أنا أؤمن بأنه توجـد عدالة سماويّة, وأن جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدنيا من مُنغصات انَّ هـو الاّ جـزاءٌ وفاق لِما أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور.ولهـذا يجب علينا أن نستقبلَ كلّ مـا يحـلّ بنـا من آلامِ الحياةِ ومآسيها غير مُتبرّمين ولا متذمّرين , بل قانعين بعدالةِ السماء ونُظمها السامية.

Highlighter
أحبُّ الكُتُبَ حبَّ السُكارى للخمر , لكنَّني كلَّما أزددتُ منها شرباً, زادتني صَحوا
ليس مّنْ يكتُبُ للهو كمَن يكتُبُ للحقيقة
الجمالُ والعفّــة فـردوسٌ سماويّ .
لا معنى لحياةِ ألأنسان اذا لم يقم بعملٍ انسانيٍّ جليل .
اعمل الخير , وأعضد المساكين , تحصل على السعادة .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقـوم بأعمالِ الخير نحـو ألأنسانيّة .
الموتُ يقظةٌ جميلة ينشُدها كل مَنْ صَفَتْ نفسه وطَهرت روحه , ويخافها كلّ من ثقُلت أفكاره وزادت أوزاره .
ان أجسامنا الماديّة ستمتدّ اليها يـد ألأقـدار فتحطِّمها , ثمّ تعمل فيها أنامل الدهـر فتتَّغير معالمها , وتجعلها مهزلةً مرذولة . أمّا ألأعمال الصالحة وألأتجاهات النبيلة السّامية , فهي هي التي يتنسَّم ملائكة اللّه عبيرها الخالد .
نأتي إلى هذا العالمِ باكين مُعولين، و نغادره باكين مُعولين! فواهً لك يا عالمَ البكاء والعويل!
جميعنا مُغترٌّ مخدوعٌ ببعضه البعض.
العدلُ كلمة خُرافية مُضحكة.
أمجادُ هذا العالم وهمٌ باطل، و لونٌ حائل، و ظلٌّ زائل.
لا باركَ الله في تلك الساعة التي فتحتُ فيها عينيّ فإذا بي في مكانٍ يطلقون عليه اسم العالم .
أنا غريبٌ في هذا العالم، و كم احنُّ إلى تلك الساعة التي اعود فيها إلى وطني الحقيقيّ.
الحياةُ سفينةٌ عظيمة رائعة تمخرُ في بحرٍ، ماؤه الآثام البشريَّة الطافحة، و امواجه شهواتهم البهيميَّة الطامحة، و شطآنه نهايتهم المؤلمة الصادعة.
كلّنا ذلك الذئبُ المُفترس , يردع غيره عن اتيانِ الموبقاتِ وهو زعيمها وحامل لوائها , المُقوّض لصروح الفضيلة , ورافع أساس بناءِ الرذيلة .
الحياةُ سلسلة اضطراباتٍ وأهوال , والمرءُ يتقلَّب في أعماقها , حتى يأتيه داعي الموت, فيذهب الى المجهولِ الرهيب , وهو يجهلُ موته , كما كان يجهلُ حياته .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقومَ بأعمالِ الخير نحو الانسانيّة .
المالُ ميزان الشرِّ في هذا العالم .
السعادةُ ليست في المال , ولكن في هدوءِ البال .
كلُّ شيءٍ عظيمٍ في النفسِ العظيمة , أمّا في النفسِ الحقيرة فكلُّ شيءٍ حقير .
الرُّوح نسمةٌ يُرسلها الخالق لخلائقه لأجل , ثم تعودُ اليه بعجل .
الرُّوح نفثةٌ الهيَّة تحتلُّ الخلائق , وكل منها للعودة الى خالقها تائق .
الرُّوح سرٌّ الهيٌّ موصَدْ لا يعرفه الاّ خالق الأرواح بارادته , فمنه أتتْ واليه تعود .
أنا أؤمن بأنه توجـد عدالةٌ سماويّة , وأنَّ جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدُّنيا من مُنغِّصاتٍ وأكدارٍ انَّ هـو الاَّ جـزاء وفاق لمِا أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور . ولهـذا يجب علينا أن نستقبل كلَّ مـا يحـلُّ بنـا من آلام الحياة ومآسيها غير م
الحرّيةُ منحة من السماءِ لأبناءِ ألأرض .
الموتُ ملاكُ رحمةٍ سماويّ يعطف على البشر المُتألّمين , وبلمسةٍ سحريّة من أنامله اللطيفة يُنيلهم الهناء العلويّ .
ما أنقى من يتغلّب على ميولِ جسده الوضيع الفاني , ويتبع ما تُريده الرُّوح النقيّة .
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
الراحة التامّة مفقودة في هذا العالم , وكيفما بحثت عنها فأنت عائدٌ منها بصفقةِ الخاسر المَغبون .
ليس أللّــه مع الظالم بل مع الحقّ.
ان الصديق الحقيقي لا وجود له في هذا العالم الكاذب.
ما أكثر القائلين بالعطف على البائسين وغوث الملهوفين والحنو على القانطين , وما أقلَّ تنفيذهم القول.
يظنُّ بعض ألأنذال ألأدنياء أنّهم يُبيّضون صحائفهم بتسويدِ صحائف الأبرياء , غير عالمين بأنَّ الدوائر ستدور عليهم وتُشهّرهم.
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السَّلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
رهبة المجهول شقاء للبشرِ الجاهلين للأسرارِ الروحيَّة , وسعادة للذين تكشّفت لهم الحقائق السماويَّة .
الموتُ نهاية كل حيّ , ولكنه فترة انتقال : امّا الى نعيم , وامّا الى جحيم .
الحياةُ خير معلِّمٍ ومُؤدِّب , وخيرَ واقٍ للمرءِ من الأنزلاقِ الى مهاوي الحضيض .
حين تشكُّ بأقربِ المُقرَّبين اليك تبدأ في فهمِ حقائق هذا الكون .
مَنْ يكون ذلك القدّيس الذي لم تخطرُ المرأة في باله ؟ لو وجدَ هذا لشبَّهته بالآلهة .
المرأة هي إله هذه الأرض الواسع السُّلطان. و هي تحملُ بيدها سيفاً قاطعاً لو حاولَ رجالُ الأرض قاطبةً انتزاعه منها لباؤوا بالفشلِ و الخذلان .

 

سيَّالاتُ العقلِ الباطن في ضوءِ المفاهيم الداهشيَّة (4)

بقلم الدكتور غازي براكْس

 

بعد شرحي المفصَّل لمفهوم سيَّالات العقل الواعي (أَو النفس الواعِـية) consciousness في ضَـوءِ التعاليم الداهشيَّة، لا بدَّ من إيضاح مفهوم سيَّالات العقل الباطن unconscious، فأَهمِّـيَّتُها لا تقلُّ عن الأُولى. وقد يجدُ القارئُ بعضَ الصعوبة في استيعاب مدلولاتها الجديدة، لأَنَّ مفهومَها الداهشيّ يختلفُ اختلافًا كلِّـيًّا عن المفاهيم السائدة حاليًّا للعقل الباطن، ولا سيَّما تلك التي ذهبَ إليها سيغموند فرويـد Sigmund Freud ( 1856-1939) ومَن جاراه من المُحلِّلين النفسانيِّـين. لكنَّ الصعوبةَ ستتلاشى تدريجيًّـا. ولا بدَّ من الإشارة، هنا، إلى أنَّ الإنسانَ ليس بوُسعِه أَن يُدرِكَ بعقلِه الواعي نشاطَ سيَّالات العقل الباطن، لكنَّها هي مُدرِكة لذاتِها ولكلِّ نشاطٍ تقومُ به وواعية بالنسبة لها. فهي خفيَّة عن إدراك الإنسان، لكنَّها غيرُ خفيَّة عن إدراكِها هي. وسنرى أنَّ للعقلِ الباطن لا بُعدًا واحدًا، بل أَربعةَ أَبعاد: بُعدِ السيَّال الأساسيّ، والبُعدِ الأرضيّ، والبُعدِ السُّفليّ، والبُعدِ العُلويّ.

