أنا أؤمن بأنه توجـد عدالة سماويّة, وأن جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدنيا من مُنغصات انَّ هـو الاّ جـزاءٌ وفاق لِما أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور.ولهـذا يجب علينا أن نستقبلَ كلّ مـا يحـلّ بنـا من آلامِ الحياةِ ومآسيها غير مُتبرّمين ولا متذمّرين , بل قانعين بعدالةِ السماء ونُظمها السامية.

Highlighter
أحبُّ الكُتُبَ حبَّ السُكارى للخمر , لكنَّني كلَّما أزددتُ منها شرباً, زادتني صَحوا
ليس مّنْ يكتُبُ للهو كمَن يكتُبُ للحقيقة
الجمالُ والعفّــة فـردوسٌ سماويّ .
لا معنى لحياةِ ألأنسان اذا لم يقم بعملٍ انسانيٍّ جليل .
اعمل الخير , وأعضد المساكين , تحصل على السعادة .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقـوم بأعمالِ الخير نحـو ألأنسانيّة .
الموتُ يقظةٌ جميلة ينشُدها كل مَنْ صَفَتْ نفسه وطَهرت روحه , ويخافها كلّ من ثقُلت أفكاره وزادت أوزاره .
ان أجسامنا الماديّة ستمتدّ اليها يـد ألأقـدار فتحطِّمها , ثمّ تعمل فيها أنامل الدهـر فتتَّغير معالمها , وتجعلها مهزلةً مرذولة . أمّا ألأعمال الصالحة وألأتجاهات النبيلة السّامية , فهي هي التي يتنسَّم ملائكة اللّه عبيرها الخالد .
نأتي إلى هذا العالمِ باكين مُعولين، و نغادره باكين مُعولين! فواهً لك يا عالمَ البكاء والعويل!
جميعنا مُغترٌّ مخدوعٌ ببعضه البعض.
العدلُ كلمة خُرافية مُضحكة.
أمجادُ هذا العالم وهمٌ باطل، و لونٌ حائل، و ظلٌّ زائل.
لا باركَ الله في تلك الساعة التي فتحتُ فيها عينيّ فإذا بي في مكانٍ يطلقون عليه اسم العالم .
أنا غريبٌ في هذا العالم، و كم احنُّ إلى تلك الساعة التي اعود فيها إلى وطني الحقيقيّ.
الحياةُ سفينةٌ عظيمة رائعة تمخرُ في بحرٍ، ماؤه الآثام البشريَّة الطافحة، و امواجه شهواتهم البهيميَّة الطامحة، و شطآنه نهايتهم المؤلمة الصادعة.
كلّنا ذلك الذئبُ المُفترس , يردع غيره عن اتيانِ الموبقاتِ وهو زعيمها وحامل لوائها , المُقوّض لصروح الفضيلة , ورافع أساس بناءِ الرذيلة .
الحياةُ سلسلة اضطراباتٍ وأهوال , والمرءُ يتقلَّب في أعماقها , حتى يأتيه داعي الموت, فيذهب الى المجهولِ الرهيب , وهو يجهلُ موته , كما كان يجهلُ حياته .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقومَ بأعمالِ الخير نحو الانسانيّة .
المالُ ميزان الشرِّ في هذا العالم .
السعادةُ ليست في المال , ولكن في هدوءِ البال .
كلُّ شيءٍ عظيمٍ في النفسِ العظيمة , أمّا في النفسِ الحقيرة فكلُّ شيءٍ حقير .
الرُّوح نسمةٌ يُرسلها الخالق لخلائقه لأجل , ثم تعودُ اليه بعجل .
الرُّوح نفثةٌ الهيَّة تحتلُّ الخلائق , وكل منها للعودة الى خالقها تائق .
الرُّوح سرٌّ الهيٌّ موصَدْ لا يعرفه الاّ خالق الأرواح بارادته , فمنه أتتْ واليه تعود .
أنا أؤمن بأنه توجـد عدالةٌ سماويّة , وأنَّ جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدُّنيا من مُنغِّصاتٍ وأكدارٍ انَّ هـو الاَّ جـزاء وفاق لمِا أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور . ولهـذا يجب علينا أن نستقبل كلَّ مـا يحـلُّ بنـا من آلام الحياة ومآسيها غير م
الحرّيةُ منحة من السماءِ لأبناءِ ألأرض .
الموتُ ملاكُ رحمةٍ سماويّ يعطف على البشر المُتألّمين , وبلمسةٍ سحريّة من أنامله اللطيفة يُنيلهم الهناء العلويّ .
ما أنقى من يتغلّب على ميولِ جسده الوضيع الفاني , ويتبع ما تُريده الرُّوح النقيّة .
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
الراحة التامّة مفقودة في هذا العالم , وكيفما بحثت عنها فأنت عائدٌ منها بصفقةِ الخاسر المَغبون .
ليس أللّــه مع الظالم بل مع الحقّ.
ان الصديق الحقيقي لا وجود له في هذا العالم الكاذب.
ما أكثر القائلين بالعطف على البائسين وغوث الملهوفين والحنو على القانطين , وما أقلَّ تنفيذهم القول.
يظنُّ بعض ألأنذال ألأدنياء أنّهم يُبيّضون صحائفهم بتسويدِ صحائف الأبرياء , غير عالمين بأنَّ الدوائر ستدور عليهم وتُشهّرهم.
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السَّلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
رهبة المجهول شقاء للبشرِ الجاهلين للأسرارِ الروحيَّة , وسعادة للذين تكشّفت لهم الحقائق السماويَّة .
الموتُ نهاية كل حيّ , ولكنه فترة انتقال : امّا الى نعيم , وامّا الى جحيم .
الحياةُ خير معلِّمٍ ومُؤدِّب , وخيرَ واقٍ للمرءِ من الأنزلاقِ الى مهاوي الحضيض .
حين تشكُّ بأقربِ المُقرَّبين اليك تبدأ في فهمِ حقائق هذا الكون .
مَنْ يكون ذلك القدّيس الذي لم تخطرُ المرأة في باله ؟ لو وجدَ هذا لشبَّهته بالآلهة .
المرأة هي إله هذه الأرض الواسع السُّلطان. و هي تحملُ بيدها سيفاً قاطعاً لو حاولَ رجالُ الأرض قاطبةً انتزاعه منها لباؤوا بالفشلِ و الخذلان .

 

السَّـبَـبِـيَّـةُ الروحيَّـة
     والعَـدالَـةُ الإلهـيَّـة

بقلم الدكتور غازي براكس

السببيَّةُ الروحيَّة

على الصعيد المادِّيِّ، ما من حادثٍ إلاَّ لهُ سببٌ يُولِّدُه. ومِثلُ هذه العلاقة السببيَّة يُدركُها الناسُ إذا كانت خاضعةً لحواسِّهم ومراقبتهم. فإنَّنا نُبعدُ أيدينا عن النار، لأنَّنا نعرفُ أنَّها تُحرقُها، ولا نقفزُ إلى أرضٍ صلبةٍ من عُلوٍّ شاهق، لإدراكنا بأنَّنا سنتحطَّم، ولا نأكلُ طعامًا وسِخًا لمعرفتنا أنَّ الجراثيمَ تنتقلُ إلينا. لكنَّ الدكتور داهش بعِلمِه المُلهَم الخارق يُعلِّمُنا أنَّ وراء السببيَّة المادِّيـَّةَ سبَبيَّةٌ روحيَّة؛ ذلك بأنَّ الجوهرَ الروحيَّ كائنٌ في مظاهر الوجود كلّها، كائناتٍ حيَّةً كانت أم غير حيَّة. فالسيَّالاتُ الروحيَّةُ هي نسيجُ الكون وقِوامُ موجوداته كلّها، وهي في الإنسان مصدرُ حياته كما مصدرُ أفكاره ورغباته ومواهبه واستعداداته. وبما أنَّها حُرَّة في اختيارها، فيجبُ أن تتحمَّلَ مسؤوليَّةَ ما تختارُه خيرًا كان أم شرًّا.

