أنا أؤمن بأنه توجـد عدالة سماويّة, وأن جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدنيا من مُنغصات انَّ هـو الاّ جـزاءٌ وفاق لِما أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور.ولهـذا يجب علينا أن نستقبلَ كلّ مـا يحـلّ بنـا من آلامِ الحياةِ ومآسيها غير مُتبرّمين ولا متذمّرين , بل قانعين بعدالةِ السماء ونُظمها السامية.

Highlighter
أحبُّ الكُتُبَ حبَّ السُكارى للخمر , لكنَّني كلَّما أزددتُ منها شرباً, زادتني صَحوا
ليس مّنْ يكتُبُ للهو كمَن يكتُبُ للحقيقة
الجمالُ والعفّــة فـردوسٌ سماويّ .
لا معنى لحياةِ ألأنسان اذا لم يقم بعملٍ انسانيٍّ جليل .
اعمل الخير , وأعضد المساكين , تحصل على السعادة .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقـوم بأعمالِ الخير نحـو ألأنسانيّة .
الموتُ يقظةٌ جميلة ينشُدها كل مَنْ صَفَتْ نفسه وطَهرت روحه , ويخافها كلّ من ثقُلت أفكاره وزادت أوزاره .
ان أجسامنا الماديّة ستمتدّ اليها يـد ألأقـدار فتحطِّمها , ثمّ تعمل فيها أنامل الدهـر فتتَّغير معالمها , وتجعلها مهزلةً مرذولة . أمّا ألأعمال الصالحة وألأتجاهات النبيلة السّامية , فهي هي التي يتنسَّم ملائكة اللّه عبيرها الخالد .
نأتي إلى هذا العالمِ باكين مُعولين، و نغادره باكين مُعولين! فواهً لك يا عالمَ البكاء والعويل!
جميعنا مُغترٌّ مخدوعٌ ببعضه البعض.
العدلُ كلمة خُرافية مُضحكة.
أمجادُ هذا العالم وهمٌ باطل، و لونٌ حائل، و ظلٌّ زائل.
لا باركَ الله في تلك الساعة التي فتحتُ فيها عينيّ فإذا بي في مكانٍ يطلقون عليه اسم العالم .
أنا غريبٌ في هذا العالم، و كم احنُّ إلى تلك الساعة التي اعود فيها إلى وطني الحقيقيّ.
الحياةُ سفينةٌ عظيمة رائعة تمخرُ في بحرٍ، ماؤه الآثام البشريَّة الطافحة، و امواجه شهواتهم البهيميَّة الطامحة، و شطآنه نهايتهم المؤلمة الصادعة.
كلّنا ذلك الذئبُ المُفترس , يردع غيره عن اتيانِ الموبقاتِ وهو زعيمها وحامل لوائها , المُقوّض لصروح الفضيلة , ورافع أساس بناءِ الرذيلة .
الحياةُ سلسلة اضطراباتٍ وأهوال , والمرءُ يتقلَّب في أعماقها , حتى يأتيه داعي الموت, فيذهب الى المجهولِ الرهيب , وهو يجهلُ موته , كما كان يجهلُ حياته .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقومَ بأعمالِ الخير نحو الانسانيّة .
المالُ ميزان الشرِّ في هذا العالم .
السعادةُ ليست في المال , ولكن في هدوءِ البال .
كلُّ شيءٍ عظيمٍ في النفسِ العظيمة , أمّا في النفسِ الحقيرة فكلُّ شيءٍ حقير .
الرُّوح نسمةٌ يُرسلها الخالق لخلائقه لأجل , ثم تعودُ اليه بعجل .
الرُّوح نفثةٌ الهيَّة تحتلُّ الخلائق , وكل منها للعودة الى خالقها تائق .
الرُّوح سرٌّ الهيٌّ موصَدْ لا يعرفه الاّ خالق الأرواح بارادته , فمنه أتتْ واليه تعود .
أنا أؤمن بأنه توجـد عدالةٌ سماويّة , وأنَّ جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدُّنيا من مُنغِّصاتٍ وأكدارٍ انَّ هـو الاَّ جـزاء وفاق لمِا أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور . ولهـذا يجب علينا أن نستقبل كلَّ مـا يحـلُّ بنـا من آلام الحياة ومآسيها غير م
الحرّيةُ منحة من السماءِ لأبناءِ ألأرض .
الموتُ ملاكُ رحمةٍ سماويّ يعطف على البشر المُتألّمين , وبلمسةٍ سحريّة من أنامله اللطيفة يُنيلهم الهناء العلويّ .
ما أنقى من يتغلّب على ميولِ جسده الوضيع الفاني , ويتبع ما تُريده الرُّوح النقيّة .
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
الراحة التامّة مفقودة في هذا العالم , وكيفما بحثت عنها فأنت عائدٌ منها بصفقةِ الخاسر المَغبون .
ليس أللّــه مع الظالم بل مع الحقّ.
ان الصديق الحقيقي لا وجود له في هذا العالم الكاذب.
ما أكثر القائلين بالعطف على البائسين وغوث الملهوفين والحنو على القانطين , وما أقلَّ تنفيذهم القول.
يظنُّ بعض ألأنذال ألأدنياء أنّهم يُبيّضون صحائفهم بتسويدِ صحائف الأبرياء , غير عالمين بأنَّ الدوائر ستدور عليهم وتُشهّرهم.
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السَّلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
رهبة المجهول شقاء للبشرِ الجاهلين للأسرارِ الروحيَّة , وسعادة للذين تكشّفت لهم الحقائق السماويَّة .
الموتُ نهاية كل حيّ , ولكنه فترة انتقال : امّا الى نعيم , وامّا الى جحيم .
الحياةُ خير معلِّمٍ ومُؤدِّب , وخيرَ واقٍ للمرءِ من الأنزلاقِ الى مهاوي الحضيض .
حين تشكُّ بأقربِ المُقرَّبين اليك تبدأ في فهمِ حقائق هذا الكون .
مَنْ يكون ذلك القدّيس الذي لم تخطرُ المرأة في باله ؟ لو وجدَ هذا لشبَّهته بالآلهة .
المرأة هي إله هذه الأرض الواسع السُّلطان. و هي تحملُ بيدها سيفاً قاطعاً لو حاولَ رجالُ الأرض قاطبةً انتزاعه منها لباؤوا بالفشلِ و الخذلان .

