أنا أؤمن بأنه توجـد عدالة سماويّة, وأن جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدنيا من مُنغصات انَّ هـو الاّ جـزاءٌ وفاق لِما أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور.ولهـذا يجب علينا أن نستقبلَ كلّ مـا يحـلّ بنـا من آلامِ الحياةِ ومآسيها غير مُتبرّمين ولا متذمّرين , بل قانعين بعدالةِ السماء ونُظمها السامية.

Highlighter
أحبُّ الكُتُبَ حبَّ السُكارى للخمر , لكنَّني كلَّما أزددتُ منها شرباً, زادتني صَحوا
ليس مّنْ يكتُبُ للهو كمَن يكتُبُ للحقيقة
الجمالُ والعفّــة فـردوسٌ سماويّ .
لا معنى لحياةِ ألأنسان اذا لم يقم بعملٍ انسانيٍّ جليل .
اعمل الخير , وأعضد المساكين , تحصل على السعادة .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقـوم بأعمالِ الخير نحـو ألأنسانيّة .
الموتُ يقظةٌ جميلة ينشُدها كل مَنْ صَفَتْ نفسه وطَهرت روحه , ويخافها كلّ من ثقُلت أفكاره وزادت أوزاره .
ان أجسامنا الماديّة ستمتدّ اليها يـد ألأقـدار فتحطِّمها , ثمّ تعمل فيها أنامل الدهـر فتتَّغير معالمها , وتجعلها مهزلةً مرذولة . أمّا ألأعمال الصالحة وألأتجاهات النبيلة السّامية , فهي هي التي يتنسَّم ملائكة اللّه عبيرها الخالد .
نأتي إلى هذا العالمِ باكين مُعولين، و نغادره باكين مُعولين! فواهً لك يا عالمَ البكاء والعويل!
جميعنا مُغترٌّ مخدوعٌ ببعضه البعض.
العدلُ كلمة خُرافية مُضحكة.
أمجادُ هذا العالم وهمٌ باطل، و لونٌ حائل، و ظلٌّ زائل.
لا باركَ الله في تلك الساعة التي فتحتُ فيها عينيّ فإذا بي في مكانٍ يطلقون عليه اسم العالم .
أنا غريبٌ في هذا العالم، و كم احنُّ إلى تلك الساعة التي اعود فيها إلى وطني الحقيقيّ.
الحياةُ سفينةٌ عظيمة رائعة تمخرُ في بحرٍ، ماؤه الآثام البشريَّة الطافحة، و امواجه شهواتهم البهيميَّة الطامحة، و شطآنه نهايتهم المؤلمة الصادعة.
كلّنا ذلك الذئبُ المُفترس , يردع غيره عن اتيانِ الموبقاتِ وهو زعيمها وحامل لوائها , المُقوّض لصروح الفضيلة , ورافع أساس بناءِ الرذيلة .
الحياةُ سلسلة اضطراباتٍ وأهوال , والمرءُ يتقلَّب في أعماقها , حتى يأتيه داعي الموت, فيذهب الى المجهولِ الرهيب , وهو يجهلُ موته , كما كان يجهلُ حياته .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقومَ بأعمالِ الخير نحو الانسانيّة .
المالُ ميزان الشرِّ في هذا العالم .
السعادةُ ليست في المال , ولكن في هدوءِ البال .
كلُّ شيءٍ عظيمٍ في النفسِ العظيمة , أمّا في النفسِ الحقيرة فكلُّ شيءٍ حقير .
الرُّوح نسمةٌ يُرسلها الخالق لخلائقه لأجل , ثم تعودُ اليه بعجل .
الرُّوح نفثةٌ الهيَّة تحتلُّ الخلائق , وكل منها للعودة الى خالقها تائق .
الرُّوح سرٌّ الهيٌّ موصَدْ لا يعرفه الاّ خالق الأرواح بارادته , فمنه أتتْ واليه تعود .
أنا أؤمن بأنه توجـد عدالةٌ سماويّة , وأنَّ جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدُّنيا من مُنغِّصاتٍ وأكدارٍ انَّ هـو الاَّ جـزاء وفاق لمِا أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور . ولهـذا يجب علينا أن نستقبل كلَّ مـا يحـلُّ بنـا من آلام الحياة ومآسيها غير م
الحرّيةُ منحة من السماءِ لأبناءِ ألأرض .
الموتُ ملاكُ رحمةٍ سماويّ يعطف على البشر المُتألّمين , وبلمسةٍ سحريّة من أنامله اللطيفة يُنيلهم الهناء العلويّ .
ما أنقى من يتغلّب على ميولِ جسده الوضيع الفاني , ويتبع ما تُريده الرُّوح النقيّة .
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
الراحة التامّة مفقودة في هذا العالم , وكيفما بحثت عنها فأنت عائدٌ منها بصفقةِ الخاسر المَغبون .
ليس أللّــه مع الظالم بل مع الحقّ.
ان الصديق الحقيقي لا وجود له في هذا العالم الكاذب.
ما أكثر القائلين بالعطف على البائسين وغوث الملهوفين والحنو على القانطين , وما أقلَّ تنفيذهم القول.
يظنُّ بعض ألأنذال ألأدنياء أنّهم يُبيّضون صحائفهم بتسويدِ صحائف الأبرياء , غير عالمين بأنَّ الدوائر ستدور عليهم وتُشهّرهم.
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السَّلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
رهبة المجهول شقاء للبشرِ الجاهلين للأسرارِ الروحيَّة , وسعادة للذين تكشّفت لهم الحقائق السماويَّة .
الموتُ نهاية كل حيّ , ولكنه فترة انتقال : امّا الى نعيم , وامّا الى جحيم .
الحياةُ خير معلِّمٍ ومُؤدِّب , وخيرَ واقٍ للمرءِ من الأنزلاقِ الى مهاوي الحضيض .
حين تشكُّ بأقربِ المُقرَّبين اليك تبدأ في فهمِ حقائق هذا الكون .
مَنْ يكون ذلك القدّيس الذي لم تخطرُ المرأة في باله ؟ لو وجدَ هذا لشبَّهته بالآلهة .
المرأة هي إله هذه الأرض الواسع السُّلطان. و هي تحملُ بيدها سيفاً قاطعاً لو حاولَ رجالُ الأرض قاطبةً انتزاعه منها لباؤوا بالفشلِ و الخذلان .

العوالمُ الجحيميَّةُ وعذابُها[1]

 

تتأَلَّفُ العوالمُ السُّفليَّةُ من 150 دَرَكة تضمُّ كلٌّ منها 2000 مُستوًى روحيّ، ويشتملُ كلُّ مُستوًى على 1000 عالَمٍ مُستقلٍّ بذاتِه وأنظمتِه. وأهمُّ وصفٍ لدرَكات الجحيم ماثلٌ في “جحيم الدكتور داهش” الذي يعرضُ ملامحَ نموذجيَّة في وصفٍ سريعٍ لاثنَين وخمسين دَرَكًا.[2]

وتقومُ الأَرضُ (بسَطحها من اليابسة كما ببحارها وأجوائها) على عَتَبة الدَّرَك الأَوَّل. ولها من حيثُ المستوى الروحيّ مثيلاتٌ كثيراتٌ في الكون.