غير أنَّ الإنسانَ ليس بمستطاعه أن يُدركَ العلاقةَ السببيَّة الروحيَّة بين الأحداث في حياته، إلاَّ أنَّ عدمَ إدراكه لها لا يعني أنَّها غير موجودة. وفي "قصص غريبة وأساطير عجيبة" يروي الدكتور داهش أحداثًا لا يُمكنُ أن تُفسَّرَ بدون سببيَّة روحيَّة، ذلك بأنَّ قانون "ما يزرعه الإنسانُ يحصدُه" يُطبَّقُ على الصعيد الروحيِّ كما على الصعيد الماديّ.

يشرح مؤسِّسُ الداهشيَّة هذا القانون الروحيَّ الشامل في "حُلُم رهيب" ("قِصص غريبة وأساطير عجيبة، ج3، ص 79-80) بقوله:
"واقتادَتْني إلى جبل المعرفة، ومن قمَّته كنتُ أُشاهدُ سيَّالاتي الموجودة بعوالم عديدة، منها عوالمُ لا بأسَ بها، ومنها عوالمُ تعيسة. وبِعَين العجَب العظيم كنتُ أُشاهدُ سيَّالاتي الموجودة بعوالم منحدرة الدركات وهي تُرسِلُ إشعاعاتها لسيَّالاتي الأخرى الكائنة في عوالم رفيعة، حاضَّةً إيَّاها على ارتكاب الممنوعات والمحرَّمات بُغيةَ إسقاطها وسَحْبها إلى الدركات المنحدرة بالأغوار السحيقة حيثُ تقبعُ سيَّالاتي.

ففهمتُ، إذْ ذاك، أنَّ ما يُساورنا من رغباتٍ لارتكاب المحرَّمات هو منَّا وفينا، أي إنَّ سيَّالَنا الموجودَ بِدَرَكٍ سحيقٍ هو الذي يعملُ جاهدًا ليدعَنا نسقط، فإمَّا أن يفشل أو يُكتَب له الفوز. إذًا لا يستطيعُ أيُّ سيَّال خارجيّ أن يدَعَنا نسقط، فهذا الأمر ممنوع منعًا باتًّا. وإذا سقَطنا، فيكونُ سقوطُنا من سيَّالنا الذي نحنُ أوصَلناهُ إلى دركٍ سُفليّ، فأصبح يرغبُ بالانتقام منَّا، وجَعْلِنا ننقاد لإيحائه بواسطة الاشعاع الذي يُرسلُه لكي يوقعَنا بشباكه، وهنا الطامَّةُ الكبرى.

إذًا رُقيُّنا أو انحدارُنا يكونُ بنسبة مقاومتنا وجهادنا أو خضوعنا واستسلامنا لوَسوَسات سيَّالنا السُّفليّ. فإذا انصَعْنا لرغبته فنفَّذنا أوامره وارتكَبْنا الممنوعات، فإذْ ذاك لا بُدَّ من أن نسقطَ وننحدرَ لدركه، وإذا لم ننصَعْ لأوامره ونواهيه نرفع سيَّالنا ونوصلُه إلى ملإٍ عُلويّ. وهذه هي العدالة الإلهيَّة، إذْ يُجازى كلٌّ منَّا بحَسَب عمله، أو بالأحرى نحن الذين نُجازي أنفسَنا فنوصلُ سيَّالاتنا إلى درجةٍ عُلويَّةٍ أو دركةٍ سفليَّة، وما ربُّكَ بظالمٍ لخلائقه، إنَّما لأنفسهم يظلمون."

وتبيانًا لتأثير أعمال الإنسان ونزعاته في أحداث حياته ومصيره، سأعرضُ نماذجَ من الوقائع التي تنطوي عليها "قِصَص غريبة وأساطير عجيبة" مُتناولاً إيَّاها تِبْعًا لثلاثة محاور: الجَشَع والزِّنى والظلم.

الجَشَعُ والعدالةُ الروحيَّة

في "أرهب قصَّة وأرعب مصير" ("قصص غريبة وأساطير عجيبة"، ج1، ص 65-69) يختطفُ رجلٌ وزوجتَهُ طفلاً في الرابعة من عمره، اسمُه جيمي، طَمَعًا بفِدْيةٍ يبتزَّانها من والده، ثمَّ يعدلان عن المطالبة بها خوفًا من سوء العاقبة ويحتفظان بالولد. وعندما يبلغُ المخطوفُ الرابعة والعشرين من عمره، يكتشفُ وهو يُطالعُ صُحُفًا قديمةً أنَّه الطفلُ المخطوف نفسه، وقد غيَّر خاطفاهُ (أبواه المزعومان) اسمَه إلى إدموند. وأحداثُ القصَّة تُظهرُ أنَّ والدَي الطفل الحقيقيَّين جشِعان أيضًا، وجشعهُما لا يقلُّ عن جشَع الخاطفين. فما يكونُ مصيرهم جميعًا في ميزان العدالة الإلهيَّة؟

بما أنَّ سيَّالَ الإنسان نفسه يكون سبـبًا لعقابه إذا كان رديئًا، أو سـببًا لثوابه إذا كان صالحًا، وبما أنَّ الجشعَ الذي يدفعُ الإنسان إلى الإثراء على حساب آلام الناس لا شكَّ بأنَّه سيَّالٌ رديء، إذْ إنَّه نزعةٌ شرِّيرةٌ يتلذَّذُ صاحبُها بقَهر الناس وإشقائهم، وذلك بابتزازهم أو تسخيرهم واستثمارهم، لذا فالعدالةُ الإلهيَّةُ لا بُدَّ من أن تقتصَّ من الجَشِعين. وهكذا يُقتَلُ خاطفُ الطفل صدمًا بسيَّارة، وتُصابُ زوجتُه بميتةٍ فُجائيَّةٍ وهي تروي لإدموند تفاصيلَ جريمة خطفه، بعد أن يكتشفَ أنَّ مَن نشأَ عندهما ليسا أبوَيه. أمَّا الوالدُ الحقيقيُّ الذي يُصبحُ في سِياق السنين صاحبَ فندقٍ مرموق، فإنَّ جشعَه يدفعُه إلى ذَبْح وحيده -من غير أن يعرفَه- عند نزوله في الفندق، وذلك طمعًا بحِلاه كما بحقيبته التي يظنُّ أنَّها ملأى بالمال. لكنَّه بعد أن يكتشفَ هو وزوجتُه وابنتُه هُويَّةَ القتيل من وَشْمٍ في يده، يُجَنُّ ويقتل امرأتَه وابنتَه ثمَّ يطعنُ نفسَه.

والمالُ الحرامُ يبقى حرامًا كيفما كان مصدرُه؛ وسواءٌ كان ربْحًا غير مشروع أم سرقةً أم طمَعًا، فصاحبُه لا يعرفُ الساعةَ التي يفقدُه فيها فضلاً عن الشقاء الذي يُعانيه. ففي قصَّة "جامع المال يتركُه لسواه" (ج1، ص 185-188) يُصوِّرُ الدكتور داهش لصًّا مُحترفًا للسرقة، يدخلُ السجنَ في عُمر العشرين، وبعد أن يُمضي فيه 45 عامًا توزَّعَت على 15 دروة قاسى فيها العذابَ والشقاء، يقضي بنوبةٍ قلبيَّةٍ مُخلِّفًا الثروة الكبيرة الحرام التي جمعها وخبَّأها لِمَن سيُتيحُ له حظُّه اكتشافَ مخبئها السرّيّ.

