أنا أؤمن بأنه توجـد عدالة سماويّة, وأن جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدنيا من مُنغصات انَّ هـو الاّ جـزاءٌ وفاق لِما أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور.ولهـذا يجب علينا أن نستقبلَ كلّ مـا يحـلّ بنـا من آلامِ الحياةِ ومآسيها غير مُتبرّمين ولا متذمّرين , بل قانعين بعدالةِ السماء ونُظمها السامية.

Highlighter
أحبُّ الكُتُبَ حبَّ السُكارى للخمر , لكنَّني كلَّما أزددتُ منها شرباً, زادتني صَحوا
ليس مّنْ يكتُبُ للهو كمَن يكتُبُ للحقيقة
الجمالُ والعفّــة فـردوسٌ سماويّ .
لا معنى لحياةِ ألأنسان اذا لم يقم بعملٍ انسانيٍّ جليل .
اعمل الخير , وأعضد المساكين , تحصل على السعادة .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقـوم بأعمالِ الخير نحـو ألأنسانيّة .
الموتُ يقظةٌ جميلة ينشُدها كل مَنْ صَفَتْ نفسه وطَهرت روحه , ويخافها كلّ من ثقُلت أفكاره وزادت أوزاره .
ان أجسامنا الماديّة ستمتدّ اليها يـد ألأقـدار فتحطِّمها , ثمّ تعمل فيها أنامل الدهـر فتتَّغير معالمها , وتجعلها مهزلةً مرذولة . أمّا ألأعمال الصالحة وألأتجاهات النبيلة السّامية , فهي هي التي يتنسَّم ملائكة اللّه عبيرها الخالد .
نأتي إلى هذا العالمِ باكين مُعولين، و نغادره باكين مُعولين! فواهً لك يا عالمَ البكاء والعويل!
جميعنا مُغترٌّ مخدوعٌ ببعضه البعض.
العدلُ كلمة خُرافية مُضحكة.
أمجادُ هذا العالم وهمٌ باطل، و لونٌ حائل، و ظلٌّ زائل.
لا باركَ الله في تلك الساعة التي فتحتُ فيها عينيّ فإذا بي في مكانٍ يطلقون عليه اسم العالم .
أنا غريبٌ في هذا العالم، و كم احنُّ إلى تلك الساعة التي اعود فيها إلى وطني الحقيقيّ.
الحياةُ سفينةٌ عظيمة رائعة تمخرُ في بحرٍ، ماؤه الآثام البشريَّة الطافحة، و امواجه شهواتهم البهيميَّة الطامحة، و شطآنه نهايتهم المؤلمة الصادعة.
كلّنا ذلك الذئبُ المُفترس , يردع غيره عن اتيانِ الموبقاتِ وهو زعيمها وحامل لوائها , المُقوّض لصروح الفضيلة , ورافع أساس بناءِ الرذيلة .
الحياةُ سلسلة اضطراباتٍ وأهوال , والمرءُ يتقلَّب في أعماقها , حتى يأتيه داعي الموت, فيذهب الى المجهولِ الرهيب , وهو يجهلُ موته , كما كان يجهلُ حياته .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقومَ بأعمالِ الخير نحو الانسانيّة .
المالُ ميزان الشرِّ في هذا العالم .
السعادةُ ليست في المال , ولكن في هدوءِ البال .
كلُّ شيءٍ عظيمٍ في النفسِ العظيمة , أمّا في النفسِ الحقيرة فكلُّ شيءٍ حقير .
الرُّوح نسمةٌ يُرسلها الخالق لخلائقه لأجل , ثم تعودُ اليه بعجل .
الرُّوح نفثةٌ الهيَّة تحتلُّ الخلائق , وكل منها للعودة الى خالقها تائق .
الرُّوح سرٌّ الهيٌّ موصَدْ لا يعرفه الاّ خالق الأرواح بارادته , فمنه أتتْ واليه تعود .
أنا أؤمن بأنه توجـد عدالةٌ سماويّة , وأنَّ جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدُّنيا من مُنغِّصاتٍ وأكدارٍ انَّ هـو الاَّ جـزاء وفاق لمِا أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور . ولهـذا يجب علينا أن نستقبل كلَّ مـا يحـلُّ بنـا من آلام الحياة ومآسيها غير م
الحرّيةُ منحة من السماءِ لأبناءِ ألأرض .
الموتُ ملاكُ رحمةٍ سماويّ يعطف على البشر المُتألّمين , وبلمسةٍ سحريّة من أنامله اللطيفة يُنيلهم الهناء العلويّ .
ما أنقى من يتغلّب على ميولِ جسده الوضيع الفاني , ويتبع ما تُريده الرُّوح النقيّة .
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
الراحة التامّة مفقودة في هذا العالم , وكيفما بحثت عنها فأنت عائدٌ منها بصفقةِ الخاسر المَغبون .
ليس أللّــه مع الظالم بل مع الحقّ.
ان الصديق الحقيقي لا وجود له في هذا العالم الكاذب.
ما أكثر القائلين بالعطف على البائسين وغوث الملهوفين والحنو على القانطين , وما أقلَّ تنفيذهم القول.
يظنُّ بعض ألأنذال ألأدنياء أنّهم يُبيّضون صحائفهم بتسويدِ صحائف الأبرياء , غير عالمين بأنَّ الدوائر ستدور عليهم وتُشهّرهم.
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السَّلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
رهبة المجهول شقاء للبشرِ الجاهلين للأسرارِ الروحيَّة , وسعادة للذين تكشّفت لهم الحقائق السماويَّة .
الموتُ نهاية كل حيّ , ولكنه فترة انتقال : امّا الى نعيم , وامّا الى جحيم .
الحياةُ خير معلِّمٍ ومُؤدِّب , وخيرَ واقٍ للمرءِ من الأنزلاقِ الى مهاوي الحضيض .
حين تشكُّ بأقربِ المُقرَّبين اليك تبدأ في فهمِ حقائق هذا الكون .
مَنْ يكون ذلك القدّيس الذي لم تخطرُ المرأة في باله ؟ لو وجدَ هذا لشبَّهته بالآلهة .
المرأة هي إله هذه الأرض الواسع السُّلطان. و هي تحملُ بيدها سيفاً قاطعاً لو حاولَ رجالُ الأرض قاطبةً انتزاعه منها لباؤوا بالفشلِ و الخذلان .