 

أَوَّلاً- السيَّالُ البشريُّ الأَساسيّ

تسهيلاً للقارئ لا بُدَّ من أَن نُميِّـزَ، أَوَّلاً، بين السيَّالِ الرئيسيِّ الواعي الذي يمنحُ الجنينَ الحياة، ويدمغُ الإنسانَ بطابعٍ شخصيٍّ مُميَّز (وقد تكلَّمتُ عليه في الحلقة الأُولى من هذا البحث) والسيَّالِ الأَساسيّ الذي يُمثِّلُ أَحدَ أَبعاد العقلِ الباطن. يُشيرُ مُؤَسِّسُ الداهشيَّة إلى هذا السيَّال الأساسيّ الذي يعمُّ جميعَ البشر في قصَّته القصيرة المُعنونة "الكونتنيار وصناديقُه الـ25"[1]، حين يتحدَّثُ عن سيَّال الأشجار الأَساسيّ الذي يشملُها جميعًا مهما تكُن أَنواعُها. والبشرُ الذين يعنيهم هم السلالاتُ المُنتمية إلى جميع الشعوب والمُتحدِّرة من آدَم وحوَّاء. أَقولُ ذلك لأنَّ في التعاليم الداهشيَّة أَنَّ البشرَ مرُّوا، قبل تكوين آدَم، بـ759 تكوينًا. وبذلك تتَّفقُ الداهشيَّة مع العلمِ القائل بأَنَّ الإنسانَ العاقل Homo Sapiens يرقى قِدَمُه إلى ملايين السنين. لكنَّ الداهشيَّة تتميَّزُ بإيضاح ما عجزَ العلمُ عن إيضاحِه حتَّى اليوم، وهو أَنَّ البشرَ السابقين لآدَم توصَّلوا إلى بناء حضاراتٍ فاقَ بعضُها الحضارةَ الحاليَّة بالعلوم والاختراعات؛ لكنَّ كلاًّ منها انتهى بفناءٍ كلِّيّ أو شبه شامل بعواملِ إبادة بشريَّة أَو طبيعيَّة.

في التعاليم الداهشيَّة، كما في المسيحيَّة، أَنَّ الخطيئةَ الأَصليَّة الناتجة من عصيان آدَم للأَوامر الإلهيَّة انتقلَت إلى كلِّ إنسان. يقولُ الدكتور داهش:

وقد أَغرى (الشيطانُ الرجيمُ الذي تزيَّا بشكلِ حيَّة) حوَّاء لتقتسمَ مع آدَم ثمرةَ الجنسِ الذي ستبقى البشريَّةُ تُعاني منه مُعاناةَ البؤس العظيم، والشرِّ العاصِف، والتعاسةِ الكُبرى، والتشرُّدِ الأَبديّ، والهَولِ الطاغي... والخوفِ المُتواصِل، والقلَقِ الجهنَّميّ الطافِح اللافِح.[2]

ويقولُ بولس الرسول: "والخطيئةُ دخلَت في العالَم بإنسانٍ واحد، وبالخطيئة دخلَ الموتُ إلى جميع البشر لأنَّهم كلَّهم خطئوا."[3] هذا الانتقالُ المتواصلُ للخطيئة الذي تأخذُ به الداهشيَّةُ والمسيحيَّة دمغَ النوعَ البشريَّ كلَّه، وأَصابَه بحتميَّة الموت وتقصير العُمر كما بالأمراض والآلام وسائر أَنواع الشقاء. وذلك يدلُّ على أنَّه يجري بوراثةٍ متسلسلة لا انفصامَ لها. ولا علاقة مباشرة لهذا الاتِّصال بسيَّالات النفس الواعية، أَسيَّالاتٍ رئيسيَّة كانت أَم وراثيَّة أم طارئة، مهما تكن عليه من سمُوٍّ أو انحطاط؛ بل علاقتُها بعناصرَ ثابتة في سيَّالٍ عامّ ينتظمُ جينات الجسد البشريّ الوراثيَّة.

وردَ في القرآنِ الكريم: "يا أَيُّها الناس، اتَّقوا ربَّكم الذي خلقَكم من نفسٍ واحدة وخلقَ منها زوجَها، وبثَّ منهما رجالاً كثيرًا ونساءً." (النساء 1). فالمُتأَمِّلُ في عبارات هذه الآية لا بدَّ من أن يستخلصَ أَنَّ الخَلقَ حدثَ أَصلاً لآدَم فقط، ومنه خُلِقَت حوَّاء. أمَّا البشرُ الآخَرون فقد "بثَّهم" الله (أَي نشرَهم وأكثرَهم) منهما. والكيانُ الذي يحملُ خصائصَ التواصُل الدائم معهما، والذي تدلُّ عليه لفظة "منهما" هو السيَّالُ الأساسيّ، السيَّالُ الذي يبني الجسمَ البشريَّ في صورةٍ معيَّنة تُميِّزُه عن المخلوقات الأرضيَّة الأُخرى، وتمنحُه عُمرًا لا يتجاوزُه، وحواسَّ مُعيَّنة، ودماغًا يجعلُه مُهيَّأً لتطوير مُحيطِه وابتكار العلوم والفنون والآداب والتكنولوجيا وسائر وسائل الحضارة.

لكنْ ما الدليل على أَنَّ هذا السيَّالَ الأَساسيَّ هو سيَّالٌ عاقِل؟

حسبُنا نظرة إلى تكوين الجسم البشريّ أَو الجسم الحيوانيّ إذْ هو مُشابهٌ له في معظم جيناته وأَنسجتِه وأَعضائه لنُدركَ أَنَّه ليس مُجـرَّد بلايينَ من الذرَّات متراكمة دون نظام، لكنَّه تركيبٌ معقَّد ومنظَّم تنظيمًا عجيبًا. وإنَّه لَتنظيمٌ فائقٌ للصورة الداخليَّة والخارجيَّة لحشدٍ هائل من الطاقات الكهربائيَّة والتفاعلات الكيميائيَّة التي تحدثُ في نحو ستّين ألف بليون من الخلايا الدقيقة الوظائف في الجسد البشريّ، والتي يولَدُ منها، ويموت، في جسم الفرد، يوميًّا، خمسمئة بليون خليَّة في عمليَّة تجدُّديَّة دائمة.[4] ولا رَيبَ في أَنَّ وراءَ هذا التنظيم العجيب للجسد البشريّ وما فيه من أَنسجة وأَجهزة وأَعضاء قوَّةً عاقلة باطنيَّة محجوبة عن عقل الإنسان الواعي. وإنَّها لَقوَّة مُدبِّرة تُهيمنُ على نظام الجسَد، وتضبطُ وظائفَه الفيزيولوجيَّة، ونموَّه، وتجدُّدَ خلاياه، ومُقاومتَه غارات الجراثيم، وحركاتِ الدم والتنفُّس والهَضم وجميع العمليَّات التي تجري خارجَ رقابة العقل الواعي وإرادة الإنسان الواعية. وتلك القوَّةُ المُدركة الخفيَّة التي لا تخضعُ لإرادة الإنسان الواعية ليست ثمرةَ الدماغ البشريّ، بل هي مصدرُ تكوينه وتكوين الجهاز العُضويِّ كلِّه، وهي التي تقودُ العمليَّةَ التنظيميَّة التي تضبطُ وظائفَ ذلك العدد الهائل من الخلايا والأنسجة بطريقةٍ خفيَّة عن عقلنا الواعي. تلك القوَّةُ الخفيَّةُ العجية الذكاء هي قوَّةُ السيَّال الأساسيّ العاقل الذي أَوضحَ مُؤسِّسُ الداهشيَّة ماهيَّتَه، والذي تتفرَّعُ منه سيَّالاتُ الإنسان الشكليَّة االعامَّة في البشرجميعًا (أي التي تختصُّ بأنواع الحواسّ وقدراتها وتكوين سائر الأَنسجة والأعضاء، إلاَّ ما يُميِّزُ الذَّكرَ عن الأُنثى فهو يعودُ إلى السيَّالِ الرئيسيّ).

وما ذهبَ إليه الدكتور داهش في تعاليمه بشأن هذا الموضوع، منذ أَوائل العقد الرابع من القرن العشرين، أَخذَ يتنبَّهُ له فريقٌ من العلماء، منهم ونتِربِرت Winterbert الذي يُؤَكِّدُ أَنَّ في الجسد الحَيِّ عقلاً باطنًا ذا ذكاءٍ خارق يبدو عقلُنا الواعي ضئيلاً إذا قيسَ به.[5]

وهكذا تبدو الطاقةُ النفسيَّة الواعية في الإنسان، بقواها الإدراكيَّة والنـزوعيَّة والإراديَّة، غيرَ مُطلقة الفاعليَّة، بل هي محدودةٌ بالصورة الجسديَّة (المُشتقَّة من السيَّال الأساسيّ) التي سُجِنَت فيها. وهكذا يكونُ الجسدُ بجميع أَعضائه وحواسِّه وأَنسجته وسيلةً للتعبير عن فاعليَّة السيَّالات الواعية وقَيدًا لها. فبالسيَّال الأساسيّ تُحَدَّدُ نوعيَّةُ حواسّ الإنسان ودرجة قوَّتها، ونوعيَّة نُطقِه وتواصُله مع مُحيطِه الطبيعيّ. مِثالٌ على ذلك أَنَّ التجاربَ العلميَّة أَثبتَت أَنَّ مجالَ الإبصار لدى القِطَط يبلغُ 187 درجة، في حين أَنَّه في الإنسان لا يتعدّى 125 درجة. كذلك تسمحُ قوَّةُ الإبصار لدى النحل برؤية ما فوق البنفسجيّ ، وهذا ما لا تستطيعُه عينُ الإنسان؛ وفي حين أَنَّ النحلةَ لا ترى اللونَ الأحمر، فالإنسانُ يراه. وهذا يعني أَنَّ هيئةَ الطبيعة بكلِّ منظوراتها تختلفُ اختلافًا كبيرًا بين نظر البشر ونظر النحل. كذلك بينما تبلغُ الدرجةُ العُليا لسلَّم السَّمع لدى الإنسان 20 أَلف هرتز، فإنَّها تبلغُ لدى الهرّ 47 ألفًا وخمسمئة هرتز، ولدى الخفَّاش 95 ألف هرتز، ولدى أصناف من الحيتان ثلاثمئة ألف هرتز.[6] فهذه الفروقُ الكبيرة في قدرات الحواسّ إنَّما فرَضَتها السيَّالاتُ الأساسيَّة للإنسان والنحل والقِطَط والخفافيش والحيتان. وقِسْ على ذلك نوعيَّةَ الحواسّ وقُدراتها في سائر الحيوانات، بل حتَّى في الأَشجار والأَزهار وسائر كائنات عالَمِ النبات حيثُ تتغيَّرُ الحواسُّ ووسائطُ الاتِّصال بالمُحيط تغيُّرًا كبيرًا.[7]

