوح نسمةٌ يُرسلها الخالق لخلائقه لأجل , ثم تعودُ اليه بعجل .
الرُّوح نفثةٌ الهيَّة تحتلُّ الخلائق , وكل منها للعودة الى خالقها تائق .
الرُّوح سرٌّ الهيٌّ موصَدْ لا يعرفه الاّ خالق الأرواح بارادته , فمنه أتتْ واليه تعود .
أنا أؤمن بأنه توجـد عدالةٌ سماويّة , وأنَّ جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدُّنيا من مُنغِّصاتٍ وأكدارٍ انَّ هـو الاَّ جـزاء وفاق لمِا أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور . ولهـذا يجب علينا أن نستقبل كلَّ مـا يحـلُّ بنـا من آلام الحياة ومآسيها غير م
الحرّيةُ منحة من السماءِ لأبناءِ ألأرض .
الموتُ ملاكُ رحمةٍ سماويّ يعطف على البشر المُتألّمين , وبلمسةٍ سحريّة من أنامله اللطيفة يُنيلهم الهناء العلويّ .
ما أنقى من يتغلّب على ميولِ جسده الوضيع الفاني , ويتبع ما تُريده الرُّوح النقيّة .
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
الراحة التامّة مفقودة في هذا العالم , وكيفما بحثت عنها فأنت عائدٌ منها بصفقةِ الخاسر المَغبون .
ليس أللّــه مع الظالم بل مع الحقّ.
ان الصديق الحقيقي لا وجود له في هذا العالم الكاذب.
ما أكثر القائلين بالعطف على البائسين وغوث الملهوفين والحنو على القانطين , وما أقلَّ تنفيذهم القول.
يظنُّ بعض ألأنذال ألأدنياء أنّهم يُبيّضون صحائفهم بتسويدِ صحائف الأبرياء , غير عالمين بأنَّ الدوائر ستدور عليهم وتُشهّرهم.
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السَّلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
رهبة المجهول شقاء للبشرِ الجاهلين للأسرارِ الروحيَّة , وسعادة للذين تكشّفت لهم الحقائق السماويَّة .
الموتُ نهاية كل حيّ , ولكنه فترة انتقال : امّا الى نعيم , وامّا الى جحيم .
الحياةُ خير معلِّمٍ ومُؤدِّب , وخيرَ واقٍ للمرءِ من الأنزلاقِ الى مهاوي الحضيض .
حين تشكُّ بأقربِ المُقرَّبين اليك تبدأ في فهمِ حقائق هذا الكون .
مَنْ يكون ذلك القدّيس الذي لم تخطرُ المرأة في باله ؟ لو وجدَ هذا لشبَّهته بالآلهة .
المرأة هي إله هذه الأرض الواسع السُّلطان. و هي تحملُ بيدها سيفاً قاطعاً لو حاولَ رجالُ الأرض قاطبةً انتزاعه منها لباؤوا بالفشلِ و الخذلان .

السبَـبيَّةُ الروحيَّة في مجرى الأَحداثِ العامَّة
في ضوءِ المفاهيمِ الداهشيَّة (2)

بقلم الدكتور غازي براكْس


بيَّنتُ في ما تقدَّم من هذا البحث (عدد شتاء 2005) أنَّ البشرَ المُتحدِّرين من آدم وحوَّاء انتقلَت إليهم سيَّالاتُ أَبوَيهما عَبرَ التناسُل ومعها عواقبُ المعصية التي ارتكباها، وهكذا استحقُّوا أَن يرسفوا في الشقاء والجهلِ بعد أن كانوا ينعمون في الفراديس العُلويَّة ويتمتَّعون بمعارفَ راقية. وليتهم حافظوا على مُستواهم الذي آلوا إليه بعد السقوط فارتدعوا عن التمادي في الشرور والرذائل؛ فقد لجُّوا فيها وتاهوا في الضلال حتَّى أَشفقَ اللهُ عليهم فأَرسلَ إليهم رحمتَه مُتمثِّلةً بالنبيِّ نوح هاديًا ومُنذِرًا. لكنَّهم قاوموه وسَخروا منه مئةَ سنة، فكان أن استحقُّوا الإبادةَ بالطوفان الذي لم يخلص منه إلاَّ مَن استحقَّ الخلاص.

وعاد الناسُ فتكاثروا بالتناسُل الذي سُمِحَ به بعد الطوفان، ليفرزَ السيَّالُ الصالحُ نفسَه عن السيَّال الطالح بالتوالُد والتمايُز، فيتحمَّل كلٌّ تبعةَ أَعماله وَفقَ ما وردَ في رسالة الأب نوح المُشار إليها سابقًا، والتي هبطَت في جلسةٍ روحيَّة عقدَها مُؤسِّسُ الداهشيَّة في 11/6/1943 بحضور الأديبَين حليم دمُّوس وجوزف حجَّار، مُرتسمةً فورًا بصورةٍ إعجازيَّة على عدَّة قراطيس بيضاء.

بَيدَ أنَّ البشرَ مع كرور الأجيال ازدادوا كثرةً وعادوا إلى دأبهم القديم يتمرَّغون في حمأةِ الشرور والأباطيل والرذائل، ونسَوا ربَّهم وما حلَّ بهم من عقابٍ هائل، بل قد يكون بعضُهم اعتقدَ أنَّ الطوفانَ المُبيد إنَّما هو أَحاديثُ خُرافة، أَو صُدفةٌ من الصُّدَفِ الطبيعيَّة.

لكنْ أيُمكنُ أن تكونَ الأحداثُ التي تتحكَّمُ بمصاير البشر أَفرادًا وشعوبًا مُجرَّدَ صُدَفٍ طبيعيَّة؟

يقولُ وِلْ ديورانت Will Durant(1885-1981)، العالِمُ الاجتماعيُّ والمًُؤَرِّخُ الكبير في كتابه "عِبَرُ التاريخ": "هل يُعقَل... أن لا يكونَ للتاريخ أَيُّ معنًى، وأَن لا يُقدِّمَ لنا أَيَّة عِبرة، وأَن لا يشتملَ الماضي السحيق إلاَّ على أَخطاء مُتكرِّرة شديدة الوطأَة على المستقبل بشكلٍ واسع النطاق، فادحِ الضرَر؟"[1]

إنَّ تاريخَ البشر كثيرًا ما تحكَّمت به الزلازلُ والفيضاناتُ وثورانُ البراكين والقحطُ الشديد. فهل يُعقَل، لدى المؤمنين بقوَّةٍ خالقة على الأقلّ، أن يكونَ مصيرُ شعوبٍ أَو أَجيالٍ بأسرها محكومًا بالصدفة وعواملَ بكماء صمَّاء أو بإرادةٍ إلهيَّة مزاجيَّة؟! إنَّ المبادئَ الداهشيَّة تُؤكِّدُ أنَّ العدالةَ الإلهيَّة لا تعرفُ الخلَل، لأنَّها كاملة، وهي دائمًا وراءَ تلك الأحداث وَفقَ نظامٍ شامل وسبَـبيَّة روحيَّة مَبنيَّة على الاستحقاق البشريّ.