السببيَّة الروحيَّة في مجرى الأحداث العامة (9)

الإسلام: صاحبُ الرسالة وعقيدته

 بقلم الدكتور غازي براكس

البعثة الإسلامية وصاحبها

            في العقيدة الداهشية أن الأنبياء والهُداةَ الروحيين تُحييهم سيالاتٌ روحية مُختلفة الدرجات؛ وهذا يتَّفق مع الآية القائلة (ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض) (الإسراء55). لكن تلك السيالات تعودُ جميعها إلى كيانٍ روحيٍّ واحد. فكلما يجفُ نسغُ الحياة في المؤمنين التابعين لغصن الهداية الممتد إلى الأرض من الشجرة الروحية الإلهيَّة، يمتد بديلاً عنه غُصنُ هدايةٍ آخر لقومٍ آخرين. وهذا المبدأ يؤكده القرآن الكريم بآيتين مترابطتين ترابط السبب بالنتيجة: "الأولى (ولكلِّ أمَّة أجلٌ، فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعةً ولا يستقدمون) (الأعراف 34)، والثانية (ولكل أمة رسولٌ، فإذا جاء رسولهم قضى بينهم بالقسط وهم لا يظلمون) (يونس 47).

            ولد محمد يتيمًا سنة 570/ 571 م على ما يرجح المؤرخون. وما إن بلغ السادسة حتى ماتت أمة؛ وبعد سنتين، توفي جدُّه عبد المطلب الذي كان يكفله، فرعاه عمَّه أبو طالب. لكن اليتيم الذي كانت حاله أقرب إلى العسر منها إلى اليُسر، مع انتمائه إلى أسرة  عريقة النسب، سرعان ما اختبر عيشة العرب باديهم وحاضرهم. فعمل في صباه برعي غنم ذويه وغنم أهل مكة، وكان يفتخر بعمله. فأحبَّه كل من عرفه، وسموه "الأمين".

            وفي الخامسة والعشرين من عمره بدأ عمله في التجارة لخديجة بنت خويلد، ذات المال والشرف. فأعجبت بذكائه وأمانته وحميد خصاله، وأحبّته. وسرعان ما تزوجا؛ علمًا بأنها كانت تزيده خمسة عشرَ عامًا، وقد تزوجت مرتين. فولدت له القاسم وعبد الله اللذين ماتا طفلين قبل انبعاث الدعوة؛ كذلك ولدت له من البنات زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة. لكن محمدًا لم يلبث أن اعتق عبدًا كانت خديجة قد اشترته وتبناه، وهو زيد بن حارثة الذي أصبح يدعى زيد بن محمد.

            كل ذلك والعهد عهد الجاهلية، عهد الفوضى الخلقية وانعدام الوازع الاجتماعي والشرائع المدنية وتحمل المسؤولية؛ عهد العصبية القبلية والعشائرية والطبع الفخور بالـ"أنا" التي أدى تضخمها إلى الافتخار بالآباء والأجداد، ونصرة الأخ أو القريب أكان ظالمًا أم مظلومًا، وإيثار المصلحة الخاصة على المصلحة العامة. كل تلك الخصائص السلبية للجاهلية وما يستتبعها من اعتداءات غير مسؤولة على الآخرين في أجسادهم وممتلكاتهم كانت تطبع العرب بصورةٍ عامة والبدو منهم بصورة خاصة.