السببيَّة الروحية في مجرى الأحداث العامة (6)

وفق المفاهيم الداهشية: نشأةُ المسيحيَّة ومرحلتها الأولى

بقلم الدكتور غازي براكُس

 

لعل القارئ تنبه، في معالجتي لموضوع السببية الروحية في مجرى الأحداث العامة، إلى تأكيدي المتكرّر أن وراء الأحداث الجماعية وكذلك الفردية – نظامًا روحيًا عادلًا وثابتًا يُهيمنُ على الأرض ِ وعلى الكونِ كله معلومه ومجهوله، وأن من قواعد هذا النظام ظهور أنبياء أو هداة روحيين، مُنذرين ومُبشرين؛ فيخاطب كل منهم قومه أولاً، ثم العالم، من خلال الحقائق والإرشادات المُوحاة أو المُلهمة التي يتركها، مؤكدًا أن خير الفرد والجماعات الأسمى رهنٌ بمدى ممارستهم وتجسيدهم لتلك الحقائق والإرشادات، وبالتالي مدى استقامة العلاقات الروحية التي يقيموها بينهم وبين ذلك النظام الروحي يدفعهم إلى ارتكاب مختلف الرذائل والشرور، وبالتالي إلى جر شعوبهم إلى النكبات والويل والثبور.