والعنايةُ الإلهيَّةُ لم تترك البشرَ الضُّعفاءَ المُستسلمين لميولهم الدنيئة الموروثة دونما مُساعدة، من أجل إبعادهم عن مزيدٍ من الشقاء وهدايتهم طريقَ الصلاح التي يجبُ أَن يسلكوها لإنقاذ أنفسهم من المصائب المُحيطة بهم جزاءَ ما يفعلونه؛ فكانت تُذكِّرُهم، كلَّما زاغوا عن سواءِ السبيل، بأنَّ الغايةَ من وجودهم في الأرض هي التغلُّب على التجارب والمُغريات، والنجاح في الامتحان الدُّنيَويِّ الذي أُخضِعوا له، ليتمكَّنوا من استعادة الفراديس التي هبطوا منها. وكانت الهدايةُ الروحيَّة تتجسَّدُ تارةً في شخصِ رسولٍ أو نبيّ كإبراهيم وموسى ويوحنَّا المعمدان ويسوع المسيح والرسول العربي،ّ[2] وطورًا تتجسَّدُ في هادٍ روحيّ يستهدي أَحكامَ العقلِ النيِّر والإلهامَ العُلويّ مثل لاوتسو وكنفوشيوس وبوذا وسقراط ثمَّ المهاتما غاندي، وأحيانًا كثيرة كانت تمدُّ مُفكِّرين وأدباءَ وشُعراءَ ومُصلحين اجتماعيِّين بسيَّالاتٍ عُلويَّة هي امتداداتٌ لسيَّالات الأنبياء ليُكمِلوا عملَ رُسُل الله حينما يخلو الزمانُ منهم.

ويجبُ ألاَّ يغيبَ عن بالِنا أنَّه تكشَّفَ للداهشيِّين مِمَّا أُوحيَ لمُؤسِّس عقيدتهم أنَّ سيَّالاتِ البشر، المُنطوية على مداركهم واستعدا

داتهم ورغباتهم، هي التي تُكافئُهم وترفعُهم تَـبَعًا لمدى رُقيِّها، أو تحطُّهم وتُعاقبُهم تَـبَعًا لمدى تسفُّلِها، وذلك وَفقَ نظامٍ روحيّ لا يعرفُ الخلَل، حيثُ البشرُ أَفرادًا وجماعات يصوغون مصيرَهم بأَيديهم، من دَورٍ حياتيّ إلى دَورٍ حياتيّ، تخلُّفًا أَو تطوُّرًا، جهلاً أَو علمًا، صحَّةً أو مرضًا، غنًى أَو فقرًا، سلامًا أَو اضطرابًا، سيادةً أَو ذُلاًّ. فالسَّبَـبيَّةُ الروحيَّةُ هي علَّةُ التغييرات الحاصلة في كلِّ مجتمع في أَنظمتِه السياسيَّة والثقافيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة... وفي مدى ازدهار علومِه وآدابه وفنونه وثرواته أَو تخلُّفها.

وفي النظام الروحيّ الإلهيّ، وَفقَ المبادئ الداهشيَّة، أنَّ السيَّالات الأسمى تسودُ الأقلَّ سُموًّا مع مرور الزمَن، فلا يُسمَحُ للأردإ أن يسودَ الأفضل إلاَّ إذا كان الأفضلُ أيضًا رديئًا، وذلك لتأديـبه وإيقاظِه من غفلتِه. وهذا الأمرُ يلتبسُ على معظمِ الناس، فيظنُّون أنَّ الصُّدَفَ أو بعضَ القوى المادّيـَّة أو القِيَم الدنيويَّة كالغنى أو الشهرة أو النفوذ أو القدرة العسكريَّة أو غير ذلك من قِيَمِ الأرض هي التي أدَّت إلى سيادةِ إنسانٍ على جماعة أو سيطرةِ شعبٍ على شعب. لكنَّ الحقيقةَ لا تنكشفُ إلاَّ للأنبياء والمُرسَلين، وهي ناتجة دائمًا عن سبَـبيَّة روحيَّة مُرتبطة بالاستحقاق والتقمُّص والعدالة الروحيَّة. وسنرى أنَّ هذا النظامَ االإلهيَّ العادل يتَّضحُ في عهود الأنبياء حيثُ تتكشَّفُ مشيئةُ الله.

وفي ما يأتي سأَقفُ عند محطَّاتٍ رئيسة هي محطَّاتُ الرسالات النبَويَّة والهدايات الروحيَّة وامتداداتها التي يتوقَّفُ مصيرُ كلِّ مجتمعٍ على مدى الأخذِ بتعاليمها وقِيَمها أَو مُقاومتها والابتعاد عنها.

 

بابل وجِلقامش

إنَّ التاريخ، حتَّى الجانب المقدَّس منه، لم يحفظ لنا من أحداث الشعوب قبل مجيء إبراهيم الخليل إلاّ قليلاً. فمن خلال "سِفر التكوين" نعرفُ أنَّ القومَ الذين كانوا يسكنون أَواسطَ ما بين النهرَين استطاعوا أَن يُطوِّروا فنَّ البناء، ويشرعوا تشييدَ بُرجٍ شاهق ومدينةٍ حوله تضمُّهم جميعًا، فيُخلِّدون اسمَهم ولا يتشتَّـتون على وجه الأرض وَفقَ ما جاء في السِّفر المذكور. وهذا الإنجازُ العُمرانيُّ يدلُّ على تطوُّر مداركهم. لكنْ هل الرقيُّ الحقيقيُّ في الإنسان والمجتمع هو في تطوُّرِه العلميِّ والمدَنيّ؟ لقد أَظهرَت مسيرةُ العِلم أنَّه قد يُستخدَمُ للخير كما يُستخدَمُ للشرّ. والأدلَّةُ على ذلك موفورةٌ في كلِّ عصر. بل قد يكون العِلمُ أداةً لدمار الأخلاق والقِيَم الروحيَّة وإبادة الحضارة البشريَّة كلِّها إذا لم يُرافقه ضميرٌ حَيّ ونزعاتٌ سامية. وليس لنا في أوائل القرن الحادي والعشرين إلاّ أن نتفحَّصَ ثمارَ العلوم الطبيعيَّة التي أدَّت في القرن الماضي إلى اختراع الديناميت ثمَّ القنابل النوَويَّة والهيدروجينيَّة، ثم العلوم التكنولوجيَّة الحديثة من التلفزة والسينما إلى الإنترنِت، حتَّى نرى أنَّ أضرارَ التطوُّر العلميّ تكاد تفوقُ فوائدَه أحيانًا كثيرة. ذلك بأنَّ الرقيَّ الحقيقيَّ في الإنسان، كما في المجتمع، هو رُقيُّ السيَّالات الروحيَّة بكلِّ مخزونها، أَي رُقيُّ المدارك والرغبات والنـزعات معًا. فمِن نظرِنا في "سِفر التكوين" نرى أنَّ أولئك القومَ الذين باشروا بناءَ مدينةٍ يتوسَّطُها برجٌ شاهق قد فحصَ اللهُ قلوبَهم، فوجدَ أنَّ الغرورَ والتجبُّرَ المُؤدّي، لا محالةَ، إلى الظلم هما اللذان يدفعانهم إلى تطوير عُمرانهم، لأنَّ الفكرةَ التي داخلَتهم، بعد أن شعروا بقدرتهم، هي أن يبنوا بُرجًا يكونُ "رأسُه في السماء"، أي إنَّهم كانوا يطمحون إلى بلوغ باب الله (باب إيل=بابل)، وهو الطموحُ نفسُه الذي داخلَ أُصولَهم الملائكيَّة من قبلهم، إذْ رغبوا في تجاوُزِ الحدود التي عُيِّنَ لهم ألاَّ يتعدَّوها قبل أن يحينَ زمانُ استحقاقهم لتجاوُزِها. من أجل ذلك بلبلَ[3] اللهُ ألسنتَهم وشتَّـتَهم، فأُرغِموا على الكَفِّ عن إتمام بناء المدينة وبُرجها الشاهق. وقد حفظَ "سِفرُ التكوين" اسمَ مَلكهم الأوَّل، وهو نمرود، "أوَّلُ جبَّار في الأرض." وهو ابنُ كوش بن حام بن نوح. وكان النبيُّ نوح قد غضبَ على حام ولعنَ ذُرِّيـَّـتَه.[4] وهكذا يتَّضح أنَّه حتَّى لو كان وراء دمارِ البرج الشاهق وتشتُّت أهل المدينة عواملُ طبيعيَّة ظهرَت في حينها، فوراءَ تلك العوامل أسبابٌ روحيَّة تتمثَّلُ في عقابِ قومٍ لم يتَّعظوا من الطوفان المُبيد لأسلافهم. وما كان لنا أن نعرفَ الأسبابَ الحقيقيَّة لولا الوحيُ الروحيّ.