            سنة 610م، فيما كان ملكوتُ المسيح الروحيّ الحقّ قد بدأ بالأفول من الأرض متحولاً إلى مملكة سياسية عسكرية دنيوية في روما، بعد انهيار مجد الإمبراطورية وتجزيئها، وبينما كان الدين المسيحي قد انحرف عن منبعه النقي متفرعًا إلى بدعٍ شغلتها المنازعات والمجادلات العقيمة في بيزنطيا التي أخذ الضعف يدبُّ في أوصالها، كان الوحي الإلهي يتنزلُ على محمد بن عبد الله في شبه جزيرة العرب. وهكذا انفتحت كوةٌ جديدة من السماء، وانهمر جدول ماء حي يخصبُ الصحراء العربية بحضارة أقفرت منها بلادُ العمران آيات وحي كريمة نزَّلها روح جبريل مُتقطعة، مدى ثلاث وعشرين سنة، فتكون منها القرآن الكريم كتابًا مقدسًا مصدقًا لما قبله من التواراة والإنجيل، ومقومًا وموضحًا ما حرفه المبتدعون، ومهدمًا ومسفهًا معتقدات الوثنيين والمشركين، وداعيًا إلى تنزيه الله وعبادته ربًا أوحد للعالمين، وناهيًا عن المنكر، ومرغبًا في الخير والمعروف.

ذلك الأمين الصادق، بعد أن أتاهُ الوحي لمامًا في العام الأول من التنزيل في غار حراء (شمال شرقي مكة) حيث كان يتحنث، انقطع عنه زمنًا قارب السنوات الثلاث حتى ساوره القلقُ والخوفُ من أن يكون رب السماء قد خذله؛ لكن الروح الملائكي عاوده، بعد طول غياب، مكلفًا إياه تبليغ الرسالة  الروحية الجديدة التي شرعت تعاليمها بالنزول: (يا أيها المُدثَّر، قم فأنذرْ) (المدثر 1 – 2). هذا الحدث الروحي الذي بدا همسة في غار، وانتهى دويًا راعدًا في المعمور والأقفار، ما كان ليحدث لو لم تكن وراءه أسباب روحية تدفعه وتطوره ابتغاء الوصول إلى هدف رسمته اليد الإلهيّة. فكأن البيئة المشابهة لعوسجة تثمر ثمرًا طيبًا، أو الظلمة يطلع قلبها شمسًا نورها يؤثر في معظم الأحداث التي تمَّت في التاريخ بعد طلوعها؛ وتلك هي المعجزة!

            كان النبي الكريم في الأربعين من عمره لما أطلق دعوته. وكانت السيدة خديجة أولى المؤمنات، وعليّ، ابن عمه أبي طالب، ابن العاشرة، أول المؤمين؛ فكانا يخرجان إلى شعاب الجبل القريب فيختليان ويصليان. وبعد علي آمن زيد بن حارثة الذي تبناه الرسول الكريم. وبعد الآثنين آمن أبو بكر الذي كان في الثامنة والثلاثين من عمره، وقد سمي بالصديق من أجل أسبقيته بين الرجال؛ وعلى يديه أسلم عثمان بن عفان (34 سنة)، وعبد الرحمن بن عوف (30 سنة)، وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام، ابن عمة الرسول (كل منهم 10 سنوات). هؤلاء وجماعة من المُستضعفين والعبيد والموالي، مثل عمار بن ياسر وبلال الحبشي كانوا النواة التي بنيت عليها الجماعة الإسلامية الأولى.

            إن دور العصبية القبلية بالنسبة للبعثة الإسلامية كان مزدوجًا. من جهة مكَّنت خصومها من محاصرتها، فلم يتجاوز عدد من أسلموا، في المرحلة المكية التي امتدت 13 سنة، 154 شخصًا، منهم 83 مؤمنًا هاجروا إلى الحبشة؛ ومن جهة أخرى أمَّنت العصبية القبليَّة حماية صاحب الدعوة وشيوخ القبائل والعشائر ممَّن أسلموا مع ذويهم.

            لكن القرآن الكريم دعا إلى الانتقال من الرابطة القبلية والعشائرية إلى الرابطةت العقائدية الروحية رابطة "الأمة" (أي الجماعة ذات القصد الروحي الواحد والاتجاه السلوكي الواحد): (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون) (آل عمران 104). وفي هذا التبديل الخلقي الاجتماعي العقائدي تحطيم للقيود التي أثقلت كاهل العرب، باديهم وحاضرهم, مدى قرون, فجعلهم طبقات: أسياداً وموالي وعبيداً, أغنياء وصعاليك, أمجاداً ووضعاء, ذوي حسب يفتخر به, وذوي نسب يهان؛ وهي تصنيفات بينها حواجز أشبه بتلك التي كانت قائمة بين الطبقات الهندية, إذ ظهر بوذا وحاول تحطيمها. وهذا التحطيم للقيود الاجتماعية المُزمنة جعل مشركي قريش يزعمون أن اتباع الفقراء للدين الجديد انتقاص من قيمته وصدقيته. لكن هذه الثورة السلمية في منطقة انتشر فيها الشرك والوثنية كان لا بدَّ من أن تلقى مقاومة عنيدة, لأنها شكلت خطراً على قواعظ وعادات وأعراف وامتيازات اقتصادية واجتماعية, فضلا عن دينية, رسختها القرون. ولذلك أوحي إلى الرسول العربي الهجرة إلى المدينة حيث ستعظم قوته وتكتمل رسالته.