إنَّ الصورةَ "المادِّيـَّة" المتولِّدة من السيَّال البشريِّ الأساسيّ جعلَتها الإرادةُ الإلهيَّة أشبهَ بسجنٍ لسيَّالاتِ النفس الواعية التي استحقَّت أن تنـزلَ فيه وتندمجَ به لمدَّةٍ تُحدِّدُها العدالةُ الإلهيَّة من خلال السيَّال الرئيسيّ الذي بانطلاقه يحدثُ الموت. ولذلك فسيَّالُ الجسدِ الأساسيّ ليس سابقًا بوجوده لسيَّالات النفس الواعية، وليس بين الأوَّل والثانية علاقة السبب بالنتيجة، أَي ليس هو مصدر الحياة النفسيَّة ومنبعَ النشاط الفكريّ والوجدانيّ والإراديّ في أيِّ كائن، مثلما يتوهَّمُ كثيرون من الباحثين الآخذين بنظريَّة التطوُّر المادِّّيـَّة، بل بين سيّالات النفس الواعية والسيَّال الأَساسيّ علاقةٌ وثيقة ومُجرَّدُ تفاعُل.

 

ثانيًا- البُعدُ الأَرضيُّ للعقلِ الباطن

في "قصَّة "الهبوط وخَلق آدَم" الداهشيَّة الموحاة أَنَّ مجموعةً عظيمةَ العدَد من السيَّالات العُلويَّة (أَي الكائنات السامية) التي كانت تنعمُ في مختلف درجات الفراديس المئة والخمسين عصَت الأوامرَ الإلهيَّة التي حظَّرَت عليها اجتيازَ تخومِ المُحيطِ المادِّيّ (وهو يضمُّ بلايين النجوم والكواكب) إلى المُحيط الروحيّ قبل انقضاءِ الأزمنة المُحدَّدة لكلٍّ منها وَفقَ درجتِه الروحيَّة. لكنَّها غُرَّت وتآمرَت مُذعنةً لقيادة رئيس الملائكة، وحاولَت تجييشَ قواها ومعارفَها لتخترقَ المُحيطَ الممنوع، فإذا القدرةُ الإلهيَّة تُعاقبُها فورًا وتُهبِطُها كتلةً واحدةً إلى الأرض مُكوِّنةً منها آدَم. وبقيَّةُ القصَّة معروفة في سِفر التكوين من الكتاب المقدَّس. وقد علمتُ من مُؤَسِّس الداهشيَّة أَنَّ كلَّ سيَّالٍ روحيّ يُمكنُ أَن يتجزَّأَ أَو يتضاعفَ أَو يتكاثرَ إلى ما لا نهاية؛ لكنَّ أَجزاءَ كلِّ سيَّال أو صوَرَه المختلفة المتعدِّدة تبقى مُرتبطةً بعضها ببعض ارتباطًا خفيًّا عن العقل الواعي الفرديّ. وهكذا يُؤَثِّّرُ بعضُها في بعض وَفقًا لنظام العدالة الإلهيَّة، من غيرِ أَن يكونَ للإرادة الواعية في الفرد سلطةٌ مباشرة على السيَّالات الخارجة عن كيانه الشخصيّ.

وبما أَنَّ آدَم، الإنسانَ الواحد، أصبح عدَّةَ بلايين من البشر، وقد يتكاثرُ فيزدادُ عدَّةَ بلايينَ أُخرى، وبما أنَّ تجسُّدَ أيِّ سيَّال قد يتمُّ لا في البشر فحسب، بل في الحيوان أو النبات أو الجماد وَفقًا لاستحقاقه (ذلك لأنَّ نسيجَ الكونِ كلِّه هو من السيَّالات العاقلة)، فكلُّ إنسانٍ لا بُدَّ من أن يكونَ له عدَّة امتدادات في المخلوقات الأرضيَّة جميعها، ترتبطُ ارتباطًا خفيًّا بسيّاله الرئيسيّ أو بسيَّالاته الثانويَّة، الوراثيَّةِ منها أَو الطارئة. لكنْ بما أنَّ امتدادات هذه السيَّالات خارجة عن دائرة إرادته، ولا تستطيعُ أن تفرضَ مشيئتَها كُرهًا، فتأثيرُها الخفيّ يكونُ أَشبهَ باستهواءٍ غامض لمَن ترتبطُ به.

ولعلَّ أَوضحَ ما تتمثَّلُ هذه الظاهرة في التكتُّلات الفكريَّة والأدبيَّة والفنّـيَّة التي تتشكَّلُ عفويًّا، منتشرةً في أكثر من بلد، من غير ضرورة لإعمال المُنضمِّين إليها التفكيرَ المنطقيَّ الإراديَّ فيها. فالمذاهبُ الأَدبيَّة والفنّـيَّة الكلاسيكيَّة والرومنسيَّة والرمزيَّة والتكعيبيَّة وغيرها دليلٌ على ما أَقول. وقد مثَّلَ لي مُؤسِّسُ الداهشيَّة مرَّةً بجمعيَّة "إخوان الصفاء" و"الرابطة القلميَّة" دليلاً على صحَّةِ هذه الظاهرة. فسيّالاتُ المُنتمين إلى كلِّ مذهبٍ من تلك المذاهب يستهوي بعضُها بعضًا لارتباطٍ خفيٍّ بينها. وإذا زدنا تقمُّصات الإنسان السابقة إلى تأثيراتِ البُعد الأرضيّ من العقل الباطن، نفهمُ كثيرًا من الأسبابِ الباطنيَّة التي قد تُؤثِّرُ في المواقف الوجدانيَّة اللاشعوريَّة لكلِّ إنسان.[8]

 

ثالثًا- البُعدُ السُّفليُّ من العقلِ الباطن

يتمثَّلُ هذا البُعدُ بالسيَّالاتِ الهابطة إلى الدركاتِ السفليَّة والتي هي امتداداتٌ للسيّالاتِ الواعية في كلِّ إنسان؛ وهي سيَّالاتٌ شرّيرة تعدَّت الحدَّ الأَدنى من المُستوى الأرضيّ في انحطاطِها، فاستحقَّت أَن تُغادرَ جسدَ الإنسان لتتجسَّدَ في إحدى الدركاتِ الجحيميَّة الرهيبة جزاءَ ما كسَبَته. وقد يكونُ السيَّالُ هبطَ إلى العالَمِ السُّفليّ والإنسانُ الذي هو تابعٌ له ما يزالُ حيًّا، وذلك من جرَّاء عملٍ شنيعٍ جدًّا قامَ به؛ أَو قد يكونُ السيَّالُ هبطَ إلى مقرِّه الجديد في حياةٍ له سابقة على الأرض. والسيَّالاتُ الشرّيرة سمَّتها الكتُبُ المقدَّسة بالـ"شياطين".

لكنَّ هذه السيّالات الجحيميَّة شأنُها شأنُ سائر السيَّالات الخارجة عن نفس الفرد الواعية ودائرة إرادته، أَي إنَّ تأثيرَها فيه غيرُ إكراهيّ، بل إيحائيّ، استهوائيّ. فعنها تصدرُ وساوسُ الشرِّ الخنَّاسة والأفكارُ السيِّئة المُلِحَّة لتتسلَّطَ على سائر سيَّالات الإنسان، وتجذبَها إلى عالَمِها. وإنَّه لَخطأٌ فادِح، وَفقَ التعاليم الداهشيَّة، أَن نعتقدَ أَنَّ الله، العادلَ الرحمنَ الرحيم، خلقَ الشياطينَ لتجريبِ الناس وإسقاطِهم بالرّغم عنهم، ثمَّ تعذيبِهم، من غير أَن يكونَ للناس أيَّة علاقة بهم. فالشياطينُ، في المفهوم الداهشيّ، ليسوا سوى سيَّالاتٍ روحيَّة هبطَت من عوالمَ عُلويَّة إلى عوالمَ سُفليَّة بعد ارتكابِها المعاصي، أَو سقطَت من بشرٍ إلى دركاتٍ جحيميَّة بعد اقترافها أَعمالاً شرّيرة. وهكذا لا يُسمَحُ لأيِّ سيَّالٍ شيطانيّ بالوسوسة لإنسانٍ ما ومُحاولة السيطرة على أَفكارِه لاجتذابِه إلى عالَمِه إلاَّ إذا كان السيَّالُ تابعًا لذلك الإنسان، وإلاَّ انتفَت العدالةُ الإلهيَّة. وبصورةٍ عامَّة، ليس من إنسان إلاَّّ تنتابُه الوساوسُ أَحيانًا، لأنّه مُحالٌ أَلاَّ يكونَ لكلِّ بشريّ سيَّالٌ سُفليّ (أَي شيطانيّ) أَو أَكثر.