ومن التنقيب في آثار الأوَّلين بالشرق الأوسط عرفنا "ملحمة جلقامش"،[5] ملكِ أُوروك، المدينة التي كانت تقع جنوبيَّ بابل واقترنَت باسم نمرود. ويسترعي انتباهَنا في الملحمة، الأسبابُ الروحيَّة الماورائيَّة التي تُحرِّكُ أَحداثَ بطلَيها، جلقامش وإنكيدو. فجلقامش أَثبتَت الآثارُ التاريخيَّة وجودَه، لكنَّ إنكيدو قد يكونُ واقعيًّا أَو رمزًا خياليًّا. وكان الملك مُتَّصفًا بشهواته التي لا تشبع في الحبِّّ والحرب، وسَطوِه على العرائس قبل زواجهنَّ، فضجَّ منه الشعب واستصرخوا غوثَ الآلهة؛ فأَرسلَت إليه خصمًا مُنافِسًا هو إنكيدو، الإنسانُ القويُّ الوحشيُّ الذي يعيشُ على الفطرة مع الحيوان. لكنَّه لم يستطع أن يصلَ إلى المدينة إلاّ بعد أن أَفقدَته بَغيٌّ براءتَه الفطريَّة، وأَدخلَته تدريجيَّا إلى المجتمع المدَنيّ حيثُ تصدَّى لجلقامش؛ فتغلَّبَ الملكُ عليه ثمَّ صادقَه. لكنْ هل استطاع إنكيدو أن يُخلِّصَ الشعبَ من مظالم جلقامش وشهواته الجامحة بقوَّةِ بطشِه؟ لا، لكنَّه بموته هزَّ ضميرَ جلقامش وحرَّكَ عقلَه لطلبِ المعرفة، فجعلَ يُفكِّرُ بالموت، ويبحثُ عن سرِّ الخلود حتَّى اكتشفَه، بعد مغامراتٍ كثيرة خطِرة، في الفضائل والأعمال الصالحة مُتجسِّدةً بأُوتنابشتيم Utnapishtim (نوح) الذي أَنقذَته الآلهة من الطوفان، وجعلَته في فردوسٍ هو أشبهُ بجنَّةِ عَدن. إنَّها استعادةُ الفردَوس لا بالبطش والمجد الدنيَويّ والانغماس في الشهوات، بل "باحتقار متاع الدنيا." وعاد جلقامش إلى مملكته حكيمًا، مُقتنعًا بأنَّ الموتَ مصيرُ البشر جميعًا. فخاطبَه أَبو الآلهة في حلمه قائلاً: "أَي جلقامش، هذا هو تأويلُ حُلمك: لقد أُعطيتَ المُلك، فهذا قدَرُك، أمَّا الخلود فليس مُقدَّرًا لك. لا يحزنْ قلبُكَ لهذا، لا تغتمَّ ولا تبتئسْ. لقد أَعطاك [أبو الآلهة] القدرةَ على العَقدِ والحَلّ، وجعلَكَ ظلامًا ونورًا للناس. لقد وهبَكَ سلطانًا على الشعب لا نظيرَ له، وجعلَ لكَ النصرَ في المعارك التي لا يُفلتُ منها ناجٍ... ولكنْ لا تُسئ استحدامَ هذه القوَّة. عامِلْ خدمَكَ في القصر بالعدل. كُنْ عادلاً أمام وجهِ الشمس."[6]

تُرى، هل كان في جلقامش سيَّالاتٌ روحيَّة عُلويَّةٌ وسُفليَّة تتصارع على الدوام حتَّى تغلّبَ فيه الأسمى على الأدنى؟ هل كان فيه مع السيَّالات الدنيَويَّة سيَّالٌ روحيٌّ نبَويّ يرقى إلى نوح، وبسببه مُجِّدَ في زمانه، ثمَّ بُعِثَ اسمُه من الأنقاض ليُمجَّد في زماننا في الآدابِ العالَميَّة؟

طرحتُ السؤالَ الأخير على مُؤسِّس الداهشيَّة، فأجابَني ما فحواه: ماذا تقول في فلاديمير لينين، زعيم الثورة الشيوعيَّة، هل جميع سيَّالاته دُنيويَّة أو سُفليَّة؟

فأجبتُ: لا أَدري.

فقال: إذًا اعلَمْ أنَّه إلى جانب سيَّالاته الدنيَويَّة كان فيه سيَّالٌ نبَويّ تابعٌ ليشوع بن نون، وبهذا السيَّال قاد الثورة الاشتراكيَّة لتكونَ تأديبًا لمَن يستحقّون التأديب، ورحمةً لمَن يستحقُّون الرحمة، ولكنْ إلى حين. فليس محتومًا أن تكونَ مَهمَّةُ السيَّال النبَويّ محصورةً في تأدية رسالة روحيَّة فقط. ففهمتُ مغزى كلامه.

 

خَطُّ الرُّسُل والأَنبياء

بمجيءِ إبراهيم الخليل يبدأُ الخطُّ الرَّسوليُّ النبَويُّ يرسمُ نفسَه في عدَّةِ شعوبٍ مُولِّدًا فيها يقظةً روحيَّة. لكنَّ الفائدة كانت مُقتصرة على جماعاتٍ محدودة في أزمنةٍ محدودة. أمَّا معظمُ الناس، حتَّى في أقوام الرُّسُل والأنبياء أنفسهم، فقد ظلَّت شواغلُ الدنيا وجواذبُها وشهواتُها ومطامعُها همَّهم الأكبر، إن لم يكُن الأوحد. من أَجل ذلك أَجرى الله عدالتَه فيهم، فلم يعرفوا سلامًا. فالحروبُ بينهم ما كان يخمدُ أُوارُها حتَّى تتجدَّدَ وتتأَجَّجَ نارُها، العمرانُ ما كان ينهض حتَّى يُقَوَّض. والكتبُ المقدَّسة، كما المُدوَّناتُ التاريخيَّة أحيانًا كثيرة، شاهدة على ذلك.

 

أَ- إبراهيم الخليل وسارة

لم يكُن إبراهيم مَلكًا يُعاضدُه جيشٌ عرمرم، ولا زعيمَ قبيلةٍ كبيرة ذاتِ سيادة حينما لبَّى صوتَ الروحِ الإلهيّ، فتركَ أرضَه وعشيرتَه وبيتَ أَبيه في حاران ببلاد الرافدَين العُليا، ورحلَ إلى أرض كنعان وهو ابنُ خمسٍ وسبعين سنة، وبصُحبتِه ابنُ أَخيه لوط، ومعهما زوجتاهما ومُمتلكاتهما المنقولة وما في حوزتَيهما من الموالي.