            كان النبي الكريم إمامًا عظيم الخلق والشخصية، وكان للـ "أمة" الإسلامية فيه (أسوة حسنة) (الأحزاب 21). إمام لطيف لا يتعالى على أتباعه، بل يتضع لهم ويشاورهم في أموره، وسيِّد يشعر مواليه وخدمه أنهم غير أذلاء، بل هم بمنزلة الأبناء، إذ هو لا يحملهم أكثر مما يُطيقون، بل يرحمهم ويجاملهم ويضاحكهم. وقد أكد القرآن الكريم مزاياه هذه بعدّة آيات؛ منها (واخفض جناحك لمن أتبعك من المؤمنين) (الشعراء 215)؛  كذلك (ولو كنت فظَّا غليظ القلب، لانفضُّوا من حولك، فاعفُ عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر) (آل عمران 159).

            وكان بوسعه أن ينعم بعيشة الملوك المترفة؛ لكنه آثر عيشة الفقراء المتقشفة، فلم يطلب ملذات الحس، بل ابتغى نعيم الروح، وزهد في نعمة العيش مع أنها بين يديه. وكثيرًا ما كان يرقع ثيابه أو حذاءه بنفسه، أو يوقد النار ، أو يمسح الأرض، أو يحلب عنزة أسرته، أو يتسوَّق ما يحتاج إليه.

            وكان يزور المرضى، وينضم إلى أي موكب جنازةٍ يلتقيه، ويلبي الدعوة إلى الطعام حتى إن تكن من عبد، بل كان لا يكلف العبد عمل شيء له بإمكانه عمله إذا كان لديه متَّسعٌ من الوقت. وبالرغم من المداخيل التي كانت ترده، فإنه كان ينفق القليل على أسرته، وأقل على نفسه، والأكثر على الإحسان.

            وإلى ذلك كان أبًا كريمًا عطوفًا؛ كما كان صديقًا متسامحًا، طيب المعاملة لزوجاته، رفيقًا معهن، أنيسًا. وقد بقي لا زوجة له سوى خديجة خمسًا وعشرين سنة. وبعد وفاتها، وهو في الخمسين من عمره، تزوَّج سودة بنت زمعة، ثم هاجر إلى المدينة وهو في الثالثة والخمسين، فاتخذ له تباعًا عدة نساء آثر بينهن إحدى عشرة، ذهبت الأصول التاريخية إلى أن حجرة كل منهن كانت من اللِبن وسعف النخل، لا تتعدَّى مساحتها 14 قدمًا مربعًا، بعلو 8 أقدام، في أرضها حصيرة عليها فراش ومساند، وعلى الباب ستار من شعر أو جلد؛ وقد عُرفن مع خديجة بـ"أمهات المؤمنين". ولم يكن اختيار النبي الكريم لزوجاته، وفق رأي العقَّاد، بدافع الشهوة، بل كان الاختيار كله "على حسب حاجتهن إلى الإيواء الشريف، أو على حسب المصلحة الكبرى التي تقضي باتصال الرحم بينه وبين سادات العرب وأساطين الجزيرة من أصدقائه وأعدائه؛ ولا استثناء في هذه الخصلة لزوجة واحدة". ويؤكد الشيخ خالد محمد خالد أنه، بالرغم من أن تعدّد الزوجات في العصور القديمة لم يكن يثير استهجانًا أو مساءلة، فوراء زيجات الرسول كان هدفُ الإيواء والرعاية والعزاء لنساءٍ مفجوعاتٍ بموت أزواجهن (كحفصة وسودة وصفية)، أو بسبب طلاقهن لعدم التفاهم بينهن وبين أزواجهن (شأن أم حبيبة لاعتناق زوجها النصرانية وهما في الحبشة، وزينب امرأة زيد). وهذا الإيواء الرعوي أكدته الآية القرآنية القائلة (وتؤوي إليك من تشاء) (الأحزاب 51). والجدير بالذكر أن زوجات النبي خيرن بين الدنيا والتقوى، ففضلن العيش في الشظف حتى أيام أفاء الله على المسلمين مغانم؛ وقد نزلت آيةٌ في ذلك (يا أيها النبي، قل لأزواجكَ إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها، فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحًا جميلاً وإن كنتنَّ تُردن الله ورسوله والدار الآخرة، فإن الله أعدّ للمحسنات منكنَّ أجرًا عظيمًا).(الأحزاب  28 – 29). بل إن شظف العيش امتد إلى بيت بنت الرسول (فاطمة الزهراء) التي كانت تساكن زوجها الإمام عليًا. فكانت إذا سألت أباها العطاء، أجابها: "لا أعطيك وأدعُ فقراء المسلمين"، ثم يضمّها إذ يرى الدمع يترقرق في عينيها، ويطلب إليها أن تسبّح الله وتحمده وتكبره كثيرًا.