وفي "تزوَّجَت ميتًا" ("قصص غريبة وأساطير عجيبة"، ج2، ص 94-99) يروي الدكتور داهش قصَّةَ فتاةٍ جميلةٍ استعبَدَها المال، فتزوَّجَت رجلاً ثريًّا لكنَّه بالغُ النحول والقباحة. ولم تستطع أن تشعرَ نحوه بأيَّة عاطفةٍ صادقة، فعاطفتُها كانت متَّجهةً نحو ثروته ومجوهراته، وأُمنيتُها كانت أن يؤدِّي نحولُه إلى موته سريعًا، ليُتاحَ لها أن تتزوَّجَ شابًّا بوسعها أن تُحبَّه. لكنَّ سيَّالَ طمعها اللئيم عاقبَها، فما لبثَت أن أدركَت أنَّها تزوَّجَت، في الواقع، هيكلاً عظميًّا سمحَت العدالةُ الإلهيَّةُ بأن تعودَ الحياةُ إليه، بمعجزةٍ روحيَّة، ليُعاقب مَن استَعبدَها المال؛ فإذا بها تفقدُ حياتها رُعبًا، بعد أن تبعَتهُ إلى المقبرة ظنًّا منها أنَّه اختارها مقرًّا يُمارسُ فيه الغرام مع عشيقةٍ له، فرأتهُ وقد تمدَّدَ في قبره، وسرعان ما توارى جلدُه، ولم يبقَ منه إلاَّ هيكلُه المُروِّع.

وقد يكونُ المالُ الذي حظِيَ به إنسانٌ ما حلالاً له؛ لكنَّ المالَ يُصبحُ ضررُه أكبر من نفعه في يَد اللئيم أو البخيل. ففي قصَّة "نعنوع ومنعنع" (ج1، ص 182-184) نرى إيدن عاملاً كادحًا في ترميم الجدران القديمة، مُتقلِّبًا في شظف العيش. وإذا بالحظِّ يبتسمُ له فيربح جائزة يانصيب قدرُها مئة ألف جُنيه إسترلينيّ مع قصرٍ باذخ. وهكذا ينقلبُ الفقيرُ فجأةً ثَريًّا كبيرًا، فيُحيط نفسَه بالخدم والحشم. لكن هل كانت الثروةُ الطارئة سَعْدًا أم نَحْسًا له؟ فإذا تغيَّرَت أوضاعُ الإنسان الاجتماعيَّة، فهل تتغيَّر معها نفسُه؟ في الواقع الغالب، لا. فمَن كان اللؤمُ طبعَه، فلن يُغيِّرَه الإثراءُ السريع، بل قد يزيدُه لؤمًا. وهذا ما حدثَ للغنيِّ الجديد؛ فقد صعَّرَ خدَّه لزملائه العمَّال إذْ قدموا لتهنئته، واستكبر عليهم مُلفِّقًا عُذرًا مُضحكًا لعدم استقباله إيَّاهم، وناسيًا زمالته لهم سنين كثيرة؛ فجُنَّ جنونُ العمَّال، ونسفوا له قصرَه، فتردَّمَ عليه. أمَّا حكمُ القاضي عليهم بالسَّجن فكان مُخفَّضًا.

وفي "ملياردير يموتُ جوعًا" (ج1، ص 189-191) تُروى قصَّةُ عامل فقير عثرَ وهو يحرثُ أرضَ سيِّده على كنزٍ ذهبيٍّ عظيم، سرعانَ ما نقلَه إلى غرفةٍ استأجرَها شهريًّا وطمرَه في أرضها. لكن هل سيُتاحُ لهذا الفقير أن ينعمَ بالثروة العظيمة؟ لقد كان هذا الفقير بخيلاً مُقتِّرًا يلتقطُ "أعقاب السجائر من الطرقات، فيفرفطها ثمَّ يعود فيلفُّها سجائر ويُدخِّنها بفخر..." وسيَّالُ البخل هذا لم تتغيَّر طبيعتُه بعد أن اغتنى، بل إنَّه كان "يجوعُ لشدَّة بخله الفظيع؛ وعندما ينام كان يبسطُ فراشه فوق كنزه الذهبيّ ثمَّ يغفو فوقه." إذًا إنَّ سيَّال بخله سيمنعُه من الاستفادة حتّى الماديَّة من الكنز، فالسيَّالُ يُعاقبُ صاحبَه تبعًا لنظام العدالة الإلهيَّة. وهكذا بعد مرور شهرَين على استئجاره الغرفة، طالبَه صاحبُها بإخلائها بحجَّة أنَّه باعها، وأنَّ مالكها الجديد يُريدُ أن يُقيمَ فيها. وإذْ رفضَ إخلاءها، أصدر قاضي الأمور المُستعجَلة أمرًا بإخلائها، فحضر رجالُ الشرطة إلى الغرفة، فشاهدوا المستأجر المحكوم عليه بالإخلاء يحفر أرضها، فتابعوا الحفرَ حتّى اكتشفوا الكنزَ النادر، فاستولت السلطاتُ عليه. أمَّا الملياردير البخيل فقد قضَت عليه نوبةٌ قلبيَّة.

العَدالةُ الروحيَّة والعلاقاتُ الجنسيَّة غير المشروعة

ومحورُ القصص الثاني الذي يقعُ تحت طائلة الجزاء الإلهيّ هو الزِّنى، أي الفجور في العلاقة الجنسيَّة، سواء كان ذلك في عمل اغتصاب أم في خيانة زوجيَّة أم في تدنيس رجل الدين لمهمَّته الروحيَّة بإنشاء علاقاتٍ جنسيَّةٍ غير زوجيَّة.

ففي "حبّ نيرانُه مُبيدة" (ج1، ص 70-77) يُضطَرُّ ميرادوف إلى الهروب مع حبيبته كاتيوشا للاقتران بها سرًّا بسبب الفارق الاجتماعيِّ الكبير بين أُسرته الفقيرة وأُسرتها الغنيَّة العريقة، فيستنجد بصديقه مكاروف، لكنَّ هذا الأخير يدفعُه الحسدُ إلى قتل صديقه الذي التجأَ إلى منزله المُنعزل، وإلى اغتصاب كاتيوشا ثمّ قتلها خنقًا خوفًا من إفشاء أمره. وقد ساعدَته شقيقتُه الشرِّيرة ألكسندرا في اقتراف جريمته.

لكن كيف سينالُ المجرمان جزاءَهما الإلهيّ؟ يقولُ مؤسِّسُ الداهشيَّة: "واضطربَ الشيطانُ مكاروف، واحتلَّهُ خوفٌ جارف، فخرجَ إلى الحديقة تُساعدُه شقيقتُه ألكسندرا الفاسقة. فحفَرا حُفرةً أَلحَدا فيها ربَّةَ الطهر، كاتيوشا، ذات الثمانية عشر ربيعًا. إنَّها في عُمر الزهرة النديَّة.

"ولكنَّ عينَ اللّه المُراقبة كانت لهذَين المُجرمَين بالمرصاد، فالمكانُ الذي حفرا فيه الحفرةَ لضحيَّة الغدر كان مَكمَنًا للعقارب؛ فلسعَت هذه العقارب المجرمَين لسعاتٍ مُميتة أوردَتهما مواردَ التَّهلكة..."

تُرى، هل هي الصدفةُ التي جعلَت ذلك المكان مكمَنًا للعقارب؟ لا، فمؤَسِّسُ الداهشيِّة يؤَكِّدُ أن لا صُدفةَ في الحياة، بل كلُّ أحداثها تجري وفقَ ترتيبٍ روحيٍّ من أجل تنفيذ العدالة الإلهيَّة. وسنرى لاحقًا أنَّ العقابَ الإلهيَّ للمُجرمَين لن يقفَ عند هذا الحدّ، بل سيطالهما أيضًا في حياةٍ أخرى.