يقولُ الدكتور داهش في "حُلم مَهيب رهيب":

[من قِمَّة] جبلِ المعرفة... كنتُ أَُشاهدُ سيَّالاتي الموجودة بعوالمَ عديدة، منها عوالمُ لا بأسَ بها، ومنها عوالِمُ تعيسة. وبعَينِ العجَب العظيم كنتُ أُشاهدُ سيَّالاتي الموجودة بعوالمَ مُنحدرة الدركات وهي تُرسلُ إشعاعاتِها لسيَّالاتي الأُخرى الكائنة في عوالمَ رفيعة، حاضَّةً إيَّاها على ارتكابِ الممنوعات والمُحرَّمات بُغيةَ إسقاطِها وسَحبِها إلى الدركات المُنحدرة بالأَغوار السحيقة حيثُ تُقيمُ سيَّالاتي. ففهمتُ، إذْ ذاك، أَنََّّ ما يُساورُنا من رغبات لارتكاب المُحرَّمات هو منَّا وفينا، أَي إنَّ سيَّالَنا الموجود بدرَكٍ سحيق هو الذي يعملُ جاهدًا لِيدعَنا نسقط، فإمَّا يفشل أَو يُكتَبُ له الفوَز. إذًا لا يستطيعُ أَيُّ سيَّالٍ خارجيّ أَن يدعَنا نسقط، فهذا الأمرُ ممنوعٌ مَنعًا باتًّا. وإذا سقَطنا، فيكونُ سقوطُنا من سيَّالِنا الذي نحن أَوصلناه إلى درَكٍ سُفليّ، فأَصبحَ يرغبُ بالانتقامِ منَّا، وجَعلِنا ننقادُ لإيحائه بواسطة الإشعاع الذي يُرسِلُه لكي يوقعَنا بشِباكِه، وهنا الطامَّةُ الكُبرى.

إذًا رُقيُّنا أَو انحدارُنا يكونُ بنسبة مُقاومتِنا وجهادِنا أَو خضوعِنا واستسلامِنا لوسوساتِ سيَّالِنا السُّفليّ. فإذا انصَعنا لرغبتِه فنفَّذنا أَوامرَه وارتكبنا الممنوعات، فإذْ ذاك لا بُدَّ من أَن نسقطَ وننحدرَ لدرَكِه، وإذا لم ننصَعْ لأَوامرِه ونواهيه نرفعُ سيَّالَنا ونوصِلُه إلى مَلإٍ عُلويّ. وهذه هي العدالةُ الإلهيَّة إذْ يُجازى كلٌّ منَّا بحسبِ عملِه، أَو بالأحرى نحن الذين نُجازي أَنفسَنا فنوصِل سيَّالاتِنا إلى درجةٍ عُلويَّة أَو دركةٍ سُفليَّة. وما ربُّكَ بظالِمٍ لخلائقِه، إنَّما لأنفسِهم يظلمون.[9]

لكنْ قد يُسمَحُ، أحيانًا، لسيَّالاتٍ سُفليَّة غريبةٍ عن إنسانٍ ما أَن تحتلَّ جسدَه وتستولي على عقلِه الواعي عقابًا لمعاصيه، في حدود العدالة الإلهيَّة. وفي الأَناجيل أَمثلة كثيرة عليها، وبعضُها كان يُخرِجُه السيِّدُ المسيح بقوَّةٍ روحيَّة من المُُصاب بها، وذلك إذا استحقَّ الإنسانُ بُرءَه منها. ومِثالٌ مُعاصِرٌ بارزٌ عليها السيَّالُ السُّفليّ الذي سُمِحَ له بأن يحتلَّ الرئيس بشارة الخوري، ويُصيبَه بالجنون في أَواخر عهده. وكان مُؤَسِّسُ الداهشيَّة قد تنبَّأَ بجنون الرئيس وكَسرِ يَدِه التي وقَّعَ بها مرسومَ تجريد الدكتور داهش من الجنسيَّة اللبنانيَّة؛ وقد نشرَت النبوءة جريدةُ "الصحافيّ التائه" لإسكندر رياشي قبل سنةٍ من الحادث التأديبيّ.

ومن مُحادثتي مع مُؤسِّسِ الداهشيَّة استخلصتُ أَنَّ الضميرَ نوعان: ضميرٌ أَعلى يُمثِّلُ صوتَ السيَّال الواعي الأَعلى فينا، وهو يُرشدُنا ويردعُنا عن إتيانِ المساوئ، وقد سبقَ كلامي عليه (في الحلقة السابقة)؛ وضميرٌ أسفل يُمثِّلُ صوتَ السيَّال الهابط حديثًا إلى درَكٍ جحيميّ، إذْ يُؤَنِّبُ صاحبَه ويُبكِّـتُه على أنَّه تركَه يسقط، ثمَّ ما يلبثُ، بعد استقرارِه في الجحيم وخَوضِه أَهوالَ العذاب، أن يشرعَ في إرسالِ إشعاعاته الخفيَّة إلى مَن أَسقطَه مُوسوِسًا له بإتيان المُنكَرات والمُحرَّمات ليجرَّه إلى حيثُ هو يُعاني العذاب.

لقد رأَينا أَنَّ الداهشيَّة تتميَّزُ بمفهومِها العميق للعقلِ الباطن بأبعاده المُختلفة. فالمُحلِّلون النفسانيُّون والباحثون السيكولوجيُّون لم يستطيعوا أن يزيدوا شيئًا يُذكَر على تعليلات فرويد، وتعليلاتُه غيرُ صحيحة بنظَر الداهشيَّة وفي رأيِ كثيرين من عُلماء النفس الحديثين. لذلك فالعقاقيرُ والعلاجاتُ النفسيَّة التي يُحاولون بها إبراءَ المرضى المُصابين بالوساوس الخبيثة أو الشرّيرة المُتسلِّطة المُزمِنة وما يُماثلُها لا تُجدي بصورةٍ عامّة؛ وهي إن أَوقفَت الأعراضَ مؤَقَّتًا، فإنَّها لا تُزيلُ العلَّة.[10]

 

البُعدُ العُلويُّ من العقلِ الباطن

مثلما أَنَّ للبشر جميعًا سيَّالاتٍ سُفليَّة تُعاني أَهوالَ الدركات الجحيميَّة، فلكثيرين منهم سيَّالاتٌ عُلويَّة تابعة لهم ترتعُ في الدرجاتِ الفردوسيَّة. هذه السيَّالاتُ الراقية تكونُ نزعاتُها الروحيَّة قد تعدَّت الحدَّ الأعلى من المستوى الأرضيّ، فتخلَّصَت من شوائب الدنيا وجواذبِها وقيودِها، فاستحقَّت أَن تتجسَّدَ في أَحد عوالمِ النعيم وَفقَ درجةِ استحقاقِها. وقد يكون ارتقاءُ السيَّال إلى العالَمِ العُلويِّ قد تَـمَّ على أَثرِ اجتراحِه عملاً ساميًا جدًّا وهو في الإنسان الحَيّ؛ أَو قد يكون ارتقى إلى عالَمِه المجيد في دورةٍ حياتيَّـة سابقة.

هذه السيَّالاتُ العُلويَّة هي التي تُلهِمُ البشرَ الذين هي تابعة لهم بالمآثرِ الروحيَّةِ الكُبرى والمآتي الإنسانيَّةِ العظيمة، وبالأعمالِ الأدبيَّةِ والفنِّـيَّةِ الخالدة، والاكتشافاتِ والاختراعاتِ التي تُغيِّـرُ مجرى التاريخ ومسيرة الحضارة؛ لكنَّ تأثيرَها لا يتعدَّى مجرَّدَ الإلهام غيرِ الإكراهيّ، الإلهامِ الذي قد ترفضُه إرادةُ الإنسان الذي هي تابعة له أَو تقبلُه، وذلك تبَعًا لمُستوى سيَّالاتِه الراهنة. ذلك بأَنَّ لكلِّ سيَّالٍ في الإنسان إرادتَه الخاصَّة التي بها يختارُ واعيًا ما يشاء، ويتحمَّلُ مسؤوليَّةَ اختيارِه لأعماله التي بموجِبِها يُثابُ أَو يُعاقَب؛ فإذا قرَّرَ الإنسانُ أَمرًا ما، يكونُ القرارُ صادرًا عن السيَّال الغالب على السيَّالات الأُخرى أَو عن مُحصَّلة النـزاع بينها. ولذلك نرى غيرَ قليلٍ من أولئكَ المُبدِعين ينقطعُ عنهم الإبداع الحقيقيّ بعد تسفيلهم لسيَّالاتهم.

