أنا أؤمن بأنه توجـد عدالة سماويّة, وأن جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدنيا من مُنغصات انَّ هـو الاّ جـزاءٌ وفاق لِما أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور.ولهـذا يجب علينا أن نستقبلَ كلّ مـا يحـلّ بنـا من آلامِ الحياةِ ومآسيها غير مُتبرّمين ولا متذمّرين , بل قانعين بعدالةِ السماء ونُظمها السامية.

Highlighter
أحبُّ الكُتُبَ حبَّ السُكارى للخمر , لكنَّني كلَّما أزددتُ منها شرباً, زادتني صَحوا
ليس مّنْ يكتُبُ للهو كمَن يكتُبُ للحقيقة
الجمالُ والعفّــة فـردوسٌ سماويّ .
لا معنى لحياةِ ألأنسان اذا لم يقم بعملٍ انسانيٍّ جليل .
اعمل الخير , وأعضد المساكين , تحصل على السعادة .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقـوم بأعمالِ الخير نحـو ألأنسانيّة .
الموتُ يقظةٌ جميلة ينشُدها كل مَنْ صَفَتْ نفسه وطَهرت روحه , ويخافها كلّ من ثقُلت أفكاره وزادت أوزاره .
ان أجسامنا الماديّة ستمتدّ اليها يـد ألأقـدار فتحطِّمها , ثمّ تعمل فيها أنامل الدهـر فتتَّغير معالمها , وتجعلها مهزلةً مرذولة . أمّا ألأعمال الصالحة وألأتجاهات النبيلة السّامية , فهي هي التي يتنسَّم ملائكة اللّه عبيرها الخالد .
نأتي إلى هذا العالمِ باكين مُعولين، و نغادره باكين مُعولين! فواهً لك يا عالمَ البكاء والعويل!
جميعنا مُغترٌّ مخدوعٌ ببعضه البعض.
العدلُ كلمة خُرافية مُضحكة.
أمجادُ هذا العالم وهمٌ باطل، و لونٌ حائل، و ظلٌّ زائل.
لا باركَ الله في تلك الساعة التي فتحتُ فيها عينيّ فإذا بي في مكانٍ يطلقون عليه اسم العالم .
أنا غريبٌ في هذا العالم، و كم احنُّ إلى تلك الساعة التي اعود فيها إلى وطني الحقيقيّ.
الحياةُ سفينةٌ عظيمة رائعة تمخرُ في بحرٍ، ماؤه الآثام البشريَّة الطافحة، و امواجه شهواتهم البهيميَّة الطامحة، و شطآنه نهايتهم المؤلمة الصادعة.
كلّنا ذلك الذئبُ المُفترس , يردع غيره عن اتيانِ الموبقاتِ وهو زعيمها وحامل لوائها , المُقوّض لصروح الفضيلة , ورافع أساس بناءِ الرذيلة .
الحياةُ سلسلة اضطراباتٍ وأهوال , والمرءُ يتقلَّب في أعماقها , حتى يأتيه داعي الموت, فيذهب الى المجهولِ الرهيب , وهو يجهلُ موته , كما كان يجهلُ حياته .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقومَ بأعمالِ الخير نحو الانسانيّة .
المالُ ميزان الشرِّ في هذا العالم .
السعادةُ ليست في المال , ولكن في هدوءِ البال .
كلُّ شيءٍ عظيمٍ في النفسِ العظيمة , أمّا في النفسِ الحقيرة فكلُّ شيءٍ حقير .
الرُّوح نسمةٌ يُرسلها الخالق لخلائقه لأجل , ثم تعودُ اليه بعجل .
الرُّوح نفثةٌ الهيَّة تحتلُّ الخلائق , وكل منها للعودة الى خالقها تائق .
الرُّوح سرٌّ الهيٌّ موصَدْ لا يعرفه الاّ خالق الأرواح بارادته , فمنه أتتْ واليه تعود .
أنا أؤمن بأنه توجـد عدالةٌ سماويّة , وأنَّ جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدُّنيا من مُنغِّصاتٍ وأكدارٍ انَّ هـو الاَّ جـزاء وفاق لمِا أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور . ولهـذا يجب علينا أن نستقبل كلَّ مـا يحـلُّ بنـا من آلام الحياة ومآسيها غير م
الحرّيةُ منحة من السماءِ لأبناءِ ألأرض .
الموتُ ملاكُ رحمةٍ سماويّ يعطف على البشر المُتألّمين , وبلمسةٍ سحريّة من أنامله اللطيفة يُنيلهم الهناء العلويّ .
ما أنقى من يتغلّب على ميولِ جسده الوضيع الفاني , ويتبع ما تُريده الرُّوح النقيّة .
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
الراحة التامّة مفقودة في هذا العالم , وكيفما بحثت عنها فأنت عائدٌ منها بصفقةِ الخاسر المَغبون .
ليس أللّــه مع الظالم بل مع الحقّ.
ان الصديق الحقيقي لا وجود له في هذا العالم الكاذب.
ما أكثر القائلين بالعطف على البائسين وغوث الملهوفين والحنو على القانطين , وما أقلَّ تنفيذهم القول.
يظنُّ بعض ألأنذال ألأدنياء أنّهم يُبيّضون صحائفهم بتسويدِ صحائف الأبرياء , غير عالمين بأنَّ الدوائر ستدور عليهم وتُشهّرهم.
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السَّلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
رهبة المجهول شقاء للبشرِ الجاهلين للأسرارِ الروحيَّة , وسعادة للذين تكشّفت لهم الحقائق السماويَّة .
الموتُ نهاية كل حيّ , ولكنه فترة انتقال : امّا الى نعيم , وامّا الى جحيم .
الحياةُ خير معلِّمٍ ومُؤدِّب , وخيرَ واقٍ للمرءِ من الأنزلاقِ الى مهاوي الحضيض .
حين تشكُّ بأقربِ المُقرَّبين اليك تبدأ في فهمِ حقائق هذا الكون .
مَنْ يكون ذلك القدّيس الذي لم تخطرُ المرأة في باله ؟ لو وجدَ هذا لشبَّهته بالآلهة .
المرأة هي إله هذه الأرض الواسع السُّلطان. و هي تحملُ بيدها سيفاً قاطعاً لو حاولَ رجالُ الأرض قاطبةً انتزاعه منها لباؤوا بالفشلِ و الخذلان .