وفي "بطولة القطَّة السوداء" (ج1، ص 113-115) يخدع مُحتال امرأةً وحيدةً، في ليلةٍ عاصفةٍ راعدة، إذْ تفتَح له بابَها بدافعٍ إنسانيّ بعد أن سمعَتْه يطرقُه مُستغيثًا. لكنَّ الشرِّيرَ يطرحها على السرير مُحاولاً اغتصابَها. لكن هل ينجح في الاعتداء على ضحيَّته النبيلة الأخلاق؟

بترتيبٍ إلهيٍّ يسقطُ السرير، إذْ كان قديمًا لا يحتملُ شخصَين فوقه، فيُمزِّقُ بطنَ قِطَّة كانت تحته، لكنَّها تتخلَّصُ منه وتُمزِّقُ حنجرةَ المجرم بأسنانها القاطعة، فيُصابُ بسكتةٍ قلبيَّةٍ من جرَّاء "الخوف المفاجئ الهائل والألم المُدمَّى."

وفي قصَّة "ظَهَر الشيطانُ الرجيم" (ج1، ص 202-208) يقرأُ ثَرِيٌّ عاشقٌ للفنون في الصحف مديحًا للفنَّان الدانمركيّ وُوترمان، فيستَدعيه ويبتاع منه بضعَ لوحات. لكنَّه سرعانِ ما يكتشفُ، بعد انصراف الفنَّان، أنَّه الشيطان الرجيم نفسُه وقد تجسَّد، وذلك من رسالةٍ تظهر تلقائيًّا تحت صورة الفنَّان المزعوم الشخصيَّة، وفيها يقول للثريّ:

‘لقد اعتَدَيتَ، عندما كنتَ شابًّا، على فتاةٍ عذراء، ولم ترحم دموعها وهي تسترحمُك. فسُمِحَ لي، الآن، أن أعتدي على ابنتِكَ وأستولي على مالك.

"أمَّا اللوحاتُ الثلاث التي ابتَعتَها منّي، واللوحة التي ظهرت فيها صورةُ ابنتك، ففي اليوم السادس ستجدُ هذه اللوحات وقد أصبحت خالية خاوية.’

"وفقدَ الأبُ عقلَه مثلما فقدَت العذراءُ عقلَها بعدما اعتُدِيَ على عفافها، وكانت لا تزالُ تُعالَجُ بمستشفى المجاذيب. وقد أُدخِلَ والدُها إلى مستشفاها لتبقى جريمتُه ماثلةً نُصْبَ عينَيه.

"أمَّا ابنتُها ماركريت فقد ولدَتْ طفلاً غريب المنظر، قَسَماتُ وجهه بالغة القساوة. كما ظهر بقمَّة رأسه نتوءان بارزان. وكان صوتُه عندما يبكي كدويِّ الرعد.

"وبعد أسبوع من وَضْعه، تجلَّى والدُه واختطفَه حاملاً إيَّاه على منكَبَيه.

"وقد شُدِهَت ماركريت عندما تجلَّى أمامها واختطفَ ولدَه وولدَها من بين ذراعَيها.

"أمَّا لماذا أُصيبَت ماركريت بهذه النَّكبة الكبرى، لها قصَّة تُظهرُ الأسبابَ والمُسبِّبات لذلك. وعندما تُقرَأ يعرفُ القارئُ أنَّ عدالةَ السماء لا تُماثلُها عدالة، فالجزاءُ لكلِّ مخلوقٍ هو من نفس العمل الذي قام به. وما ربُّكَ بظالمٍ لخَلْقه، إنَّما كانوا لأنفسهم ظالمين."

وفي "حديثٍ بين أُفعوانتَين" (ج1، ص 197-200) يتجلَّى الجزاءُ الإلهيُّ للخيانة الزوجيَّة. فعاتكة طمعَت بمال محمود، فتظاهرَت له بالحبّ، فخطبَها. لكنَّها كانت مُصمِّمة على قَتْله بالسمّ، بعد زواجه بها، لينتقلَ ماله إليها وإلى عشيقها مصطفى. ويبدو أنَّ خطيبَها كان بسيطَ القلب. لكن هل تدعُ العنايةُ الإلهيَّةُ المرأةُ الشرِّيرةُ تُنفَّذُ خُطَّتَها.

بينما كانت عاتكة تجمعُ باقةً من الورود، انسلَّت حيَّتان بين سيقان الرياحين المُلتفَّة، فلدغَت إحداهما عاتكة بقدَمها. وكان أن لاقَت حتفَها. أليست الخيانةُ والغدرُ نوعًا من اللدغ السامّ؟ هكذا نالَت الخائنةُ الغادرة جزاءَها، وهو من نوع عملها.

وجزاءُ المرأة على خيانتها نراه أيضًا في قصَّة " المرأةُ دينُها الحبّ من المهد إلى اللحد" (ج2، ص 100-106). فقد تعرَّفَت فتاةٌ فقيرةٌ إلى ماكمِلان الثَّرِيّ الذي كان والدها يعملُ بُستانيًّا لديه. فمال قلبُها إليه. وشاءتِ الأَقدارُ أن يهواها، فتزوَّجها، رغم الفروق الاجتماعيَّة الكبيرة بينهما، وأغرقَها بالمجوهرات والثياب النفيسة، واستَصحَبَها في سفراته، وسوَّدَها على قصره. لكنَّ صديق ماكمِلان حذَّره منها. فاصطنع ماكمِلان سفرةً وهميَّةً أُشيعَ على أثرها أنَّه قُتِلَ في حادثة تحطُّم قطار. وما إن مضى على نبإ وفاته أسبوعان حتَّى استَدرجَت زوجتُه، كَسَندرا، صديقًا له أتاها زائرًا مُعزِّيًا، ورضِيَت بأن تُمارسَ الحُبَّ معه على ضريح زوجها. وما إن فتحَت بابَ الضريح وولَجَتهُ حتّى رأت زوجَها مُنتصبًا فيه، فسقطَت لرُعبها جثَّةً هامدة. وهكذا قدمَت إلى قبره لتدنيسه، فأُلحِدَت فيه.

وفي قصَّة "حديث بين حمار وجحشة" (ج3، ص 93-99)، بينما كان المطران أنسْوِل يزني مع زوجة اللورد استامفورت في الإصطبل، أطلقَ أحَدُ الحمير نهيقَه المتواصل استنكارًا، فذُعِرَ الزانيان وحاولا تهدئتَه خوفًا من افتضاحهما، لكنَّ الحمارَ الشريفَ عضَّ بقوَّةٍ يدَ المطران عندما حاول أن يُربَّتَ على عنقه لتهدئته، فقضمَ إصبعَين من يُمناه. وكان أن تُوُفَّيَ المطرانُ مسمومًا في أثناء عمليَّة جراحيَّة له، وطلَّق اللورد زوجتَه الزانية على أثر الفضيحة. ولم يكن عقابُ المطران مقصورًا على قَصْفِ عمره، بل يُصوِّرُه مؤسِّسُ الداهشيَّة وقد زُجَّ به في دَرَكٍ جهنَّميّ والشيطانُ يقرعُ ظهره بسوطه. وانظر إلى خاتمة هذه القصَّة إذْ يدنو الحمارُ من الجحشة ويحكّ رأسَه برأسها استلطافًا، ويقول لها: "أيَّتها الحبيبة، لِنَرْفَعْ صلاتنا لخالقنا ونُقدِّمَ له شكرنا العميق لأنَّه خلَقَنا حميرًا ولم يخلقْنا بشَرًا، فالبشرُ كلمةٌ مشتقَّةٌ من الشرّ، والعِياذُ باللّه."