لقد تعذَّرَ على السيكولوجيّين اكتناهُ الإلهام وفهمُ سرِّه، بعد أن رأَوه مُرتبطًا بالميتافيزيقا. وبما أَنَّ كثيرين منهم أخذوا يُؤثرون أن ينهجوا في مُعالجاتهم لموضوعاتهم النفسيَّة منهجَ العلوم الطبيعيَّة أي يبحثون في النفس من غير أَن يُؤمنوا بوجود النفس مُجاراةً لزيِّ العصر الآخِذ بالإلحاد والتفسيرات المادِّيـَّة فقد تجنَّبوا البحثَ في "الإلهام" واستعاروا له اسمًا آخَر هو "الحَدْس". لكنَّهم فوجِئوا بمُعضلة جديدة حينما تعذّرَ عليهم تفسيرُ كثيرٍ من الاكتشافات والاختراعات المهمَّة التي كانت مفاتيحُها أَو السبُلُ الموصِلة إليها تُشرِقُ فجأةً في أَذهانِ أَصحابِها؛[11] فاخترعوا، إذْ ذاك، مُصطلَحَ "الصُّدفة السعيدة" تهرُّبًا من مُواجهة المُعضلة.

كان أَفلاطون (427 ق م؟-347 ق م؟) أَوَّلَ مَن تحدَّثَ عن الإلهام في أثناء كلامه على العبقريَّة في كتابه "إيون" Ion فقال: "إنَّ موهبتَكَ الظاهرة في كلامِكَ البليغ على هوميروس ليست فنًّا (صناعة)، بل إلهام: ففي داخلِكَ إلهٌ يختلج." وتابعَ قائلاً: "[إنَّ الشاعر هو] شيءٌ مقدَّس، ولا يظهرُ منه أَيُّ إبداع حتَّى يُلهَم... ذلك لأنَّ الشاعرَ لا يُنشِدُ بفِعلِ فَنّ (صناعة)، بل بفِعلِ قوَّة إلهيَّة."[12]

وكثيرون من الفلاسفة ذهبوا مذهبَ أَفلاطون؛ منهم سبينوزا B. Spinoza (1632-1677)، وشيلِنـغ SchellingF. von (1775-1854)، وكروتشِه B. Croce (1866-1952)، وبِرغسون H. Bergson (1859-1941)، فكلُّهم يعتبرون الإلهامَ هِبةً شبهَ إلهيَّة.

وكثيرًا ما كان مُؤَسِّسُ الداهشيَّة يقولُ لي، عندما أَستشيرُه في مُعضلةٍ تعترضُني وتتعدَّدُ الحلولُ أمامي: "اتَّبِعْ إلهامَك." وقد يحدثُ أحيانًا أَن يُجاملَه أحدُ أتباعه مُلِحًّا عليه في أن يستقبلَ شخصًا ما، بينما يكون هو غيرَ راغبٍ في استقبالِه، فيحصلُ ضررٌ من الزيارة، فيقولُ لنا: "قلتُ لكم ’عليََّ أَن أتبعَ إلهامي دائمًا.‘"

 

الأَحـلام

عام 1899 أَصدرَ سيغموند فرويد كتابَه الشهير "الأَحلام"؛ فاعتبَرَته الأوساطُ المُؤَيِّدة للتحليل النفسانيّ إنجازًا كبيرًا. ومنذُ ذلك الحين صدرَت عشراتُ المحاولات التي نهجَت مناهجَ مختلفة، بل مُتضاربة أحيانًا في تفسير الأحلام، وكلٌّ منها يَدَّعي الصحَّةَ العِلميَّة. وبالرغم من ذلك فهذا الميدانُ ما يزالُ غامضًا جدًّا وحافلاً بالتخمينات والأوهام، وما يزالُ عالَمُ الأحلام موصَدَ الأبواب يأبى أن يقتحمَ أحدٌ مجاهيلَه ويفضَّ أَسرارَه.

يقولُ مُؤَسِّسُ الداهشيَّة، بعد استيقاظِه على أثرِ حُلمٍ مُزعِجٍ رآه:

إنَّ عالَمَ الأحلام ما يزالُ مُغلَقًا على الإنسان، لم يستطعْ أحدٌ أن يُحطِّمَ قيودَه. وقد ذهبَ علماءُ الأحلام في تفسيرِها مذاهبَ شتَّى، كلٌَّ حسبَ اجتهادِه.

كما إنَّ فرويد Freud خبطَ خَبطَ عشواء في تفاسيرِه للأحلام وتآويلها، إذْ أَرجعَها للناحية الجنسيَّة. فكلُّ هاجِسٍ، في رأيِه، مرَدُّه إلى الجنس؛ وكلُّ نأمةٍ سببُها الجنس؛ وكلُّ حُلمٍ، سواءٌ أكان جيِّدًا أم خبيثًا، مَرجعُه الجنس!

والخُلاصة لم يستطعْ أَيُّ عالِمٍ نفسانيّ أو مُؤَوِّلٍ للأحلام أَن يأتيَنا بتفسيرٍ حقيقيّ صحيح لِما نراهُ في أَحلامِنا.

أمَّا أَنا فأَقول: إنَّ أَحـلامَنا (ليس كلُّ حُلـم طبعًا)، بل الأحـلام التي لها معنًى وتستدعي تفسيرًا، أَسبابُـها روحيَّـة، ودوافعُها روحيَّة.

ثمّ ضربَ مثَلَين على قولِه استقاهما من الكتاب المقدَّس: الأوَّل الحلم الذي رآه فرعونُ مصر، ولم يستطعْ أن يفضَّ سرَّه إلاَّ يوسف الصدِّيق؛ والثاني الحلم الذي رآه نبوخذنصَّر، ولم يقوَ على تفسيرِه إلاَّ النبيُّ دانيال.[13]

ويُعلِّقُ الدكتور داهش على تفسير الحُلمَين قائلاً:

من هنا يرى القارئ أَنَّّ الأحلامَ سبـبُها روحيّ، إذْ عندما يعجزُ جميعُ المُدَّعين بعلمِ الغَيب والمُتشدِّقين بعِلم النفس ومَن ضربَ بمعاولِهم عن الإتيان بتفسيرٍ صحيحٍ لها، يبقى النبيُّ وحده قادرًا على تفسير الحُلم وتفصيلِ وقائعه، لأنَّه يملكُ الناحية الروحيَّة، أَي إنَّه موهوبٌ من السماء قوَّةً روحيَّة يستطيعُ بواسطتِها فضَّ مغاليق عالَمِ المجهول. وما خَلا هذا فكلُّه سفسطة وأَضاليل.[14]

وذلك لا يمنع، وَفقَ ما أَعلمَني الدكتور داهش، أن يكونَ كلُّ إنسانٍ مسؤولاً عن أحلامِه، وعمَّا يرتكبُ فيها من خيرٍ أو شرّ، بسببِ ارتباطِه غير المباشر بالسيَّال الـمَعنيِّ بالحُلم. ولذلك كان مُؤَسِّسُ الداهشيَّة يطلبُ من أتباعِه أن يكتبوا "الرمزَ الداهشيَّ " المقدَّس ويطلبوا فيه أن يكون تأويلُ الحلم للخير في حال رؤيتِهم أحلامًا سيِّئة.