الطريق إلى "العالم الواحد" (4)

مسؤوليّة الحكومات وأهل الدين والتوجيه في ضوء التعاليم الداهشية

رأينا في الحلقات السابقة (أعداد الشتاء والربيع والصيف2003) أن طريق السلام العالمي ما تزال وعثاء، لأن الطريق التي سلكته الدول منذ قيام عصبة الأمم بعد الحرب العالمية الاولى ثم قيام منظمة الأمم المتَّحدة بعيد الحرب العالمية الثانية لم تكن طريقًا صحيحة. وقد تنبأ مؤسسُ الداهشية بإخفاق مساعي السلام منذ بداية عام 1946. أما الطريق الصحيحة، في ضوء المفاهيم الداهشية، فتكونُ بالانتقال من العولمة في طرحها الحالي إلى "العالم الواحد" المبنيّ على القيم الروحيَّة والإنسانيّة. والوصول إليه يمهد بتغليب المبادئ التالية: أولاً، الأخذ بوحدة التراث الثقافي العالمي دونما استكبار ثقافةٍ على أخرى، لا سيما ان الاستعلاء الغربي لا يستند إلى أي واقع تاريخي؛ ثانيًا، اعتماد الارتقاء المُتكامل من خلال الاهتمام بترقية مدارك الناس ونزعاتهم معًا، فلا يكون التقدُّم التكنولوجي على حساب الانحطاط الخُلقي؛ ثالثاً، نشر الإيمان بوحدة الأديان الجوهريَّة المتولِّدة من الوحدة الروحية لمؤسسيها أنفسهم، وفق المبادئ الداهشيّة، كما من وحدة أهدافها الإنسانية المُشتركة ذات المرمى العالمي؛ رابعًا، تبني الحوار المنفتح بين الثقافات بحيثُ تتلاقحُ الأفكار والثقافات وتولد حضارةً إنسانيةً جديدة خيرًا من الأولى؛ خامسًا قبول التنوع الثقافي في الوحدة الحضارية العالمية؛ سادسًا، اقتناعُ الدول، حكوماتٍ وشعوبًا، بتهديد الأخطار العالمية الماحق للجميع، دوما استثناء، وبضرورة التعاون الدولي للتغلّب عليها، خصوصًا بعد أن أجمع كبارُ العلماء، حيثما كانوا، على التحذير من عواقبها الفادحة البشرية طرًا.

لكن المبادئ المذكورة لا يمكن تطبيقها ما لم تقترن بتبديد الحذر المُهيمن على الشعوب الضعيفة، وذلك بأن تُظْهِر الدول القوية استعدادها لبذل بعض التضحيات، فتحدث في هيكلية الأمم المُتَّحدة، بما فيها مجلسُ الأمن، تغييرًا يؤدي إلى إقامة العدالة والمساواة في التمثيل والتعامل بين الشعوب، وتعزيز دور الأمم المتحدة ومحكمتها الدولية، كما إلى تصرُّف الأقوياء تصرُّف قُدوةٍ عالمية. ولكن ما هي مسؤوليّة الحكومات وأهل الدين والتوجيه في كل ذلك؟

إن الفرق الكبير بين الدول المتقدِّمة والدول المُختلفة والفاسدة الحكم، المتمثّل في تفاوت الأنظمة السياسية، ومدى التمتع بالحريَّات الشخصيّة، كما في تطبيق العدالة السياسية والاجتماعية والقضائية، ليشكّل عقبةً صعبةً في طريق تقارب الدول جمعاء من أجل بناء"عالم واحد" فاستفادة الدول المتخلِّفة من الانفتاح الحضاري (التكنولوي والاقتصادي والثقافي) لا يمكن أن تتمَّ ما لم تتقارب أنظمتها السياسية، وتقم فيها العدالة، وتطلق الحريات الشخصية، لأن الإلتحام يستحيل أن يتمَّ بين مادتين اختلافهما أشبه باختلاف الحديد والخشب.

فالحديدُ لا يمتزجُ بالخشب، بل ينغرزُ فيه خارقًا إياه. وهكذا شأنُ الدول المتقدِّمة مع الدول المُتخلِّفة.

دساتير الأرض وقوانينها

في "مذكرات دينار" يُبدي الدكتور داهش رأيه في دساتير الدول وقوانينها، بصورةٍ عامة، في رسالةٍ خطتها لوسي، الفتاةُ الفقيرةُ النبيلة التي لم تطق الحياة بعد موت شقيقها المريض فانتحرت.

يا رجال التشريع، وجهابذة القانون، وفطاحل القائلين بوجوب خلق عالم تسودُ فيه العدالة الشاملة، والضلعاء في وضع دساتير المساواة والحرية والإخاء!

إن شرائعكم، أيها السادة، هي إحدى مهازل هذه الدنيا، ومسخرة من مساخرها. وإن اجتهاداتكم التي تولونها غاية عنايتكم لهي باطلة وقبض الريح.

فالحُرَّة، يا سادة، ترغمونها إرغامًا وتكرهونها إكراهًا على الأكل من ثدييها، ثم تطلبون مُحاكمتها.

وسارقُ الرغيف، ليسدُّ به جوعه، تلقونه في غياهب السجون. بعدما تشبعونه من إهاناتكم الكثيرة وسخرياتكم المريرة. أما سارقُ الألوف، فإنكم تشاركونه الغنيمة وتتقاسمونها فيما بينكم، ثم تطلقون سراحه(...)

إن دساتيركم تُقدِّس القوي الذي ينتزع اللقمة من فمِ الضعيف، وتمجّد الغني الذي يطأ رقاب الفقراء ويسخّرهم لإرادته...

أنا لا أنكر أنكم ملائتم المجلدات الضخمة بقوانينكم، واشترعتم البنود المُنمَّقة العبارات، ورصفتنم بها سجلات طافحةً بنظرياتكم الجميلة التي لو نفَّذتم بعضها بإخلاص، لاستحالت الارض إلى سماء...

إن الغاية التي من أجلها وضعت الدساتير والقوانين، في ضوء التعاليم الداهشية، هي إنشاءُ مجتمع تسودُه العدالة، ويتمكّن أفراده من السعي إلى تحقيق سعادة نسبيّة بقدر ما تسمحُ به درجةُ الأرض الروحيّة. فلا مجال لأي هناء، أو سعادة نسبيّة، لفقير يستعطي وليس من قلب يرحم، أو مريضٍ يتألم وهو عاجزٌ عن ابتياع دواء،أو خائفٍ على عرضه أو نفسه أو ممتلكاته من السطو عليها وليس من حامٍ، أو إنسانٍ تمتهن كرامته ويعامل معاملةً السلعة ولا من معين، أو مظلوم مكموم الفم ولا من ناصر، أو صاحب فكرٍ مُبدعٍ مخنوق الموهبة...

   لذلك على حكومات الدول المُتخلِّفة أن تبدأ الخطوة الأولى في بناء الدولة على دساتير وقوانين حديثة أطلعتها تجارب التحرّر والتطوّر في العالم الحديث، وتسعى سعيًا جادًا حثيثًا لتنفيذها، فلا تبقى حبرًا على ورق؛ لأنه لا يمكنها، بدون تطبيقها، مواكبة العالم المُتقدم ومشاركته في الفوائد الجديدة الناتجة عن التقدم العلمي والتكنولوجي.

                لكن مؤسس الداهشية رأى في كتابه المُلهم "مذكرات دينار" (الموضوع في أوائل 1946) أن التقدم المدنيّ كما الثقافي والقوة الاقتصادية كما العسكرية لا تكفي وحدها لجعل الدولة عادلةً وذات تقدم حقيقي؛ لذلك اتَّهم بريطانيا بالظُّلم في سياستها الخارجية وحكمها للهند ومصر، وبالتمييز العنصري، والتفريق بين معاملة الغني أو القوي ومعاملة الفقير أو الضعيف؛ في حين أن أمريكا، على تنديده بما يحدث فيها من إغراق في الماديات وابتعاد عن القيم الروحية، جذبته فيها الحريَّات الشخصيّة والعدالة المطبَّقة على شعبها. ومنحُ الإنسان حرية الفكر والاعتقاد والنقد من المقومات الأساسية في استقامة العدالة السياسية والاجتماعية. يقول الدكتور داهش بلسان الدينار الذهبي، بطل الرواية:

إن أعظم عظيم يتساوى في هذه البلاد (أمريكا) مع أحقر حقير، فلا سائد ولا مسود في كافة أرجاء البلاد التي يرفرف عليها العلمُ الموشى بالنجوم التي يسبحُ فوقها النسرُ الجبار.