 

الظلمُ والعدالةُ الروحيَّة

الظلمُ هو المحورُ القَصَصيُّ الثالث في "قصص غريبة وأساطير عجيبة". ونراهُ يُشكِّلُ طبقةً تحتيَّة في كثيرٍ من القِصَص التي يبرزُ فيها الجشَعُ أو الزنى؛ فهو مُرافقٌ لكلَّ أذىً لا تبريرَ له. لكنَّني سأقِفُ عند ثلاث قِصصٍ تُسبِّبُ أحداثُ الظلم فيها عواقبَ رهيبة للظالمين.

ففي قصَّة "تزوَّجَت عشرةَ رجال" (ج1، ص 175-178) نُواجهُ فتاةً في غاية الجمال فُتِنَ بها شُبَّانُ قبيلة شُمَّر العربيَّة، فاستعرَ التنافسُ عليها بينهم حتَّى قُتِلَ العشراتُ منهم بسبب جمالها الآسر. فقَلِقَ مشايخُ القبيلة، وتباحثوا في الأمر، ثمَّ اتَّفقوا على قَتْلها تخلُّصًا من خطر جمالها الخارق على المصلحة العامَّة. لكنَّ عشرةً من شُبَّان القبيلة مِمَّن لذَعَتهم نارُ غرامها اتَّفقوا على خطفها من السجن وإكراهها على تعاطي الهوى معهم، ونفَّذوا خُطَّتَهم.

لكن ماذا ستكونُ عاقبةُ هذا الظلم المزدَوِج؟

إنَّ قرارَ مشايخ القبيلة بقَتْل فتاةٍ بريئةٍ لا ذَنْبَ لها إلاَّ أنَّها خارقة الجمال هو ظلمٌ صارخٌ تتحمَّلُ القبيلةُ وِزْرَه بسبب موافقتها الجماعيَّة عليه. إذًا تقضي العدالةُ الروحيَّةُ بإنزال عقابٍ صارمٍ في القبيلةِ كلِّها. وهكذا دُفِعَ الشبَّانُ العشرة إلىتسميم البئر التي تستقي منها القبيلة، فماتَ جميعُ أفرادها إلاَّ الفتاة، دَعْد، والعشرة.

لكنَّ الشبَّانَ الخاطفين أنفسهم أوقعوا في دَعْد ظلمًا لا يقلُّ عن ظلم المشايخ لها، بإرغامها على تعاطي الغرام معهم. إذًا مُجازاتُهم الإلهيَّة واجبة. لكن كيف يتمُّ العقاب؟

فكَّرَت دَعْد في أن تتخلَّصَ منهم بوَضعها في القهوة التي سيتناولونها سُمًّا ناقعًا كانت قد خبَّأَتْهُ بصدرها، وصمَّمَت على قتل نفسها قُبَيل إعدامها. وهكذا قضَوا جميعًا نحبَهم. وعندما عرفَت دعد، عند عودتها إلى ديار القبيلة، بأنَّ ذويها قد هلكوا مع أفراد القبيلة جميعهم، تناولَت بقيَّةَ السمِّ الذي احتفظَت به في قارورة صغيرة، فكان مصيرُها مصيرهم.

إنَّ هذه السبَـبيَّة المتوالية حلقاتُها لا تعني تبريرَ إنزال الأذى بالآخَرين إشباعًا لهوًى أَو مطمع أَو حتَّى انتقامًا لضررٍ واقع. فالمشيئةُ الإلهيَّة كان بإمكانها أن تُعافبَ الظالمين من كلِّ فئة بطرقٍ أُخرى، لكنَّ مُؤسِّسَ الداهشيَّة أراد أن يُظهِرَ من خلال قصَّته المُلهَمة أنَّ ظُلمًا مُرتكَبًا بحقِّ شخصٍ واحد قد تكون له عواقب وخيمة تُصيبُ شعبًا بأسره.

وفي قصَّة "ظُلمُ قبيلة المرَدة" (ج1، ص 62-64) تُطالعُنا قبيلةٌ من القبائل البائدة وقد حكمَت شعوبًا بالبطش والظلم، حتَّى إنَّها حرَّمَت على الناس تناوُلَ الفواكه أو جَنْيَ الأزهار. فالزهورُ وَقْفٌ على المَرَدة، وأشجارُ الفاكهة واجبٌ على أصحابها أن يجمعوا جناها ويحملوه إلى أحد المسؤولين ليُوزَّع على أفراد قبيلة المَرَدة.

وتوالَت أحكامُ الإعدام على المُخالفين، وكان بينهم ناهالي، ابنة الثريّ مادي وعريسها، حتَّى ضجَّت الشعوبُ المحكومةُ المظلومة، ورفعوا تضرُّعاتهم إلى الخالق ليرفعَ عنهم هذا الجورَ العظيم. واستجابَ اللّهُ لدعائهم.

واستجابةُ اللّه كانت بشَكل معجزةٍ إلهيَّة، إذ استيقظَ الناسُ ذاتَ يومٍ على دويٍّ هائل، فهرعَ المَرَدةُ حاملين أسلحتهم، وأخذوا يدورون في حلقةٍ مُفرَغة ظانِّين أنَّ عدوًّا ما سيُهاجمهم.

وفجأةً، وأمام نظر الألوف الهالعة، جعلَ هؤلاء المَرَدة يتقلَّصون شيئًا فشيئًا حتَّى أصبح كلٌّ منهم بحجم ذُبابة كبيرة، وكان يصدرُ منهم طنينٌ تسمعُه الآذان المرهَفة!

"وسُمِعَ صوتٌ جبَروتيّ ملأَ الآفاق، قائلاً لهم:

‘لقد أحَلْتُكم إلى نحل، وأذنتُ لكم أن تطوفوا الحقولَ والجبال والسهول تبحثون عن مختلف أنواع الأزهار لتجنوا منها عسَلاً وشهدًا يكون طعامًا لمَن ظُلِمَ ممَّن كانوا تحت نيركم.’

"ومنذُ تلك الدقيقة خُلِقَت النحلةُ التي لم تكن معروفة في عالَم الأرض.

"وكلُّ مَن كان يحملُ منهم سلاحًا تحوَّلَ سلاحُه إلى الحُمَة التي يلسعُ بها.

"ومنذُ تلك الهُنيهة ابتدأَتْ جماعاتُ النحل تجوبُ الغابات والفيافي بحثًا عن الأزهار لتجنيَ منها عسَلاً شهيًّا.

"أمَّا ناهالي، فبعد أن توُفِّيَت، جُعِلَت مليكةَ النحل يلتفُّون حولها ليحموها بأرواحهم ويُقدّموا لها الغذاءَ الملَكيّ، وهي أكبرهم جسمًا وأطولُهم عمرًا."