 

أ - بيئةُ الجحيم الطبيعيَّة ودَورُ الشياطين وزبانيتُهم فيها:

أمَّا الدَّرَكُ الأَوَّلُ فلهُ نموذجٌ يُمثِّلُ بعضَ مُستوياته في جوف الأَرض. وقد دخلَه الهادي الحبيب في رؤيا مُلهَمة. فعندَ انتصافِ الليل الدجوجيّ طَرَقَ مسمعَيه عويلٌ شاملٌ رهيب، واستغاثاتٌ واسترحامٌ من آلامٍ لا تُطاق. وسرعانَ ما برزَ شيطانٌ يقذفُ النارَ من ناظرَيه! وكأنَّما انجلَت، بأُعجوبة، أمام عينَيه، بعضُ دركات العذاب، فرأى الشيطانَ يُنكِّلُ بأَحد الهلكى، إذْ أَطبقَ عليه -

“واقتلَعَ عينَيه، وصلَمَ أُذنَيه، ثمَّ جرَّدَ من اللحمِ وجنتَيه.”[3]

وعَلَتْ صيحاتُ المُعذَّبين مُلعلِعة!... فدهِشَ داهش، وذُعِرَ من الآلام البطَّاشة المُروِّعة، إذ المسكين أصبحَ مُهشَّمًا مُحطَّمًا، تنزفُ عيناهُ دَمًا، والشيطانُ ما يزالُ مُنصبًّا عليه تنكيلاً وتمثيلاً، وما نفعَتْ أَصواتُ الاستغاثة والاسترحام، إذْ ذاك، يقولُ الهادي الحبيب، وكأنَّه في منام:

“تقدَّمتُ بوَجَلٍ، وسأَلتُ الشيطانَ الرجيم

أن يتركَ الهالكَ المسكينَ وعنهُ يتحوَّل

واستَفسَرْتُه ما الداعي لهذا الإرهاب واستعلمتُه عن السبب.

فنظرَ إليَّ بغيظٍ وهو يكادُ يلتهمُني التهامًا

من العجَب ومن شدَّة الغضب!

وأجابني: “سِرْ في رِكابي، وتشبَّثْ جيِّدًا بجِلبابي،

لأُريكَ من الخطأَة أدناهم،

إذْ سأَهبطُ بكَ إلى دركات الجحيم

كي تُشاهدَ كيفَ يتعذَّبُ مَن كَفروا وفسقوا في دنياهم،

وامتَطَيتُ عُنقَه الكريهَ النَّجِس، فاخترقَ بي طبقات الأَرض،

وإذا بنا في الدَّرَك الأَوَّل.” [4]

لكنْ ما إن يُغادر الدَّرَكَ الأَوَّلَ حتّى يقولَ لنا:

“حملَتْني قُوًى غيُر منظورة إلى الدَّرَك الثاني”.

وهكذا فارقَهُ الشيطانُ، وأصبحَت قدرتُه الروحيَّةُ الخارقةُ هي التي تقودُه في انتقالاتٍ روحيَّةٍ من عالَمٍ إلى آخر.

كيف تبدو البيئةُ الجحيميَّة؟

الظلماتُ المُدلهمَّةُ طبقاتٌ حِندسيَّة مُتدافعة فوق طبقاتٍ دجوجيَّةٍ تعجزُ الشمسُ عن اختراقِ بروجها الدهريَّة. وإنْ أومضَ فيها نورٌ يكونُ بريقَ الشُّهُبِ الساطعة التي تُمزِّقُ الدياجير فجأةً لتُروِّعَ المُعذَّبين، وتجعلهم في عذابهم يتخبَّطونَ سادرين!

وُحولٌ نَتِنةٌ ناقعةٌ يغوصُ الخَطأَةُ فيها حتّى الأَعناق، وعَصْفٌ مُجَلجِلٌ واضطرابٌ مُزَلزِلٌ في الآفاق! روائحُ كريهةٌ خنَّاقةٌ، وخفافيشُ بأَجنحتها صفَّاقة! كلابٌ جحيميَّةٌ نهَّاشةٌ عَوَّاء، وزحَّافاتٌ بطَّاشةٌ شوهاء، وغربانٌ فتَّاكةٌ سوداء، وماصٌّ رهيبٌ للدماء، بومٌ ينعَبُ نعيبَ الشؤمِ على الخرائب والأَطلال، وثلجٌ ينهمرُ طوالَ أجيال!...

“وشيطانٌ يُشيرُ بيده فتتفجَّرُ الهاويةُ وتتردَّم،

وتتساقطُ جبابرةُ الصخور وتخرُّ شوامخُ الجبال...”[5]

بروقٌ تُلَعلِع، ورعودٌ تقصف، وعواصفُ تُزَمجر، والهاويةُ تميدُ وتصطخبُ اصطخابَ عالَمٍ واجف، والتماسيحُ الجبَّارةُ الممسوخةُ تخوضُ مُستَنقعَ النَّجيع الراعف...

“وبحيرةُ الدم الأَسود والقَيْح المُتجمِّد

تثورُ باضطرابٍ عاصف.”

واستمِعْ إلى هذه السُّداسيَّة من الدَّرَك المُظلم الثالث والعشرين:

“وتهبُّ عاصفةٌ جهنَّميَّةٌ وهي تُدوِّي وتُزَمجرُ بجبروت

فتضطربُ بُحيرةُ الموت القاتمة وتتلاطمُ برهبةٍ وجنون

فتُذعَرُ وحوشُها وزحَّافاتُها الممسوخة منذُ آلاف القرون

وتُغادرُ مواطنَها الثائرة زاحفةً في السراديب العميقة

وتنتشرُ في أنفاقها المُرعبة لتتوارى من وجه الحقيقة

وهي تُرسلُ أصواتَها المُنكَرة فترتجُّ الهاويةُ ثمَّ تشمخرُّ برهبوت.”

أمَّا الشياطينُ فتبرزُ ،تار ةً، أَضرى من وحوش العوالم السفليَّة، وطورًا تظهرُ مُهدِّدةً مُندِّدةً بأعمال الآثِمين وخَرقِهم لقوانين الدركات الجحيميَّة، وحينًا تعجبُ لطربهم وسرورهم وتصرُّفاتهم في يقظتهم ونومهم، وحينًا آخر تُرعَبُ من اقتتالهم الر هبوتيّ، الزخَّار ببطشهم الجبروتيّ!

ففي الدَّرَك المُظلِم السادس تسمعُ على بُعد ألفٍ من الأَميال اصطكاكَ أسنانَ المُعذَّبين وأصوات عويلهم التي تحجبُ تفجُّرات براكين النيران، ولكنَّ قلوبَ زبانية الجحيم لا ترقُّ لهم، فقد قُدَّت من صوَّان، بل يزيدون عذابَهم بحَشْرهم في مراجلِ الرصاص المصهور آلافًا من الشهور!... وبعدها...

“يأتي شيطانٌ أَمعطُ والنيرانُ تُطوِّقُ معصمَيه،

ويضعُ كلَّ عشرة من الخطأَة في مكبسٍ جديد،

ثم يهوي بدولابه الرهيب فيُطبقُ الحديدَ على الحديد!

وإذا بأجسادهم المسكينة وقد عُجِنَ عظمُها بلَحمها،

واختلَطَت أعضاؤها اختلاطًا عجيبًا بشَحمها،

فيُلقيها أرضًا ويطأُها في قسوةٍ عنيفةٍ بقدمَيه!

وتُدفَنُ هذه الكُتَلُ المسحوقةُ في الجمْر،

فتنضجُ ويتصاعدُ منها بُخارُ الدماءِ المُراقة،

وإذْ ذاكَ يُسرعُ الشيطانُ الأَمعطُ بحذاقة،

ويلتفُّ حوله الزبانيةُ ثمَّ يُسرعونَ بالتهام اللحوم،

ويملأُونَ أجوافَهم حتَّى يقومَ كلٌّ منهم وهو متخوم،

وعندما يثمَلونَ من خمر الدماء يبدأُونَ في السَّمَر وجَرعِ الخمر.”

وفي الدَّرَك الثامن يهرعُ الأَبالسةُ أَجواقًا إِثْرَ أَجواق، وهم ينفخونَ بالأَبواق، وكلٌّ منهم يسومُ الأَثَمَةَ بأَهوال البلاء، ويُجرِّعُهم كؤوسًا دِهاقًا من الشقاء.