وإذْ وجدَ إبراهيمُ مجاعةً منتشرة في كنعان حيثُ كان يعتزمُ الإقامة، رحلَ إلى مصر. وفيها يُطلِعُنا "سِفرُ التكوين" على أُولى الضرباتِ القاصمة التي نزلَت بالفرعَون المُعاصر لإبراهيم وبأهل بيته. والسببُ يبدو غيرَ عادل. فقد طلبَ إبراهيم إلى زوجته ساراي (سارة) أن تقولَ للمصريِّين إنَّها أُختُه، خوفًا من أن يقتلوه بسببها ويُبقوا عليها حيَّة، لأنَّها كانت رائعة الجمال. يقول الكتابُ المقدَّس: "وشاهدَها بعضُ حاشية فرعَون، فمدحوها عند فرعَون ثمَّ أَخذوها إلى بيته. فأَحسنَ فرعَون إلى إبراهيم بسبَـبها؛ فصار له غنَمٌ وبقَر وحمير وعبيد وإماء وأُتُن وجمال. أَمَّا الربُّ فضربَ فرعَون وأَهلَ بيته ضرباتٍ عظيمة بسبب ساراي امرأة أبرام. فاستدعى فرعَون أَبرام وقال له: ’ماذا فعلتَ بي، فكتمتَ عنّي أنَّها امرأتُك؟ لماذا قلتَ لي: هي أُختي، حتّى أخذتُها لتكونَ زوجةً لي؟ والآن خُذ امرأتَك واذهَبْ.‘ وأَمرَ فرعَون رجالَه أَن يُخرِجوه من البلاد مع امرأته وكلّ ما يملك."[7]

لا ريبَ في أَنَّ طلبَ إبراهيم يبدو غريبًا، وعاقبته الوخيمة على فرعَون وبيته تبدو أغرب؛ ذلك بأنَّ الأسبابَ الروحيَّة هي غير الأسباب المعروفة للناس. فإبراهيم لم يكذب بقوله عن ساراي إنَّها أُختُه، لأنَّها ابنةُ أَبيه لا ابنةُ أُمِّه.[8] هذا من الجهة الواقعيَّة؛ أمَّا من الجهة الروحيَّة، فحينما سألتُ مُؤسِّسَ الداهشيَّة مُستغربًا عن المصائب التي انصبَّت على فرعَون وبيتِه من جرَّاء سارة، في حينَ أنَّ إبراهيم الخليل هو المُسبِّب، قال لي ما فحواه: لو لم يكُن فرعَون وأَهلُ بيته مُستحقّين العقابَ الشديد، لَما نزلَ بهم. ثمَّ هل يُعقَل أن يُقدِّمَ إبراهيم الخليل، وهو النبيُّ الكبير، زوجتَه إلى فرعَون خوفًا من القَتل أو طمعًا بالإحسان إليه! فما يُدريك أنَّ سارة لم تكُن زوجةَ فرعَون في تقمُّصٍ سابق ولا بُدَّ من أن يتَّصلَ بها ليقعَ العقابُ عليه. فيكون مَثلُه مَثلَ داوود النبيّ الذي اتَّخذَ زوجةَ أُوريَّا الحثّيّ زوجةً له، إذْ كانت امرأتَه في دورٍ سابق.[9] هذا مع فارق أنَّ داوود كان نبيًّا وهو بارّ أمام الله، في حين أَنَّ فرعَون كان يستحقُّ العقاب على معاصيه، وكان لا بُدَّ من اتِّصاله بسارة ليقعَ الجزاء، وإلاَّّ لَكان وُضِعَ فيه سيَّالٌ روحيّ يردعُه عنها، أو لَكان أَتاه حلمٌ يُنهى فيه عنها.

وفي الواقع تكرَّرَت حادثةُ سارة مع أَبيمالك، ملكِ جَرار في أَرض النقب، بعد رحيل إبراهيم من مصر إليها. فأخذَ الملكُ سارة على أنَّها أُختُ إبراهيم، لكنْ قبل أن يمسَّها، أَتاه روحُ الربّ في الحُلم وأَنذرَه بأنَّه سيموتُ إذا مسَّها، لأنَّها مُتزوِّجة. فقال الملكُ لروح الربّ: "’يا سيِّدي، أَأُمَّةً بريئةً تقتل؟ أَما قال لي إبراهيم: هي أُختي، وقالت امرأتُه أيضًا: هو أَخي؟ فبسلامة قلبي ونقاوة يدَيَّ فعلتُ هذا.‘ قال له الربُّ في الحلُم: ’أَنا أَعرفُ أنَّكَ بسلامة قلبكَ فعلتَ هذا، ولذلك منعتُكَ من أَن تمسَّها فتخطأ إليَّ. والآن، رُدَّ امرأةَ الرجُل، فهو نبيّ يُصلِّي لأجلكَ فتحيا، وإن كنتَ لا تردُّها، فاعلَمْ أنَّكَ لا بُدَّ هالك أنتَ وجميع شعبك."[10]

وصباحَ اليوم التالي استدعى الملكُ جميعَ رجاله وأَخبرَهم بالحُلم، ثمَّ استدعى إبراهيم وعاتبَه على عملِه، لكنَّه أَغدقَ عليه النِّعَم ورحَّبَ بأَن يُقيمَ في دياره.

 

إسحاق وإسماعيل

لمَّا كانت سارة عاقرًا وقد بلغ إبراهيم الخامسة والثمانين، طلبَت إليه أن يُجامعَ جاريتَها هاجَر لعلَّه يُزرَقُ منها نسلاً. وبعد أن عاشرَ إبراهيم جاريتَه، بدأت تتجرَّأُ على سيّدتِها، فطردَتها سارة.

وبعد حبَل هاجر بإسماعيل وهي بعيدة، تراءَى لها ملاكُ الربّ وقال لها: إنَّ الربَّ سمعَ دُعاءَها وسُيُسمَّى ابنُها إسماعيل (أي سمع إيل، أي الله، لها)، لكنَّه "سيعيشُ بعيدًا عن إخوته، يُقاتلُ الجميع، والجميعُ يُقاتلونه في مُواجهة دائمة."[11]

ومن المعروف أنَّ إبراهيم عاد فرُزِقَ من سارة ابنًا سُمِّيَ إسحاق، وكان له من العُمر مئة سنة وهي تسعون، فيما كان إسماعيل قد أصبح في الرابعة عشرة.

سألتُ مُؤَسِّسَ الداهشيَّة: نحن نعرفُ أنَّ إسماعيل صار أَبًا لكثيرين من العرَب، بينهم الرسولُ العربيُّ نفسُه، وأنَّ إسحاق صار أبًا ليعقوب (إسرائيل)، وبالتالي لليهود كما للسيّد المسيح. فهل قولُ الملاك لهاجر نبوءةٌ بما سيحدثُ بين العربِ واليهود، كما بين العربِ والمسيحيِّين في التاريخ؟ وهل يُشكِّلُ ذلك سببًا روحيَّا عامًّا لاستمرار العداء بينهم عَبر الأجيال؟

فأجابني ما فحواه: أجل، هذا هو السببُ الروحيُّ المُحرِّك، الناشئُ عن سيَّالات سارة وسيَّالات هاجر ونزعاتِ العدائيَّة بينهما. لكنَّ الإنسانَ حرٌّ في اختيار أَعماله، فبإمكان كلِّ شعبٍ أن يتغلَّبَ على نزعات العدائيَّة التي تكون راسخةً في سيَّالاته، فهي لا تموتُ ولا تتلاشى إلاّ إذا غالبَها الإنسانُ وقضى عليها، لأنَّها تبقى في نشاط السيّالات التي لا تفنى، بل تنتقلُ من تقمُّصٍ إلى آخَر. ولا شكَّ بأنَّ عواملَ سياسيَّة ودينيَّة واجتماعيَّة وثقافيَّة واقتصاديَّة وغيرها قد تكون وراءَ عداوات الشعوب بعضِها لبعض، لكنَّ هذه العوامل ليست إلاَّ المجاري الطبيعيَّة لأسبابٍ روحيَّة حرَّكَتها حتَّى لو كانت أُصولُها ترقى إلى آلاف السنين.