   يقول الدكتور هيوستن سميث Huston Smith، المرجعُ الكبيرُ في تاريخ الأديان وأستاذُ الدراسات المقارنة فيها في جامعات واشنطن و MIT وسيراكيوز وبركلي بكاليفورنيا: "العلمُ الحديثُ ما يزال يشكك في وجود كياناتٍ غير منظورة؛ لكن التشكيك العلمي بدأ يتراجعُ مع ملاحظة إدنغتن Eddington أن العالم هو شبيهٌ بعقلٍ أكثر منه بآلة، ومع تقارير عُلماء الفيزياء الفلكية القائلة بأن مقدار 90 بالمئة من المادة في الكون هو غير منظور، بمعنى أنه لا يؤثر في أي من أجهزتهم".

والعقل الإلهي المدبر هو الذي يهيمن على النظام الروحي الكوني، ويؤثر في المخلوقات ومصايرها وفق عدالة كاملة وسببية روحية شاملة. وهذا التاثير يطال الموجودات جميعها معروفها ومجهولها من خلال جوهرها الروحي الكائن في كل سيال؛ علمًا بأن التعاليم الداهشية المُوحاة أوضحت أن نسيج الكون كله هو من السيالات. وهيهات أن تكون قوة "المادة" مهما عظمت كقوة الطاقة الروحية المجرَّدة التي بدأ يفترضُ بعضُ العلماء أنها مُنبثةٌ في الكون كله. يقولُ الفيزيائي البوذي ألن والاس Allan Wallace إنه لو أتيحَ للعلم أن يقيسَ تلك القوة غير المادية في فضاءٍ مجرَّد من المادة لظهر له أن أي حجمٍ منها، مهما يكن صغيرًا، لأعظمُ قوةً من مجموع الطاقة التي تختزنُها المادة في الكون كله، لأنها قوة لا نهائية.(2)

حياةُ السيد المسيح واضطهادُه والأسبابُ الروحية وراءهما

بهذه القوة الروحية الخارقة التي تبعث على الخشوع والذهول كان يسوع الناصري مزودًا من قبل المهيمن على نظام الكون. فشفى بقوة الروح الأمراض المُستعصية، وسيطر على الطبيعة، ومشى على المياه، وكشف الغيب... فكانت مُعجزاته ونبوءاته تصديقًا للمصدر الإلهي الذي استقى منه تعاليمه المبنية على المحبة والرحمة والفضيلة وسائر القيم الروحية. ولا حاجة للإفاضة بعرض تعاليم السيد المسيح في هذا المجال؛ فذلك سيعالج في الكلام على وحدة الأديان الجوهرية وفق المفاهيم الداهشية. لكن تجدرُ الإشارة إلى أن أهم وجه في تعاليمه السامية كان أنه عاشها حياةً سامية، فكان تجسدًا للمحبة اللانهائية وعطاء الذات حتى الفداء، مثلما كان تجسدًا للتواضع والفضيلة بكل مجالاتها. لكن الشعب وحكامه، من اليهود والرومان، لم يستفيدوا شيئًا منه بصورة عامة. فتآمروا عليه رجال دينٍ ودنيا، وقبضوا عليه وعذبَّوه وصلبوه وفق ما دوَّنه الإنجيليون. لكن ما الأسبابُ الروحية لكل ذلك؟

   عدة أنبياء من العهد القديم تنبأوا بمجيء السيد المسيح بعد عودة اليهود من سبى بابل. يكفي أن أشير إلى نبوءة النبي ميخا التي يقولُ فيها: "يا أورشليم، جيوشُ الأعداء تضيقُ عليك الحصار، وتضرب حاكم بني إسرائيل على خده بالقضيب. أما أنت، يا بيت لحم أفراته، وإن كنت صغرى مُدن يهوذا، فمنك يخرج لي سيّد على إسرائيل يكون منذ القديم، منذ أيام الأزل... يقف ويرعى شعبه بعزَّة الرب إلهه وبجاه اسم الرب، لأن عظمته ستمتدُّ إلى أقاصي الأرض، ويعمها سلامه" (ميخا 1:5 – 5).