ويسوغُ القول إنَّ كثيرين من المُفكِّرين وعُلماء النفس المُعاصرين بدأُوا يقتربون بعضَ الشيء مِمَّا تذهبُ إليه الداهشيَّة. فقد ناهضوا نظريَّةَ فرويد واعتبروا أَنَّها لا تُمثِّلُ من الإنسان إلاَّ المرتبةَ النفسيَّةَ الدُّنيا فيه حتَّى قال دالبييز Dalbiez : "إنَّ مُؤَلَّفات فرويد هي أَعمقُ تحليل عرفَه التاريخ لِما ليس في الإنسان هو أكثر إنسانيَّة."[15] كذلك ذهبَ شتوكر Stocker إلى أَنَّ فرويد "اكتفى في كلامِه على الإنسان بنظرةٍ بترَت منه رأسَه."[16] كما تنبَّهَ شتوكِر وبرتيليمي Berthélemy إلى أنَّ العقلَ الباطن لا بدَّ من أن يكونَ ذا بُعدَين، بُعدٍ سُفليّ، وآخرَ روحيٍّ عُلويّ يُلهِمُ الاكتشافات والاختراعات والأعمالَ الإبداعيَّة الفكريَّة والأدبيَّة والفنِّـيَّة والدعواتِ الروحيَّة السامية.[17]

أَخيرًا، لا بُدَّ من السؤال: لماذا لا يستطيعُ الإنسانُ أن يُفسِّرَ أحلامَه؟

لقد سبقَ أَن أظهرتُ أَنَّ لكلِّ إنسان عقلاً باطنًا ذا أَربعة أَبعاد: بُعدٍ يتغلغلُ في سيَّالِه الأساسيّ الذي يشبكُه بكلِّ البشر، وثلاثةِ أَبعادٍ أُخرى أرضيَّة وسُفليَّة وعُلويَّة. وقد فهمتُ من مُؤَسِّس الداهشيَّة أنَّ الحلمَ الذي يراه النائم، إذا لم يكن أَضغاثَ أحلام، فليس بالضرورة أَن يكونَ صورةً تعكسُ حاجاتِه أَو رغباتِه أو أحوالَه أو دوافعَه النفسيَّة الشخصيَّة. فقد يعكسُ الحُلمُ حالةً أو حادثةً رهيبةً أَو مُمتعةً أو عجيبةً يمرُّ فيها سيَّالٌ تابعٌ له، يكونُ في تقمُّصٍ سابق أو شخصٍ آخَر أو عالَمٍ آخَر أو حيوانٍ أو أَيِّ كائنٍ مرتبطٍ بشبكته الروحيَّة، لكنَّ السيَّالَ الحالِمَ لا يكونُ بالضرورة في جسمه الحاليّ. وبما أَنَّ هذا السيَّال جزءٌ من شبكةِ النائم الروحيَّة، فإنَّ ما يحدثُ لهذا السيَّال أَو ما يشعرُ به يتركُ آثارَه الواقعيَّة أَو الرمزيَّة في عقل النائم الباطن الذي يشملُ الأبعادَ الأربعة المُشار إليها سابقًا. فالأمرُ في مُنتهى التعقيد، ويتجاوزُ حدودَ الإدراك البشريّ. ولذلك حصرَ الكتابُ المقدَّس في الأنبياء القدرةَ على تفسير الأحلام.

 

الـرُّؤَى

وقد عرفتُ من مُؤَسِّس الداهشيَّة أَنَّ الأَحلامَ الروحيَّة قد تتحوَّلُ إلى رُؤًى في أَثناء النوم، أَي أَحلامٍ صحيحة ذاتِ وقائعَ وتواريخَ واقعيَّة لأحداثٍ مجهولةٍ ماضية أَو حاضرة أَو مُقبلة، وذلك لأسبابٍ روحيَّة. لكنَّها أَكثرُ ما تحدثُ في خلال بعثات الأَنبياء، إذْ تحلُّ سيَّالاتٌ عُلويَّة في بعض أَتباعِهم المُقرَّبين، ومردُّ ذلك إلى قربِ السيَّالات تلك من سيّالات النبيّ. من أمثال ذلك رؤيا يوسف إذْ ظهرَ له ملاكٌ في الحلُم وبشَّرَه بولادةِ ابنٍ له من مريمَ العذراء؛ ورؤيا شاوُل، وهو في دمشق، بأنَّ رجلاً اسمُه حنانيَّا دخلَ إليه ووضعَ يدَيه عليه، فشُفِيَ من العمى، ورؤيا حنانيَّا نفسه إذْ أُوعِزَ إليه بأن يذهبَ إلى حيثُ شاوُل لأنَّ الربَّ اختارَه رسولاً إلى الأُمَم.[18]

وفي كتابات مُؤَسِّس الداهشيَّة أَمثلة كثيرة على الرُّؤى الصحيحة. ففي "رؤيا مُخيفة تُحقِّقُها الأَيَّام" يسردُ ما رآه في الحلُم بتاريخ 10 تـمُّوز (يوليو) 1944، ثمّ كيف تحقَّقَت رؤياه في الأحداث التي وقعَت له في 28 آب (أُوغسطس) من العام نفسه، إذْ أُلقيَ القبضُ عليه من قِبَل السلطات الغاشمة.[19] كذلك الرؤيا التي تجلَّت له فيها الشهيدةُ ماجْـدا حدَّاد تُبشِّرُه بسقوط الرئيس الذي اضطهدَه.[20] والرؤيا السامية التي شاهدَ فيها مباهجَ الفراديس والأنبياءَ، وسعادةَ الأبرار من المُؤمنين برسالته، وعذابَ المُنافقين والأَشرار من مُضطهِديه.[21]

وفي "أَسرار الموت والحياة" يُبدي الدكتور داهش أَنَّ مَن أَوصلَ سيَّالَه إلى درجةٍ روحيَّة تُمكِّنُه من دخول أَحدِ عوالمِ النعيم، فإنَّه قد يدخلُ في خلال أحلامِه فردوسًا يكون بدرجةِ سيَّالِه نفسها. وما يراه من رُؤًى يكونُ واقعيًّا صحيحًا. ويوضِحُ "أنَّّ الحلُم الذي يراه الحالِم في عالَمِ الأرض لمدَّة دقائق، يحياه في عالَمِ الفردَوس هذا [أَي الذي وصفَه] أَعوامًا عديدة."[22]

ومن قراءة قِصَصِ الدكتور داهش يتَّضحُ أنَّ الرُّؤى قد تحدثُ لأشخاصٍ مُميَّزين كما لأشخاصٍ عاديِّـين، وذلك لأَسبابٍ روحيَّة، منها إظهارُ العدالة الإلهيَّة، وكَشفُ التقمُّصات أَو بعض الأَسرار الروحيَّة.

ففي قصَّة "صفحة مجهولة من غرام الإمبراطور نابليون" يروى كيف تراءت له بوليت غوتيه في عدَّة أَحلام، رآها في آخرِها برفقةِ فتاةٍ والأمواجُ تُغالبُهما حتَّى تبتلعَهما، وشاهدَ نفسَه طائرًا فوق جثَّتَيهما. ثمَّ عرفَها في الواقع وأقام علاقةً خفيَّةً معها. وبعد أن سقطَ عرشُه ونُفِيَ إلى جزيرة سانت هيلانه، كادت بوليت التي رُزِقت بابنةٍ منه سرًّا أَن تُجَنّ؛ فاستقلَّت زورقًا وانطلقَت إلى جزيرة مَنفاه. لكنَّ الأمواج هاجت فابتلَعتها مع ابنتِها هنريِت. وفي اللحظةِ نفسِها انطلقَت نفسُ نابليون.[23]

وفي "حرمخيس وأَمونارِتس" يروي الدكتور داهش قصَّةَ حبٍّ مُفاجئ شبَّت نارُه بين الكاهن حرمخيس وإحدى الفتيات الجميلات اللواتي كنَّ يتردَّدنَ إلى المعبد، فوقعَ الكاهنُ في غيبوبة بينما كان مع حبيبتِه، وتجلَّى له أُوزيريس وقال له: "لقد عفَوتُ عنكَ، أَيُّها الكاهن، فأَمونارِتس جزءٌ منك، وقد كنتما كزوجَين منذ آلاف الأعوام البائدة... لذلك سأَدعُ اليومَ جميعَ الكَهَنة يحلمون حُلمًا واحدًا يختصُّ بزواجِكَ لكي لا تُطرَدَ من هيكلي عندما يُعرَف حبُّكما. وعند ارتباطكَ بمواثيق الزواج بها، تُرسَمُ هي كاهنة، وتُصبحُ أَنتَ، إذْ ذاك، رئيسَ الكَهنة..." وما لبثَت الرؤيا أَن تحقَّقَت.

وفي "الكلب الشريد الطريد" يُشاهد مالكولم، في رؤيا، تقمُّصَه السابق؛ وفي "مَن القاتل؟" يعترفُ الهندوسيّ شاندرا بوزو، بعد رؤيا رآها، بأنَّه هو الذي قتلَ سيِّدَه لضربه البقرة؛ وينكشفُ في رؤيا "الأعمى" سببُ عَماه.[24]

 

صورةُ الإنسان الكُلِّـيَّة

تلك هي صورةُ الإنسان الكُلِّـيَّة خارجَ ذاته الإلهيَّة التي انفصلَ عنها. وهي صورةٌ تُساعدُ على إيضاح مركز كلِّ فرد بالنسبة إلى غيره من المخلوقات. فكلُّ إنسانٍ هو أَشبهُ بعقدة حيَّة مُميَّزة في شبكة من السيَّالات الروحيَّة الخاصَّة به والتي تُهيمنُ روحُه الإلهيَّةُ عليها هيمنةً غيرَ مباشرة. ومثلما أَنَّ الروح تتأَثَّرُ درجتُها بمُستويات مجموع سيَّالاتها في العوالم المادِّيـَّة، فالفردُ البشريُّ، الذي هو جزءٌ بسيطٌ من تلك الشبكة الروحيَّة المُنبثَّة في أرجاء الكون، يتأَثَّرُ أَيضًا بكلِّ حركةٍ عُلويَّة أو سُفليَّة تطرأُ على الشبكة التي ينتمي إليها. ولِذا فقيمةُ الإنسان الحقيقيَّة ليست محدودةً بسيَّالاته الذاتيَّة التي هي قوامُ كيانه العُضويّ، بل تتأَثَّرُ أيضًا بسيَّالاته اللاذاتيَّة، سيَّالات عقله الباطن في أَبعادها الأربعة.