 

لوط وسَدوم وعَمورة

إنّ نكبةَ سَدوم وعَمورة معروفةٌ مشهورة في الكُتب المقدَّسة. وكم من مدينةٍ يعيشُ أَهلُها اليوم عيشةَ أَهلِ تَينكَ المدينتَين أو ما يُقاربُ ذلك من استهتارٍ في الرذيلة، ولا سيَّما الشذوذُ الجنسيّ! فهل كان يخطرُ في بال سُكَّان سدوم وعمورة أَنَّهم سيُحرَقون بالكبريت والنار، وتُرَدَّم منازلُم على رؤوسهم ويُبادُ شعباهم جزاءً وفاقًا لمعاصيهم؟ الجواب: لا. وكذلك البشرُ الذين أنذرَهم نوح لم يخطر في بالهم أنَّ الإنذارَ سيصحّ، فيُبادون. وهكذا اليوم، فكلُّ نكبةٍ طبيعيَّة من زلزالٍ إلى هياج بركانٍ إلى فيضان... ينسبُها معظمُ الناس إلى العوامل الطبيعيَّة البكماء الصمَّاء، ذلك لأنَّهم لا يربطون بين أعمالهم وقوَّةٍ إلهيَّة عادلة تُحرِّكُ تلك العواملَ الطبيعيَّة وتُجازيهم على قَدر أعمالهم.

ولا بُدَّ من الإيضاح، في هذا المجال، ونحن في عصرٍ بلغَ فيه التقدُّمُ العلميُّ شأوًا بعيدًا، أنَّ الأنبياءَ كان يوحى إليهم بما يستطيعون استيعابَه، وبما يستطيعُ الناسُ إدراكَه إذا بُلِّغوه. ولِذا فشرحُ الحقائق الروحيَّة وفهمُها نسبيّان وَفقَ التطوُّر العلميِّ في كلِّ عصر. فالذين لازموا مُؤسِّسَ الداهشيَّة وخَبروا قدرتَه الروحيَّة ومُعجزاته وكيفيَّةَ هبوط الوحي يعرفون أنَّ الله (أو الربّ) لم يُخاطب ويستحيلُ أن يُخاطبَ بشرًا. فالملاكُ الرسولُ والروحُ الإلهيُّ هما اللذان يُخاطبان النبيَّ والمؤمنين. وفي ضوءِ هذا الإيضاح يجبُ أن نفهمَ ما وردَ في الكتب المقدَّسة من مُخاطبة الله أو الربّ للأنبياء. أمّا في ما يخصُّ "الملاكَين" اللذَين دمَّرا سدوم وعمورة، فقد أوضحَ مُؤسِّسُ الداهشيَّة أنَّهما رسولا حاكِم أَحد الكواكب الراقية المُكلَّف بمُراقبة أرضنا وما ومَن يعيشُ عليها. فهذان الرسولان اللذان كانا يُساويان البشرَ بقامتَيهما كانا قد أَنذرا أهلَ المدينتَين الفاسقتَين بأن يُقلِعوا عن رذائلهم أَو يُبادوا. لكنَّ الآثمين المُعاندين لم يأبهوا. فكان أَن أَباداهم بسَيلٍ من الكبريت والنار أَطلقاه عليهم من سفينةٍ فضائيَّة كانت قد اتَّجهَت إلى الأرض بسرعةٍ تُقاربُ سرعةَ النور.[12]

 

بَنو إسرائيل في العبوديَّة

وهكذا لا يُصيبُ العقابُ إلاَّ القومَ الذين يستحقُّونه، ولا يهربُ منه حتَّى مَن كانوا من ذُرّيـَّة الأنبياء. والجزاءُ يكونُ إلى حينٍ مُحدَّد. فـ"سِفرُ التكوين" يروي أنَّ إبراهيم الخليل، قبل مولد إسماعيل، ابنِه البِكر، وقعَ في نومٍ عميق، فأتاه "الربُّ" في الحلُم قائلاً:

"إعلَمْ جيِّدًا أَنَّ نسلَكَ سيكونون غُرباء في أَرضٍ غيرِ أَرضِهم، فيستعبدُهم أَهلُها ويُعذِّبونهم أربع مئة سنة، ولكنِّي سأَدينُ الأُمَّةَ التي تستعبدُهم، فيخرجون بعد ذلك بثروةٍ وفيرة. وأَنت تموتُ وتنتقلُ إلى آبائك بسلام، وتُدفَنُ بشيبةٍ صالحة. وفي الجيل الرابع يرجعُ نسلُكَ إلى هنا، لأنيِّ لن أَطردَ الأَموريِّين إلى أَن يرتكبوا من الإثم ما يستوجبُ العقاب."[13]

وفي هذه النبوءة جانبان: أحدُهما يتعلَّقُ بالامتناع عن طرد الأموريِّين من بلاد كنعان حيثُ كان العبرانيُّون يسعون إلى توطيد إقامتهم، لأنَّ الأَموريِّين، بالرغم من أنَّهم ليسوا من نسل إبراهيم، لا يجوز عقابُهم إلى أن يستحقّوه. وهذه هي السبَـبيَّةُ الروحيَّة الخاضعة لنظام العدالة الإلهيّة الكاملة. والجانبُ الثاني من النبوءة سيتحقَّق بطريقةٍ لا يتوقَّـعُها البشر، ولا يستطيعُ أَن يستشرفَها تحليلٌ منطقيّ. فبعد أَن وُلِد لإبراهيم إسحاق، وُلِدَ لإسحاق يعقوب، ثمَّ وُلِدَ ليعقوب (الذي سُمِّيَ روحيًّا بإسرائيل) اثنا عشر ابنًا، كان بينهم يوسف. وكان يعقوب يُحبُّ يوسف ويُفضِّلُه على جميع إخوته. فحسَدوه وأَبغضوه، خصوصًا أنَّه كان يروي لهم من حينٍ إلى آخَر ما يراه من أحلام تُظهرُه مُتفوِّقًا عليهم. ومنها أنَّه قال لهم مرَّةً: "رأيتُ حُلمًا كأنَّ الشمسَ ساجدة لي والقمر وأحد عشرَ كوكبًا."[14] فضاق ذَرعُ إخوته به، وتآمروا ليقتلوه، ثمَّ نزولاً عند طلب أحدهم، أَلقَوه في بئرٍ بالبرّيـَّة. وبعدئذٍ عثرَ عليه تُجَّارٌ مِديانيُّونفأَصعدوه من البئر وباعوه لقافلة من الإسماعيليِّين مُتَّجهة إلى مصر؛ فاشتراه فوطيفار، كبيرُ خدَم فرعَون، وسرعانَ ما منحَه حُظوةً كبيرة وأَوكلَه على بيته. وإذْ كان جميلَ الهيئة، حاولَت زوجةُ فوطيفار إغراءَه، لكنَّه أَفلتَ منها تاركًا ثوبَه بيدِها وقد تشبَّثَت به. فتجنَّت عليه لدى زوجها واختلقَت أنَّه تحرَّشَ بها. فأمسكَه فوطيفار ووضعَه في الحصن حيثُ مساجينُ الملك. وكان أن غضبَ فرعَون على رئيس السُّقاة ورئيس الخبَّازين، فزجَّ بهما في السجن نفسه. وذاتَ يومٍ حلمَ كلٌّ منهما حُلمًا؛ ففسَّرَ يوسف كلَيهما. وما لبثَ أن تحقَّقَ الحلُمان وَفقَ تأويل يوسف. فبعد ثلاثة أَيَّام قُتِلَ رئيسُ الخبَّازين وعُفِيَ عن رئيس السُّقاة. وبعد مُضيِّ عامَين رأَى فرعَون حلمًا أَزعجَه، ولم يستطع أحدٌ من سحَرة مصر وحُكمائها أن يُفسِّرَه؛ ففطنَ رئيسُ السُّقاة ليوسف، وذكرَ مقدرتَه على تفسير الأحلام أمام فرعَون؛ فاستحضرَه. ففسَّرَ يوسف حلم الملك بأنَّه ستأتي سبعُ سنين من الخصب والشبع تتلوها سبعٌ أُخرى من القحط والجوع، ونصح فرعَون بأن يوكِل إلى رجلٍ حكيم أمرَ جَمع خُمس غلَّةِ الأرض وخَزنِه في الأهراء طوالَ أَعوام الشبَع، ليُوزَّعَ على الشعب في أَيَّام الجوع. فوجدَ فرعَون في يوسف معرفةً وحكمة ، وجعلَه وكيلاً على بيته، وثانيًا له في المملكة. وكان أن تحقَّقَ تأويلُ يوسف لحُلم فرعَون، فعظُمَ يوسف في عَينَي ملك مصر وشعبها.