أما الصحافة فإنها لا تترك كبيرةً أو صغيرة إلا تقتلها بحثًا وتنقيبًا مُنتقدةً أولياء الأمور، عندما تجد أية هفوة تبدرُ من أحدهم مهما كانت تافهة. والغريبُ أن الشخصية الرسمية التي ينتقدها الكتاب تصلح خطاها دون تذمر، بل هي تشكر من نبَّهها إلى خطإها...

فقلتُ: مهما أغرمت، يا أمريكا، في حب المادة، واندفعتِ في خضمّها البعيد الأغوار، فإن حبَّك للحريّة وعدم تكبيلك للشعب بقيودٍ رهيبة يرسفُ فيها الشرق منذ حقبةٍ طويلة من الزمن، يُحببكِ إليَّ، ويدعني أتمنّى أن أعيش في ربوعكِ حتى يمنَّ الله على الشرق بمثل ما أنعمَ به عليكِ من حريةٍ مُطلقة من القيود والحدود.

أما تجربة الدكتور داهش المرَّة من جراء الحُكم الظالم الفاسد فقد كانت في لبنان، حيث أطلق، عام 1942، رسالته الروحية الداعية إلى الإخاء والمحبَّة والتسامُح والإيمان بوحدة الاديان الجوهرية؛ فاضطهده رئيس لبنان الأسبق بشاره الخوري، وفرض الرقابة على الصحف، ولاحق كل مُنتقد لمفاسد عهده، وبينها خرق الدستور بتعدّي صلاحياته وتسخير القضاء والجيش والشرطة وسائر أجهزة الدولة لمآربه الشخصية ومنافع أنصاره، والاتجارُ بالمخدرات، وحماية بيوت القمار؛ بل حتى إنه حضَّ رجال الدين على بيع ضمائرهم والانحراف عن تعاليم الأنبياء وتشويهها لمناصرته في تشويه سمعة هادٍ روحيٍّ بريء.

ولكن ردَّ مؤسس الداهشية الذي لا يُغلبُ لم يكن بالعنف، بل بكلمة الحقّ المدوّية؛ فنشر 66 كتابًا أسود و165 منشورًا ضد الطاغية وضد عهده وأنصاره، فاضحًا مخازيه ومشهِّرًا به؛ فساعد ذلك كثيرًا على إيقاد ثورة الشعب ضده وإسقاطه عام 1952. وقد صور الدكتور داهش مفاسد الحكم المُتعسّف كذلك في "مذكرات دينار" ورسائله إلى الدكتور حسين هيكل وكثير مما كتبه.

غير ان مفاسد الحكم لم تقتصر على لبنان في عهدٍ معين؛ فعلماء الفكر السياسي والاجتماعي، سواء من العرب أو غيرهم، جعلوا فساد النظام السياسي الاجتماعي ظاهرة عامّة لا في البلدان العربية فحسب، بل في سائر دول العالم الثالث أيضًا. وقد ردُّوا إفلاس أنظمة الحكم فيها إلى عدة عوامل، أهمها: أولاً، القضاء على الحريّات الشخصيّة وسائر حقوق الإنسان، وتسخير القضاء لمصالح رجال الحكم وأعوانهم. ثانيًا، تأويل الدين تأويلاً يستفيد منه رجال الدين وأشياعهم وجميع الفئات الغوغائية أو الانتهازية التي يمكن تعبئتها وتسخيرها لتنفيذ مآرب ومصالح شخصية أو فئوية أو حزبية أو مذهبية على حساب مصلحة الشعب الحقيقية. ثالثاً، إبعاد المثقفين ومؤسسات التعليم العالي عن العمل السياسي الاجتماعي أو تقليص دورهم بحيث يبقى التخطيط والتنفيذ خاضعين لنزوات الحكام وأعوانهم. رابعًا، فرض الرقابة على وسائل الإعلام، وجعلها مأجورةً للدولة من أجل امتداح مآثرها القومية أو الدينية الوهمية.

ولا عجب أن يولّد فساد الحكومات تأثيرات اقتصادية سيئة. فالمفاسد المالية والاقتصادية التي كتب عنها مؤسس الداهشية في عهد بشاره الخوري، نرى المحللين السياسيين يلاحظونها، من بعد، في اغلب بلدان العالم الثالث. فمن جهةٍ يستخدمُ المسؤولون الحكوميون صلاحياتهم للتلاعب بالقوانين خدمةً لمصالحهم الخاصة، فيسرفون في الإنفاق من أجل الاستفادة الشخصية، ويلتزمون المشاريع الكبرى لحصر إفادتها المالية بهم؛ ومن جهة أخرى، يعمدون إلى قبض الرشى لمنحِ أفراد معينين أو شركات معينة منافع وامتيازات خاصة على جميع الأصعدة، كاستصدار رخص للعمل والتجارة، واستخدام الموارد والمرافق العامّة لأغراض خاصّة، وانتهاك قوانين حماية البيئة دونما عقاب، والتهرب من دفع الضرائب بدون ملاحقة، والفوز بحصانة ضد الجرائم المُنظمة، بل حتى اشتراك المسؤولين في هذه الجرائم أحيانًا.

والغريب في الأمر أن الدساتير والشرائع في دول العالم الثالث منصوص فيها على حقوق الإنسان، وصيانة الحريّات الشخصيّة، لكن النصوص "مكثت، وستمكثُ، حبرًا على ورق"، على حدِّ قول الدكتور داهش. فمع أن "شرعة حقوق الإنسان" وقَّعت عليها جميعُ الدول العربية الداخلة في منظمة الأمم المتَّحدة، لم يبدأ الاهتمامُ الرسمي بها، بل حتى الاهتمامُ الشعبي، إلا في العقد الثامن من القرن العشرين؛ ولم تنجح الجامعة العربية في الاتفاق على نص لميثاق عربي لحقوق الإنسان إلا في عام 1994. وها إن العالم يشرفُ على نهاية العام الثالث من القرن الحادي والعشرين والميثاقُ ما يزال ينظرُ التصديق عليه من قبل أعضاء الجامعة العربية؛ بل إن معظم الأحزاب العربية التي تحكمُ أو تشارك مشاركة فعَّالة في الحكم جعلت قضية حقوق الإنسان آخر اهتماماتها مُتذرعةً، أحيانًا، بتأويلاتٍ غير صحيحة للأعراف الدينية الموروثة مثلما سأبين لاحقًا.