ووفق إنجيل متى عرف هيرودس الكبير من "مجوس" وفدوا إلى أورشليم بأن المسيح، سيد إسرائيل الآتي، سيولد في بيت لحم، وأنه قد ولد فعلاً. وسرعان ما اضطرب هيرودُس وخاف على عرشه. وإذ تأكد له من أحبار اليهود أن ولادته ستتمُّ في بيت لحم، أمر بقتلِ جميع الأطفال فيها من عُمر سنتين فما دون. وسرعان ما أوحي إلى يوسف في الحلم أن يأخذ الطفل ويترح إلى مصر ريثما يموتُ هيرودُس. وهكذا كان. لكن ما الأسبابُ الروحية وراءَ ذلك؟

إن السيد المسيح كان يجب أن يولد في ذلك الزمن (عام 5 ق.م.) ليجدد مُعاناة الآلام التي بدأها في افتدائه آدم وذريته، ومَن سيختارهم من التابعين له بسيالاتهم الروحية. وكان في الخطة الإلهية، أولاً، أن يولد في بيت لحم لتحقيق النبوءة لكن يوسف ومريم كانا من سكان الناصرة. فإذا بالقيصر أوغسطس يأمرُ بإحصاء سكان الإمبراطورية. فاضطر كل واحد إلى الذهاب إلى مدينته ليكتتبَ فيها. فصعد يوسف من الجليل حيث مدينةُ الناصرة إلى بيتَ لحمَ، مدينة داوود، في اليهودية، لأنه كان من بيت داوود وعشيرته. وبينما هما في بيتَ لحم فاجأ مريم المخاض. فهذا الترتيبُ العجيبب المُعقَّد ليس ترتيبًا بشريًا. ثانيًا، أن تتم ولادته في عهد هيرودس الكبير، لأن فيه سيالاً من الفرعون الذي أمر بقتل أطفال العبرانيين الذين أُنقذ موسى النبي من بينهم وهو طفل، ويسوع فيه سيالٌ روحي من النبي موسى، وذلك من أجل أن يعاقب الملكُ، كما سنرى، عقابًا رهيبًا، فتتم العدالةُ الروحية. ثالثًا أن يولد في عهد الإمبراطور أوغسطس Augustus، لأن العالم المنتشر على حوض البحر المتوسط كان كله موحدًا في ظل الحكم الروماني. وهذه النقطة الأخيرة أدركها أوريجينس Origen (185 – 254م)، أكبر لاهوتي مسيحي بعد بولس الرسول، إذ كان موقنًا أن ولادة يسوع الناصري في ذلك العهد كان من ضمن الخطة الإلهية، لأن الظروف المؤاتية للإرساليات التبشيرية كانت عظيمة؛ فالناسُ كانوا أحرارًا في التنقل من بلد إلى آخر، لأن العالم الروماني الموحد أزال الحواجز بين الدول، والأفكار الفلسفية اليونانية االمثالية، الأفلاطونية والفيثاغورية، كانت منتشرة، وسيزدادُ انتشارها في القرون الثلاثة التالية. أما المجوس الذين تدخلوا في نشر خبر ولادة "ملك اليهود"، فلم يكونوا "علماء فلك" أو "ملوكًا" مثلما يذهبُ المفسرون المسيحيون، بل كانوا تجسُّدات لكائنات فردوسية، أُمروا بأن يتجسَّدوا على الأرض للإسهام في تنفيذ عملية الفداء العظمى التي يقومُ بها السيد المسيح. وهذا السر الذي كان يجبُ أن يبقى مكتومًا في ذلك الزمن كشف عنه الوحي الداهشي.

