أنا أؤمن بأنه توجـد عدالة سماويّة, وأن جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدنيا من مُنغصات انَّ هـو الاّ جـزاءٌ وفاق لِما أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور.ولهـذا يجب علينا أن نستقبلَ كلّ مـا يحـلّ بنـا من آلامِ الحياةِ ومآسيها غير مُتبرّمين ولا متذمّرين , بل قانعين بعدالةِ السماء ونُظمها السامية.

Highlighter
أحبُّ الكُتُبَ حبَّ السُكارى للخمر , لكنَّني كلَّما أزددتُ منها شرباً, زادتني صَحوا
ليس مّنْ يكتُبُ للهو كمَن يكتُبُ للحقيقة
الجمالُ والعفّــة فـردوسٌ سماويّ .
لا معنى لحياةِ ألأنسان اذا لم يقم بعملٍ انسانيٍّ جليل .
اعمل الخير , وأعضد المساكين , تحصل على السعادة .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقـوم بأعمالِ الخير نحـو ألأنسانيّة .
الموتُ يقظةٌ جميلة ينشُدها كل مَنْ صَفَتْ نفسه وطَهرت روحه , ويخافها كلّ من ثقُلت أفكاره وزادت أوزاره .
ان أجسامنا الماديّة ستمتدّ اليها يـد ألأقـدار فتحطِّمها , ثمّ تعمل فيها أنامل الدهـر فتتَّغير معالمها , وتجعلها مهزلةً مرذولة . أمّا ألأعمال الصالحة وألأتجاهات النبيلة السّامية , فهي هي التي يتنسَّم ملائكة اللّه عبيرها الخالد .
نأتي إلى هذا العالمِ باكين مُعولين، و نغادره باكين مُعولين! فواهً لك يا عالمَ البكاء والعويل!
جميعنا مُغترٌّ مخدوعٌ ببعضه البعض.
العدلُ كلمة خُرافية مُضحكة.
أمجادُ هذا العالم وهمٌ باطل، و لونٌ حائل، و ظلٌّ زائل.
لا باركَ الله في تلك الساعة التي فتحتُ فيها عينيّ فإذا بي في مكانٍ يطلقون عليه اسم العالم .
أنا غريبٌ في هذا العالم، و كم احنُّ إلى تلك الساعة التي اعود فيها إلى وطني الحقيقيّ.
الحياةُ سفينةٌ عظيمة رائعة تمخرُ في بحرٍ، ماؤه الآثام البشريَّة الطافحة، و امواجه شهواتهم البهيميَّة الطامحة، و شطآنه نهايتهم المؤلمة الصادعة.
كلّنا ذلك الذئبُ المُفترس , يردع غيره عن اتيانِ الموبقاتِ وهو زعيمها وحامل لوائها , المُقوّض لصروح الفضيلة , ورافع أساس بناءِ الرذيلة .
الحياةُ سلسلة اضطراباتٍ وأهوال , والمرءُ يتقلَّب في أعماقها , حتى يأتيه داعي الموت, فيذهب الى المجهولِ الرهيب , وهو يجهلُ موته , كما كان يجهلُ حياته .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقومَ بأعمالِ الخير نحو الانسانيّة .
المالُ ميزان الشرِّ في هذا العالم .
السعادةُ ليست في المال , ولكن في هدوءِ البال .
كلُّ شيءٍ عظيمٍ في النفسِ العظيمة , أمّا في النفسِ الحقيرة فكلُّ شيءٍ حقير .
الرُّوح نسمةٌ يُرسلها الخالق لخلائقه لأجل , ثم تعودُ اليه بعجل .
الرُّوح نفثةٌ الهيَّة تحتلُّ الخلائق , وكل منها للعودة الى خالقها تائق .
الرُّوح سرٌّ الهيٌّ موصَدْ لا يعرفه الاّ خالق الأرواح بارادته , فمنه أتتْ واليه تعود .
أنا أؤمن بأنه توجـد عدالةٌ سماويّة , وأنَّ جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدُّنيا من مُنغِّصاتٍ وأكدارٍ انَّ هـو الاَّ جـزاء وفاق لمِا أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور . ولهـذا يجب علينا أن نستقبل كلَّ مـا يحـلُّ بنـا من آلام الحياة ومآسيها غير م
الحرّيةُ منحة من السماءِ لأبناءِ ألأرض .
الموتُ ملاكُ رحمةٍ سماويّ يعطف على البشر المُتألّمين , وبلمسةٍ سحريّة من أنامله اللطيفة يُنيلهم الهناء العلويّ .
ما أنقى من يتغلّب على ميولِ جسده الوضيع الفاني , ويتبع ما تُريده الرُّوح النقيّة .
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
الراحة التامّة مفقودة في هذا العالم , وكيفما بحثت عنها فأنت عائدٌ منها بصفقةِ الخاسر المَغبون .
ليس أللّــه مع الظالم بل مع الحقّ.
ان الصديق الحقيقي لا وجود له في هذا العالم الكاذب.
ما أكثر القائلين بالعطف على البائسين وغوث الملهوفين والحنو على القانطين , وما أقلَّ تنفيذهم القول.
يظنُّ بعض ألأنذال ألأدنياء أنّهم يُبيّضون صحائفهم بتسويدِ صحائف الأبرياء , غير عالمين بأنَّ الدوائر ستدور عليهم وتُشهّرهم.
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السَّلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
رهبة المجهول شقاء للبشرِ الجاهلين للأسرارِ الروحيَّة , وسعادة للذين تكشّفت لهم الحقائق السماويَّة .
الموتُ نهاية كل حيّ , ولكنه فترة انتقال : امّا الى نعيم , وامّا الى جحيم .
الحياةُ خير معلِّمٍ ومُؤدِّب , وخيرَ واقٍ للمرءِ من الأنزلاقِ الى مهاوي الحضيض .
حين تشكُّ بأقربِ المُقرَّبين اليك تبدأ في فهمِ حقائق هذا الكون .
مَنْ يكون ذلك القدّيس الذي لم تخطرُ المرأة في باله ؟ لو وجدَ هذا لشبَّهته بالآلهة .
المرأة هي إله هذه الأرض الواسع السُّلطان. و هي تحملُ بيدها سيفاً قاطعاً لو حاولَ رجالُ الأرض قاطبةً انتزاعه منها لباؤوا بالفشلِ و الخذلان .