وفي الدَّرَك العاشر يبرزُ جبَّارُ النار وهو يخوضُ بلِباسِه الحديديِّ غمراتِ جهنَّمَ مُطاردًا الأَشرار، حتّى إذا أَمسكَهم بكلاَّبه المُبيد وجَمَعَهم...

“إستَلَّ أَلسنتَهم من حناجرهم

ثمَّ سمَلَ أعيُنَهم من أعماقِ محاجرهم.”

وفي الدَّرَك الثالث والثلاثين تبرزُ كتيبةٌ من أغلَظِ الشياطين، فتُطوِّق الخلاقين الرهيبة التي تُطهى بها أرهاطُ الآثمين، وإذا بهم يُخيِّرون المُعذَّبين أيَّةَ ميتَةٍ يستعذبون، بعد أن كانوا داخل القُدور العملاقة يتشاجرون. وسرعان ما يشرعون للحُومهم الناضجة يلتهمون، ولدمائهم القانية يتجرَّعونَ، ولِعظامهم المُحطَّمة يُقَضقِضون!...

وفي الدرك الرابع والثلاثين، بعدَ أن يدعَ الشياطينُ التماسيحَ والأَفاعي والزحَّافات الغدَّارة تُنكِّلُ بالآثمين بمناشيرِ أسنانها البتَّارة، يُسارعُ الأَبالسةُ المُرقَّطون للتقاذُف بجماجم الأَموات، وتجريد رؤوسهم من الشعور، وجَمعِ أطرافهم المُمَزَّقة ودفنها بالأَقذار والنفايات.

***

ولم يعهدِ الدكتور داهش إلى الشياطين بمُهمَّةِ تعذيب الخَطَأَة فقط، بل أَوكلَ إليهم، أيضًا، مهمَّةَ تهديد الهالكين والتنديد بأعمالهم المُنكَرَة، وفَرضِ قوانين الجحيم عليهم.

ففي الدَّرَك الثامن نسمعُ صوتَ القَدَر، وقد اتَّحَدَ بصوتِ مؤَدِّبِ الآثِمين يُندِّد بهم قائلاً:

“لقد طغَيتُم في دُنياكُم وبغَيتُم

ودجَّلتُم على السماءِ وهتَكتُم الأَعراض،

فلا تلوموا السماءَ الآنَ لأَنَّها قابلَتكُم بالإعراض.

إنَّ عذابَكم سيستمرُّ ملايينَ من السنين

وسنُذيقُكُم في أثنائها المُرَّ والصابَ والغِسلين

لأَنَّكم شمختُم بأُنوفكم وعلى الضُّعَفاء اعتدَيتُم.”

ويتعالى هذا الصوتُ المُؤَنِّبُ مُكرِّرًا لومَه وتقريعَه في عددٍ من الدركات، مُؤَكِّدًا أنَّ ما يُقاسيه المُعذَّبون من آلامٍ وأهوالٍ جحيميَّةٍ إنَّما هو جزاءٌ على عصيانهم الأَوامرَ الإلهيَّة.

ب - التَّعذيب: عناصرُه وفنونُه

من عناصر الطبيعة المُساعِدة في عمليَّات التعذيب تلقى الصخورَ والمغاور التي تُطبِقُ على رؤوس الآثِمين، والأَجراسَ الجبَّارة التي تُصدِّعُ آذانَ الهالكين، والخطاطيفَ القهَّارة، وفاتكاتِ الفؤوس، والهراواتِ الغدَّارة التي تسحقُ منهم الرؤوس، والنيرانَ الصهَّارة وعنيفَ النبال والسهام، والمناشيرَ البتَّارة، وكثيفَ الدخان والقتام، والمراجلَ العملاقة والخلاقين، والأَلبسةَ المحبوكة برهيف النصال تُحكَمُ على الهالكين، والأَسرَّةَ المصنوعةُ من كُتَلِ الجمر الوقَّاد، والسياطَ المُثقَلة رؤوسها بقِطَع الرصاص الرعَّاد، والمعاصرَ الهصَّارة للأجساد، والشِّباكَ المُطبِقة على أبناء الفساد!...

ومن العناصر الحيوانيَّة المُساعِدة في التعذيب تلقى السعالى المُرعِبة والعفاريتَ القاهرة، والتنانينَ المُرهبة والجنَّ الطافرة، وجحافلَ الأَفاعي والحيتان، وجيوشَ الزواحف والديدان، وأسرابَ البوم والخفافيش والزنابير، وقطعانَ الثعالب والذئاب والخنازير؛ وترى بنات آوى واليرابيع العمالقة، والأَخطبوط والتماسيح البطَّاشة الساحقة، والقنافذ والجوارح المُنقضَّة كالصاعقة، وكِلاب الجحيم المساعير الماحقة، وبينها ذاكَ الرهيب الذي لهُ ألفُ رأس وعيونه تتألَّقُ كالأَلماس الوهَّاج، يصيحُ فترتجُّ أُسُسُ الهاوية من دويِّه العجَّاج، ثمَّ نهر العقارب التي تُثقِّبُ الأَجساد، وتقطنُ في أوقاب الهالكين أفواجًا إثْرَ أَفواج!...

وحسبي أن أذكرَ للقارئ بعضَ فنون التعذيب التي يزخرُ بها الجحيم حسبما رآهُ الهادي الحبيب.

في الدَّرَك الثاني يُرغَمُ الآثِمون على الغَوص في نهر الموت الطافح بأكره الأَقذار، ثمَّ تنشطرُ الأرضُ تحت أقدامهم فتهوي الأَجسادُ المُعذَّبةُ على شِفار المواضي وأسنَّة الرماح، فتفلحُ القروحُ النَّتِنَة أجسامَهم الممزَّقة! وإذا جحافلُ الدود تهتاج، وكأنَّها أمواجُ البحر العجَّاج فتملأُ أفواههم! وما تلبثُ أن تنقضَّ عليهم من السماء جلاميدُ صمَّاء فتسحقَهم سحقًا وتمحقَهم محقًا، وتهبُّ العواصفُ فتُذرِّي أشلاءَهم في الفضاء!...

وفي الدرك الخامس يظهرُ الأَبالسةُ وهم يُطاردونَ الخَطَأَة على خيولٍ دجوجيَّة، راشقين إيَّاهم بالنبال الناريَّة. وتهوي السِّياطُ على لُحمانهم فتُقطِّعُها وتُخرِّقُها! ثمَّ يُمدِّدونهم على الجمْر وهم ما يزالون أحياء، فيتضوَّرونَ ألَمًا وجوعًا وظماء، فيُقدِّمون لهم الزجاجَ المُهشَّم طعامًا يزدردونَه مُرغَمين، فتتمزَّقُ أَحشاؤهم! ثمَّ تنقضُّ اللطماتُ كالمُتفجِّرات على رؤوسهم! ويُحكَمُ عليهم بالقفز والركض مُتواصلَين مئةَ عام، ومن يخلُّ بما يفرضُهُ النظامُ يُزَجُّ به في غرفة اللهيب ألفًا من الأَعوام!

واستَمِعْ إلى هذا الوصف الواقعيِّ العَتِيِّ في الدَّرَك العاشر:

“وإذا بآلاف الجماجم وهي تتدَحرَج

وبأَقفاص الصدور المكشوطة اللحوم وهي تترجرج،

وكانت العيونُ تتأرجحُ في أوقابها مثلما يتأرجحُ الزئبق

بعد أن كانت كحلاء نجلاء تهزأُ بأزهار الزنبق.”