وسائلُ مُعالجة المفاسد الاجتماعية والسياسية

إن الدستور الروحيّ الذي وضعه مؤسس الداهشية بإلهامٍ من السماء من أجل التعامل بين الناس نجدُ خلاصته في "صلاة داهش". فممَّا يطلب الداهشيّ في هذا الابتهال أن يغرس الله في أعماقه "بذور الحب والشفقة والرحمة والحنان". وهذا التعامل المحبّ الرحيم الشفيقُ العطوف لا يستهدفُ البؤساء فحسب، لكن كل إنسان، سواءٌ كان ضعيفًا أم قويًا، فقيرًا أم غنيًا، رئيسًا أم مرؤوسًا، مؤمنًا أم غير مؤمن، من الوطن عينه أم من وطن آخر، لأن منبعه الإيمانُ بأن البشرَ كلهم إخوةٌ ينحدرون من أسرةٍ واحدة، شاؤوا أم أبوا. بل إن الدعاء إلى الله القدير هو أن يشمل جميع البشر بعين عنايته الساهرة. لكن كيف يجب أن يعامل الآثمون والساخرون بالكتب المقدسة، والأشرارُ (من غير المجرمين المُستحقين الإحالة على القضاء)؟ تقولُ الصلاة:

أبعد عنا الأشرار والهازئين بكلام الله، أنرِ بصائرهم طهر أرواح الخطأة، وأرسلْ لهم قبسًا من أنوارك الإلهية فيخشعوا لعظمتك.

إذًا هم لا يسجنون أو يضطهدون أو يقتلون، مثلما حدث- وما يزال يحدث – عبر القرون في المسيحية والإسلام، بل يبتهل إلى الله ليبعدهم عن المؤمنين، فلا يؤثروا في نفوسهم تأثيرًا سيئًا، ولينير نفوسهم وينقيها، وتترك لهم الحرية في ما يؤمنون به، لأن الحرية "هدية الحالق لخلائقه من مُختلف الملل وشتى النحل"، والبشر سيحاسبون بناءً على أعمالهم الحرة.

وطبيعي أن لا تتفق المحبَّة والرحمة مع الجشع في أية صورةٍ تمثل، سواءٌ أكانت سرقة لص مُحترف لمصرف أو منزل  أو عابر، أم سرقة حاكمٍ أو متنفذٍ للشعب، أم تاجر للمُستهلكين، أم سرقة دولة لموارد دولة أخرى.؟.. ولذا تقول الصلاة: "لا تدع الطمع يستولي علينا فيجرفنا بتياره الرهيب"...

وهكذا فأية مشكلة مع الحكَّام أو المحكومين يجب أ، يستلهم حلَّها، أولاً، من دستور المحبّة والسلام، ذلك بأن طريق التفاهم والوئام والتسامح والحوار أفضلُ جدًا من طريق العنف والاقتتال، لأن الأحقاد تولّد الأحقاد، والدم يستسقي الدم، مهما طال الزمان. ولنا في المقاومة اللاعنفية التي قادها المهاتما غاندي أبهى مثالٍ على ذلك. فبعد نجاح هذا المُصلح الكبير في حركته، ظهرت حركاتٌ ومنظماتٌ تعتمد مبادئ المقاومة اللاعنفية في كثير من أرجاء العالم. لكن هل يستطيع محبّو الإصلاح والمقاومون للفساد السياسي والاجتماعي وللمشاريع الظالمة والقوانين المُتعسِّفة أن ينجحوا دائمًا في كظم انفعالات الغضب واستلهام المحبّة والسلام في التعبير عن آرائهم ومطالبيهم وتظاهراتهم، مثلاً، فلا يلجأوا إلى العنف؟

ورد في حكايةٍ يتناقلها الأمريكيون الأصليون (الهنود الأمريكيون) "أن جدًا قال لحفيده إن ذئبين يتقاتلان في داخله: واحدًا ضاريًا ومخربًا، والآخر قويًا ولطيفًا. فسأله الولد قلقًا: "يا جدي، أيهما سينتصر؟، فأجابه الجد: الذئب الذي سأغذيه". فهذه الحكاية الصغيرة تُنيرُ نتيجة الصراع في نفس كل إنسان، لأن كلاً من البشر كتلةٌ من سيَّالاتٍ (طاقاتٍ نفسية) مُتناقضة مُتصارعة، منها الرديء ومنها الحسن؛ والسيالُ الذي يغذى هو الذي يقوى.
لكن دستور المحبَّة والسلام والتسامح الذي وضعه مؤسس الداهشية في التعامل بين الناس له استثناء واحد، وذلك عند استفحال طغيان الحاكم واعتدائه على حريَّات المواطنين، وانتفاء الأمل من إصلاحٍ مبني على المطالبة السلمية والمقاومة اللاعنفية، فإذ ذاك تتوجّب الثورة. ففي رأي الدكتور داهش أن "الداهشيّ يرى أن الدفاع عن الحريّة واجبٌ سماويٌّ مُقدَّس. فهو يستميتُ في سبيل الذود عنها..." ولذلك "يجب على المظلوم المُعتدى على حقوقه وحريته أن يرجم ظالمه بصواعق مزلزلة تردّمه وتدمّره، وتجعل عاليه سافله". بناءً على هذه القاعدة يكون رأي الداهشية الواضح أن الشعب الذي يريد استعادة حريته المُغتصبة لا بدَّ له من الثورة على حاكمه الظالم، وطنيًا كان أم أجنبيًا. أما إذا أقعدت الجبانة الشعب عن الثورة، فخيرٌ له الأضمحلال. يقولُ الدكتور داهش: "الجبانُ، في شريعتي، ليس أهلاً للحياة مُطلقًا. فإما أن نجبن فيستعبدنا القوي الغاشم، وإما أن نظهر شجاعتنا ونطلق بطولتنا، فننتزع بواسطتها حرِّيتنا المقدَّسة الخالدة". وقد بينتُ في ما مضى (العدد السابق من "صوت داهش") أن مؤسس الداهشيّة يرى من الضرورة أن تتدخل الأمم المتحدة ومحكمتها الدولية لنصرة المظلومين والمُغتصبة حرياتهم في أي شعب، إذا سُدَّت منافذُ إنصافهم في أوطانهم.