أَمَّا ما اصطُلِحَ على تسميته بـ"شخصيَّة" الإنسان، فإنَّما هو كيانٌ عابرٌ زائل يضمُّ مجموعةً من السيَّالات ذاتَ تجسّدٍ معيَّن. وبعبارةٍ أُخرى، إنَّ الشخصيَّةَ البشريَّة تنظيمٌ مُؤقَّتٌ خاصّ يشملُ سيَّالاً رئيسيًّا هو الأَهمّ، وسيَّالاتٍ أُخرى معيَّنة تُميِّزُ فردًا ما، مُحدِّدةً كيانَه العُضويّ، أَي بناءَه الجسميَّ-النفسيّ، وتفرُّدَ نشاطه وتطوُّرَه وتفاعُلَه مع مجالِه الحيَويّ مدى دورٍ واحد من أَدوار حياته التقمُّصيَّة. من ذلك نرى أَنَّ الشخصيَّةَ البشريَّةَ كيانٌ جزئيّ ناقص لا يُحقِّقُ غايةَ تمامه إلاَّ في اتِّحادِه بالروح التي انبثقَ منها. كذلك لا تُحقِّقُ الروحُ كمالََها وتمامَ معرفتها وقدرتها وسعادتها ومجدها إلاَّ باندماجها بالقوَّةِ الموجِدة التي أَبدَعتها. وهذا الأمرُ الأَجلُّ يستحيلُ تمامُه إلاَّ بعد أَن تكونَ جميعُ السيَّالات الروحيَّة التي انبثقَت من الروح وهبطَت إلى عوالم مادِّيـَّة قد تسامت في عوالمِ النعيم بأَسرِها، ثمَّ تجاوزتها مُتجرِّدةً ومُتحرِّرة من كلِّ كثافةٍ مادِّيَّة، وارتقَت إلى العوالم الروحيَّة الخالدة، وصعَّدَت في معراجها مئةً وخمسين درجة حتَّى تجاوزت الأُولى منها؛ فإذْ ذاك تندمجُ بالعزَّة الإلهيَّـة. وهذا الحلمُ الأعظم لم تُحقِّقه بعد أَيَّةُ روح منذ بدءِ الخليقة.

وهكذا بفضلِ التعاليم الداهشيَّة الموحاة تنجلي، للمرَّةِ الأُولى في تاريخ الفكر والأديان ، حقيقةُ الإنسان النفسيَّة جلاءً لم يكُن مَيسورًا من قبل؛ فنُدرك أَنَّ لكلِّ إنسانٍ ذاتًا عُظمى هي روحٌ إلهيَّة انبثقَ منها، وأنَّ نفسَه البشريَّة تشتملُ على ذواتٍ صُغرى مُختلفة الدرجات الروحيَّة ومُرتبطة ارتباطًا غير مباشر بذواتٍ صُغرى غيرها في الأرض أو في عوالمَ عُلويَّة أو سُفليَّة، وأنَّ طريقَ خلاصه هو في أن يتغلَّب على رغباته الأرضيَّة ووساوسه السفليَّة، ويُوجِّه أَفكارَه ونزعاتِه نحو كلِّ ما هو خيرٌ وحقٌّ وجمال. ذلك بأنَّ قيمةَ الإنسان الروحيَّة تكمنُ في نوع العلاقات التي يُقيمُها سيَّالُه الرئيسيّ مع سيَّالاته الواعية الأخرى كما مع سيَّالاته الباطنيَّة ومع أَمِّه، الروح الإلهيَّة التي انبثقَ منها. وقد أَدركَت دانا زوهار بعضَ هذه الحقيقة حين قالت: "أَنا مُرادفة لعلاقاتي علاقاتي مع ذواتي الصُّغرى التي في شخصيَّتي (الماضية والآتية)، وعلاقاتي مع الاخَرين، ومع العالَمِ كلِّه."[25]

 

البرهانُ المادّيّ على خلود النفس

بعد هذه الجولة الداهشيَّة إيضاحًا للكيان النفسيّ، هل ثمَّةَ برهانٌ مادِّيّ على خلود النفس؟

التعاليمُ الداهشيَّة تُؤَكِّدُ أنَّ السيَّالات التي تشتملُ عليها نفسُ الإنسان لا تفنى، كشأنِ السيَّالات في الكون كلِّه، لأنَّ جوهرَها روحيّ وذو اتِّصال بالعالَمِ الروحيِّ الخالد حيثُ أُمَّهاتُها الأرواحُ السرمديَّة. والبرهانُ المادِّيّ الحاسِم على خلود الروح هو المُعجزاتُ الملموسة التي تخرقُ القوانينَ الطبيعيَّة بالنسبة لمعرفتِنا البشريَّة القاصرة، ولا تخرقُها بالنسبة لمعرفتها الكاملة التي تُحيطُ بأسرارِ كلِّ شيء. يقولُ مُؤَسِّسُ الداهشيَّة موضِحًا هذا الأمر الخطير:

هذا البرهانُ القاطع الحاسِم يلمسُه كلُّ إنسان يحضرُ إحدى الجلساتِ الروحيَّة التي أَعقدُها. ففي أَثناء الجلسة تتجسَّدُ روحٌ[26] يُمكنُ أَن يُخاطبَها المرءُ وتُخاطبَه من غيرِ لبسٍ أَو غموض، وبقدرتها أَن تُحدِثَ خوارقَ ومُعجزات دلالةً على وجودِها. ولنفرُضْ أَنَّ ساعتَكَ التي تعرفُها جيِّدًا كانت في منـزلكوكان منـزلُكَ في أَمريكا أَو الصين أَو القاهرة أَو بيروت فبُعدُ المكان لا أَهمِّـيَّةَ له على الإطلاق، وإذْ ذاك يطلبُ حاضِرُ الجلسة من الروح أَن تُحضِرَ له ساعتَه.

ويكونُ الجوابُ مُدهِشًا سريعًا، إذْ إنَّه في أَقلّ من ثانية يجدُ ساعتَه في معصمِه. وهذا برهانٌ مادِّيّ دامِغ لا يُمكنُ دحضُه على الإطلاق. فإذا كان حاضِرُ الجلسة مسيحيًّا ترسَّخَ إيمانُه بأَناجيلِه؛ وإذا كان مُسلِمًا ازداد إيمانُه بما أُنزِلَ في القرآن الكريم؛ وإذا كان يهوديًّا قويَ إيمانُه بتوراتِه، وهلمَّ جرًّا. فالغايةُ من الجلسة الروحيَّة إذًا هي مُساعدةُ الناس على العودة إلى الإيمان الدينيّ بالتمرُّس بالخير والفضيلة. وهذا يُعَدُّ انتصارًا للروح على المادَّة في عصرٍ تغلَّبَت فيه المادَّةُ على الروح. وليس الأمرُ مُقتصرًا على هذه الظاهرة فقط، بل تحدثُ في أَثناء الجلسة خوارقُ عديدة كلٌّ منها من شأنِه أَن يُرسِّخَ الإيمان في قلوبِ الحاضرين لها.

يُمكنُكَ، مَثلاً، أَن تُحضِرَ معكَ صحنَ الطعام الذي تتناولُ فيه طعامَكَ بمـنزلِك. وهذا الصحن مادَّتُه بورسلين. فعندما تتجسَّدُ الروح، بإمكانِكَ أَن تطلبَ منها أَن تُحوِّلَ لكَ مادَّتَه إلى خشب. وفي الحال يتحوَّلُ الصحنُ، وأنتَ مُمسِكٌ به بكِلتا يدَيك، إلى صحن خشبيّ يبقى عندكَ بمادَّتِه الخشبيَّة طوالَ الأيَّام والأعوام. كما بإمكانكَ أن تطلبَ من الروح أَن تحوِّلـه مثلاً إلى مادَّة حديديـَّة، وبلحظة يثقلُ وزنُه، إذْ يتحوَّلُ مثلاً إلى صحن حديديّ، بينما أنتَ مُمسِكٌ به جيِّدًا بكلتا يدَيك. وهكذا يُمكنُكَ أَن تطلب من الروح أَن تحوِّلَـه لأَيِّ نوعٍ تُحبُّه أنت، إلى قصدير أو كريستال...