وفي الدَّرَك السابع عشر يفتح يوسيفورس فكَّي الهارب، حاشرًا جمرةً بينهما حتَّى لا يقوى على إغلاقِ فمه، ثمَّ يهوي بكَلاَّبه على أضراسه يجتثُّها من أصولها، وبعد ذلك يغترفُ الرصاصَ المصهورَ من الخلْقين ويملأُ به شدقَي الخاطئ المسكين مُهشِّمًا وجهَه، فتتفجَّرُ الدماءُ من عينَيه بدلَ الدموع، ويذوبُ-

“مثلما تذوبُ الشموع.”

وفي الدَّرَك الثالث والعشرين يُساطُ الخَطَأَةُ عامًا كاملاً... فتتهرَّأُ لُحمانُهم، وتندلقُ أمعاؤهم، وتتدفقُ دماؤهم كأنَّها الأَنهارُ الجارية!... وتهجمُ إلى حيثُ يرقدون مسوخُ الزحَّافات والوحوشُ الضارية، فتنتزعُهم من أسرَّتهم وتجرُّهم إلى قيعانها، وتُقطِّعُهم بقواطعها وأسنانها!...

وفي الدرك التاسع والعشرين يُرافقُ الإذلالُ عذابَ الخطأة الطُّغاة والمُتجبِّرين من قياصرة وأكاسرة وأباطرة وملوك وسلاطين وأصحاب ملايين. فهم يُجرَّعونَ مُرَّ الصَّاب، ويُلطَمون على أقفيتهم ورؤوسهم المُنكَّسة، ثمَّ تُسلَّطُ عليهم ذئابُ الهاوية فتنوشُهم وتُمزِّقُ لحومَهم؛ وبعد ذلك يؤتى بالزُّعماء فيُجلَدون جَلْدًا رهيبًا، ثمَّ يُصَبُّ عليهم الماء المُثلَّج مع الملح، ويُكبَّلون بالأَصفاد، ويُركَلونَ بالأَقدام، ويُؤمَرون بأن يدبُّوا على الأَربع، فيما تنهالُ العِصِيُّ على مؤَخًَّراتهم. ويستمرُّون بمُعاناة هذا العذاب الهائل ملايينَ من الأَعوام وهم يتمنَّون لو يُنعَمُ عليهم بالموت الزؤام.

وفي الدرك الرابع والثلاثين يغوصُ المعذَّبون في بُحَيرة النجيع الأَسود والصَّديد، وكلَّما حاولوا استنشاقَ الهواء ابتلعوا من القَيح المزيد. يهربون من التماسيح إلى الأَعماق ليختبئوا في نخاريب الصخور، فتُفاجئُهم الأَفاعي الرهيبة واثبةً عليهم من الجحور.

وهكذا يُصبحونَ لُقَمًا ممضوغةً بين فَكَّيْ كلِّ تمساحٍ رجيم، وفريسةً لكلِّ أُفعُوانٍ زنيم!

وفي الدَّرَك السادس والثلاثين يظهرُ الجنُّ أجواقًا طافرات، وتبرزُ نساؤهم منفوشاتِ الشعر مُوَلوِلات! وتتشقَّقُ القبورُ الدهريَّة، وتنهضُ الهياكلُ العظميَّة! وتنتشرُ الغيلانُ والأَشباحُ والتوابع، وتُفلتُ كلابُ الجحيم الهائلة على الهالكين، وتتفجَّرُ الأَقذارُ مُنسكبةً عليهم، وتتسابقُ الزحَّافاتُ بأهوالها إليهم!...

وكيفما رحتَ تجوسُ دركاتِ الجحيم فاجأَتْكَ سيولٌ من الأَهوال العِجاب: فهنا الآثمون تُغرَزُ في عيونهم السفافيد الرهيفة الرؤوس، ثمَّ يؤمَرونَ بأن يحفروا بأيديهم الرموس، فيُدفَنون بها ويُهالُ الجمرُ فوقهم فتزهقُ منهم النفوس! وهناكَ ينقضُّ رسولُ العذاب بشكل طائر، وينتزع من الخطأة الحناجر! وهنالكَ تُشرَّطُ بطونُهم وتُملأُ بالأَفاعي والعقارب!... وثمَّةَ يُطرَحُ العِطاشُ في خزَّاناتٍ مملوءةٍ بكلِّ سائلٍ لاهب، وتُفتَحُ شرايينُهم وتُفعَمُ بالجمر الوقَّاد، ويُسمَّرون بالأَوتاد، وكلَّما صاحوا يستعطونَ الماءَ جرَّعوهم الجمرَ بازدياد!

وإليكَ أَمثلةً من فنون العذاب لا تخطرُ حتَّى في الخيال:

في الدَّرَك السادس يسحقُ الشياطينُ أجسادَ الخَطأَة فتختلطُ لحومُهم بعظامهم، ثمَّ يُنضِجونهم على الجمر ويلتهمونهم، وبينما يخوضون في أحاديثهم الجهنَّميَّة...

“إذا برؤوس الخطأَة تُبعَثُ وتُطلُّ من أفواههم،

وتخرجُ صدورُهم وتتجمَّعُ ثمَّ تبرزُ مع أطرافهم،

وتهوي إلى الأَرض أكوامًا حكَتْ ألواحًا

ثمَّ تقفزُ وتتجمَّعُ، وإذا بها تعودُ أرواحًا!”

وفي الدرك التاسع يُجوِّفُ إبليس رؤوسَ الكسالى ويغرسُ فيها المشاعلَ المُلتهِبة.

وفي الدرك الرابع عشر يفرضُ الشياطينُ الصمتَ التامَّ على الهالكين. وما إن تبدر من أحدهم نأمةٌ حتّى يقبضوا عليه ويفسخوهُ قطعتَين، ثمَّ يُجرِّعوه الحنظلَ الكريهَ ويسحقوهُ في الجُرن بالمطارق، وبعد التنكيل والتمثيل بجُثَّته...

“يُلقى عليه مزيجٌ سحريّ فتعود إليه الروح

وينفخ إبليس على جسده المعذَّب فيمتلئ بالقُروح.”

وإذْ ذاكَ يتبارى الأَبالسةُ في طعنِه بالحِراب وسَوْمه هولَ العذاب.

وفي الدَّرَك الخامس عشر يُصعَدُ أَفواجُ الخَطَأَة إلى أَعالي الجبل، ثم يُدفَعون في الفضاء إلى أسفل...

“ولدهشتهم يرونَ أنَّهم لم يسقطوا على الحضيض!

بل استقرَّ بهم المقامُ في طبقات الأَثير!

حقًّا إن هذا الأَمرَ عجيبٌ ومُثير!

وإذا بالجوارح تحطُّ عليهم وتنوشُهم

وتُقطِّعُ لُحمانَهم بمخالبها ثمَّ تُحطِّمُ رؤوسَهم

وتندلقُ أمعاؤهم، وتتقطَّعُ أكبادُهم، والدماءُ منها تفيض!...

وتبقى الأَشلاءُ مُبَعثَرةً في رِحاب الجو ِّ الفسيح

فيفسد الهواءُ وتنبعثُ منه الروائحُ الكريهة

فتضجُّ الشياطين نفسها وتقول: “هذا يومُ الكريهة!

ويتأَفَّفُ من هذه الروائح الخطأةُ الباقون في أسفلِ سافلين

ويُضطَرُّون لأن يُدخِلوا في فتحاتِ أُنوفهم قِطَعًا من الفلِّين،

وإذا بدُهن الأَموات النَّتِنِ يتساقطُ على أجسادهم ويَسيح!”

ثمَّ تُمنَحُ الأَشلاءُ الحياةَ مُجَدَّدًا، فيهبطُ المُعذَّبون إلى أعماق الجحيم حيثُ كان يتأفَّفُ الآثِمون، ويُصعَدُ هؤلاء مكانهم ليُعادَ تمثيلُ المأساة نفسِها بهم!