كيفية معالجة الفساد والتخلّف في الدول

فهم الإصلاح في الداهشية يعتمد فهم نظام العدالة الإلهيّة، وقد أوضحته في سياق بحثي في "أبعاد العدالة لدى مؤسس الداهشية" ("صوت داهش"، عدد كانون الأول/ ديسمبر 1997)، كما يعتمدُ فهم الرقي الحضاري في ضوء المفاهيم الداهشية ("صوت داهش"، أعداد شتاء وربيع وصيف وخريف 2002). لكني أوجز فأقول إن قوةً روحيةً خارقةً أبعد من حدود التصور "تسير عالمنا الأرضي في لحظة من لحظاته بنسبة سيالات البشر واستحقاقاتهم، وذلك وفق نظام وضعه الخالقُ لكوكب الأرض". وبناءً على هذه الحقيقة فإن أوضاع البشر في البلدان المُتخلفة – كما في البلدان المُتقدِّمة – هي نتيجة لأوضاعهم الروحية نسبةً لاستحقاقهم على ما قاموا به من أعمال وما اتّصفوا به من نزعات، لا في حياتهم الراهنة فحسب، بل في سلسلة حيواتهم السابقة على الأرض. ومن لا يضع نُصبَ عينيه هذه الحقيقة – أي أن الحياة نهرٌ لا ينقطعُ عن الجريان إلا ظاهريًا في ما يسمى الموت، وأن أوضاع البشر أفرادًا ومجتمعات هي نتائجُ لاسباب قوامها أعمالهم ونزعاتهم الحالية والسابقة – فإن عقله لن يطمئن إلى تفاوت مظاهر العدالة في الأرض تفاوتًا كبيرًا، بين فقر وغنى، وضعف وقوة، وغباءٍ وذكاء، وسقمٍ وصحة، وخصوصًا تفاوت هذه المظاهر بين الأطفال أنفسهم وهم لم يرتكبوا بعد خيرًا أو شرًا. فهل يمكن تفسير ذلك بأن الله – الذي هو المحبَّة الكاملة والعدالة الكاملة – يمكن أن يخلق الناس، ثم يظلمهم لغير سبب؟ حاشاه وسبحانه تعالى، فإن (الله لا يظلم الناس شيئًا ولكن الناس أنفسهم يظلمون) وفق القرآن الكريم (يونس: 44)؛ وتبعًا لإيضاح بولس الرسول وقد جمع في قوله حكمة العهد القديم والعهد الجديد:  "قال الله لرفقة (زوجة إسحاق): "الأكبرُ يستخدمه الأصغر، على ما ورد في الكتاب (في سفر ملاخي 2:1 -3): أحببت يعقوب أكثر مما أحببتُ عيسو. فما نقول؟ أيكون عند الله ظلم؟ كلا" (رسالة رومة 12:9-14). إن الداهشيَّة تؤكد أن الإنسان يستحيل أن يفهم أعماق حكمة الله، لكن الأنظمة الروحية التي وضعها الخالقُ لخلائقه، وبينها العدالة الكاملة الشاملة، يستحيل أن تغير أو تخرق أو أن يكون فيها مُحاباة. وسبق أن بينتُ، في ما تقدم من بحثي في العدالة الإلهية، أن سيَّالات كل إنسان هي التي تعاقبه وفقًا لنظام الاستحقاق الروحيّ الذي لا يخطئ.

وأوضاعُ البلدان المُتخلفة والفاسدة الحُكم يُمكنُ أن يبدأ تغييرها بوسائل مختلفة؛ لكن التغيير إلبى الأفضل، في المفاهيم الداهشية، لا يثبتُ إلا إذا صحبَه تغييرٌ في نفوس الشعب. تؤكد هذه الحقيقة الآيةُ القرآنية (إن الله لا يغير ما يقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) (الرعد:11)، كما تثبّتها نبوءاتٌ كثيرة استهدف بها أنبياءُ العهد القديم الشعب اليهودي بعد الجلاء إلى بابل.

فعلى المفكِّرين خاصّة، والمثقَّفين ثقافات عالية عامة، في بلدان العالم الثالث، أن يوقظوا شعوبهم على الحقيقة الآنفة الذكر، ولكن أيضًا على حقيقة أخرى لا تقلّ عنها خطورة، وهي أن أي مجتمع مختلف بإمكان أفراده أن يتخلّصوا من أوضاعهم المتردِّية بشحذ إرادتهم واجتهادهم في الانفتاح على العالم المتقدِّم، والسعي إلى اكتساب العلوم النظرية والتطبيقية من مصادره؛ فالمستقبل ليس أمرًا يفرضه علينا قدرٌ خارجٌ عنا، بل هو صُنعُ أيدينا وإبداعُ إراداتنا؛ فنحن أربابُ أقدارنا، لأنها ليست أمرًا محتومًا علينا في آتي الأيام، بل أمر يمكننا أن نصوغه بعزمنا وتخطيطنا ورفضنا الاستسلام للواقع المتردي. والخالق – عز وجل – لا يريد البشر مُستسلمين لأوضاعهم المأساوية، بل يشاؤهم طموحين لتحسينها، لأن التطور إلى الأفضل هو الغاية من الحياة. فترقيةُ النزعات، ذلك بأن عوالم الفراديس لا تستقبل الجهال والأغبياء كما لا تستقبل الأشرار والأدنياء.

كذلك على شعوب العالم الثالث، أيًا كانوا، ألا يعتبروا أن انفتاحهم على الغرب يعني التخلّي عن مقوِّماتهم الثقافية والدينية والاجتماعية، فهذا الموروث الحضاري يمكن أن يجعلوه إسهامًا منهم في التراث الحضاري العالمي، يزيده تنوعًا وغنى، ولا فائدة من الانعزال.

إن عصر اليونان الذهبي شهد ظهر سقراط وأفلاطون وأرسطو والمسرحيين العظام ونشأة النظام الجمهوري؛ وما زالت آثار ذلك العصر الفكرية والفنية والسياسية العظيمة وتأثيراتها الحضارية ماثلةً حتى في حضارة القرن الحادي والعشرين. لكن الشعب اليوناني لم يشهد عودةً إلى عصره الذهبي منذ انقضائه قبل أكثر من ألفي سنة. وعصرُ العرب الذهبي شهد ظهور النبي العربي الكريم وخلفائه الراشدين، ثم ظهور أرتالٍ من العلماء والفلاسفة والأدباء والشعراء ما زالت تأثيراتهم ظاهرة حتى أيامنا هذه. لكن بعد سقوط بغداد سنة 1258، لم يشهد العرب عودةً حقيقية إلى ذلك العصر الذهبي، بالرغم من عدّة محاولاتٍ نهضوية. سببُ ذلك، وفق التعاليم الداهشية، أن سيَّالات الشعبين اليوناني والعربي، أي مجمل طاقاتهم النفسية الإداركية والنزوعية تدهورت، وبالرغم من محاولات التقدّم التي قام بها رجال السياسة والفكر في الشعبين، فإن الارتقاء المرغوب لم يتمّ. ولذلك شحّت المواهبُ الإبداعية فيهما، في العلم والتكنولوجيا والفكر والأدب والفن، وبالتالي تقهقرت القوى التثقيفية والإعلامية والاقتصادية والعسكرية.

لكن هذا لا يعني أن الدول المتفوِّقة اليوم ستثبتُ في تفوقها إلى الأبد. فروما تفكَّكت أوصالها وانهارت قوّتها، واضمحلَّت إمبراطوريتها، بعد مجدٍ عظيمٍ وعزٍ شامخ. والصعود والهبوط رهن بالاستحقاق الروحيّ والعدالة الإلهيَّة.