السببيَّة الروحيَّة في مجرى الأحداث العامة(8)

تمادي كنيسةُ روما في الانحراف وتعاظُمُ الغضب الإلهيّ عليها

بقلم الدكتور غازي براكس

بينت سابقًا عواقب المعصية التي ارتكبها آدم وحواء في ماجريات الأحداث التي أصابت ذراريهما ثم نسل نوح ومن تلاه من أنبياء حتى تدمير أورشليم وتدهور حضارة العبرانيين بدءًا من القرن السابع ق.م. بيد أن الهداية الروحيّة لم تزُل من الأرض، بل انتقلت سيّالاتها في القرن نفسه، في خطوط متوازية، إلى الهند والصين واليونان. فتمثلت في الهند بحُكماء "الأوبانيشاد" و"الباغافاض غيتا" كما في مهافيرا وبوذا الذي حارب البراهمة تعاليمه لأنها تدعو إلى إزالة الحواجز بين الطبقات. وفي الصين ظهر لاوتسو وكنفوشيوس اللذان اعتنق الملايين تعاليمهما بالرغم من مقاومتها. كذلك ظهر في اليونان عدة حُكماء وهُداة كان أبرزهم فيثاغورس وسقراط. فاضطهد الأول وحُكم بالإعدام على الثاني. وكانت النتيجة أن اليونان فقدت عهدها الذهبي منذ ذلك الحين، لكن تعاليم سقراط ظل تأثيرها فاعلًا حتى اليوم من خلال كتابات تلميذه أفلاطون. وبعد أربعمئة سنة ظهر السيد المسيح في فلسطين، فاضطهده اليهود. وكانت النتيجة تشريدهم وتدمير بلادهم وبداية انتشار المسيحية وقيمها الروحيّة في العالم الروماني. غيبر أن المسيحيين، مؤسسات ومؤمنين، أخذوا بالانحراف عن تعاليم معلمهم، مُنجذبين إلى القيم الدنيوية والشهوات وقمع الحريات.

كان يمكن أن تصبح الآريوسية المؤمنة بوحدانية الله الكنيسة الكبرى وتسمَّى "الكنيسة الكاثوليكية الرومانية"، ذلك بأنها استمرت تغالب تيار التثليت ما يزيد على نصف قرن، وأوشكت أن تتغلب عليه؛ لكن المشيئة الإلهية كانت غير ذلك، لأن الأسباب الروحية لا بد من أن تولّد نتائج محتومة. فمسيحيو روما الذين أتّبعوا خط قسطنطين الموفق بين الدين والدنيا والتزموا مبادئ مجمع نيقيا المُنحرفة، تمادوا في شذوذهم عن قيم المسيح الروحيّة، وانجذب معظمهم لمغريات الدنيا، فاستحقّوا أن يحصدوا ما زرعوه. وهكذا هجرت الحضارةُ الروحيةُ العالم المسيحي عندما هجر المسيحيون تعاليم سيد المجد. وفي أثناء هذه الهجرة التي استمرت حوالى اثني عشر قرنًا، بدءًا من القرن الرابع، كانت الطوائف المسيحية تقسمها وتثيرُ الفتن بينها المجادلات الدينية العقيمة، فتتناحرُ تناحُرًا شنيعًا. وكان البابوات يحوّلون سلطتهم الروحية تدريجيًا إلى سلطة دنيوية سياسية.

الدولة البابوية السياسية العسكرية

إن ملكوت المسيح روحي، لا سياسي على الإطلاق. وقد أكد يسوع هذه الحقيقة أمام بيلاطس الذي أحيل عليه لمحاكمته، فقال: "ما مملكتي من هذا العالم. لو كانت مملكتي من هذا العالم، لدافع عني أتباعي حتى لا أسلم إلى اليهود. لا، ليست مملكتي من هنا" (يوحنا: 18: 36). وفي موقف آخر، سأله الفريسيون: "ما رأيك؟ أيحلّ لنا أن ندفع الجزية إلى القيصر أم لا؟ فعرف يسوع مكرهم، فقال لهم: "يا مُراؤون! لماذا تحاولون أن تحرجوني؟ أروني نقد الجزية. فناولوه دينارًا. فقال لهم: "لمن هذه الصورة وهذا الاسم؟ فقالوا: "للقيصر. فقال لهم: "إذًا ادفعوا إلى القيصر ما للقيصر ، وإلى الله ما الله" (متى: 17:22 – 22). ففصل بين السلطة الدينية والحكم الدنيوي.

   لكن مجرى الأحداث في كنيسة روما كان غير ذلك. فعام 554 اعترف الإمبراطور يوستنيانس الأول Justinian I بسلطة البابا الزمنية (السياسية)، تلك السلطة التي سرعان ما حوّلت ملكوت المسيح الروحي إلى مملكة أرضية، فراح بابا روما يبرزُ للناس زعيمًا سياسيًا أكثر منه راعيًا روحيًا. فما إن نبلغُ مطلع القرن السابع حتى يكون البابا غوريغوريوس الأول Gregory I (590 – 604) قد وضع قواعد لدولة بابوية ذات أراضٍ شاسعة ورعايا تحكمهم روحيًا ودنيويًا.