مبادئ الإسلام الخلقية في السلم والقتال

            من الأيام الكريمة: }وأرسل الله إليكم[ (رسولاً يتلو عليكم آياتِ الله مبيناتٍ ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور) (الطلاق 11). من هذه الآية يمكن أن نستنتج أن الجاهليين كانوا يعيشون في ظلمةٍ مجازية حقيقية، اجتماعية و عقلية وخلقية. فلا رابط روحيّ يجمعهم لتشكيل أمة ذات مبادئ واضحة واتّجاه معروف، ولا مستوى عقلي يرفعهم لاستشراف بعض حقائق الغيبيات وإنقاذهم من مصيرٍ مُظلم، ولا أخلاق نبيلة تردعهم عن المنكرات والظلم والعدوان أو تدفعهم إلى الشفقة على الضعفاء والفقراء، وكظم الغضب والعفو عن المسيئين. فإذا الإسلام يحضُ على الرحمة والإحسان والعدل جاعلاً إياها فضائل يجبُ أن يتحلّى بها المسلم، مثلما ينهى عن الظلم والعدوان والرذيلة بجميع أنواعها حاثًا المؤمنين على التحاشي عنها: (ألم يجدك يتيمًا فآوى، ووجدك ضالاً فهدى، ووجدك عائلاً فأغنى؟ فأما اليتيم فلا تقهر، وأما السائل فلا تنهر) (الضحى 6 – 9)؛  كذلك (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي) (النحل 90)؛ و(الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ، والعافّين عن الناس... والذين إذا فعلوا فاحشةً أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم... أولئك جزاؤهم مغفرةٌ من ربهم وجناتٌ...) (آل عمران 134 – 136).

            وإذْ كان الأعداءُ حول صاحب الرسالة الروحية الجديدة أكثر من الأصدقاء، وقد هبّوا لمحاربته، دونما  مبدأ أو نظام يحدِّد قوانين القتال، كان لا بد من الرسول الكريم أن يدافع عن نفسه وعن المؤمنين برسالته. فمنحه الله موهبة القيادة العسكرية والحنكة السياسية، فإذا هو قائد عسكري بطل لا تتدنى مزاياه القيادية عما يتمتع به كبار القادة؛ وسياسي حصيفٌ، ثاقبُ البصيرة، وإداريٌّ رشيد حكيم. في تبشيره بالدين الجديد، احترم حرية رأي الآخرين، وخصوصًا أهل الكتاب من نصارى ويهود، فلم يلزم أحدًا باعتناق دينه الجديد، وفي قتاله لم يباشر القتال دونما سبب جوهري وراءه إيعازٌ روحي. ذلك كان موقف الرسول العربي والقرآن الكريم في الجوهر والمبدأ، وفق ما تعلمه الداهشية، ذلك بأن البشر مختلفو المستويات في مداركهم ونزعاتهم، ولا تنفعهم الهداية إلا إذا استوعبوها ولاءمت ما هم فيه من استعدادات، ولذا نزلت أديان مختلفة الشرائع والأنبياء والهُداة الروحيين، مع أنها موحدة الجوهر، في أقوامٍ مُختلفين مدى التاريخ. وقد أكد القرآن المجيد هذا المبدأ الداهشي بقوله (لكل جعلنا منكم شرعةً ومنهاجًا، ولو شاء الله لجعلكم أمةً واحدة...) (المائدة+ 48)، كما أكد مبدأ احترام دين الآخرين ومبدأ القتال من أجل الدفاع عن النفس فقط بآياتٍ مكية ومدنيَّة؛ من المكية (إنك لا تهدي من أحببت، ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمُهتدين) (القصص 56) (قل: يا أيها الكافرون، لا أعبدُ ما تعبدون، ولا أنتم عابدون ما أعبد... لكم دينكم، ولي دينِ(ديني) (الكافرون 1-6)، و(ادعُ  إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن) (النحل 125)؛ ومن المدنيَّة (لا إكراه في الدين) (البقرة 256) و(وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم، ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) (البقرة 190).

            هذه النزعات الإنسانية التي تحلَّى بها الإسلام أكَّدها محققو "السيرة النبوية" لابن هشام، فقالوا في مقدمة "السيرة": "إن سيرة النبي (ص) تنطق بأعظم المبادئ الخالدة التي سبقت مبادئ البشر جميعًا، وسبقت ما يسمى بمبادئ حقوق الإنسان؛ ومبدأ المساواة بين بني البشر، لا فرق بين عربي ولا عجمي إلا بالتقوى، وهي بهذا تحارب التفرقة العنصرية بين بني الإنسان جميعًا؛ وأرست، أيضًا، مبدأ احترام العلم والعلماء، والارتقاء بشأن العقل في ظل المبادئ الإسلامية الحميدة. وعلمتنا معنى الشورى، وزرعت في أذهاننا الصورة الحقيقية للعدل والرحمة والحب والإخاء والتضحية من أجل الحق والصمود في وجه الطغاة المُتكبرين".