وفي الدرك السادس عشر يُعلَّقُ أحدُ الأُثَماء طُعمًا برأسِ قصَبة، ويُغَطَّسُ في البُحيرة الجحيميَّة، وإذا بأخطبوط يعَلقُ به، ويروحان يتعاركان طوال الليل حتّى يتمزَّقَ جثمانُ الخاطئ، فتهبطُ الجوارحُ عليه تغتذي بلَحمه المُتَهرِّئ.

وفي الدَّرَك التاسع عشر يُمسَخُ المُعذَّبون بأن تُعكَسَ أعضاؤهم، ثمَّ تُسلَخُ جلودُهم وتُكشَطُ جباههم، ويُزَجُّ بهم في أدنانٍ هائلةٍ مملوءةٍ بالملح والخَلِّ ستَّةَ أَجيالٍ كاملة.

وفي الدَّرَك الثاني والعشرين إذا السماءُ الغضوبُ تُمطرُ الهلكى بأَقبح العقارب، فيهلعون مُتهاوين إلى أعماق القوارب! ولكنْ هل ينجون؟ إسمَعِ الهادي الحبيب يقول:

“وبأَسرع من لَمْحِ الخاطر تنقلبُ القواربُ إلى أفاعٍ هائلة

فلا يستطيعونَ النجاةَ منها ولا تقيهم غائلة.”

ويرتاعُ الخَطَأَةُ ويُوَلوِلون، وتلتصِقُ العقاربُ بأجسادهم، ثمَّ تزحفُ إلى أحشائهم فترتوي من أكبادهم، وإذْ ذاكَ تتفجَّرُ صدورُهم أنَّاتٍ وآهات، وتتدفَّقُ عيونُهم دماءً وعَبَرات!...

“ويظهرُ من الظلامِ المُدلهمِّ سجَّانُ الهاوية الجبَّار

وبيَدِه منشارٌ مثلومُ الحدِّ ينشرُ به أعضاءَهم المُرتجفة

ويُلقي بها في زوايا جهنَّمَ بكلِّ خفَّة

ثمَّ يُطلقُ عليهم خنازيرَ نتِنَة

فتلتَهِمُ أشلاءَهم المُمزَّقة العفِنَة

ثمَّ يأمر فتعود إليهم الحياة، وللحال يطرحهم في مرجلٍ من القار.”

وفي الدرك السادس والعشرين:

“أُحضِرَ صاجٌ نُحاسيّ يتوهَّجُ قبل أن يوضعَ على النار...”

وبعد أَن أُجِّجَتِ النيرانُ تحته ابيضَّ لِعِظَمِ الحرارة الصاهرة، وإذْ ذاك أُجلِسَ الآثِمون عليه حتّى نضجَت أَجسامُهم، ثمَّ هوى الأَبالسةُ عليهم بالسِّياطِ المُمزِّقة للُحمانهم، وجرَّعوهم الحنظلَ الذي هرَّأَ أَلسنتَهم، وأخيرًا...

“سكَبوا على أَجسادهم الزيتَ وأَشعلوها فأَضاءَت كالفنار!”

وفي الدَّرَك الثامن والثلاثين ترى المعذَّبين العُميان تشويهم النيران، فتسيلُ أجسادُهم، وبها تُملأُ القِصاعُ حساءً تُقدَّمُ للهالكين. ومَن تمنَّع يخضع للعذاب المُبرِّح المُهين. والمُشاغبون منهم يُرفَعون على الصلبان الحديديَّة، وتُبقَرُ بطونُهم وتُحشى برَوْثِ الخنازير بوحشيَّة، وإذْ يستعطفون جلاَّديهم العُتاةَ طالبين أن يسقوهم قطراتٍ من الماء، يتهافتُ الشياطينُ ليُجرِّعوهم أكوابًا طافحةً بالصَّديد والدماء، فيتقيَّأ المُعذَّبون المساكين حتَّى الأَمعاء!...

وفي الدَّرَك الخامس والأَربعين تُطرَحُ أَجسامُ التاعسين في الأَفران حتَّى إذا ما أَصبحت رمادًا ذُرِّيَت على رؤوس التماسيح. وفي الحال تتحولُ الذرَّاتُ جيوشًا لَجِبةً من البقِّ الجحيميِّ فتزحفُ حيثُ الخطَأَةُ فتلذعهم وتمتصُّ دماءَهم حتَّى تجفَّ منهم العروق.

وفي الدَّرَك السادس والأَربعين يُغلى الخَطَأَةُ بالخلاقين الملأَى بالنحاس المصهور الذي يُغلِّفهم بطبقةٍ رهيبة، ثمَّ ما يلبثون أَن يتحوَّلوا إلى سوائل ليُبعَثوا بأشكالِ ثيرانٍ عجيبة!

وفي الدرك السابع والأَربعين يُطاردُ الغيلانُ الهاربين من الأَثَمة، فيُمسكونهم ويُقطِّعونهم تقطيعًا دقيقًا بالسكاكين، ثمَّ يُعطَونَ الحياةَ فتتجمَّع الأَشلاءُ والرُّفاتُ ليُعيدَ تقطيعَها أرهاطُ العُتاة!

 

ج - أَحوالُ المُعذَّبين:

كيفما جسْتَ درَكاتِ الجحيم المُظلمة تُفاجئُكَ فيه الآلامُ المُردِّمة، والأَوجاعُ المُحطِّمة، والصَّيحاتُ المُهدِّمة! وإليكَ بعض النماذج:

في الدَّرَك الأَوَّل تلقى الوجهَ اليائس العابس في الحِندِس الدامس، وتسمعُ الوَلوَلة المُخيفة والهَمهَمة العنيفة، وترى العَبَرات الهامية كالسَّيل، والهالك المُستغيث من الوَيْل، وتلمحُ الأَشباحَ الرهيبةَ تطوفُ بأَودية الديجور مُنقِّبةً فيها مدى عصورٍ وعصور!

وفي الدَّرَك الخامس تنشطرُ الأَرضُ تحتَ أَقدام الخَطَأَة، وأُسُسُ الجحيم الدجوجيَّة تميدُ وتتزَعزَع، فتطفُر الكائناتُ هالعةً مُوَلوِلةً، وتهتزُّ أَركانُ الدركاتِ السُّفليَّة من زعيقها المُفجِع!

وبعد العذاب الهائل الذي قاساهُ الآثِمون في الدرك الحادي عشر،

“علا عويلُ الخطَأَة وسكَبوا دموعَ مآقيهم الغزيرة

فتجمَّعَت عبَراتُهم الهاطلةُ بلَونها الحالك

وأَلَّفَتْ مُستنقَعاتٍ كثيرة!...”

ثمَّ زحفَتْ أشباحُهم وكأَنَّها العظايا العملاقة، وراحَت تجوبُ أعماقَ المُستَنقَعات وأَطرافَها، علَّها تجدُ مَنفَذًا للنَّجاة. ولكنْ... هيهات، هيهات!...

وفي الدَّرَك الثالث عشر نُشاهدُ حيزبونًا شمطاء تُجدِّفُ وتلعنُ الأَقدار، وتُهدِّدُ الأَبالسةَ مُحاولةً الفرار، لكنَّ الشيطانَ يُلقي عليها أُنشوطتَه ويختطفُها كالبرق الخاطف للأبصار، ويدقُّ رأسَها دقًّا.

وفي الدََّرك الرابع عشر يتحيَّنُ أحدُ الآثِمين غفلةً من حُرَّاسه فيُلقي نفسَه في بُحيرة الموت، شدَّ ما قاسى من الأَهوال، فيُطلقون عليه التماسيح الشوهاء، فتُمزِّقه مُقَضقِضةً منه العَظام وسافحةً الدماء.

وفي الدَّرَك السابع عشر يرى الخَطَأَة يوسيفورس حاملاً كَلاَّبه الرهيب وهراوتَه الهائلة فيرتجفون هَلَعًا، ويهربونَ فزعًا، لكنَّهُ ما يلبثُ أن يقبضَ عليهم بشعورهم، فيكسوهم صَلَعًا!