أمَّا القصَّةُ الثالثة فهي "حديث بين هواء أمريكا وهواء بيروت" (ج3، ص 27-49) نعلمُ منه أنَّ هواء أمريكا، بعد أن انطلَقَت جحافلُه إلى لبنان مُستطلعةً أسرار الحرب اللبنانيَّة، يُطلعُه هواءُ لبنان - وهو سيَّالٌ عاقلٌ مثل هواء أمريكا - على الأسباب الحقيقيَّة التي فجَّرَت الحرب الضروس، فإذا هي أسبابٌ روحيَّة تكمن وراء الأسباب السياسيَّة والاجتماعيَّة، وقلَّما يفطنُ لها الناسُ، وإذا هي مماثلة للأسباب التي دمَّرَت أورشليم، منذُ ألفَي سنة، وشرَّدَت الشعب اليهوديَّ في أقطار الدنيا - أي اضطهاد الحكومة لمُرسَلٍ سماويّ، وتأييد الشعب للاضطهاد الظالم أو سكوته عنه. فبشاره الخوري (1943 - 1952) قبضَ على مؤسِّس الداهشيَّة البريء مثلما كان هيرودس قد قبضَ على السيِّد المسيح، فسجنَه وعذَّبَه دونما مُحاكمة، وجرَّده من جنسيَّته اللبنانيَّة ظلمًا واعتسافًا، وأقصاهُ عن لبنان ليُلاقيَ حتفَه على الحدود التركيَّة. لكنَّ الله القديرَ أنقذَهُ وأعادَ إليه جنسيَّته بعد خلع الرئيس الطاغية. وكان أنَّ الشعبَ الذي شاركَ حُكَّامَه في هذه المؤامرة الجهنَّميَّة تحقَّقَت فيه نبوءةُ الدكتور داهش التي نشرَها الشاعرُ الداهشيُّ حليم دمّوس في صُحُف لبنان - وبينها صحيفة الحياة - في 4/1/1948، ومفادُها أنَّ بيروت ستحترق بالكبريت والنَّار، والخراب سيعمُّ لبنان من أقصاه إلى أقصاه وذلك نتيجة اضطهاد حُكَّامه لمؤسِّس الداهشيَّة ومُمالأة الشعب له.

 

ذلك كان عرضًا موجزًا للسبَـبـِيِّة الروحيَّة والجزاء الإلهيّ مثلما ظهرا في "قصص غريبة وأساطير عجيبة". لكنَّ الحياةَ ملأى بأشرار لا نراهم يُعاقَبون في حياتهم. فكم من مجرمٍ يغتصب فتياتٍ ويفرُّ من وجه العدالة! وكم من جشعٍ ظالمٍ يعيشُ مُرفَّهًا بينما يئنُّ المظلومون تحت نيره! وكم من فاسقٍ تبتسمُ له الحياةُ بينما تعبسُ في وجه التقيّ! فأين العدالةُ الروحيَّةُ في ذلك؟ وأين الجزاءُ الإلهيُّ للشرِّير؟ الجوابُ على هذا سنعرضُه في بحثٍ مُقبِل.

 

العدالةُ الإلهيَّة والسيَّالاتُ السفليَّة الطارئة:

كما قد تسمحُ القوَّةُ الروحيَّةُ المُهَيمنة على نظام الثواب والعقاب بأن تُداخلَ أعصابَ الإنسان سيَّالاتٌ سُفليَّة غريبة عنه، فتُحدث فيه خللاً عقليًّا أي ضربًا من الجنون تبعًا لاستحقاقه. ومن شأنِ ذلك أن يُحدِث تحوُّلاً فُجائيًّا في وحداته الوراثيَّة.

يقولُ مؤسِّسُ الداهشيَّة واصفًا شابًّا[1] طرأ الجنونُ عليه وهو في عُنفوان شبابه، بعد أن شاهدَه في سوْرة جنونه وحاول تهدئتَه:

"وإنْ قُدِّرَ لكَ أن تغفلَ لحظةً، أو تَهنَ قواكَ لبُرهة، فإنَّكَ تتأكَّد بأنَّكَ ستكون ضحيَّةَ هذا الشابّ المُضيِّع للعقل ممَّا وُهِبَه من قوَّةٍ خارقةٍ ممَّا اختزَنَتهُ أعصابُه من مئات السيَّالات الغريبة عنه والمحتلَّة لأعصابه، والسارية بروحه."

ويؤكِّد النبيُّ الحبيب عدالةَ السماء في ما يُصيب الناس إذ يقول:

"فيا خالقي، ويا واهبَ الحياة لكلِّ ذي نسمة، يا مَن تعرف أسرارَ الأزل والأبد، أنتَ العليمُ بما تكنُّه كلُّ نفسٍ قبل أن تُرسلَها إلى عالَم الأرض التاعسة، أرض البؤس والشقاء والعناء والبلاء، أنتَ انظرْ من عليائك نظرة العطف الأبويّ والإشفاق الإلهيّ، وارحمْ هذا الشابّ، وأنقِذْهُ ممَّا ألمَّ به رغمًا عن تأكُّدي أنَّه يستحقُّ ما أصابَه، مثلما نستحقُّ ما أصابَنا ويُصيبُنا، لأنَّ عدالتَكَ عدالةٌ حقَّة، إذ تُجازي كُلاًّ حسبَ استحقاقه دون زيادةٍ أو نُقصان..."[2]

كذلك عرفَ مؤسِّسُ الداهشيَّة روحيًّا بأنَّهُ سُمِح لسيَّالٍ جحيميٍّ (اسمُه محمود) أن يحتلَّ رأسَ بشاره الخوري، رئيس الجمهوريَّة اللبنانيَّة السابق، (1943-1952)، ويُحدِثَ فيه خَلَلاً يؤدِّي به إلى الجنون، وذلك عقابًا له على اضطهاده مؤسِّس الداهشيَّة. وقد حاولَ المقرَّبون من بشاره الخوري وذَووه أن يُعالجوه طبيًّا من غير طائل، إذ استَحوذَ الجنونُ عليه عقب إصداره أمرًا تعسُّفيًّا بإلقاء القبض على النبيِّ الحبيب في 28/8/1944؛ واستمرَّت نوباتُ الجنون تنتابُه حتّى اضطرَّ إلى الاستقالة من الحُكم في 18/9/1952 بعد ثورة الشعب عليه.

فحالاتُ الجنون بمعظمها حالاتٌ عقليَّةٌ تسمحُ الإرادةُ الإلهيَّةُ فيها بأن تستحوذَ على أعصاب الإنسان سيَّالاتٌ سُفليَّةٌ غريبةٌ عنه. هذه السيَّالاتُ السفليَّة سمَّتْها الأناجيل "شياطين" لأنَّ درجتَها الروحيَّةَ سُفليَّة، ومقرُّها الأصليُّ دركات الجحيم. وكانت المشيئةُ الإلهيَّةُ تسمحُ أحيانًا للسيِّد المسيح بأن يطردَها من المُصابين بها بقوَّة الروح العُلويّ الذي يؤيِّدُه.

أمَّا التعزيم الذي تدَّعيه فئاتٌ من رجال الدين، فإنَّما هو تدجيلٌ محض، لأنَّ الإنسانَ لم يُعطَ السلطةَ القادرةَ على طرد السيَّالات السفليَّة من الناس، لأنَّها إنَّما تُسيطرُ عليهم بموجِب استحقاقهم وبحُكم نظام العدالة الشاملة. أمَّا المسيحُ والأنبياء فإن طردوا "الشياطين" فذلك بقوَّة الأرواح العلويَّة الملائكيَّة التي تؤيِّدُهم، وليس بقوَّتهم البشريَّة، مع أنَّهم أنبياء. ومن أسباب تصديق التعزيم لدى جماعاتٍ من الناس اعتماد القصص والأفلام المُرعبة عليه كعنصرٍ من عناصر الإثارة والترويع.[3]

 

الوساوسُ الشرِّيرة:

الوساوسُ الخنَّاسةُ أو الأفكار المُستحوِذة الشرِّيرة تصدرُ عن سيَّالات الفرد الجحيميَّة التي بالرغم من استقلالها وبُعدها ماديًّا عنه -إذ إنَّها تعيشُ في عوالمَ جحيميَّة مختلفة باختلاف درجاتها الروحيَّة- تبقى متَّصِلةً به روحيًّا، تُوسوِسُ له مُحاولةً التسلُّطَ عليه عن بُعد، وذلك لأنَّها تابعةٌ له، فهي تنتمي إلى شبكةٍ روحيَّةٍ واحدةٍ يُشكِّلُ الفردُ جزءًا منها.