لكن ما هي موجباتُ التغيير في الخطوات الأولى نحو الأفضل في المجتمعات المُتخلِّفة والفاسدة الحُكم؟ إنها، بلا ريب، الأخذ بأسباب التقدّم الحضاري الذي اكتسبه الغرب، ليس مجانًا، بل بفضل كفاح أبنائه المرير عامّة، ومفكريه ومبدعيه خاصّةً من أجل إقامة دول تسودها العدالة السياسية والاجتماعية، فتحترم كرامة الإنسان، ويُعمّم التعليم، ويُزال التمييز بين الجنسين، ويؤمن تكافؤ فرص العمل للجميع، ويُفصل الدين عن الدولة، ويعزَّز الإعلام ويحرّر من الرقابة، وتنهض الثقافة الإنسانية والعقلانية المحرَّرة من الخرافات والأوهام، ويجلّ أهل العلم والفكر والأدب والفن ويعطون دورًا جليلًا في التخطيط والتوجيه السياسيين والاجتماعيين والاقتصاديين والتعليميين، ويثقف الرأي العام. ونتيجة لهذا الكفاح المديد عبر عشرات السنين، أنشئت في الغرب دساتيرُ صانت العدالة والحريات الشخصية، وفُصلت السلطات الثلاث بعضها عن بعض، وأقامت توازنًا بينها، ورقابةً من إحداها على الأخرى. ولعلَّ خيرَ تلك الدساتير هو ما أنشئ في الولايات المتَّحدة، وعنه اقتبس كثيرٌ من مواد "شرعة حقوق الإنسان" التي تبنَّاها جميعُ أعضاء الأمم المتَّحدة. لكن الدول المُتخلِّفة والفاسدة الحكم لا تلتزم تنفيذ مضامينها، للأسف. وكنت قد فصلت الكلام على العدالة في الحكم، من حيث صلاحيةُ الأنظمة السياسية وواجبات السلطات الثلاث، كما على شروط الرقي الحضاري، في خمسة أعدادٍ سابقة من هذه المجلة أشرتُ إليها في بداية هذا القسم من البحث، فلا حاجة لمراجعتها في هذا المقام.

بيد أنه لا يكفي أن تتحوَّل الأنظمة المُتعسفة إلى أنظمة ديمقراطية. فالديمقراطية كلمةٌ مائعةُ المعنى، تستخدمها دول تهيمن العدالةُ على شعوبها كما تستخدمها – أو استخدمتها – دول تحكمها سلطاتٌ مُستبدة وأحزابٌ "توتاليتارية". فالأهمية ليست لتسمية النظام السياسي، بل لحقيقته الواقعية المطبقة. فالتمثيل الانتخابي لا معنى له إذا لم يكن نزيهًا، والفصل بين السلطات الثلاث لا يجدي إذا استطاعت أية سلطة أن تتجاوز صلاحياتها، ولا قيمة لكل ذلك إذا لم يؤد إلى صيانة كرامة الإنسان واحترام حقوقه وحرِّياته الشخصيّة.

غير أن ثبات المجتمع في مستوى راقٍ من التقدّم الحضاريّ يقتضي، وفق المبادئ الداهشية، ارتقاء سيالات المواطنين (طاقاتهم الإداركية والنزوعية) إلى مستوى يجعلهم يحترمون بعضهم بعضًا، في كل ما يعود إلى الكرامة الإنسانية والحقوق والحريات الشخصية، وبينها حرية الاعتقاد، وكذلك احترام القوانين دوما وازعٍ أو رادع، بل عن اقتناع وإدراك لضرورة ذلك الاحترام. وتحقيق هذه الغاية يتطلب تربية جديدة في البيت والمدرسة تستمر خلال عدّة أجيال.

العقباتُ الثقافية الدينية ومثل "النمور الآسيوية"

إن المقاومة المدنية السلمية التي اعتمدها غاندي في الهند، والمقاطعة الاقتصادية للسلع الأجنبية، والتنمية الاقتصادية التي طبقها بإنتاج ما يأكله الشعب وما يلبسه وما يسكن فيه – كان يمكن أن تكون نموذجًا لكل بلد لنيله الاستقلال وتحقيقه التقدّم لولا ضرورة التقارب السياسي والحضاري بين الدول من أجل الاستفادة من المسيرة المحتومة على الشعوب باتجاه "العالم الواحد". ولذا فمثل الدول المُسمَّاة بـ "النمور الآسيوية" قد يكون مثلاً ناجحاً لبلوغ الغاية المنشودة في القرن الحادي والعشرين، مثلما يرى العالم السياسي فرانسيس فوكوياما في كتابه "نهاية التاريخ". فهذه الدول طبقت الأنظمة السياسية الغربية، وأخذت بالعلوم والتكنولوجيا وتطبقاتها الشائعة في الغرب، لكنها في الوقت نفسه حافظت على ملامح تقليدية من ثقافاتها وخلقياتها.

وموقف "النمور الآسيوية" وخاصة اليابان وماليزيا أوضح كتاب بعنوان "صوت آسيا: زعيمان يناقشان القرن الآتي؛ والمؤلف وضعه مهاثير بن محمد (أو محاضر محمد)، رئيس وزراء ماليزيا، وشنتارو إيشيهارا، النائبُ الياباني الشهير بدفاعه عن القيم والمناهج اليابانية. فإيشيهارا يرى أن الغرب يحاول أن يفرض ثقافته المتلبسة بزي "الحداثة" على كثير من الشعوب مدفوعًا بتاريخه الدينيّ المبنيّ على التسلّط والقهر كما باعتقاده التفوّق المسيحيّ، فيما تفرضُ الخلقيات العامّة في الشرق الأقصى التسامح الدينيّ والانفتاح على جميع المُعتقدات الروحيَّة. ذلك بأن أية حضارةٍ تطمحُ إلى قبول عالميّ وانتشار شامل يجب أن تكون مُنفتحة دينيًا، وأن تمنح البشر عزاء وأملأ وقوةً روحية، لا أن تمزِّقهم شيعًا مُتناحرة كلٌّ منها يدّعي الحقيقة المُطلقة. كذلك فإن المواطنين في الشرق الأقصى يدركون أن عليهم مسؤوليات تمنعهم من التطرّف في استغلال الديمقراطية واتّخاذها مدرجة إلى حرية غير محدودة نتيجتها الانحلال الاجتماعي الخلقي والفوضى، وهي الحال التي يعانيها الغرب اليوم.

وفي رأي مهاثير محمد أن الحياة الغربية شهدت مؤخرًا فضلاً تامًا لا بين الدين والدولة فحسب، بل بين الروح الدينية والممارسة الحياتية بحيث حلّت القيم الماديّة الهادفة إلى إشباع اللذّة الحسيّة محل القيم الروحيّة. وهذا الانفصال جعل المواطنين في الغرب يتيهون في خضمٍّ من الضياع والفراغ، ويستسلمون للمخدَّرات والرذائل، وهذا نذيرٌ بالانحلال الحضاري الوشيك. فعندما حل إشباعُ الرغبات والنزوعات الفردية محل احترام المؤسسات الاجتماعية والروحية، انهارت القيم العائلية، وتفكَّكت وحدة الزواج وحرمته، وانتفى الاحترام للأهل وللشيوخ كما للتقاليد والعادات الصالحة.

كذلك في رأي محاضر محمد أن دول العالم الثالث، ولا سيما البلاد العربية، يمكنها الأخذ بأسباب التقدّم الحديث في الغرب إذا عرفت، حكومات وشعوبًا، كيف تستثمر التكنولوجيا الحديثة لمصلحتها، وخصوصًا تكنولوجيا المعلومات، وإذا عرفت كيف تحشدُ طاقاتها الوطنية، وتستحضرُ المفكرين وذوي الإبداع من المهاجرين الهاربين منها طلبًا للحرية في الغرب. لكن المشكلة برأيه، هي في خلط الشكليات بالجوهر من قبل فئاتٍ من الغلاةِ الإسلاميين. فالعدالة والعقيدةُ الإسلامية لا تتنافيان. والإسلامُ لا ينفي التعدُّدية الثقافية والتسامح والحوار. وهذه العناصر قام عليها الحكم في ماليزيا.