وعمَّت المجاعةُ بسببِ القحط أرضَ كنعان، فطلبَ يعقوب إلى بَنيه أَن يذهبوا إلى مصر لابتياع القمح، إذْ سمعوا بالبحبوحة فيها. فذهبوا جميعًا، أي العشرة، مُخلِّفين بنيامين، وهو أصغرُهم وشقيقُ يوسف من راحيل. فعرفَهم يوسف، لكنَّهم لم يعرفوه. وبعد محنةٍ لهم وامتحانٍ مُكرَّر، كشفَ يوسف عن نفسه قائلاً: "أَنا يوسف أَخوكم الذي بعتموه إلى مصر. والآن لا تأسفوا ولا تستاؤوا لأنَّكم بعتموني إلى هنا، لأنَّ الله أَرسلَني أمامكم لأحفظَ حياتَكم. مضَت الآن سنَتا جوع في الأرض، وبقيَ خمسُ سنين لا فلاحةَ فيها ولا حصاد، فأَرسلَني اللهُ أمامكم ليُبقيَ لكم نسلاً في الأرض ويُنجِّيَ الأحياءَ منكم. فما أَنتم الذين أَرسلتموني إلى هنا، بل الله. وهو جعلَني وَصيًّا عند فرعَون، وسيِّدًا لجميع أَهل بيته، ومُتسلِّطًا على كلِّ أرض مصر."[15] وبناءً على دعوة يوسف عادوا إلى كنعان ثمَ اصطحبوا والدَهم يعقوب إلى مصر ومعه بنيامين وجميع نسائهم وأبنائهم وبناتهم. وكانت مركباتُ فرعَون تحملُهم. وبعد موت يعقوب تخوَّف أبناؤه العشرة من ارتداد يوسف عليهم ومُعاقبتهم على الشرّ الذي أنزلوه فيه. فذهبوا إليه واستغفروه. فقال لهم: "لا تخافوا، هل أَنا مكان الله؟ الشرُّ الذي أَردتموه لي أَراده الله خيرًا كما ترَون، ليُنقِذَ حياةَ كثيرٍ من الناس..."[16]

إنَّ جوابَ يوسف الأخير ينطوي على جانبَين: الأوَّل إذا كان لا بُدَّ من عقاب، فالله يُنـزِلُه بهم، وهو ليس الله. والجانبُ الثاني يختصُّ بالصفحِ الذي هو قادرٌ عليه والرحمة التي أتَتهم من الله ولكنْ إلى حين. ذلك بأنَّ الشرَّ الذي اقترفوه بالتصميم على قتله لا مناصَ من أن يُجازيَهم الله عليه. وهكذا لمَّا تكاثرَت ذراريهم في مصر، وضعَ اللهُ خوفًا في قلوب الفراعنة منهم، فاستعبدوهم وضيَّقوا عليهم، واستخدموهم في أَشغالٍ مُرهِقة. وظلُّوا في الاستعباد أربعَ مئة سنة وَفقَ نبوءة جدِّهم إبراهيم الخليل إلى أن أَتتهم رحمةُ الله مُجدَّدًا بظهور موسى النبيّ.

وكذا نرى أَنَّ أحداثَ الشعوب كلَّها تُحرِّكُها أسبابٌ روحيَّة تتَّخذُ مجاريَ طبيعيَّة، لأنَّ الإنسانَ، شاءَ أم أَبى، آمنَ أم كفَر، يعيشُ خاضعًا لنظامٍ دقيقٍ من العدالة الإلهيَّة لا خلَلَ فيه.

 

موسى النبيّ وسلسلةُ أَنبياء العبرانيِّـين

بظهور موسى النبيّ نشهدُ من جهةٍ عقابًا إلهيًّا ينـزلُ بفرعَون وشعبِه على ما ارتكبوه من مظالمَ وآثام، ومن جهةٍ أُخرى رحمةً تُنقِذُ العبرانيِّين من الذلِّ والعبوديَّة بعد أن استنفدوا زمانَ عقوبتهم. ولا أَجدُ حاجةً إلى عَرض مُعجزات موسى النبيّ أمام فرعَون، فهي معروفة مشهورة. لكنَّ الجديرَ بالذكر هو أنَّ الأسبابَ الروحيَّة التي وراءَ الجزاء تستوجبُ عقابًا مُعيَّـنًا وزمانًا مُحدَّدًا. ولذلك فامتناعُ فرعَون عن إطلاق العبرانيِّـين من مصر، بالرغم من الضربات الفادحة التي نزلَت بـبيته وبالشعب المصريّ ووضوح المُعجزات التي رافقَتها وجبروتها، لم يكُن ناتجًا عن عملٍ عقليّ منطقيّ قام به، بل كان مُرغَمًا عليه، إذْ وُضِعَ فيه سيَّالٌ روحيٌّ "قسَّى قلبَه" وجعلَه مُثابرًا على عِناده. ذلك بأنَّ الربَّ خاطبَ موسى قائلاً: "أنت تُكلِّمُ هرون [أخاك] بكلِّ ما آمرُكَ به، وهرون يُكلِّمُ فرعَون أن يُطلِقَ بَني إسرائيل من أَرضِه. ولكنّي أُقسِّي قلبَ فرعَون. ومهما أَكثرتُ مُعجزاتي وعجائبي في أرض مصر، فلن يسمعَ لكما حتَّى أَرفعَ يدي على أَرضِ مصر وأُخرِجَ جموعَ شعبي بني إسرائيل من هناك بما أُنزِلُه بالمصريِّين من أَحكامٍ رهيبة..."[17]

وفي الواقع، كان فرعَون كلَّما توسَّلَ إلى موسى ليرفعَ الضربةَ عنه، ويأتيه الفرَج، يعودُ إلى موقفه الرافض السابق بعد كلِّ ضربةٍ من الضربات العشر، التي كان آخرُها موتَ كلِّ بكرٍ في أرض مصر، بل حتَّى بعد سماحه برحيل العبرانيِّـين، إذْ سرعانَ ما غيَّرَ رأيَه فتبعهَم وطاردَهم حتَّى غرقَ جيشُه.[18] وهكذا تُغَشَّى بصيرةُ الإنسان وتُشَلُّ أَحكامُ عقله إذا كان مُستحقًّا العقاب، فيُجازى هو وكلُّ مَن يستحقُّ الجزاء.

مع موسى النبيّ عاد الحُضورُ الإلهيُّ يُؤَكِّدُ نفسَه عَبرَ المُعجزات والتشريعات الروحيَّة الصالحة التي استهدفَت تنظيمَ مجتمعٍ كان إلى الأمس القريب جماعاتٍ عشائريَّة ضائعة مُشتَّتة، والتي أَبرزَت أَهمِّـيَّةَ القِيَمِ الروحيَّة في السلوك والحياة ليُحافظَ الشعبُ على رضى الله وبالتالي وضعِه المطمئنِّ المُستقرّ.

وكان على الشعب العبرانيّ أن يُجاهدَ طويلاً ويبنيَ نفسَه حتَّى يستحقَّ استمرارَ نعمة الروح التي نفخَها فيه النبيُّ موسى. وقد استطاع أَن يُقيمَ في فلسطين دولةً قويَّةً مجيدة في القرن العاشر قبل الميلاد، عهدَ النبيَّـين العظيمَين داوود وسُلَيمان.