وفي الدَّرَك السادس والأَربعين تُطوِّقُ الحِرابُ الباترةُ مكانَ الهلكى، وإذْ يُحاولون الهروبَ يصطدمونَ بالأَسنَّة، فإذا بأجسادهم تُخرَّق. ويُعلنُ الآثِمونَ العصيان، فتُطلَقُ عليهم خنازيرُ الغيلان فتُمزِّقُهم بأنيابها شرَّ مُمَزَّق.

وفي الدَّرَك السابع والأَربعين ترى الغيلان، حُرَّاسَ هذا العالَم السُّفليّ وقد أَخذَتهم سِنَة، فيغتنمُها الهلكى فرصةً سانحةً ليَهيموا ويطفروا، وما إن يستيقظ حُرَّاسُهم حتَّى يُطاردوهم طِرادًا مُريعًا، فيقبضوا عليهم ويعملوا فيهم براثنَهم تمزيقًا وتقطيعًا!

ويُرينا الهادي الحبيب أنَّ الخاطئين ما يزالونَ يتمتَّعونَ بالُحرِّيَّة والإرادة -وهما مِنْحَتان إلهيَّتان لجميع الخلائق مهما سمَتْ أو تسفَّلَتْ- ولذلك فمُحاوَلةُ التحسُّن والتَّوبة ليست بالمُستحيلة في أيِّ دَرَكٍ من الجحيم. فاسترحامُ الخَطَأَة، وإعلانُ توبتهم، ورَفعُ صلاتهم إلى خالق البرايا تُسمَعُ في عددٍ من دَركات العذاب.[6]

أَصغِ إلى هذه السُّداسيَّة التي تُصوِّرُ تباريحَ المتألِّمين المُتضَوِّرين، وشعورهم بخطاياهم، وتعكسُ الضعفَ البشريّ والانسحاقَ أمام السدَّة الإِلهيَّة:

“يا لَلصَّيحات الرهيبة وهي تُمزِّقُ الفضاء:

أَليسَ من رحمةٍ أيُّها الإلهُ العادل؟

لقد حطَّمَتْنا الآلامُ وهزأَ بنا إبليسُ العاذل.

نحنُ ظننَّا بأن الحياةَ طويلةٌ فإذا بها تمضي كالحُلُم،

فعفوَكَ ورِضاكَ وغفرانَك العميم يا صاحبَ الحِلْم،

إرْحَمْ ضعفَنا البشريَّ ورُدَّ عنا عاديَةَ القضاء.”[7]

 

د - أغربُ مشاهدِ العذاب:

إن َّ مَنْحَ المُعذَّب حياةً جديدةً بعد فنائه في الجحيم نجدُهُ شِبْهَ دائم، فهو يُتيحُ للخاطئ تجديدًا للعذاب.

في الدَّرَك الثالث يبدأ الهادي الحبيب وصفَه هكذا:

“وهُنا ظُلُماتٌ مُتكاثفةٌ تتلوها ظُلُمات

وحَرَسٌ من الأَبالسةِ الغِلاظِ الشِّداد

يُنكِّلونَ بمُختَلَف الناس والعِباد

يسحقونهم في أجرانٍ من الفولاذ الُمُحمرِّ من شدَّة النيران

ويعودون فيهبونهم الحياة، ثانيةً،

بعدَ أن تستطيبَ حياتُهم الهجران،

وهكذا يُخَلَّدون في عذابهم بين حياةٍ وممات.”

ثمَّ يُسجَن كلُّ أثيمٍ في قعر بئرٍ سحيقة الأَغوار ألفَ عام، ويُجعَلُ فِراشُه أشواكًا فولاذيَّةً يتمنَّى لو يُستَبدَلُ بها الموتُ الزؤام. وبعد ذلك...

“يأتي سجَّانُ الجحيم القاسي

ويُقطِّع أعضاءَهم عُضوًا فعُضوًا

وهم لعُمْقِ آلامهم أرواحُهم تتلوَّى

ويتحوَّلُ كلُّ عُضوٍ إلى شخصيَّةٍ جديدة

فتتألَّمُ هذه الشخصيَّات آلامًا شديدة

مِمَّا تنوءُ به أَصلَدُ الجبال الرواسي.”

وفي الدَّرَك المُظلِم الرابع يُطالعُنا مشهدٌ ولا أعجَب:

رؤوسٌ صلعاءُ تُلعلِع قباقيبُ الخليعات قارعةً عليها، مُجتثَّةً بُصَيلاتها، مُغمِّسةً برذاذ الدم أصحابَها!... ثمَّ تُسلَخُ جلودُ الرؤوس وتُجَوَّف وتُحشى برَوْثِ إبليس وتُسقى بولَ الثعالب، وبهذه التربة العجيبة الغريبة تُزرَعُ بذورٌ من الآثِمين!...

“ويمضي حَوْلٌ، وإذا بكلٍّ من الخَطَأَة قد برزَ برأسه ابنُه

فيعلَمُ الخاطئُ أنَّ هذا النَّجلَ كان في عالَمه من الكُفَّار

وكلَّما حضرَ إبليس ليُعذِّبَه وأباهُ

يهبطُ في أبيه مُختبئًا كالفار،

فيحملُ الأَب ويُلقيه مع ابنه في بُحيرة الجحيم،

فيرفَعُ عينَيه إلى السماء ويطلب معونةَ الآب الرحيم

بينما الشيطانُ المُنافقُ يبكيه ثمَّ يؤَبِّنُه.

ويزرعُ إبليسُ في رؤوسِ الأَبناء بذورًا قميئةً مسكينة،

فتُنبِتُ بعد حَوْلٍ أَبناءً لأُولئك الأَبناء

وثَمَّتَ بذورٌ أُخرى توضَعُ في رؤوسها ليزدادَ منها البناء

ويُشاهَدُ في ذلك العالَم كلُّ شخصٍ يحملُ ستَّةَ آلاف شخص

وكلٌّ منهم ينظرُ إلى زميله وقد سُمِّرَ وبه قد شخصَ

ثمَّ تغمرُهم الآلامُ وتعودُ فتشملُهم السكينة.”

وفي الدَّرَك السابع والثلاثين تدأبُ عناكبُ الجحيم الجبَّارة على نَسجِ خيوطها الفولاذيَّة حول المجذومين ليُعزَلوا عمَّن سِواهم، وهم يُحاولونَ التخلُّصَ منها دونما جدوى، فتعلو صيحاتُهم وأنَّاتُهم، وتتساقَطُ عبَراتُهم. ثمَّ تتضخَّمُ قروحُهم فيُمسَخونَ خنازيرَ شوهاء، ويُجرَّعونَ العذاب كؤوسًا دافقةً حتَّى يتمنَّوا الفناء، وتُهاجمُهم العظايا الجحيميَّة فتَنكأ جراحَهم، ويُقلَّبونَ على الجمر المتأَجِّج، ثمَّ يقبضُ الجلاَّدونَ العُتاةُ عليهم فيفسخونهم واحدًا واحدًا. وبعدَ أن يُبكِّتَهم إبليسُ مُزَمجِرًا في وجههم، مُستكتبًا إيَّاهم ذنوبهم، يُسمَعُ دويٌّ رهيبٌ تتفجرُ منه الآذان. ثمَّ ...

“ثمَّ انقشَعَ عن مشهد بلايين من الزنابير الصفراء

فاغبرَّتِ الوجوهُ، واضطرَبت القلوب، وأُصيبَت الحشودُ بالصفراء

وحطَّت هذه الحشراتُ على الأَجسام، وتغَلغَلَتْ في طيَّات اللحم

وفي لحظاتٍ تجرَّدَتِ الأَجسامُ وبرزَتْ هياكلُ العظم.”