ولم يقف طمعُ البابوات الدنيوي عند حد؛ فسنة 756 وسع البابا إسطفان الثاني StephenII  (752 – 757) رقعة الدولة البابوية وثبَّتها نهائيًا دولةً سياسية. وإذا الدولة الدينية الدنيوية يشتدُّ انحرافها مع الزمان، ويتفاقم تدخلها في قضايا السياسة الأوروبية والعالمية، حتى أخذت تحتلّ تدريجًا، في ميزان السياسة الدولية، المكانة التي كانت تشغلها الإمبراطورية، الرومانية. فما إن نبلغُ سنة 849 حتى يكون البابا لاون الرابع Leo IV (847 – 855) قد أنشأ أسطولاً خطير الشأن ليخوض به الحروب ضد أعدائه. وهكذا انقلبت البابوية على تعاليم السيد المسيح القائل: "هنيئًا لصانعي السلام، لأنهم أبناء الله يدعون" (متى 9:5)، و"سمعتم أنه قيل: أحب قريبك وأبغض عدوك؛ أما أنا فأقول لكم: أحبوا أعداءكم، وصلُّوا لأجل الذين يضطهدونكم" (متى 43:5 – 44).

كذلك جعلوا يحالفون الأسر الإقطاعية، ويحوكون المؤامرات، ويثيرون الفتن والقلاقل بين الدول المسيحية نفسها. ولم يكن في تنصيبهم أي اعتبارٍ للفضيلة أو الحكمة. مثالُ ذلك أن يوحنا الثاني عشر John XII( 955 – 963)، كونت ده توسكولوم، ارتقى السدة البابوية في السادسة عشرة من عمره، واستسلم للإغراءات الدنيوية، وانهمك في الشؤون السياسية، وأوقد الفتن والحروب؛ وبنوا التاسع Benoit IX (1032 – 1046) نُصِّب بابا وعمره خمسة عشر عامًا؛ وكانت سيرته المُنحرفة شبيهة بسيرة السابق.

   وتدخل البابا أُربانُس الثاني Urban II(1088 – 1099) في شؤون إسبانيا وفرنسا وإنكلترا مُحالفًا أو مُخاصمًا ملوكها. وأوفد الحروب الصليبية التي كانت مقنَّعة بالإيمان الديني والحرص على استعادة الأراضي المقدسة، في حين أن الحقيقة التاريخية تظهر الأسباب الكريهة لتلك الحروب، وبينها الطمع بمال الآخرين وممتلكاتهم، ومحاربة لا المسلمين فحسب، بل حتى اليهود والمسيحيين الذين ليسوا من الكاثوليك الأوروبيين. يقول جونسون Paul Johnson في كتابة البارز "تاريخ المسيحية": منذ البداية تعلَّم الصليبيون أن يبغضوا البيزنطيين بقدر بغضهم المسلمين. فعام 1204، هاجموا القسطنطينية واحتلوها إكرامًا لله والبابا والإمبراطورية. وفي كاتدرائية القديسة صوفيا مزّقوا الصور المعلقة، وحطموا القاطع الأيقوني الفاصل بين المذبح وبهرة الكنيسة، قطعًا قطعًا وضعوها في جيوبهم؛ وأقاموا امرأةً عاهرة فوق سدّة البطريرك جعلت تُغني أغنيةً وقحة. وقد داسوا الكتب والأيقونات المقدَّسة، واغتصبوا الراهبات، وشربوا النبيذ المعد للمذبح من الكؤوس المقدسة". وأرغم البابا غوريغوريوس التاسع (1227- 124) الملك فريدريك على استئناف حرب صليبية جديدة، وأنزل الحرم الكنسي فيه لأنه لم ينفذ أوامره فورًا، ثم رفع الحرم عنه بعد أن ردَّ إليه المقاطعات التي أحتلها، ثم أنزل الحرمَ فيه مجددًا. و"عام 1365، تمَّت  أخر الحملات الصليبية الدولية التي لم يكن لها من غاية إلا نهب مدينة الإسكندرية التي كان معظم سكانها مسيحيين. فقتل عديدون منهم مثلما قتل يهود ومسلمون كثيرون، بل حتى التجار اللاتين نهبت منازلهم ومخازنهم (جونسون نفسه).

    وكذلك منح البابا سكتُس الخامس Sixtus V (1585 – 159) كل فرنسي يثور ضد الملك هنري الرابع غفرانًا وهميًا للخطايا مدة تسع سنوات من العذاب المطهريّ، وذلك بالرغم من الانتفاضة البروتستانتية على المتجارة البابوية بالغفرانات؛ ودفع إلى ملك إسبانيا، فيليب الثاني، مبالغ طائلة سنويًا من مال الكنيسة ليُساعده في حربه ضد إنكلترا. وهكذا أشعلوا الحروب وارتكبوا المجازر مُنكّرين مآربهم الشخصية ومطامعهم السياسية والاقتصادية بالأقنعة الدينية.

   تناخُرُ البابوات وسلوكُهم الشائن

   كان السيد المسيح سيد المجد الروحيّ لا الدنيوي. فلا المال غرّة, وزلا عرشُ الأرض أجتذبه. ولا شهواتُ الجسد فتنته. فقد عاش متواضعًا، عفيفًا، مُتقشفًا، زاهدًا. من وصاياه: "لا تجمعوا لكم كنزًا على الأرض حيث يفسد السوس والصدأ كل شيء، وينقبُ اللصوصُ ويسرقون؛ بل اجمعوا لكم كنوزًا في السماء حيث لا يُفسد السوسُ والصدأ أي شيء، ولا ينقبُ اللصوص ولا يسرقون. فحيثُ يكون كترك يكونُ قلبك" (متى 19:6 – 21)؛ "لا يقدرُ أحدٌ أن يخدم سيّدين، لأنه إما أن يبغضَ أحدهما ويحب الآخر، وإما أن يتبع أحدهما وينبذ الآخر. فأنتم لا تقدرون على أن تخدموا الله والمال" (متى 24:6).