            إن القرآن الكريم لم يخلُ من آياتٍ تدعو إلى القتال، لكنها مقيدة بظروفٍ معينة ذات أسبابٍ روحية. أولى تلك الآيات القائلة: (أذن للذين يقاتلون بأنهم (بسبب أنهم) ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير، الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله؛ ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامعُ وبِيَعٌ وصلوات (كنائس اليهود، والكلمة عبرية) ومساجدُ يذكر فيها اسم الله كثيرًا...) (الحج 39 – 41). ففي هذه الآية التي نزلت في المدينة، بعد تمادي أعداء النبي الكريم في اضطهاد أتباعه بل في التربص به لإمساكه أو قتله، أعطي الذين "ظلموا" و"أخرجوا من ديارهم بغير حق" بسبب إيمانهم بالله،, إذنًا بالدفاع عن النفس. وهذا الإذن عام مرتبط بسبب روحي يعمّ الأديان كلها، وهو ضرورةُ الذود عن الإيمان الحق سواءٌ كان في الإسلام أو المسيحية أو اليهودية أو غيرها من الأديان التي أشير إليها بـ"صوامع".

            ففي اللحظة التي كان الشر يتربَّص بالرسول العربي على بابه وهو في مكّة، أوحي إليه أن يغادرها إلى يثرب، لأن الساعة قد أتت للانتقال إلى مرحلة ثانية من الدعوة، ذلك بأن أبا جهل كان مع عصابةٍ من أعداء الرسول يترقبونه في عتمة الليل للانقضاض عليه وهو نائم، فأوعز الرسول إلى علي في أن ينام على فراشه، ويغطي جسده ووجهه ببرده الأخضر، ثم خرج فالتقط حفنةً من التراب وجعل يذروه على رأس كل من المتربصين به وهو يتلو آياتٍ قرآنية حتى وصل إلى الآية القائلة (فأغشيناهم فهم لا يبصرون) (يس5). ومضى في طريقه إلى يثرب وهم لا يرونه. ولم ينتبهوا إلى ما كانوا عليه إلا بعد أن مر رجل لا يعرفونه، فسألهم عن التراب الذي على رؤوسهم، وإذ تحسّسوه، أكّد لهم أن من ينظرونه قد غادر البيت وهم لا يرونه. فكيف حدث ذلك؟ إن هذا الحادث العجيب يستحيل فهمه إلا من خلال الإيضاحات الداهشية المؤيدة بمئات البراهين الإعجازية. فكثيرًا ما كان الروح الملائكي، عند احتلاله مؤسس الداهشية، يضعُ سيالاً روحيًا على شيء ما، كصخرة أو خبرٍ في صحيفة، فيراه بعض الزائرين ولا يراه غيرهم، أو كوضعه سيالاً روحيًا على شخص ما كالدكتور داهش نفسه أيام اضطهاده فيراه أهل البيت الذي كان فيه ولا يراه من يبحثون عنه من زبانية السلطة، أو وضعه سيالاً على آذان بعض الزائرين فلا يسمعون ما يود أن يقوله زائرٌ من غير أن يسمعه الآخرين. كذلك لم يستطع أعداءُ الرسول أن يؤذوا عليًا لأن برد النبي الكريم وضع فيه سيالٌ روحي أيضًا يمنع المهاجمين من إيذاء المتدثِّر به. هذه العداوة المستهدفة قتل الرسول والمؤمنين به استوجبت الدفاع الوقائي عن النفس باستباق الأذى الداهم، لأن النيَّات الخبيثة كانت مصمّمة على الإيذاء. وهذا التصميم واضحٌ في آيتين من القرآن الكريم. الأولى مكية تظهر التصميم القاتل حتى قبل الهجرة: (أم تقولون شاعرٌ نتربص به ريب المنون. قل تربصوا، فإني معكم من المُتربصين) (الطور 30 – 31). والثانية نزلت بعد الهجرة: (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك (يقيدوك) أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون، والله خيرُ الماكرين) (الأنفال 30).

            لكن في مرحلة متأخرة من البعثة الإسلامية، وبالرغم من وجود آيةٍ تؤكد حفظ الله تعالى لكل ما سبق إنزاله من آياتً، وذلك بقوله سبحانه (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) (الحجر 9)، فقد ضمن القرآن فيما بعد آياتٍ اعتبرها كثيرون من الفقهاء ناسخة لما يناقضها ولا سيما في ما خص قتل المشركين وأهل الكتاب حتى إن لم يباشروا الاعتداء على المسلمين؛ منها (فإذا انسلخ الأشهرُ الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم...) (التوبة 5)، كذلك (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون) (التوبة 29). والفقهاء المسلمون مختلفون في شرح ذلك. ولن أدخل في هذا الأمر لأنه لا يمتّ إلى الغاية من بحثي هذا بصلة.