غير أنَّه لا بُدَّ من الإشارة إلى أنَّ النبيَّ داوود، بعد أن اتَّخدَ امرأةَ أُوريَّا الحثِّـيّ زوجةً له، بوصفِها امرأةً له في تقمُّصٍ سابق إذْ تستفيدُ روحيًّا معه استفادةً عظيمة، وهو عملٌ مُبرَّرٌ لنبيٍّ أمام الله وقد ألمعتُ إلى هذا الأمرِ سابقًا اقترفَ داوود خطيئةً اضطرَّته إلى أن يذرفَ دموعَه هطَّالةً استغفارًا لله عنها، ويسفحَ ندامةَ قلبه في مزاميره استعطافًا وتكفيرًا. وقد أوضح مُؤسِّسُ الداهشيَّة أنَّ خطيئةَ داوود النبيّ لم يكُن مبعثُها زواجَه بامرأة أُوريَّا الحثّيّ، بل "هي إرسالُ أُوريَّا إلى ساحة الحرب وذلك الأمرُ السرّيّ الذي يقولُ فيه بوجوب وَضع أُوريَّا في مقدّمة الصفوف المُدرَّبة كي يكونَ طعمةً للنبال المسمومة. وهكذا تمَّ له ما أراد."[19]أَي إنَّ نيَّةَ داوود لإنزال الأذى في زوج المرأة وتنفيذه الأذيَّة هما اللذان شكَّلا خطيئتَه.

لكنْ هل بقيَ العبرانيُّون يُطبِّقون شريعةَ الله بعد نزولها على موسى النبيّ، ويتمسَّكون بكلامِ الأنبياء بعد أن تعاقبوا عليهم يُذكِّرونهم بضرورة اعتناق القِيَم الروحيَّة والابتعاد عن الشرّ؟ أم إنَّهم فكَّروا مرَّةً أخرى بأنَّهم بعصمةٍ من جزاء الله؟

الواقعُ أنَّ الشعبَ العبرانيّ، مثلما نرى الأحداثَ من خلال العهد القديم من الكتاب المقدَّس، قد خرجَ، تدريجيًّا، عن مشيئة الله وتعاليم أَنبيائه، وتعاظمَت فيه المطامعُ الدنيَويَّة وشتَّى المفاسد والشرور، وازدادت التناحُراتُ الداخليَّة التي أَفضَت إلى انقسام مملكة سُليمان، بعد موته، إلى مملكتَين: يهوذا وإسرائيل. وقد أَنذرَ الله الشعبَ العبرانيَّ على أَلسُن أَنبيائه المُتعاقبين، وفي طليعتهم أشعيا (نحو 740 ق م)، بعقابٍ وشيك جزاءً عادلاً لأعماله المُنحرفة وسلوكه سبيلَ الرياء. وهكذا أَذنَ تعالى لسرجون الثاني، ملك الأَشوريِّـين، بِغَزوِ مملكة إسرائيل واحتلال السامرة، عاصمتِها، وإجلاء سُكَّانها، وذلك سنة 722 ق م.

ورأَى حِزقيَّا (716-687ق م) في سقوط مملكة إسرائيل درسًا يجبُ أن تعتبرَ به مملكة يهوذا، فقام بإصلاحاتٍ دينيَّة حميدة. وساعدَه في ذلك البنيان أَشعيا وميخا. كذلك قام يوشيَّا بإصلاحٍ دينيٍّ كبير.

لكنَّ الشعبَ اليهوديَّ، مع ذلك، تمادى في غِيِّه وانحرافه عن الطريق القويم، ولم يعتبر من مِحنتِه، وصَمَّ أُذنَيه عن صوت إرميا النبيّ. من أجل ذلك حَقَّ عليه غضبُ القدير، فسلَّطَ نبوكدنصَّر، ملكَ الكلدانيِّـين، على أُورشليم، فدمَّرها، وأَجلى شعبَها إلى بابل ابتداءً من سنة 598 ق م. وقد تَـمَّ تقويضُ أُورشليم تمامًا، وتخريب هيكلها، وسَمْلُ عَينَي مَلكِها صِدقيَّا، في شهر آب سنة 587 ق م. واضطُرَّ اليهود إلى العيش في الجلاء القَسريّ عشراتِ السنين. وهذه المحنة دفعَت إرميا إلى إنشاء مراثيه المؤثِّرة في أُورشليم، التي أعاد صياغتَها مُؤسِّسُ الداهشيَّة. وفيها يقول: "قد أصبح أَعداؤها أسيادَها لأنَّ إرادةَ الربِّ قد قضَت بإذلالِها من أجل كثرة معاصيها."[20]

على أَنَّ انتصارَ سرجون ثمَّ نبوكدنصَّر على الشعبِ اليهوديّ لا يعني أَنَّ الشعبَ الظافر خيرٌ منه وأكثر استقامة؛ فالله إنَّما يُسلِّطُ شعبًا على شعب، أَحيانًا كثيرة، لمجرَّد التأديب، أو لإيقاظ الشعب المغلوب من غفلته الروحيَّة. كذلك ليس بسبب صلاح الشعب اليهوديّ غلَّبَه الله على شعوب فلسطين وكنعان؛ يُؤكِّدُ ذلك كلامُ الربّ لشعب إسرائيل نفسه حينما دخلَ الأُردنّ، إذْ أوحى للنبيِّ موسى أن يُخاطبَ شعبَه قائلاً:

"إنَّه لا بِـبِرِّكَ واستقامة قلبِكَ أنتَ آتٍ لتملكَ أَرضَهم، ولكنْ من أجلِ إثمِ أُولئك الأُمَم طردَهم الربُّ إلهُكَ من وجهِك، ولكي يَفي بالوَعدِ الذي قطعَه الربُّ لآبائكَ إبراهيم وإسحق ويعقوب. فاعلَمْ أنَّه ليس من أجل بِرِّكَ أَعطاك الربُّ إلهُكَ هذه الأرضَ الصالحة لتملكَها، لأنَّكَ شعبٌ قاسي الرّقاب."[21]

ورحمَ اللهُ نبوكدنصَّر وحفظَ مُلكَه لتقريبِه دانيال النبيّ، لكنَّه تعالى عاد فعاقبَه لأنَّه سلكَ بالكبرياء. كذلك عاقبَ بلشصَّر من بعده لتجبُّرِه، فقُتِلَ ودُفِعَ مُلكُه إلى قورش،[22]سنة539 ق م. وقد بدأَ هذا الملكُ الفارسيُّ الكبير عهدَه بتسامُحٍ دينيّ وسياسيّ، فأصدرَ أَمرًا سنة 538 ق م يسمحُ لليهود بالرجوع إلى فلسطين وإعادة بناء الهيكل. وقد يتساءَلُ القارئ: لماذا لم يتَّخذ هذا الموقفَ التسامُحيّ ملكٌ قبلَه؟ أمَّا الجواب فيُعطيه الكتابُ المقدَّس. يقولُ إرميا النبيّ: "هذا ما قاله الربُّ لمسيحه، لقورش الذي أخذَ بيمينه ليُخضِعَ له الشعوب ويُضعِفَ سلطانَ الملوك... من أجل يعقوب عبدي دَعوتُكَ باسمِكَ وكنيتِك وأنتَ لا تعرف... ألبستُكَ وشاحَ المُلك وأنت لا تعرفُني... أنا حملتُ قورش على العدل ويسَّرتُ له جميعَ طُرُقِه. هو يبني مدينتي بلا ثمَن، ويُطلِقُ أَسراي بلا رشوة." [23]

سألتُ مُؤِسِّسَ الداهشيَّة عن معنى "مسيحه" في كلام إرميا على قورش. فأجابني ما فحواه: هذا يُظهِرُ الأسبابَ الروحيَّةَ الخفيَّة على البشر في ما يجري من أحداث في الشعوب. فقورش، بالرغم من أنَّه ليس عبرانيًّا ولا يمتُّ إلى إبراهيم الخليل بصلة مباشرة، فقد كان فيه سيَّالٌ من سيَّالات المسيح، المسيح لا بمعنى يسوع الناصريّ، ولكنْ بمعنى قوَّة الهداية الروحيَّة التي سيُمثِّلُها فيما بعد التمثيلَ الأسمى يسوع الناصريّ فيُعرَفُ من أجل ذلك بالمسيح. وليس محتومًا أن تكونَ سيَّالاتُ المسيح جميعها مُجسَّدة في أنبياء ومُرسَلين، فقد يتجسَّدُ بعضُها في ملوكٍ أو قادةٍ عسكريِّين أو مُصلحين أو غير ذلك من أُناسٍ مُميَّزين. وقورش هو أوَّلُ واحدٍ منهم يذكرُه الكتابُ المقدَّس بصراحة.