   إن كثيرين من البابوات ومعاونيهم من الأساقفة كانوا يسلكون السلوك الشائن الفاضح، ويتناحرون على المناصب الكنسية طمعًا بالسلطة والجاه والمال، ويرتكبون القبائح والمظالم الرهيبة باسم المسيح النقيّ. نذكرُ، على سبيل المثال، أن البابا إسطفانُس السادس Stephen VI( 896 – 897) أمر باستخراج جثة خصمه البابا فورموز Formous(891 – 896)؛ وبعد أن حاكمها مواجهة في ما سمي بـ"المجمع الجيفي"، قطع بعض الأصابع من يد الجثة جزاءً، وأمر برميها في مقابر  الغرباء العمومية حيث التقطها الجمهور المذعور، وألقى بها في نهر التيبر (ففي كانون الثاني/ يناير 897). وقد قبض أنصار فورموز على إسطفان السادس وزجوا به في السجن، ثم خنقوه فيه. واعتلى لاون الخامس LeoV (903) السُّدة البابوية حوالى شهرين، ثم قبض عليه كاهنٌ اسمه كريستوفر Christopher فسجنه، واحتل العرش البابوي مكانه (904-903). وإذ انتخب، في الظرف نفسه، أنصارُ إسطفان السادس بابا معاكسًا آخر هو سرجيوس الثالث Sergius III (904 – 911)، فقد اعتقل هذا الأخيرُ منافسهُ كريستوفر، ثم أمر بقتله وقتل ضحيته البابا لاون الخامس في السجن نفسه.

   وطوال ذلك العهد الأسود كانت ثيودورا Theodora، زوجةُ ثيوفيلاكتُس Thephylactus زعيم الأرستقراطية الرومانية، وابنتاها العاهرتان ثيودورا وماروزيا Marozia، هنَّ المتحكمات بالجالسين على العرش البابوي. وكان من جملة أحظياء هذه الأخيرة البابا يوحنا العاشر (914 – 928)، والبابا إسطفان السابع (929 – 931) اللذان سجنتهما، ثم أمرت بقتلهما بعد اختلافها معهما. وعلى أثر فتكها بالأخير، نصَّبت على العرش البابوي ابنها يوحنا الحادي عشر (931- 935). وإذا توفي زوجها، حاولت تنصيب عشيقها الجديد، هبوغ Hugh  إمبراطورًا  بمعونة ابنها البابا؛ فثار ألبريك الثاني Alberc II، ابنها الآخر، وزج بها وبأخيه البابا في السجن ثم قتلهما.

واغتصب بونيفاس السابع (984 – 985) العرش البابوي، بعد أن اعتقل البابا يوحنا الرابع عشر لكن بونيفاس سرعان ما قبض عليه فسُجن، ثم قتل وجُرِّرَت جثته في شوارع روما.

وقد تحوّلت الكنيسة الرومانية في عهد البابا سكستُس الرابع Sixtus IV (1471- 1484) إلى مؤسسة دنيوية فاسقة رهيبة يديرها كرادلة ينتمون إلى أسرة البابا، لا عمل لهم إلاَّ نسج المؤامرات وإثارة الحروب واحتلال المدن والمقاطعات لتوسيع ممتلاكاتهم، وتبديد أموال الكنيسة على مصالحهم الشخصية. وقد مات الكردينال بيار ريارو P.Riaro، ابن شقيقة البابا مستنزف القوى من جراء استسلامه للرذائل. وكان أخوه أردأ سيرةً منه. ولكي يستطيع البابا أن ينهض بنفقات أنسبائه الباهظة، رفع أسعارَ الغُفرانات الوهمية للخطايا وأثمان الرتب الكنسية. ولعل في ما كتبه ستيفانو إنفسُّورا Stefano Infessura، أمين سر مجلس الشيوخ الروماني في معاصره البابا سكتُس الرابع ما يوضح تألم الشعب من حكم المفاسد والمظالم في الدولة البابوية. قال: "كان يومًا سعيدًا يوم مماته، إذ أظهر الربُّ الكلي القدرة قوته في إنقاذ الشعب المسيحي من مساوئ هذا الحاكم الفاسق الظالم الذي كان يجهل خوف الله، ويخلو من أي ميل لرعاية المسيحيين، ولم تخالجه شفقةٌ ولا محبة، إنما كان بكليته مطية لشيطان الشهوانية الفاجرة وجشع المال وعشق البذخ والمطامع الباطلة.

   وكان البابا إنوسنت الثامن Innocent VIII (1484 – 1492) والدًا لابني زنًى. وقد منح الكردينالية لابن أخيه، ولد زنًى أيضًا. وهو لم يعنَ إلا بمصلحته ومصالح أسرته المادية؛ وفي أيامه غاص الفاتيكان في بحرٍ من الدعارة والمفاسد الخلقية. وقد أصدر أمرًا بأن كل من يقتل هرطوقيًا يرثُ ممتلكاته ويحصل على مغفرة ما اقترفه من خطايا. وقد شارك في الاضطهاد الكهنةُ والحكام.