            ومن جملة ما شاع من أساليب العنف، بعد وفاة النبي الكريم، ما سمي بـ"حدِّ الردة"، وهو يقضي بقتل من يرتدُّ عن الإسلام بعد اعتناقه، وذلك استنادًا إلى حديث يقول فيه "من بدل دينه فاقتلوه". وقد اختلف المجتهدون في ذلك. وكان الأخير بينهم المفكر الإسلامي البارز طه جابر العلواني (الذي حاز درجة دكتواره في أصول الفقه من جامعة الأزهر، ودرس المادّة نفسها في جامعة محمد بن سعود الإسلامية بالرياض). ففي كتابه "لا إكراه في الدين" الذي أصدره مؤخرًا يؤكد أن القرآن الكريم خال من آية إشارة إلى حدِّ الردَّة. والحديثُ المنقول إنما هو رد فعل من الرسول لما ورد في الآية الكريمة من سورة عُمران (وقالت طائفة من أهل الكتاب: آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون، ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم..) (72 – 73). وفي القرآن الكريم كما في "السيرة النبوية" إشارات إلى طائفة من اليهود كانت تخطط لاختراق المسلمين، ولا سيما المُستضعفين منهم، بغية إشاعة البلبلة في صفوف المؤمنين وإذاعة أن الدين الجديد غير سليم ولا صادق. ويوضح الدكتور علواني أن" من" في الحديث النبوي تفيد العموم، و"دين" لفظة نكرة تُضاف إلى ضمير وتفيد العموم أيضًا؛ فالحديث يعني أي شخص وأي دين، سواء أكان الانتقال من الإسلام أم اليهودية أم المسحيية إلى غيرها أو بالعكس. فالقصد حفظ الأديان من النفاق والتخريب. وفي حديث لمحطة "العربية" التلفازية أكد الدكتور علواني أن عهد الرسول خلا من أية عقوبة لمرتدين، وقال: "في عهد النبي ارتد أناسٌ بعد حادثة "الإسراء"، ولم يعاقبهم الرسول. وقد يقال هذا حصل في العهد المكي. ولكن في العهد المدني أيضًا دخل منافقون إلى الإسلام، ونافقوا، ومنهم عبد الله بن أبي بن سلول الذي سمي "زعيم المنافقين".

وعرض الصحابة على الرسول قتله؛ فرفض ذلك، كما صلى عليه عندما توفي. ولو كان عليه حد لكان قتله". وسنرى في بحث مقبل أن حديث الرسول وظِّفَ واستخدم سياسيًا لخدمة السلطة.

وفاة الرسول الكريم

            خاص المسلمون في عهد الرسول عدة معارك ضد أعدائهم فصِلت أحداثها كتبُ التاريخ؛ وهي لا تدخل في خطة هذه الدراسة. وبعد أن آتاهُ النصر الأخير، شد رحاله مع المؤمنين إلى مكة، ونزل الوحي عليه وهو في عرفات معلنًا للمؤمنين (اليوم أكملتُ لكم دينكم وأتممتُ عليكم نعمتي) (المائدة 3). وما هي إلا بضعة أشهر حتى يقترب أجل الرسول. فالسببُ الروحي لمجيئه إلى الأرض هو أداء رسالة روحية؛ وما دامت الرسالةُ قد أكملت، فحياته قد استتمَّت غايتها. والجدير بالذكر أن النبي الكريم قد تأثر من الاضطراب الدائم في سنواته الأخيرة، فكان حزينًا، منطويًا على نفسه، يزور المقابر في الليل ويخاطب الأموات معلنًا أن عيشتهم أفضلُ من عيشة الأحياء. من تلك الزيارات ما أثبته ابنُ هشام نقلاً عن ابن إسحاق عن آخرين قائلاً إن الرسول انطلق مع مولاه أبي مويهبة إلى المقابر، فلما وقف فيها، قال: "السلامُ عليكم، يا أهل المقابر، ليهنئ لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناسُ فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبعُ آخرها أولها، الآخرةُ شر من الأولى". (ج 4، ص 254). وكانت تساوره حمى شديدةُ الارتفاع. ولم يستطع المؤرخون من ناقلي سيرته أن يكشفوا عن سبب واضح أكيد لمزاجه الكئيب وصحته؛ حتى إذا حان يوم 7/8 حزيران سنة 632 ميلادية دخل المسجد ونعى نفسه للمسلمين بطريقة مبطنة، فعرف أبو بكر ما يقصد وبكى. وفي حديث نُقل عن عائشة أنه قال لها: "إن الله لم يقبِضْ نبيًا حتى يخيِّره"؛ فلما حضرته الوفاة كانت آخر كلمة سمعتها:  "بل ]اخترتُ[ الرفيق الأعلى". ("سيرة ابن هشام"، ج 4، ص 265).