مسؤولية رجال الدين والتوجيه

هذا الرأيُ المنفتح على التقدّم الحضاري، والآخذُ بالحوار والتسامح والعدالة والحرية وسائر حقوق الإنسان نرى ما يشبهه عند فئة من رجال الدين المسلمين، بينهم المرجع الشيعي البارز السيد محمد حسين فضل الله. فهو يعتبر أن الفكر الإسلامي يعيش "حال انكماش وجمود"، ويرى أن على المسلمين المُستنيرين من الجاليات في الغرب أن ينخرطوا في نشاط الجمعيات والأحزاب في البلدان الغربية، لأن "المصلحة العليا قد توجب ذلك". لكنه يشترطك أن يكون الانخراط "دخولا سياسيًا بحيثُ يبقى الإنسان مع عقيدته والتزاماته." كذلك على الفكر الإسلامي، في رأيه، أن يتخلَّص من "سمات التخلف وأوهام الخرافة، ومتاهات التعصُّب والانغلاق". وإذ يدعو إلى الانفتاح والحوار والاستفادة من تجارب الآخرين، يعتبر أن "الإسلام ليس المسؤول عن التخلُّف والانكماش، بل هناك استغلال سيئ لبعض النصوص أو المفاهيم لحماية الخطوط المُتخلفة لمصالح معينة". كذلك فهو يرى أن الإنسان ذا الجدارة لا يخاف من الحرية، والحاكم المؤهل لا يهابُ النقد والمحاسبة. كما نرى هذا الخط المُعتدل المنفتح من الإسلام يأخذ به أيضًا الشيخ محمد مهدي شمس الدين في كتابيه "فقه العنف المسلح في الإسلام" و"الوصايا"، وكذلك كثيرون من شيوخ الدين في ماليزيا وإندونيسيا التي هي أكبر دولة إسلامية. وهذا الاعتذال والانفتاحُ والتسامح جلب الازدهار الاقتصادي لهما دون أكثر البلدان الإسلامية.

يقول عبد الوهاب المؤدب في مقدمة كتابه "أوهام الإسلام السياسي": "ليس الإسلام أصل الداء الذي أقصدُ تناوله. فأولئك الذين اعتنقوا الإسلام عملوا على إبدال حتى بنية الحضارة. فليس الإسلام هو أصل المُصيبة، بل المُصيبة هي ما فعله المسلمون أنفسهم بالإسلام... يعتبر سبينوزا في "رسالة في اللاهوت والسياسية" أن عافية المدن ونجاتها تكمنان في ممارسة حرية التفكير، وفي التعبير عنها ونشرها وتعوزيعها. ومن المؤكد أن من بين الأسباب التي جمَّدت مُدننا غياب هذه الممارسة للحرية".

والحقيقة أن الشعوب، إلى أي دينٍ انتمت، يستحيل أن تنهض وتتقدَّم حضاريًا وهي متشبثة بأفكارٍ وتفسيراتٍ وشكلياتٍ وقوالب دينية مجمَّدة تعيدها القهقرى. فالعرب في عصرهم الذهبي والأوروبيون في عصر نهضتهم، ما كان لهم أن يبنوا حضارة عظيمة إلا بالانفتاح على غيرهم وتقبّل الجديد المفيد منهم، والحوار معهم، واحترام الثقافات الأخرى للاغتراف من معرفتها وحكمتها. فلو بقي العرب في العصور العباسية، مثلاً، على ما كانوا عليه في شبه جزيرة العرب فكريًا وعلميًا واجتماعيًا، مع إسلامهم، لما نشأت المدارس في بغداد يقصدها طلاب المعرفة من كل صوب، ولما أسست المستشفات، ولما قامت حركة الترجمة تنقل إلى العربية روائع اليونان والفرس والسريان والهنود في الفلسفة والعلوم، ثم ينقل المترجمون كل ذلك إلى أوروبا، ولما ازدهرت علوم الطب والرياضيات والفلك وأفادت الناس. وفلاسفة العصر العربي الذهبي وعلماؤه لم يأنفوا من أن يستفيدوا من أفلاطون وأرسطو وأبقراط وجالينوس وغيرهم بادعاء انهم وثنيون لا يجوز اعتماد أفكارهم. فالشعب المغلق على مصادر المعرفة الخارجية ينتهي إلى خضوعه لحكومة تحارب الانفتاح على مولدات أدمغة العباقرة المطورين للحضارة، حتى لو كانوا من الوطن نفسه، ذلك بأن التطوير لا بد من أن يحمل التغيير؛ ومن تشبث بالماضي المجمَّد، إلا في ما يخصّ القيم الروحية والإنسانية الجوهرية، ينتهي إلى الاضمحلال والاختفاء من خريطة الحضارة المتقدِّمة.

والحق يقال إننا لو عدنا إلى النصوص الأولى التي قامت عليها العقائد الدينية، منزلةً كانت كاليهودية والمسيحية والإسلام أو مُستلهمة من نور الهداية الروحية العامَّة كما في "كتاب الموتى" المصري أو "الباغافاض جيتا" الهندوسية أو النصوص الجينية أو الكنفوشيوسية أو البوذية وكثيبر غيرها، لوجدنا العنف والأذى والسرقة والخداع والخيانة والرياء مُستنكرة بل لرأينا النصوص الدينية الأصلية جميعها تحضّ على احترام كرامة الإنسان وحقه في الحياة والعمل والحرية والملكية والمساواة أمام القانون، وكذلك تحث على احترام حقّه في الحياة الآمنة البعيدة عن الاعتداء والإيذاء، وطلب المعرفة وصيانة كرامة الأسرة وحقوقها...

فموسى النبي ويسوع المسيح والرسولُ العربي جميعهم ناهضوا الاستعباد والظلم والاستغلال. بل إن مؤسس الداهشية يظهر أن السيد المسيح لم يكن مثلما يصوِّره الكهنة خاضعًا مُستسلمًا للقوانين الرومانية الغاشمة، بل كان ثورة جبَّارة بيضاء. يقول الدكتور داهش فيه:

فرد أعزل، إلا من الإيمان واليقين باليوم الأخير، دافع عن الحق دفاع الجبابرة، ونافح عن العدالة نافح الرآبلة، وكافح الشر كفاح الليث في غيله وعرينه. فهاجمه في موطنه الشديدة الخطر، دون أن يأبه لجبروته، ودون أن يأخذ لنفسه الحذر. وأراد هذا الجبار أن يمزقه شذر مذر، كي ينقذ من هبط لأجلهم من البشر.

ثلاثة وثلاثين عامًا جاهد جهاد المُستميت، داعيًا الجميع للانتفاض على دستور القوة والبطش، دون أن يسير في ركابه أحد، خوفًا من الدولة الرومانية القوية الشكيمة وذات الشوكة والاقتدار. اللهم ما خلا نفرأ من البسطاء الذين فتنتهم تعاليمه السماوية، وأضاءت قلوبهم بأنوار المعرفة الإلهية.

لم ييأس، ولم يقنط، ولم يتراجع، ولم يلق سلاحه، بل راح يهاجم قيصر روما في شخص هيرودس، طاغية فلسطين، حيث نشأ ابن السماء وحيث ترعرع...