   وتابع البابا ألكسندر السادس (رودريغو بورجيا) Radrigo Borgia Alexander  سيرة الرذيلة بالغًا أقصاها مثلما تابع تبديد أموال الكنيسة ليسد بها نفقات أُسرته على ملذاتها. وحاك المؤامرات، واغتصب الولايات والمقاطعات ليهبها أولاده. وقد أحرق الراهب الدومينيكي سافونارولاً Savonarola (1452 – 1498( حيًا لأنه انبرى يدعو الناس إلى التوبة منددًا بحياة الفساد التي تفاقم شرها في الأسرة البابوية والسلطة الكنسية. كذلك أحرق معه الراهبين الدومينيكيين سلفستر Sylvester ودومينيك Domenico

   وقد عمد البابا يوليوس الثاني Julius II (1503 – 1513) الملقَّب بالرهيب لانهماكه الدائم في الحروب، ولاون العاشر Leox (1513 – 1521) إلى زيادة بيع صكوك الغفران الوهمي من الخطايا، خادعين السذج ليجمعا منهم ملايين الدنانير لبناء ضريحيهما الفخمين، وتزيين قصورهما وكنائسهما، والإنفاق على ملذاتهما.

 

 

"محاكمُ التفتيش" الجهنمية

         من أقوال المسيح: "من قال لأخيه" "يا جاهل"، استوجب حكم المجلس؛ ومن قال له: يا أحمق، استوجب نار جهنم"، (متى 1:7). كذلك: "لا تدينوا لئلا تدانوا" (متى 1:7).

   لكن بابوات العصور الوسطى أقاموا "محاكم تفتيش" Inquisition لم يكن لها من المحاكم الحقيقية. سوى الاسم. فقد كانت وسيلة جهنمية لهم وللأساقفة والرهبانيات الإرهابية ومن ناصرهم من أصحاب السلطة السياسية للتخلص من خصومهم الدينيين والسياسيين، بل مخالفيهم في تأويل الكتاب المقدس، وللاستيلاء على أملاكهم. وكانت مُلاحقةُ هذه المحاكم موجهةً، أصلاً، ضد "الهرطقة"، أي المسيحيين الخارجين عن العقيدة الرومانية الكاثوليكية وفق تشكلها بعد مجمع نيقيا، عام 325. لكنها، في الواقع، تعدّت هؤلاء لتشمل أيضًا اليهود والمسلمين بإسبانيا، والمتّهمين بتعاطي "السحر" المزعوم، والأعداء السياسيين والفكريين في كل منطقة يُسيطر عليها النفوذ البابوي.

   أما طرق المحاكمة وأصولها فقد كانت مأساة المآسي ومهزلة المهازل. فالأسقف أو رئيس المحكمة المحليَّة المكلف كان مُطلق الصلاحية في اتهامه الناس. وكان يقبل شهادة المجرمين من لصوص وقتلة وشاهدي زور... ومع ذلك لم يكن مسموحًا للمتّهم بمواجهة الذين شهدوا ضده أو بمعرفة أسمائهم. علاوةً على ذلك، حُرِّمَ على المحامين، بصورةٍ عامة، مساعدةُ المتّهمين. وكان المتّهمون يخضعون لأقسى أنواع العذاب ليعترفوا بالذنب الذي تريد المحكمة أن يعترفوا به؛ وهيهات أن يسلموا بعد اعترافهم. ومن فنون العذاب الضربُ المُبرح بالسياط، والضغط على الأيدي والأرجُل حتى تحطم العظام، ورفع المتّهم بآلة رافعة ثم صدمه بالأرض، والكي بالجمر إلخ. ذلك فضلاً عن الصيام الإكراهي وحرمان النوم والقيود الدائمة التي تمتد أحيانًا بضع سنوات.

   أما الأحكامُ فكانت إحراق المتّهم حيًا أو سجنه مؤبدًا، هذا إذا لم يمت من جراء التعذيب والتنكيل. وكانت أملاكه تُصادر، وتُحرم عائلته من أي إرث. بل إن ما سموه بالـ"مكتب المقدس" كان يأمر بنبش جثث الذين يشك في هرطقتهم ممن ماتوا دونما محاكمة، فتوضع عظامم وبقاياهم على المسامير وتجرَّر في الشوارع، ثم تُحرق.

   وقد بدأ اضطهادُ السلطة الكاثوليكية الجدّي للمسيحيين الذين يأبون التعامي عن القبائح والفضائح التي تحدث في قصور البابوات أو الذين لا يخضعون لأوامرهم ومبادئهم الدينية والسياسية، في أوائل القرن السابع للمسيح. لكن محاكم التفتيش الرهيبة ترقى نشأتها إلى أواخر القرن الثاني عشر. ففي سنة 1179، قرر البابا ألكسندر الثالث، في مجمع لاتران Latran، وجوب التصدي "للهراطقة" بقوة السلاح ومصادرة ممتلكاتهم، واستعبادهم. وفي 4 تشرين الثاني (نوفمبر) 1184، أصدر البابا لوسيوس الثالث Lucius III، في مجمع فيرونا Verona، دستورًا يُمكن اعتباره الأصل التأسيسي لمحاكم التفتيش الأسقفية.

واستخدمت السلطت البابوية عدة منظمات "رهبانيَّة" لمساعدتها في مهمتها، من بينها الدومنيكان والفرنسيسكان والواعظون.