العقيدةُ والفضائل الإسلامية

            أكد القرآن الكريم أن "الإسلام" يشمل الأديان السابقة المعروفة في شبه جزيرة العرب جميعًا، بمعنى إسلام أمر المؤمن وحياته لله والاتضاع له تعالى، وأن على المؤمنين بالدين الجديد الإيمان بالأنبياء السابقين والامتناع عن استفزازهم المؤمنين بهم في الجدال. وهذا التوحيد الإسلامي للأديان يتفق مع مبدأ وحدتها الجوهرية في الداهشية. من الآيات المؤكدة ذلك: (ولا يتجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسنُ إلا الذين ظلموا منهم، وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأُنزِلَ إليكم، وإلهنا وإلهكم واحدٌ، ونحن له مسلمون) (العنكبوت 46). كذلك (قل آمنا بالله وما أُنزلَ علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم، لا نفرق بين أحد منهم، ونحن له مسلمون) آل عمران 84)؛ كذلك (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين، مَن آمنَ بالله واليوم الآخر وعمل صالحًا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون) (البقرة 62)؛ والآيتان الأخيرتان من سورتين مدنيتين، أي في عهد بدأ المسلمون فيه احتكاكهم باليهود والنصارى.

وأكد القرآن الكريم أن عيسى ابن مريم هو "كلمةُ الله ورسولُه" (النساء 171)، وقد صنعُ المعجزات مُذ كان في المهد (مريم 30، آل عمران 46 و49، المائدة 110)، وأن مريم رفعها الله فولدته وهي عذراء. ورد في سورة آل عمران (وإذ قالت الملائكة: يا مريم، إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين) (42).

            يختم توماس كارلايل فصله عن "البطل نبيًا" في كتابه الشهير "الأبطال، عبادة البطل، والبطولة في التاريخ" بقوله: "كان ذلك للأمة العربية بمنزلة الخروج من الظلمات إلى النور، خروج به انتفضت تلك الأمة حيةً بعد همودها. شعبٌ فقير من الرعاة يجول في بواديه منذ خلق العالم خامل الذكر، بعث إليه نبي – بطل بكلمةٍ يمكنهم أن يؤمنوا بها: وإذا الخامل الذكر يصبح ذا شهرة عالمية، والصغير ينمو بحجم العالم. وبعد قرنٍ واحد، تمتد العربية ] شبه جزيرة العرب[ إلى غرناطة من جانب، وإلى دلهي من جانب آخر وهي تلتمع بالبطولة والمجد والعبقرية إلى عصور مديدة فوق قطاع كبير من العالم. الإيمان عظيم، ومبعث للحياة. إن تاريخ أمة ما يغدو مثمرًا، عظيمًا ، يسمو بالنفس، حالما يداخلها الإيمان. أولئك العرب، محمد الرجل، وذلك القرن الواحد – أليس هذا أشبه بشرارة هبطت من عَلُ، شرارة واحدة هبطت على عالم من الرمل كان يبدو أدكن غفلاً، فإذا الرمل باورد متفجر، يوهجُ الفضاء من دلهي إلى غرناطة! لقد قلتُ إن الرجل العظيم كان دائمًا كشهاب من السماء، وسائر الناس في انتظاره كالوقود؛ فما إن يسقط حتى يلتهبوا".

            وبلا ريب، كان تأثير النبي العربي في المسيرة الحضارية إلى عدة قرون بالغًا، إذ إنه، شأن كل نبيّ وهاٍد إلهيّ، يحمل رسالةً روحية إلى العالم غيرت مجرى التاريخ وأخصبته. ومن يتبصَّر في ظروف البيئة العربية الاجتماعية والاقتصادية والدينية قبيل الدعوة الإسلامية يستحل عليه أن يؤكد أن عربيًا سيتمكن من قلب الأوضاع السائدة وجَبْه مئات الألوف من أعدائه، ثم ضمهم إلى "أمة" تبنى رابطتها على العقيدة الدينية وما تنطوي عليه من معتقدات غيبية جديدة وسلوك قويم ومواقف شريفة تجاه الآخرين. يستحيل ذلك لأنه لا يخضع للمألوف ولا للقوانين السائدة، بل يخضع لقانون إلهي هو السببية الروحية. هذه السببية يمكن رؤيتها، في ضوء التعاليم الداهشية، ذات شعبتين تؤديان إلى نتيجتين: الأولى منح العرب رحمة قد تساعد كثيرين منهم في أن يَسْموا بسيالاتهم الروحية المنطوية على مداركهم ونزعاتهم، وبالتالي في إخراجهم من الظلمات إلى النور؛ وهذا ما حصل في عهد النبي الكريم ومعظم عهد الخلفاء الراشدين. الثانية تأديبُ اليهود والنصارى ممَّن حولهم لخروجهم عن العقيدة الصحيحة وما تستوجبه من سلوكٍ قويم، وإطلاق حضارة جديدة مبنية على القيم الروحية والعقلية. وهذا ما سيشكلُ مادة للبحث في ما سيأتي من هذه الدراسة".

Developed by Houssam Ballout        Copyright 2019 This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.nfo All Right Reseved This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.