وليس من إنسانٍ، مهما يكُن راقيًا، إلاَّ له ارتباطاتٌ بسيَّالاتٍ سُفليَّة قد توحي إليه بارتكاب المظالم الفظيعة والجرائم الشنيعة أو اقتراف أعمال الفُسق وكَسْر الوصايا الإلهيَّة وتزيين السُّبُل إلى كسرها والعواقب التي تنتجُ عنها. [4]

وقد سألَني الهادي الحبيبُ مرَّةً: "ماذا تقولُ في الشيطان الذي جاء في إنجيل متَّى أنَّه جرَّب يسوع؟" [5]

فأجَبتُه: "إنَّهُ سيَّالٌ سُفليّ تابع ليسوع، وقد حاولَ إغراءَه."

فقال لي: "ما قُلتَه هو عينُ الصواب. فلا يُسمَح لأيِّ سيَّالٍ غريبٍ عن الإنسان بأن يُوَسوِسَ له ويدعَه يسقط. والسيِّد المسيح بفَضلِ رُقيِّه الروحيّ، انتصرَ على تجربة سيَّاله السفليّ الذي يُسمَح له بأن يتجسَّد ليُجرِّبَه، وهكذا كبُرَ فضْلُه."

والأفكارُ الشرِّيرةُ المُستحوِذة التي تُصيبُ الإنسان بانحرافاتٍ معيَّنةٍ في سلوكه وبأمراضٍ نفسيَّةٍ خطيرةٍ يتعذَّرُ شفاؤها بالعلاج الطبيّ، نفسيًّا كان أم عقَّارًا، لأنَّها نتيجة لازمة لنشاط السيَّالات السفليَّة التي هي ذاتُ سلطةٍ مستقلَّةٍ وخارجة عن إرادة الإنسان في تجسُّده الراهن. ولذلك فهي تدخلُ ضمنَ قَدَر الإنسان الشخصيّ الذي استحقَّه بأعماله سواء كانت في حياته الحاليَّة أم في تقمُّصٍ سابق.[6]

ومع ذلك فسلطتُها عليه محدودةٌ بمَدى تمهيده نفسه أمام غزوها وانصياعه لها. فمَن يُجاهدُ ميولَه السفليَّة، ويُقاومُ إغراءاتها، ويستهدي اللّه في أعماله وأفكاره، فإنَّه يبقى بمنأىً عن تأثيراتها، إذْ إنَّه يجعل لنفسه حصانةً ومناعةً تُشبهان حصانة الجسم ومناعته ضدَّ تسرُّب الجراثيم إليه. أمَّا الذي يتمادى في أعمال الرذيلة ويُصغي لهواتف الشرّ، فإنَّه يُمهِّدُ نفسه لتُصبحَ فريسةً ضعيفةً مُستسلمة تستحوذُ عليها السيَّالاتُ السفليَّة وتخضعها لأمرها. فبقَدر ما تتكاثر النقائص في النفس وتتعاظم الرذائل، بقَدر ما تتكاثر المنافذ وتتَّسع المسارب التي تدخل منها تأثيرات السيَّالات الجحيميَّة ووسوساتها الرهيبة.

وقد أوضح السيِّد المسيح هذه الحقيقة بقوله: "إنَّ الروحَ النَّجس، إذا خرج من الإنسان، هامَ في القفار يطلبُ الراحة فلا يجدها، فيقول: "أرجعُ إلى بيتي الذي منه خرجتُ." فيأتي فيجدُه خاليًا مكنوسًا. فيذهب ويستصحب سبعةَ أرواح أخبثَ منه، فيأتون ويقيمون فيه، فيكون ذلك الإنسان في حالته الآخرة أسوأ منه في حالته الأولى. وهكذا يكونُ مصيرُ هذا الجيل الفاسد." (متّى12: 43-45).

وجاء في القرآن الكريم: "استحوذَ عليهم الشيطانُ فأنساهم ذكر اللّه أولئك حزب الشيطان. أَلا إنَّ حزبَ الشيطان هم الخاسرون." (سورة المجادلة: 19). لكنَّ سيطرةَ الشيطان لم تكن إلاَّ برضى المُسيطَر عليه، وإلاَّ لشُلَّت إراداتُ البشر وانتفَت عدالةُ الثواب والعقاب. وهذا ما تُوضِّحُه الآيةُ الكريمة القائلة: "وقال الشيطانُ لمَّا قُضِيَ الأمر: إنَّ اللّه وعدَكم وعدَ الحقّ، ووعدتُكم فأخلفتُكم، وما كان لي عليكم من سلطان إلاَّ أن دعوتُكم فاستجبتم لي، فلا تلوموني ولوموا أنفسَكم." (سورة إبراهيم، آية 22).

وفي الآية القرآنيَّة القائلة: "قُلْ أعوذُ بربِّ النَّاس، مَلِكِ الناس، إله الناس، من شرِّ الوسواس الخنَّاس، الذي يُوَسوِسُ في صدور الناس، من الجِنَّة والناس" (سورة الناس) حثٌّ على ضرورة الاعتصام باللّه في حالة حدوث الوساوس الشرِّيرة، وإيضاحٌ لكَون هذه الوساوس قد تصدرُ من سيَّالاتٍ سُفليَّة كائنة في الإنسانِ نفسه، أو في العوالم السفليَّة الخفيَّة عنه التي عبَّر عنها بالجِنَّة."

وإنَّ ما يدفع السيَّالات الجحيميَّة إلى إغواء الناس هو طبيعتها السفليَّة النزَّاعة إلى الأذى، يُضافُ إليها رغبتُها في اجتذابهم إلى جحيمها ليكونَ لهم شراكة في نصيبها من الشقاء.

والإنسانُ يبقى مسؤولاً مسؤوليَّةً روحيَّةً عن الأعمال الشرِّيرة التي يرتكبُها بدافع من تلك الوساوس لسببَين: أوَّلاً، لتمهيده السبيل أمام غزوها لنفسه واستحواذها على أعصابه، والثاني لأنَّه جزءٌ من شبكةٍ روحيَّةٍ يُسهِمُ بطريقةٍ غير مباشرة في تسفيل كلِّ سيَّالٍ منها أو في ترقيته. ولجَهل القُضاة والمعنيِّين بالدراسات النفسيَّة حقيقةَ أبعاد الإنسان الروحيَّة، درَجوا على اعتبار الانحرافات النفسيَّة "المَرَضيَّة" خارجة عن إرادة الإنسان، وعلى اعتبار المُصاب بها غير مسؤول عن تصرُّفاته. وهذا التفسيرُ فيه وجهٌ من الرحمة تبعًا للمنطق البشريّ، ولا بأسَ من الاستنادِ إليه واعتباره مدعاةً لظروفٍ تخفيفيَّة في ما يخصُّ العقابَ المدَنيَّ أو الجزائيّ، لكنَّه تفسيرٌ خاطئٌ أساسًا من حيثُ فهم مسؤوليَّة الإنسان الروحيَّة التي يستحيلُ أن يتهرَّبَ منها. فعقلُه الواعي وعقلُه الباطن وحدةٌ في المجال الروحيّ. وإذا لم يُجازِه القانون البشريُّ على أعماله التي أملَتها عليه "أمراضُه النفسيَّة"، فإنَّ القوانينَ الإلهيَّة ستتكفَّل بإنزال العقاب الذي يستحقُّه به سواء في تقمُّصه الحاليّ أو في تقمُّصاته اللاحقة؛ ذلكَ بأنَّ المرضَ العقليَّ أو النفسيَّ، كالمرض الجسديّ، نتيجة لمِا ارتكبَ السيَّالُ من أعمال ولِما شعر من رغبات سواء في حياته الراهنة أو في حياته السابقة.