وفي القرنين الثاني عشر والثالث عشر نشطت، في عدة مناطق من أوروبا، جماعات كثيرة ممن يؤمنون بأن العالم المادي كله شر، وعلى الإنسان أن يحرّر نفسه من قيود المادة ليستطيع أن يستعيد طبيعته الخيّرة ويتَّحد بالله الذي انفصل عنه. وقد لاحظوا انحراف الكنيسة الرومانية عن أهداف المسيح، فكانوا يتقشفون ممتنعين عن الجماع، وقد نظموا أنفسهم، وأقاموا لهم أسقفيات خاصة. فكان الكاثاريون Cathari، وهم من أبرزهم، الضحايا الأوائل لـ"محاكم التفتيش"، إذ أحرق حيا أو وُئد الألوف منهم في أوروبا، ولا سيما في فرنسا وإيطاليا وألمانيا بين سنة 1233 و1278. ثم توالت المجازر الرهيبة، وكان من أبشعها تلك التي حدثت في فرنسا، في عهد الملك فيليب له بل Philippe le Bel ، إذ أوقف، في 24 آب سنة 1307، أعضاءُ الجمعية المعروفة بـ "فرسان الهيكل" Le chevaliers du Temple"  في جميع الأراضي الفرنسية، ثم أحرقوا أحياء، بعد أن قضى كثيرون منهم في السجون من التعذيب. كذلك في عهد فرانسوا الأول FrançoisI, قتل ألوفٌ من المسيحيين الفودوا Vaudois (جنوبي فرنسا) سنة 1545. على أن أرهبَ "محاكم التفتيش" هي تلك التي عرفتها إسبانيا، لا سيما في عهد رئيس الدير الدومينيكي توركيمادا Torquemada، إذ قُضي على ألفي شخص في مدة أربعة عشر عامًا (1484 – 1498). وقد داومت "محاكم التفتيش" الكاثوليكية حتى القرن التاسع عشر على إرسال خصوم البابوية إلى المحرقة.

   ولم تكتف البابوية والأجهزة التابعة لها باضطهاد العاديين، بل تعدتهم إلى اضطهاد المُصلحين والمفكرين والعلماء، بحيث أظهرت نفسها أنها عدوةٌ لكل إصلاح سياسي واجتماعي أو تحرّر فكريّ أو تقدم علميّ. فمن العلماء الذين حاربتهم: كوبرنيك Copernicus (1473 – 1543)، وهو عالمٌ فلكي بولوني برهن على دوران الكواكب السيارة حول نفسها وحول الشمس، فحكمت البابوية على نظريته بالبطلان، زاعمةً أنها ضد الحقائق الدينية. وغاليليه Galieli (1564-1642)، وهو عالمٌ إيطالي في الرياضيات والفيزياء والفلك؛ فقد أجبر وهو في السبعين من عمره على أن يركع أمام "محكمة التفتيش" الكاثوليكية، وينكر تأكيده لصحة نظرية كوبرنيك حتى ينجو من عقاب الموت بإحراقه حيًا؛ ففعل ما أكرهوه عليه وهو يقول: "ولكنها ]أي الأرض[ مع ذلك تدور" (E pur si muove). وقد أمضى بقية حياته في إقامة جبرية شبه سجين. كذلك أحرق الفيلسوف الإيطالي برونو G.Bruno حيًا، سنة 1600، بتهمة الهرطقة. وأحرق الفيلسوف الإيطالي الآخر فانييني Vanini حيًا أيضًا، سنة 1619، بتهمة السحر المزعوم والإلحاد. وكانت السلطة البابوية قد أصدرت اللائحة الأولى للـ"كتب المحظورة" Index Expurgatorius. وأتبعها، سنة 1564، بلائحة أوسع. ثم دأب "مجمع الحظر" التابع لها على تحريم كل كتاب لا يروقها منذ سنة 1571 حتى سنة 1917. ثم أخذ يقومُ بهذه المهمة ما سموه بالـ"مكتب المقدَّس".

   وكان عددُ ضحايا "محاكم التفتيش" عظيمًا. فوفق شهادة جون أنطونيو لورنته /Llorente، الذي كان يشغل منصب أمين سر محكمة التفتيش في مدريد في أثناء سنوات الثورة الفرنسية (1789- 1791)، بلغ عددهم في إسبانيا وحدها حوالى ثلاثمئة وخمسين ألفًا، بينهم 31912 شخصًا أحرقوا أحياء. أما المتَّهمات بالسحر فقدر عددهن بثلاثمئة ألف، بينهن مئتا ألف في ألمانيا وحدها.

دحضُ مزاعمِ البابوية لخلافة بطرس الرسول

   إستند البابوات، بعد مجمع نيقيا في ادعائهم خلافة بطرس الرسول ثم خلافة المسيح نفسه، إلى قول سيد المجد لبطرس الرسول: "أنت حجر، وعلى هذا الحجر سأبني كنيستي (جماعتي)... وسأعطيك مفاتيح ملكوت السماوات، فما تربطه في الأرض يكون مربوطًا في السماء، وما تُحلّه في الأرض يكونُ محلولًا في السماء" (متى 16: 18- 19).

لكن الموقف الداهشي المستند إلى الوحي يدحض ادعاء الخلافة، وله تفسير خاص لمعنى "الحجر" لا مجال لتفصيله في هذا البحث:

أولاً، كان المسيح يخاطب بطرس قصرًا، بل يخاطب السيال الروحي الأعلى فيه. وبرهان ذلك أنه، بعد أن أعلم المسيحُ تلاميذه أنه سيُضطهد ويعذَّب، "انفرد به بطرس وأخذ يعاتبه فيقول: لا سمح الله، يا سيد! لن تلقى هذا المصير! فقال لبطرس: ابتعد عني، يا شيطان! أنت عقبة في طريقي، لأن أفكارك هذه أفكار البشر لا أفكار الله" (متى 22:16 – 23). والواقع التاريخي أكد ذلك، إذ أنكر بطرس معرفته للمسيح ثلاث مرات. ولو تجرأ وأكد معرفته له وشهد لمصلحته، لكان سيرُ المحاكمة تغير، وفق ما أكد لي مؤسس الداهشية. أما غفران الخطايا فلا يكون نظريا، بل يتأكد بشفاء إعجازي من علةٍ تكونُ نتيجة لخطايا اقترفها المعلول في حياته الحالية أو السابقة، وهو هبة لم يقصرها المسيح على بطرس الرسول. فوفق المفهوم الداهشي ظهرت شخصية المسيح العلوية لتلاميذه، بعد الصلب، لأن الموت لا يقوى عليها، وكانوا مجتمعين في غرفةٍ مقفلة الأبواب، فقال لهم بعد أن نفخ في وجوههم: "خذوا الروح القدس. من غفرتم له خطاياه تغفر له، ومن منعتم عنه الغفران يُمنعُ عنه" (يوحنا 19:20 – 23). وهذا يؤكد أن الروح القدس هو الذي يغفر الخطايا (بصنُع معجزات شفائية مثلما فعل المسيح) لا البابواتُ ولا الكهنة، ولا أي إنسان آخر. ومع ذلك لم يخبر عن أحد منهم أنه صنع معجزة إلا بطرس الذي زوده المسيح بقوة روحية يعرف الداهشيون كنهها، وبولس الذي رافقه يسوع مُتخفيًا وكان يصنعُ المعجزات، فتنسب لبولس.

   ثانيًا، في الموقف الآنف ذكره خاطب المسيح تلاميذه قائلاً: "مَن أراد أن يتبعني، فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني، لأن الذي يريد أن يخلص حياته يخسرها، ولكن الذي يخسر حياته في سبيلي يجدها. وماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟" (متى 16:24-26) فإذا تفحصنا سير البابوات، في القرن الوسطى، لوجدنا أكثرها على نقيض تام مما يريده المسيح؛ إذ كانوا يحوكون المؤامرات بعضهم ضد بعض، ويقترفون الجرائم، ويوقدون الحروب، وينغمسون بالشهوات من أجل ربح العالم ومغرياته واقتناء الثروات الطائلة. فأي إنكار للنفس في تلك السِّير؟!

ثالثاً، كيف يدَّعي البابوات حقّ خلافتهم لبطرس الرسول، وهو لم يدع حق الرئاسة في التشريع للكنيسة وإدارتها، ولا عين خليفة له. فبولس الرسول ظلَّ متفردًا في تصرفه ونشر التعاليم المسيحية وتأسيس الكنائس بروما وغيرها، حتى إنه أنبَ بطرس علنًا في رسالته إلى غلاطية لأن بطرس كان ميالاً إلى قصر التبشير على اليهود دون بسطه إلى الرومان مثلما فعل بولس (11:2 – 14). وهذا رأيٌ يتفق عليه كثيرٌ من مؤرخي الدين المسيحي حتى الكاثوليك بينهم.

   رابعًا، خلال القرون الثلاثة الأولى لم يكن أسقف روما وحده المُعترف به رأسًا للكنيسة، فقد كان ثمة نوع من الاستقلالية في القرنين الأولين ونزاعٌ على السلطة في القرن الثالث. أما كيف ولماذا سيطرت كنيسة روما، وبعدها كنيسة القسطنطينية (بعد نقل العاصمة الرومانية إليها) على سائر الكنائس، فأسبابُ ذلك معظمها سياسيّ، فضلاً عن كثرة الشهداء الذين سقطوا في عاصمة الإمبراطورية.

العقاب الإلهيّ الرهيب

   بعد مؤتمر نيقيا كرّس البابوات أنفسهم خلفاء لبطرس الرسول، بل للمسيح نفسه، بل جعلوا أنفسهم خلفاء لله تعالى، وأخذوا يحلمون، مع كرور الأعوام، بدمج السلطة الدينية بالسلطة السياسية  بحيث تصبح الإمبراطورية الرومانية العظيمة تحت سلطانهم. لكنهم لم يكونوا يعلمون ماذا تُخبئ الأقدار التي صاغوها بأعمالهم الدنيوية وشهواتهم الجسدية من عقاب رهيب. فعام 395 مات ثيودوسيوس Theodosius، بعد أن كان قد أعلن المسيحية الكاثوليكية دين الدولة الرسمي، عام 380، وحظر وقمع كل ما عداها. وإذا بروما التي انتصرت فيها المسيحية المُنحرفة سياسيًا وخُلقيًا ودينيًا معدَّة لغزوها وخرابها. فجازاها الله بتسليطه عليها البرابرة الذين كانوا قد اعتقوا المسيحية الآريوسية القائلة بوحدانية الله؛ فاجتاحها القوط الغربيون سنة 410. وما كانوا ليدخلوها لو لم تستحق العقاب الإلهيّ، ولو لم تتهيأ للغزاة السبل من ضعف حكامها وشعبها الخلقي، ووهن اقتصادها، وفوضى سياستها، واليأس الذي بدأ يتسرب إلى نفوس قاطنيها. وتبعت القوط موجات  بربرية أخرى اجتاحت مدن الشرق والغرب حيث كان للرومان سلطان. وكانت أشرس تلك الحملات حملةُ الهون Hun التي قادها أتيلا Attila، الملقب بـ"غضب الله، في أواسط القرن الخامس.  وبعد موت ثيودوسيوس لم يبق من الإمبراطورية الرومانية إلا قسمها الشرقي الذي اقتصر عليه اسم بيزنطيا، بعد أن كان يشمل الإمبراطورية كلها. وسرعان ما مشت بيزنطيا على خُطى روما في الانقسامات الدينية والمفاسد الخلقية؛ لكن سيرها نحو الهاوية كان أبطأ، بحيث إن مشيئة الله قضت عليها بالزوال تدريجًا، بتقطيع أوصالها شيئًا فشيئًا.