وعندما سُئلَ الدكتور داهش: هل بإمكان الروح أن تُحوِّلَ الصحن إلى ذهب؟ رَدَّ بالإيجاب، لكنَّه أوضحَ أنَّ الغاية ليست الاستفادة من المُعجزات لإشباع المطامع الدنيويَّة؛ فالسيِّدُ المسيح لم يكن عاجزًا عن استحضار نقود وإعطائها لتلاميذه الجائعين، وهو الذي أطعمَ الآلافَ من بضعة أرغفة. واستطرد موضِحًا:

لكنَّه لو فعَل لَما كان وُجِدَ دينٌ اسمُه الدينُ المسيحيّ، لأنَّ الناسَ، إذْ ذاك، كانوا يقولون: إنَّ التلاميذ يتبعونه لأنَّه يُغدِقُ الأموالَ عليهم. كما إنَّه يجبُ أَن يشقى هؤلاء التلاميذ وعلى رأسهم سيِّدُهم، فيُضنيهم الجوع والعُريُ والعذاب والكفاح، حتَّى يستحقَّ كلٌّ منهم المُكافأَة على جهاده الفادِح. فإذا كنتَ أنتَ في جلسة روحيَّة، وطلبتَ من الروح أَن تُحوِّلَ لكَ الصحنَ إلى ذهَب، لَقالت لكَ الروح، مثلاً: ’إنتزِعْ مسمارًا من الحائط وأَمسِكه جيِّدًا بيدِك.‘ وبينما أنتَ مُمسِكٌ به يتحوَّلُ إلى مسمارٍ ذهبيّ، ويُمكنُكَ أن تأخذَه للصاغة، فيُؤكِّدون لكَ أَنَّه ذهب لا غُبارَ عليه... ولكنَّ الظاهراتِ الروحيَّة إنَّما تتمُّ لأجل إدخال الإيمان في القلوب، وليس للإفادة المادِّيـَّة والاستفادة على الإطلاق، أَي إنَّ الظاهرة لا تحصلُ ليبتهجَ المُشاهِد بما شاهَد، لكنَّه يدخلُ كافرًا، ليخرجَ مُؤمنًا بربِّه وبيومِه الأخير.[27]

 

ألمراجع:


[1]. الدكتور داهش: "قِصص غريبة وأَساطير عجيبة"، ج 1 (بيروت: دار النسر المحلِّق، 1979)، ص 155-156.

[2]. الدكتور داهش: "قِصَص غريبة وأَقاصيص عجيبة"، ج 3 قَيد النشر.

[3]. رسالة بولس إلى روما 5:12.

A. Policard. Cellules vivantes et populations cellulaires. Paris, 1994, p. 143. . [4]

P. Winterbert. Le vivant créateur de son évolution (Paris, 1963), pp. 48, 249-250, . [5]

360-361.

 

Grande encyclopédie, tome 1, “Abeilles”; tome 5, “chat”; Science et vie, Nov. 1974, .[6]

p. 50.

 

Cleve Backster, “Primary Perception and How it Came About” in Dahesh Voice, Winter 2004, pp. 23-35. [7]

[8]. لقد كان العالِمُ النفسيُّ السويسريّ كارْل يونغ Carl Jung (1875-1961) أَوَّلَ مَن ذهبَ إلى أَنَّّ للإنسان "عقلاً باطنًا جمْعيًّا" collective unconscious ، وذلك من خلال ملاحظته ظاهراتٍ دينيّة واجتماعيّة ذاتَ دلالات رمزيَّة لا تخضعُ لرقابةِ العقلِ الواعي، وهي مُشتركة بين جماعاتٍ مختلفة. لكنَّه، مع ذلك، لم يستطع أن يُدركَ حقيقةَ هذا البُعد الأرضيّ للعقل الباطن في الإنسان.

[9]. الدكتور داهش: "قِصص غريبة وأَساطير عجيبة"، ج 3، قَيد النشر.

Martin E. P. Seligman. What You Can Change and What You Can’t. New York: A. Knopf, 1994.
وكذلك مُراجعة هذا الكتاب في "صوت داهش"، السنة الثانية، العدد الثاني، سبتمبر (أيلول) 1996، ص 72.
Paul Roberts, “Forbidden Thinking” in Psychology Today, May/June, 1995, أنظر كذلك:
pp. 34-40 & 62-68. [10]

[11]. وُضِعَت عشراتُ السِّيَر المُنفردة للمُخترعين والمُكتشفين فضلاً عن كتُبٍ جامعة لسيَرِهم؛ من هذه الأخيرة:
Dean Keith Simonton. Greatness New York/London: The Guilford Press, 1994.
Daniel J. Boorstein. The Discoverers: A History of Man’s Search to Know His World and Himself. N. Y. : Random House, 1983.

Plato. The Collected Dialogues (New Jersey: Princeton . [12]

University Press, 1999), pp. 220-221.

[13]. أنظر سِفر التكوين: 40 و41؛ وكذلك سِفر دانيال: 2 و3 و4.

[14]. الدكتور داهش:" الرحلاتُ الداهشيَّة حول الكُرةِ الأرضيَّة"، ج 1 (بيروت: دار النسر المُحلِّق، 1982)، ص 92-93.

R. Dalbiez. La méthode psychanalytique et la doctrine freudienne, t. 2 (Paris: .[15]

Desclée de Brouwer et cie, 1949), p. 384.

A. Stocker. De la psychanalyse à la psychosynthèse (Paris: Beauchesne et ses fils, . [16]

1957), pp. 8-9, 57.

A. Stocker. Etudes sur la psychologie de l’homme (Saint-Maurice: Ed. St. Augustin, . [17]

1956), 3ème Partie

[18]. إنجيل متَّى 1: 20-21. سِفر أعمال الرُّسُل: 9: 10-16.

[19]. الدكتور داهش: "قِصص غريبة وأَساطير عجيبة"، ج1 ، ص 12-19.

[20]. "الرسائل المُتبادَلة بين الدكتور داهش مُؤَسِّس الداهشيَّة والدكتور حسَين هيكل باشا" (بيروت: دار النسر المُحلِّق، 1981) ، ص97-98.

[21]. الدكتور داهش: "قِصص غريبة وأَساطير عجيبة"، ج 3، "حلُم مَهيب رهيب"، قَيد النشر.

[22]. الدكتور داهش: "قِصص غريبة وأَساطير عجيبة"، ج 2، ص 188-195.

[23]. الدكتور داهش: "قِصص غريبة وأَساطير عجيبة"، ج 1، ص 56-61.

[24]. الدكتور داهش: "قِصص غريبة وأَساطير عجيبة"، ج 1، ص 54، وج 2، ص 179 و211.

Dana Zohar. The Quantum Self: Human Nature and Consciousness Defined by the New Physics (New York: Quill/William Morrow, 1990), p. 237. [25]

[26]. أراد الدكتور داهش أن يُبسِّطَ الشرح للقارئ تسهيلاً، لكنَّ الأمر أكثرُ تعقيدًا. فالروح لا تتجسَّدُ على الإطلاق، إنَّما يحصلُ تماسٌّ بين سيَّال الدكتور داهش الأسمى والروح التي لا تُبارحُ عالَمَها الإلهيّ. وبفضلِ هذا التماسّ تحدثُ المُعجزات.

[27] . مجلَّة "بروق ورعود"، السنة الأولى، العدد الأوَّل،23 آذار 1968، صفحة 5-6.

وقد جرَت عدَّةُ مُحاولات طبِّـيَّة للبرهنة على وجودٍ لنفسٍ مُستقلَّة عن الجسد من خلال ما لاحظه الأطبَّاء في المُستشفى العامّ بساوثمبتن Southampton بإنكلترا من نشاطٍ فكريّ وعمليّ ومُحادثاتٍ مع آخرين كان يتذكَّرُها فئةٌ غيرُ قليلة مِمَّن توقَّفَ عملُ أدمغتِهم ثمَّ أُنعِشَت حياتُهم. وقد نُشِرت دراستُهم في مجلَّة Resusscitation ، عدد تمُّوز (يوليو) عام 2001. كذلك جرَت أبحاثٌ مُماثلة تناولَت 344 شخصًا مِمَّن توقَّفَ عملُ أَدمغتهم، ثمَّ تَـمَّ إنعاشهم. واستطاع 62 منهم أن يتذكَّروا نشاطًا قاموا به في أثناء غيبوبتهم. وقد نُشِرت الدراسات في مجلَّة Lancet الطبّـيَّة، عدد كانون الأوَّ ل (ديسمبر) عام 2001. لكنَّ هذه النتائج يردُّها أطبّاءُ كثيرون إلى عواملَ فيزيولوجيَّة.

كذلك حاولَ بعضُ العلماء أن يُبرهنوا علميًّا وجودَ قوَّةٍ خالدة، لكنَّ أبحاثَهم شديدةُ الصعوبة، تتخطَّى إدراكَ معظم المثقَّفين. أنظر على سبيل المثال: F. Tipler. The Physics of Immortality. N. Y.: Doubleday, 1994.

 

Back to التعاليم الداهشيَّة بقلم الدكتور غازي براكس

Developed by Houssam Ballout        Copyright 2019 This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.nfo All Right Reseved This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.