 

الفُصامُ أو الشيزوفرينيا:

هذه الحالة من المرض العقليّ هي حالة مُناوِبة. وعندما تعتري الشخصَ تجعله في شعوره وإدراكه وتفسيراته وتعليلاته بعيدًا عن الواقع المألوف عند الناس كما عن المنطق السليم. وقد يكون الاضطرابُ العقليُّ حادًّا تُرافقُه الهَلوسة السمعيَّة أو البصريَّة أو الشمِّيَّة، أو يكونُ مُلطَّفًا يكاد ينحصرُ في اعتقادات ليست في الواقع سوى أوهام. والعقاقيرُ قد تُزيلُ أعراض هذا الخَلَل بتأثيرها في بعض وظائف الدماغ أو قد تُلطِّفُها، لكنَّها لا تشفي هذا المرض.

أمَّا سببُ استعصاء هذا المرض على الشفاء بالعقاقير [7] من وجهة التفسير الداهشيّ -تبعًا لِما أوضحَه لي النبيُّ الحبيب أكثر من مرَّة- فهو أنَّ الخلَلَ مردُّهُ إلى اتِّساع الشقَّة بين السيَّال الأعلى والسيَّال الأدنى في الشخص المريض. فالانسجامُ بين السيَّالات -المُنطوي كلٌّ منها على الإدراك والشعور والرغبة بدرجاتٍ معيَّنة- يقتضي تقاربَها في مستوياتها الروحيَّة. فإذا اجتمعَ في الإنسان سيَّالٌ عُلويٌّ وسيَّالٌ سُفليٌّ أو شبهُ سفليّ، فلن يكونَ تفاهمٌ وانسجامٌ بين نشاطهما، ولذلك يحدث عدم التواصل والانفصام: فإمَّا يُهيمِنُ على شخصيَّة الإنسان، في حالته السليمة، السيَّالُ العُلويُّ مُظهِرًا ذاته في اتِّجاهاته السامية ورغباته الروحانيَّة ونزعاته الإنسانيَّة، وإمَّا يُهيمِنُ عليها السيَّالُ الأدنى، فتتسلَّطُ، إذْ ذاك، على الإنسان أوهامٌ وهلوساتٌ أو أفكارٌ شاذّةٌ ونزعاتٌ بعيدةٌ جدًّا عن النزعات الروحيَّة السامية، فكأنَّ الشخصَ شخصٌ آخر لا يمتُّ إلى الأوَّل بصِلة، وكأنَّ منطقَه ينتمي إلى عالَم الخيال لا إلى عالَم الواقع. فرغبةُ السيَّال الأعلى الشديدة المستمرَّة، أي إرادته الدائمة في عدَم التواصُل مع السيَّال الأدنى، بل في عدَم الاعتراف بوجوده، هي التي تُؤثِّر في وظائف الدماغ مانعةً تكوين وسائل الاتِّصال الكيميائيَّة العصبيَّة الضروريَّة بينها.

وقد تقترنُ الشيزوفرينيا بالهبوط النفسيّ. وكثيرًا ما تُلاحَظُ عند أشخاصٍ مُمَيَّزين بمواهبهم أو متفوِّقين بإدراكهم. وسببُ ذلك أنَّ معظمَ البشر لا يتمتَّعون بسيَّالاتٍ عُلويَّة، أو لنقُلْ جدّ راقية على الأقلّ. ولذلك فسيَّالاتهم متقاربة في مستوياتها، فهي دُنيويَّة أو شِرِّيرة في نزعاتها؛ في حين أنَّ المتفوِّقين بمواهبهم أو إدراكهم قد تجتمعُ فيهم سيَّالاتٌ سُفليَّة مع سيَّالاتٍ راقيةٍ جدًّا تكونُ سببَ تفوُّقهم.

وقد أكَّد لي النبيُّ الحبيبُ مرارًا أنَّ مَن يُعانون الهَلوَسة من المُصابين بالشيزوفرينيا أو غيرها، يَرَونَ أشكالاً أو يسمعون أصواتًا أو يشمُّون روائحَ لا يراها أو يسمعها أو يشمّها الناسُ الأسوياء، لكنَّ ذلك لا يعني أنَّهم متوهِّمون. فهم يعيشون في واقعٍ غير واقعنا المألوف، وهو واقعٌ يسمح فيه النظامُ الروحيُّ بأن يُحدِثَ سيَّالُ المريض تأثيرًا في الجهاز العصبيّ ووظائف الدماغ بحيثُ يتلقَّى الدماغُ الصورة أو الصوت أو الرائحة مُباشَرةً من داخله لا من الواقع الخارجيّ. ولنا في إحساس الأشخاص باستمرار وجود عُضوٍ قد بُتِرَ منهم (كاليد أو الرجل) ما يُساعدُ على فهم ذلك. [8] ولهذا السبب يستحيلُ إقناعُ المُصاب بالهَلوَسة بأنَّه واهِم.



[1] هو روبير ابن الدكتور جورج خبصا نِطاسيِّ الجِلد الشهير.

[2] الدكتور داهش: قِصص غريبة وأساطير عجيبة، ج 1، ص 26-28 .

[3] أنظر: Free Inquiry, Summer 1991, Vol.2, #3

[4] الدكتور داهش: قصص غريبة وأساطير عجيبة، ج3، ص 79-80.

[5] متَّى 4: 1-11.

[6]هذه الوساوس الخنَّاسةُ المُستحوِذةالخطيرة ما تزال تحيِّرُ علماء النفس، فيتيهون في تخمين أسبابها، ويَحارون في محاولة معالجتها.وقد ظنَّ فْرويد أنَّها صادرة عنالعقل الباطن الشخصيّ ، وبالدرجة الأولى، عن كَبت اندفاع الغريزة الجنسيَّة في الطفولة، وهو ظنٌّ أثبتَت التجاربُ أنَّه خاطئ. وعلى حدِّ قول أحدِ أعلام الطبّ النفسيّ الفرنسيِّين، الدكتور سيريل كوبرنيك Cyrille Koupernik : لم يتقدَّم الطبُّ الفرويديّ خطوةً واحدةً منذ عهد فْرويْد حتّى الآن، أي منذُ أكثر من خمسين سنة، وهو ما يزال بعيدًا عن فَهم الإنسان وحلِّ مُعضلاته النفسيَّة الكبرى. وهذا الواقعُ يؤكِّدُ أنَّ الأساسَ الفرويْدي الذي بنى عليه الطبيب النمساوي نظريّاته أساس خاطئ، لأنَّ فهمَ حقيقة الإنسان الروحيَّة تعجزُ عنه العلومُ البشريَّة، ولا يكتمل إلاَّ بالتعاليم الإلهيَّة. انظر Revue du Liban, N. 635, 27 Fevrier, 1971, p. 18.

وبعد عشرين سنة من هذا التصريح، تكاثرَ عُلماءُ النفس الذين يرفضون تأويلات فْرويْد لمراحل النموِّ الإنسانيّ كما للأمراض النفسيَّة. انظر مثالاً على ذلك: ما كتبَهُ جفري موسايف ماسون Jeffrey Moussaief Masson من كتبٍ مختلفة في هذا الشأن.

[7] من الوجهة الطبيَّة يُرجِّحُ الباحثون أنَّ الشيزوفرينيا تنتجُ عن نقصٍ في الجُزيئات الموصلة للتعليمات التي تحملها نَوى الجينات والتي تؤدِّي إلى تكوين أنزيمة مهمَّة جدًّا في إنشاء موصِلٍ عصبيٍّ يُسمَّى Gamma-aminobutyric acid (GABA) (Science News, April22, 1995,p. 247).

[8] أُجريَت أبحاثٌ علميّة كثيرة مؤخَّرًا تُثبتُ ذلك.

Back to التعاليم الداهشيَّة بقلم الدكتور غازي براكس

Developed by Houssam Ballout        Copyright 2019 This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.nfo All Right Reseved This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.