   ثم حلَّت الضربة الإلهية الثانية. فبعد حوالى عامين من وفاة الرسول العربي الكريم، انطلقت جحافلُ العرب المسلمين شمالاً ليحتلّوا منطقة واسعة من بيزنطيا، تشمل سوريا بما فيها دمشق وفلسطين بما فيها أورشليم (638). وبعد احتلالهم بلاد الفرس، غزوا مصر واحتلوا الإسكندرية (642) حيث ناصر الأقباط المسيحيون العرب ضد الكنيسة اليونانية الكاثوليكية. وفي الشرق تقدم العرب على طول الشاطئ إلى ليبيا (647)، ثم إلى قبرص (649) ورودس (654) وصقلية (652). وهكذا خسرت بيزنطيا وسلطتها الكنسية مدنها كلها على ساحل البحر المتوسط. لكن موجات الفتوح العربية لم تقف عند هذا الحد، بل تقدمت إلى أرمينيا (653). وعام 683، وصل العرب إلى المحيط الأطلسي في شمال إفريقيا. ثم تبع فتحُ إسبانيا عام 711، وأقيمت الإمارةُ الأموية في قرطبة سنة 756. زد إلى ذلك احتلال ديارٍ كثيرة داخل آسيا لم تصل إليها جيوشُ الرومان في أوج سؤددهم. إن العدالة الإلهية أخذت مجراها، فاقتصت شر اقتصاص من المسيحيين البيزنطيين ورعاتهم الدينيين، لأنهم خرجوا عن تعاليم سيد المجد الذي ادعوا أنهم خلفاء له، وكان خروجهم بسلوكهم الُمنحرف عن القيم الروحية كما بالتزامهم تعاليم جديدة أدخلت على وحدانية الله! ومثلما سمحت العدالةُ الإلهية بأن يتسلط البرابرة الآريوسيون القائلون بوحدانية الله على قسم كبير من الإمبراطورية الرومانية، عادت فسمحت بأن يتسلط المسلمون القائلون بوحدانية الله على قسم كبير من الإمبراطورية البيزنطية. ثم حدث الإنشقاق الكبير بين كنيستي الشرق والغرب عام 1054، بعد أن اختلفتا في أمور تتعلَّق بالعقيدة والممارسة الكهنوتية. وحرمت كل منهما الأخرى معتبرة إياها مُنحرفة. وهكذا ضعفت المؤسسة المسيحية بالانشقاق والتنازع.

وبعد تهديد السلاجقة الأتراك لبيزنطيا، بدأت الحملاتُ الصليبية. لكن ماذا كانت نتائجها؟ إنتهت الحملة الصليبية الثانية بهزيمة شنعاء في أواسط القرن الثاني عشر. وسنة 1187، أباد صلاح الدين الأيوبي معظم الجيش الأوروبي في معركة حطين. وفي 2 تشرين الأول من العام نفسه استعاد مدينة القدس ومعظم المعاقل الأوروبية الأخرى. وفي الحملة الثالثة اضطر ريتشارد (قلبُ الأسد)، بعد عجزه عن فتح القدس، إلى إبرام معاهدة سلام لخمس سنوات سمح فيها صلاح الدين للحجاج المسيحيين بزيارة الأماكن المقدسة. وعام 1212، جرت حملةُ الصبيان التي عباتها حماستُهم المتهورة وطاعتهم العمياء للبابا، فقضى فيها أو فُقِدَ أو استعبد الآلافُ منهم. والحملتان الخامسة والسابعة على مصر أخفقتا. أما الحملة الثامنة فقادها الملك لويس من جنوبي فرنسا، وحط بجنوده في تونس لاسباب غير واضحة؛ فقضى هو وابنه ومعظم جنوده بالأمراض الفتاكة.

   وعمَّ وباءُ الموت الأسود أوروبا بين 1347 – 1400 مبيدًا حوالى ثلث شعوبها، غير عافٌ عن الملوك وأسرهم أو رجال الدين، حتى أصبحت أوروبا مقبرةً جماعية. وستكونُ الضربةُ اللاحقة، لا الأخيرة، الانتفاضة الإصلاحية البروتستانتية.

   أكد مؤسس الداهشية أن الحقيقة الروحية هي في ذات الله تعالى،  ويستحيل أن يدركها إنسان مهما بلغ سموه؛ فادِّعاء احتكار الحقيقة المُطلقة باطل. كذلك أكد أن التعاليم الدينية تُعطى البشر وفقًا لمستويات مداركهم وطبيعة بيئاتهم في الأزمنة التي تُبعثُ فيها الأديان؛ فكل مؤمن يحاسبُ وفق تعاليم دينه. وشدَّد على أهمية العقل الحرّ مُستنكرًا الطاعة العمياء، مؤكدًا أن من يخونُ عقله يخون خالقه، لأن العقل قبس منه، موضحًا أن ممارسة القيم الروحية هي الجوهرُ في كل دين، رافضًا الإرهاب ردًا على أي اعتداء، مُعتبرًا أن الوسيلة جزء من الغاية، فإذا فسدت، أفسدت الغاية معها. وبعد ستين عامًا فصل هذه المبادئ د. تشارلز كمبول، أستاذ تاريخ الأديان المقارنة في كتابه البارز "عندما يُصبحُ الدين شرًا".

"من أراد أن يتبعني، فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني، لأن الذي يريد أن يخلّص حياته يخسرها، ولكن الذي يخسر حياته في سبيلي يجدها. وماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟"

Developed by Houssam Ballout        Copyright 2019 This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.nfo All Right Reseved This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.