وفي الدَّرَك الرابع والأَربعين يُتمِّمُ الهادي الحبيب وصفَهُ للمجذومين قائلاً:

“الجُذامُ ينتشرُ على أجساد الخطَأَة بطفوحه

فهم يدأَبونَ على الحكِّ أعوامًا عديدة

ويشعرونَ دهرًا بآلامٍ شديدة

وتتساقطُ من أجسادهم قشورٌ قاسية

وتتهرَّأُ قِمَّةُ الرأس فتُقشَطُ منه الناصية

ويتساقطُ الدودُ من الخطَأَة كلٌّ من يأفوخِه.

واكفهرَّ الجَوُّ واسودَّتِ السماءُ وأَظلَمَ الأُفُق!

وصعِدَتِ الأَبالسةُ الصفراءُ وبأَيديها مِسلاَّتٌ غليظة

وجمعوا الخَطَأَة وجعلوا يخيطونهم فيشفي كلٌّ منهم غيظَه

ودوَّتِ الصَّيحاتُ تترى والمِسلاَّتُ دائبة في عملها

فثُقِّبَتِ الأَجساد واختلَطَت دماؤها في قَيحها وعَمَلها

وكان الشياطينُ يخيطونهم معًا دون ما لينٍ أو رِفْق!...”

وفي الدَّرَك الحادي والعشرين يعرضُ وصفَ العذاب بالجليد قائلاً:

“الظُّلُماتُ تتدافَعُ مُتكاثفةً طبقاتٍ تتلوها طبقات

والثلجُ العنيف يتساقَطُ طوالَ أجيالٍ وقُرون

والبروقُ تومِضُ والرعودُ تقصفُ والرياحُ تعصفُ بجنون

فترتعدُ الأَرواحُ الهالعةُ وترتجفُ من هَولِ الصَّقيع

وتتهرَّأُ أَجسادُها من الزَّمهرير ويسود في عُروقها النَّجيع

ومن شدَّة البرد المُهلِك تراها بعضها على بعض مُطبِقات!”

ثمَّ تنفرجُ ثغراتٌ مُدلهمَّةٌ مُرعِبةٌ تحت أَقدام الآثِمين، فيتساقطونَ في أغوارها، وإذا بالصَّقيع الرهيب يُبَلورُ أعضاءَهم، وينثر أطرافَهم المُجلّدة; وبلَمحِ البصر ينبتُ في الأَعماق لكلٍّ منهم خازوق، ثم تُسَدَّدُ إليهم آلافُ السِّهام فتُثقِّبُهم بآلاف الخُروق! وبعدئذٍ تُؤمَرُ العواصفُ الثلجيَّةُ بأن توقِفَ دهريَّ هطوالِها، لتتأَجَّجَ مكانَها النيرانُ الجحيميَّةُ غامرةً إيَّاهم بأَهوالها![8]

وفي الدَّرَك السابع :

“...ترى رؤوسَ الخَطَأَة مقلوبةً إلى ظهورهم

وهم مسجونون في أقفاصٍ من النار طوال دهورهم!...”

“وفجأةً يقذفُ الأَبالسةُ بالأَقفاص إلى البراكين الثائرة

وتقذفُهم البراكينُ بدورها مع حُمَمِها في الفضاء

فتتمزَّقُ أَجسادُهم وتتعالى استغاثاتُهم إلى السماء

وللحالِ تعودُ إليهم أعضاؤهم ثمَّ تلتئمُ جميعُ جراحهم

ويعودُ البركانُ فيقذفُهم بجنونٍ فيعودونَ إلى كفاحهم

وكل ُّ روحٍ هناك جائرة تراها خائرة وفي أمرها حائرة.”

وإذا بالأَجساد تُطرَحُ في الآبار العميقة الأَغوار، وبالرؤوس تتفجَّر، والأَمخاخ تتناثَر، والدماء تتطايَر، وبالمناشير والسكاكين تعملُ طعنًا وتقطيعًا بالمُعذَّبين المساكين!...

أمَّا رجالُ الدين فيصفُهم رجلُ الروح والخوارق في الدَّرَك الثامن والأَربعين قائلاً:

“وهؤلاء طغمةٌ من رجال الدين أَصحابُ التدليس

المُتاجرون باسمه ومُهشِّموه كلَّ التهشيم

الذين يُلقِّنونه مثلما تشاء مطامعُهم لكلِّ غشيم

وكان الأَبالسةُ الغِلاظُ يتقاذفونهم بأرجلهم كأنَّهم كُرَة

ثمَّ يدفعون بهم إلى أعماق الجحيم وهم قُعودٌ على بَكَرة

كي يُكنِّسوا الجمرات المُتأجِّجة بلِحاهم المُدنَّسة أيَّ تدنيس!”

ثمَّ يُعنِّفُ ربُّ الجحيم طغمةَ المُخادعين المُنافقين، ويهتكُ أسرارَهم، ويفضحُ تدجيلَهم. وسرعانَ ما تنقضُّ السِّياطُ عليهم تُمزِّقُهم. فإذا بهم يلجأون إلى التدليس، كشأنهم في الأَرض، طالبين من الأَبالسة أن يمتطوا ظهورَهم. لكنَّ ربَّ الهاوية

“صاحَ بهم: “ويحَكُم أيُّها المُدلسون الكَفَرة!”

وللحال أمرَ فقيَّدوهم بسلاسلَ من النار في ألسنتهم

وكانت الصَّفَعاتُ تُكالُ لهم دون رحمةٍ في أَقفيَتهم

وفي غرفةٍ مُظلِمةٍ رهيبة علَّقوهم ورؤوسُهم مقلوبة تخفرُهم كِلاب

وعلى أجسادهم المُلطَّخة بأشنع الأقذار هبطت ملايينُ من الذُّباب

ودوَتِ الصَّيحاتُ قائلة: “تَبًّا لكم من سَحَرةٍ مَكَرة!”

وقد خصَّصَ مُؤَسِّسُ الداهشيَّة الدركَ التاسع والأَربعين والدرك الخمسين للخائن الخليليّ، يهوذا القرن العشرين، فكأنَّ في كل ٍّ من الدرَكَين سيَّالاً من سيَّالاته السُّفليَّة. وكان رجلُ الروح قد أسكَنَه تحت سقف منزله، وائتمَنَه على ماله، فأساءَ الأَمانةَ واختلَسَ عشرين ألف جُنَيه فلسطينيّ كان قد أودعَها الدكتور داهش البنك العربي في القُدس، الأَمر الذي اضطر سيِّدَه إلى طَرده ثمَّ التشهيرَ به، بعد أن استَفحَلَ أَمرُ افتراءاتِه وتجنِّياته وتدجيلاته.

أخيرًا، لا بُد من أن يُطرَحَ هذا السؤال: هل عذابُ الأَشرار أَبديّ؟

إستنادًا إلى الوَحي الروحيّ وإلى ما علمتُه من الهادي الحبيب تأَكَّدَ لي أنَّ العذابَ في الجحيم ليس أبديًّا مثلما يعتقدُ كثيرون من المسيحيِّين وغيُرهم من المؤمنين بوجود مقرٍّ للعذاب. فكما أنَّ الأَخيارَ تتفاوَتُ درجاتُ استحقاقهم بالنسبة لتفاوُت أعمالهم الصالحة ودرجات رُقيِّهم الروحيّ، فيذهبُ كل ٌّ من سيَّالاتهم إلى العالَم الفردوسيَ الذي تكونُ درجتُه مُساوية لدرجة السيَّال نفسِه، ويبقى في هذا العالَم مدَّةً مُعيَّنةً بالنسبة إلى النظام الإلهي ِّ المرسوم، ثمَّ ينتقلُ إلى عالَمٍ أرقى أو أسفل بحسب أعماله ورغباته وأفكاره - هكذا السيَّالاتُ الشرِّيرة يهبطُ كل ٌّ منها إلى العالَم السفليِّ الذي يستحقُّه، ويبقى فيه مدَّةً مُحدَّدةً من الزمن، فإذا تاب وحسَّنَ نفسَه فإنَّهُ يرتقي إلى مُستوًى أفضل، وإلاَّ فإنَّهُ يضعُ نفسَه مرَّةً أُخرى في جاذبيَّة عالَمٍ أسفل، فينجذب إليه، ويتجدَّد عذابُه بطريقةٍ أَقسى.