إن الداهشية تدعو أهل السياسة والدين والتوجيه في العالم كله إلى بناء الدولة على أسس من القيم الروحية والإنسانية، لكن هذه القيم لا تعني سيطرة دين على آخر وتحكُّم عقيدة دينية واحدة بسائر العقائد، فهذا إذا حصل يُلغي حرية الاعتقاد؛ فتلك القيم إنما هي لتوجيه الحكم وصيانته من الشطط باتجاه الظلم والقسوة والفساد الخلقي المدني والعائلي والشخصي. فالمشكلة تظهر حينما يعلن جماعة من رجال الدين، إلى أي دين انتموا، وفي أية دولة أقاموا، أن طريق الخلاص مُقتصر على طريقهم، والحقيقة النهائية المُطلقة محصورة في عقيدتهم. فالعصبية الدينية العمياء والجهل الروحي كامنان في أساس هذا الاعتقاد؛ لكن هذا الاعتقاد يسعره الفقر والحرمان والشعور بالظلم والدونية في العالم الثالث، بينما يسعره الاستعلاء والغطرسة والشعور بالفوقية في العالم المتقدِّم.

إن التعاليم الداهشية تنفي وجود أية حقيقة مُطلقة بين البشر، فهذه الحقيقة روحية محض، ولا وجود لها خارج القوة الموجدة التي فيها وحدها كمال المعرفة والقدرة، وفيها وحدها يتوحَّد الأزلُ بالأبد وينتفي الزمان والمكان وبالتالي ينعدم كل أثرٍ للمادة. فكيف يتأتى للبشر مثل هذه الحقيقة اللانهائية ومعرفتهم عن خالقهم، وهو روحٌ محض، محدودةٌ بمداركهم البشرية النسبية التي تقيدها المادّة، وعلمهم بالأكوان المُحيطة بهم ما يزالُ في طور الطفولة، وإدراكهم حتى لأمراضهم وأسبابها الطبيعية ما برح بعيدًا عن إدراك غايته النهائية!

وسبق أن أكدتُ أن العقيدة الداهشية مبنية على الإيمان بالوحدة الجوهرية للأديان جميعها، من حيث المصدر الروحي والغاية الإصلاحية الروحية والإنسانية التي ترمي إليها. والمتشبثون بأن الحقيقة المُطلقة هي ملك يمينهم، والمتمسِّكون بتفسيرات وتأويلات للنصوص الدينية من شأنها أن تُعارض التسامح في الاعتقاد والحريات الشخصية قد يحرزون نجاحًا مؤقتًا، لكنهم ينتهون إلى دفع معظم الشعوب إلى كرههم، كما إلى عزل أنفسهم عن موكب العالم المُتقدم، والتقلُّص داخل قوقعتهم والاضمحلال تدريجيًا. وما دامت العدالة الإلهية الشاملة لا مناص من طبيقها، فكل فئة ستناول ما تستحقّه. فالفتوح الدينية، إسلامية أو مسيحية، عرفت نهايةً لها. وليس من منتصرٍ في النهاية إلا المحبّة، لأن "الله محبّة".

خاتمة

يستنتجُ من البحث السابق (في هذا العدد كما في الأعداد الثلاثة السابقة من "صوت داهش") أن الطريق المتَّجه إلى "العالم الواحد" لا مفرَّ منه، وفق المبادئ الداهشيَّة، لأن التطوّر نحو وحدات حضاريّة كبرى هو حتمية تاريخية تُناقض التجزؤ والتشرذم؛ لكن تحقيق حسنات هذا التطور دون سيئاته، مشروط باحترامِ ثقافات الشعوب جميعها، وهيمنة العدالة في التعامل بينها من خلال منظمة الأمم المتَّحدة. أما فوائده للدول المتخلِّفة أو الفاسدة الحكم فلا تتمّ إلا بتغيير هذه الدول لأوضاعها بالسعي الجاد إلى محو الأمية، ومحاربة الفقر والأوبئة والاستعباد وتلويث البيئة، كما إلى إزالة الظلم ونشر العدالة والحريات وسائر حقوق الإنسان، وبينها عدم التمييز الجنسيّ أو العنصريّ أو الدينيّ. لكن حسن النية في الدول الضعيفة لا يكفي لتحقيق مثل هذه الإنجازات، ولذا وجب تدخل الأمم المتَّحدة والدول الكبرى في مدّها بالإعانات المالية والاقتصادية والثقافية والتكنولوجية ومراقبة تطبيقها؛ أما عند استعصاء الحكومات الفاسدة فتدخّل الأمم المتَّحدة واجب مثلما بينتُ في العدد السابق من "صوت داهش". وما دامت سيّالات البشر (أي قواهم النفسية الحاوية لمداركهم ونزعاتهم وإرادتهم) على درجات متفاوتة، فلا بدَّ من تعدّد الأديان وتنوعها، لأنها للنفوس بمثابة الأدوية والحيويَّات للأجساد، لا تستفيد النفس منها إلا إذا كانت مناسبة لمكامن ضعفها وأدوائها. وبناءً على هذه الحقيقة فالعنصر الموحّد بين الشعوب ليس شكليات الأديان وشعائرها وطقوسها، بل جوهرها الروحي الإنسانيّ، من ممارسة للفضائل، ولا سيما المحبّة والرحمة والصدق والعدالة والتسامح، ومن إحساس بالمسؤولية، واحترام لحياة الإنسان وكرامته وحرياته، وحبٍّ للسلام.

إذ ذاك تطمئن الشعوب الضعيفة إلى الدول القوية، ويزول خوفها من ابتلاعها أو ابتزازها أو إذلالها، ويسهل تجاوزها لعصبياتها القومية أو الإتنية أو الدينيَّة وتغلّبها على شعورها بالدونية من أجل الإنضواء في وحدة إنسانية كبرى تهيمن عليها العدالة والعقلانية والقيم الروحية معًا. وإذ ذاك يتيسر انتقال الحكومة الرئيسة الموحِّدة، دونما خوف، من أرض الدولة الواحدة إلى سماء "العالم الواحد"، من غير أن تفقد الشعوب خصائصها وثقافاتها وعقائدها وحكوماتها المحليَّة التي تضطلع بدورٍ تقليدي كما بدورٍ مشارك في الحفاظ على السلام والحياة المشتركة في هذا الكوكب. إذ ذاك يمكن أن تتطور الديمقراطية فتصبح أقوى اهتمامًا بأهل الفضائل والمواهب وبتعزيز دورهم في التخطيط والتشريع، ويمكن أ، تتطوّر الرأسمالية فتصبح أكثر رحمةً وإشفاقًا على الضعيف والفقير والمريض، وأقل جشعًا وانهماكًا بالقيم الدنيوية وتمجيدًا لها. وهكذا لا يبقى في "العالم الواحد" قومياتٌ وعصبيات ضد قوميات وعصبيات أو أنظمة ضد أنظمة، بل جماعةٌ، لعلَّها الكبرى، تريد التعايش في سلام وتحاب وإيمان بأن البشر يصنعون أقدارهم ضد جماعة، لعلَّها الصغرى، تعيش في دوامة الشرّ والعصيان والرذيلة. فإن يحقّق البشر هذا الإنجاز الرائع، يبلغوا الهدف الأسمى الذي يمكنهم بلوغه على الأرض.

Developed by Houssam Ballout        Copyright 2019 This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.nfo All Right Reseved This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.