بعد العودة إلى أُورشليم أَدَّى نِحميا دورًا جليلاً في الإصلاحات الدينيَّة وإعادة الشريعة الموسويَّة التي اكتسبَت صيغتَها النهائيَّة على يَدِ عِزرا الذي قدمَ إلى أُورشليم من بابل على رأس جمهورٍ كبير من اليهود سنة 428 ق م.

لكنَّ اليهود، بالرغم من المِحَنِ الكثيرة التي ابتلَتهم، ورحمةِ الله الواسعة التي شملَتهم، وأَصواتِ الأنبياء التي خاطبَتهم وأَنذرَتهم، والتي كان آخرُها صوتَ السيِّد المسيح مثلما سنرى، لم يستفيدوا ولم يتَّعظوا. ولذلك جَفَّ نسغُ حضارتهم، وحُكِمَ عليهم بأَلاَّ يتخلَّصوا من نير دولة حتَّى يقعوا تحت نير دولةٍ أُخرى. فمن المقدونيّـين إلى البطالسة إلى السلوقيِّـين إلى الرومان فإلى التشرُّد...


[1]. وِل ديورانت: عِبَرُ التاريخ"، تعريب أنطوان رزق الله مشاطي (بيروت: دار العلم للملايين، 1993)، ص 11.

[2]. وردَت في العهد القديم من الكتاب المقدَّس أسماءُ عدَّة أنبياء آخَرين كانت مهمَّتهم إحياءَ الدين وتوطيدَ أُسُسه والدفاعَ عنه، كإسحاق وإسماعيل ويعقوب ويوسف ويشوع بن نون وإيليَّا وأليشع وداوود وسُليمان، أَو الإنذار بعقاب الله والتذكير بالطريق القويم كأَيُّوب وأَشعيا وهوشَع ويوئيل وعاموس وعوبديا ويونان وميخا ودانيال وإرميا وحزقيال وناحوم وحبقُّوق وصفَنيا وحجَّاي وزكريَّا وملاخي. وكلٌّ من هؤلاء الأخيرين خلَّفَ سِفرًا نبَويًّا باسمه. كذلك وردَ في القرآن الكريم عدَّةُ أسماء، منها صالح ويونس وإدريس.

[3]. ربطَ العبرانيُّون كلمة "بابل" بكلمة "بلبلَ" في حين أنَّ الكلمة في اللغة البابليَّة تعني باب إيل أي باب الله.

[4]. "سِفرُ التكوين" 9: 20-27: 10: 6-11: 11: 1-9.

[5]. كُتِبَ أصلُها باللغة السومريَّة على 12 لوحة على الأرجح؛ لكنَّها وصلَت إلينا غير مُكتملة النصوص. وقد عُثِرَ عليها في مكتبة الملك الأشوريّ أَشوربانيبال (668-627 ق م) بنينوى. وقد مُلِئَت ثغراتُ النصوص بأَجزاء مُشتَّتة من الملحمة عُثِرَ عليها في أماكن متفرِّقة في ما بين النهرَين والأناضول، بعضُها يعودُ إلى الألف الثاني قبل المسيح. ومن المرجَّح أنَّ جلقامش عاش في النصف الأوَّل من الألف الثالث قبل المسيح، وكان الملك الخامس على أُوروك من سُلالة عاشت بعد الطوفان.ويُرجِّحُ النقَّاد أنَّ الملحمة كُتِبَت بصيغتها الأُولى في النصف الأوَّل من الألف الثالث قبل المسيح. وهي تُعتَبَر أقدم ملحمة في العالَم، إذْ تسبقُ "الإلياذة" بألف وحمسمئة سنة على الأقلّ.

[6]. أنظر "ملحمة جلقامش"، ترجمة محمَّد نبيل نوفل وفاروق حافظ القاضي (القاهرة: دار المعارف ، 1970)، وخاصَّةً صفحة 95. والأصل:

The Epic of Gilgamesh. An English version with an Introduction by N. K. Sandars (England: Penguin Books, 1978), especially p.118.

[7]. "سِفرُ التكوين" 12: 11-20.

[8]. المصدرُ السابق 20: 12.

[9]. أنظر الدكتور داهش: "مُذكِّرات يسوع الناصريّ" (نيويورك: الدار الداهشيَّة للنشر، 1991)، ص 43.

[10]. "سِفرُ التكوين"، الإصحاحُ العشرون.

وبعد وفاة إبراهيم، سيتكرَّر ما يُشبهُ حادثةَ سارة مع إسحاق ابنِه وزوجتِه رِفقة (وهي ابنةُ عمِّه). فقد أَشاع إسحاق، وهو في بلاد جَرار، أنَّها أُختُه خوفًا من الاعتداء عليه. فأُلهِمَ أَبيمالك،وكان ما يزالُ مَلكًا، أن يُطلَّ من نافذة بيته، فرأَى إسحاق يُداعبُ رِفقة، فعرفَ أنَّها زوجتُه. فاستدعاه وعاتبَه، ثمَّ أَوصى شعبَه بأَلاَّ يمسُّوا المرأة (الإصحاح 26: 7-14.)

[11].المصدرُ السابق 16: 12.

[12]. الدكتور داهش: "قِصص غريبة وأساطير عجيبة"، ج 2 (بيروت: دار النسر المحلِّق، 1979)، ص226.

[13]. "سِفرُ التكوين" 15: 12-16.

[14]. المصدرُ السابق 37:9.

[15]. المصدرُ السابق 45: 5-8.

[16]. المصدرُ السابق 50: 19-20.

[17]. "سِفرُ الخروج" 7: 2-4.

[18]. لم تَرِد في النصوص المصريَّة القديمة إلاّ إشارة وحيدة إلى "إسرائيل"، وذلك في نصّ يتعلَّق بالفرعَون مرنبتاح (نحو 1224-1214 ق م). وفحوى النصّ أنَّ خروج بني إسرائيل من مصر قد حدثَ قبلَه. أنظر جون ولسون: "الحضارة المصريَّة"، ترجمة أَحمد فخري، (القاهرة: مكتبة النهضة المصريَّة، 1955)، ص 401 و406-409.

[19]. الدكتور داهش: "مُذكِّرات يسوع الناصريّ"، 113-116.

[20]. الدكتور داهش: "ناقوس الأحزان أو مراثي إرميا" (بيروت: دار النار والنور، 1983)، ص 27.

[21]. "تثنية الاشتراع" 9: 5-6.

[22]. أنظر أخبار الملكَين نبوكدنصَّر وبلشصَّر في "سِفر دانيال": الإصحاحان 4 و5.

[23]. "سفر أشعيا" 45: 1-13.

بعد قورش أمرَ الملكُ الفارسيّ داريوس (521-485 ق م) بإنجاز بناء الهيكل. وقد برزَ في فارس مَلكان آخران كبيران بعد المسيح هما: سابور الأوّل (241-272) وكسرى أَنوشروان (531-579). وكان جميع ملوك فارس مِمَّن ذكرتُهم يؤمنون بالزرادشتيَّة.

Back to التعاليم الداهشيَّة بقلم الدكتور غازي براكس

Developed by Houssam Ballout        Copyright 2019 This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.nfo All Right Reseved This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.