فالاعتقادُ أنَّ عذابَ الجحيم لا نهايةَ له غيرُ مبنيّ على أيِّ أساسٍ جَلِيّ يقينيّ من الوَحي الإِلهيّ القديم. أمَّا القولُ المنسوبُ إلى السيِّد المسيح: “فإنْ شكَّكتكَ يدُكَ فاقطَعها، فخيرٌ لكَ أن تدخُلَ الحياةَ وأنتَ أقطَع من أن يكونَ لكَ يدان وتذهب إلى جهنَّم، إلى نارٍ لا تُطفَأ، حيثُ لا يموتُ دودُهم ولا تُطفَأُ النار،”[9] فقد أوضحَ مُؤَسِّسُ الداهشيَّة لي أنَّ المقصودَ هنا هو العذابُ ووسائلُه لا مُدَّةَ التعذيب الخاصَّة بكلِّ شرِّير. فمقرُّ العذاب يبقى ما بقِيَ أشرارٌ يستحقُّونه. أمَّا “الخلودُ في النار” الذي تكرَّرَ ذكرُه في الآيات القرآنيَّة، فلا يعني البقاءَ الأَبديَّ في الجحيم، بل المكوثَ الطويل.”[10]

إنَّ عدالةَ اللـّه -عَزَّ وجَلَّ - تأبى عذابًا غير محدود الزمن. فما دامَ كلُّ سيَّالٍ روحيّ مسؤولاً عن أعماله، حيثُما ذهب، وما دامَ بإمكانه أن يتوبَ ويُحسِّنَ درجتَه الروحيَّة، فرحمةُ الله لا بُدَّ من أن تشمَلَه. وقد عبَّرَ الهادي الحبيب عن هذه الحقيقة بصورةٍ جليَّةٍ في قطعته “حُلُم شيطانيّ” حيثُ يقول أَحدُ الأَشرار المُعذَّبين في الجحيم مُبتهلاً إلى السماء:

“أنا أعترفُ بأَنَّني مُجرِم -قالها بضعف- وقد ارتكَبتُ كل فرية

ألا رحمةٌ من السماء تُنقذُني وتُبعد عنِّي الأَهوالَ بمُساعدةٍ سماويَّة

أنا نادمٌ على ماارتكَبتُه من معاصٍ، وأمَلي عظيمٌ بمَن كَوَّنَ البشريَّة”

وإذا بصوتٍ عميقٍ خشعَ له سُكَّانُ تلكَ الأَماكنِ الحِندِسيَّة

يقول: “لقد غُفِرَت ذنوبُكَ وعُفِيَ عنكَ، فاحمدْ خالقَ البَرِيَّة

وإيَّاكَ أن تُكرِّرَ ماضيكَ، فتخلُدَ بأهوالٍ لا نهائيَّة.”

وسجدَ الشيطانُ خاشعًا رافعًا شُكرَه لرَبِّ العوالم العُلويَّة.”[11]

والعذابُ المحدودُ بزَمنٍ مُعيَّنٍ -مهما طال- مرتبطٌ بالمفهوم الداهشيّ لمصير الكونِ كلِّه. فالقُوَّةُ الموجِدةُ لم تُبدِعِ الأَرواحَ القُدسيَّة التي هي امتداداتٌ للذَّات الإلهيَّة من أجلِ أن تخلدَ سيَّالاتُها المُنحرفة في عذابٍ لا أَملَ في الخروج منه، بل من أجلِ أن تتطهَّرَ تلكَ السيَّالاتُ بالآلام التي استحقَّتها تبعًا لأَعمالها ورغباتها الحرَّة، ثمَّ ترتقي تدريجيًّا لتعودَ إلى الفراديس، فإلى مصدرها الإلهيِّ الذي انبثقَت منه. وهذا يعني أن الكونَ المادِّيَّ ، بعد أن تمضي عليه بلايينُ أُخرى من السنين تكونُ فيها سيَّالاتُ الكائناتِ جميعها قد تنقَّت وارتقَت في معراج الفراديس لتندمجَ أخيرًا بالأَرواح القُدسيَّة التي هي أُمَّهاتُها - هذا الكون لا بُدَّ، في النهاية، من أن يضمحلَّ ليبقى الوجودُ للعوالِمِ الروحيَّةِ فقط، تلك العوالم السعيدة المَجيدة الخارجة عن قيود الزمان والمكان. وربَّما يكونُ ما يُسمِّيه العُلماء بـ”تمدُّد الكون” مُرتبطًا بهذا المصير.[12]

فأَينَ الأَرضُ من الكون، من عوالِمه العُلويَّة والسُّفليَّة؟ وأينَ نحنُ من الخليقةِ فيها؟

 


[1] هذا البحثُ في العوالم الجحيميَّة مُستقًى بمُعظمِه مِمَّا أدرَجتُه في كتابي “الدكتور داهش الأَديبُ المُعجز: مُقارَنةٌ بين كتابَين عملاقَين “جحيمُ الدكتور داهش” و “جحيمُ دانتي”.

[2] لم يُعثَر حتَّى الآن بين ما خلَّفَهُ مُؤَسِّسُ الداهشيَّة من مخطوطاتٍ إلاَّ على وصف الدركات الاثنتَين والخمسين من الجحيم. وكان الهادي الحبيب يعتزمُ جعلَ كتاب “الجحيم” في ثلاثة أجزاء، لكنْ يبدو أنَّ الجزءَ الأوَّلَ وحدَه هو المُتهيِّئ مع وصف دَرَكين (51 و 52) من الجزء الثاني.

[3] جحيمُ الدكتور داهش، مدخل الجحيم.

[4] المصدرُ السابقُ نفسُه.

[5] الدركُ المظلم الحادي والأَربعون.

[6] مثالُ ذلك الدَّرَك الثاني والثالث والثامن والثاني عشر والسابع والعشرون.

[7] الدرك المُظلم الخامس.

[8] الدرك المُظلم الخامس والثلاثون.

[9] مرقس 9 :42-43 .

[10] تفسيرُ الخلود بالمَكْث الطويل أخذَ به كثيرون من المُفسِّرين المُسلمين -وبينهم الراغب الأَصفهاني- وهو من أئمَّة السُّنَّة، في كتابه “مُفردات القرآن”.

[11] الدكتور داهش: أناشيد عابد (حدائقُ الآلهة)، ص 87-88 .

[12] في رأي العلماءِ أنَّ الكونَ يتمدَّدُ باستمرار، وأنَّ المجرَّات الأَقصى تندفعُ إلى أطراف الكون بسُرعةٍ أكبر من المجرَّات الأَقرب إلينا. وقد ظهرَ أنَّ سرعةَ الابتعاد عنَّا نسبيَّة للمسافة. أمَّا مُعدَّلُ سرعة الابتعاد فهو 1150 كلم في الثانية، لكنَّ هذه السرعة تصلُ، في حدِّها الأَقصى، إلى 20.000 كلم في الثانية في المجرَّات الأَنأى. انظر:

Encyclopedia Britannica, 1986, Vol. 13: “Analysis and Measurement: Expansion Velocities.”

Back to التعاليم الداهشيَّة بقلم الدكتور غازي براكس

Developed by Houssam Ballout        Copyright 2019 This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.nfo All Right Reseved This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.