   لكن ما هي الأسبابُ البشرية التي استدعت الأسبابَ الروحية ونتائجها مثلما سنرى؟

كان الشعبُ اليهوديُّ، زمان المسيح، قد مضى عليه حوالى مئة سنة وهو تحت الحكم الروماني مسلوبَ الحرية، يدفع الضرائبَ الباهظة. فسياسيًا كان العقدُ والربطُ بيد الوالي الروماني، وملوكُ اليهود كانوا واجهةً دينية يدعمُها رجالُ الدين.

أما فئات الشعب اليهودي فأهمها خمس: أولاً، الفريسيون Pharisees الذين التزموا تطبيق الشريعة الموسوية المكتوبة والشفهية بحرفيتها ودقائقها وتأويلاتها، وأرادوا تجديد الحياة اليهودية من خلال إلزام طائفتهم ممارسة الطقوس الدقيقة في الصلاة داخل المجامع وفي الاغتسال وتحديد أنواع الأطعمة والعلاقات مع الآخرين، مما سيشكل تكوين "التلمود"؛ وبما أن معظم الكتبة (وهم علماء متفقهون في الشريعة وكثيرون منهم أحبار) كانوا من الفريسيين، فقد تمتع هؤلاء بالنفوذ الأقوى. ثانيًا الصدوقيون Sadducees الذين كانوا الأكثر تكيفًا مع الحكم الروماني والثقافة اليونانية؛ فهم يتمسكون بالتوارة، لكنهم يرفضون تقاليد الكتبة وروايات الفريسيين وشروحهم الشفهية، وينكرون قيامة الموتى والدار الآخرة (مرقس 12:18؛ أعمال الرسُل 23:8) ثالثاً، الأسينيون Essenes الذين كانوا يائسين من تجديد الدين اليهودي لنفسه ما لم يتدخل يهوه (الله)، لكنهم كانوا يتمسكون بالشريعة المكتوبة وغير المكتوبة، ويحرصون على التقشف والزهد، ويعتزلون الحياة العامة لعيشوا في متحداتٍ خاصة عيشةً اشتراكية في مآكلهم ومجمعاتهم السكنية مُنتظرين مجيء المسيح المخلِّص. رابعًا، السامريون الذين يرقى أصلهم إلى الانشقاق الذي حدث بين مملكة إسرائيل الشمالية ومملكة يهوذا الجنوبية؛ فهم لا يقرون إلا بالتوارة (أي الأسفار الخمسة الأولى) مع تغييرات في نصوصها، ويتَّخذون جبل جريزيم القائم في قلب السامرة مكانًا مقدسًا لعبادتهم؛ وسائرُ اليهود يُبدون لهم عداوةً دينية وقومية، إذ يعتبرونهم هراطقة، لا سيما أنهم لا يمانعون في التزاوج بينهم وبين الوثنيين الذين كانوا يسكنون جميع مدُن فلسطين الساحلية إلا يافا. خامسًا، الأحزابُ اليهودية التي طغت السياسةُ فيها على الصبغة الدينية، فجعلت هدفها الأول التحرُّر من الحكم الروماني بالمقاومة المسلحة. وقد برز بينهم "الغيورون" Zealots و"السفاحون" Daggermen، وبرز من زعمائهم ألعازر بن شمعون، وسيمون بن غوريا، ويوحنا بن لاوي.

إن السبي والتشرد والمصائب والآلام التي عاناها اليهود طوال عصور كثيرة، ورزوح شعبهم تحت نير الدول الأجنبية – كل ذلك جعلهم يعلقون آمال خلاصهم بمنقذ تتم فيه نبوءاتُ أنبيائهم الكثيرين، فيكون هو المسيح المخلص. لكن سيَّالاتهم المتشبثة بالقيم المادية والمُفعمة بترعات الطمع والسيطرة والشهوات الدنيوية، تلك الترعات نفسها التي ندد بها أنبياؤهم وكانت سبب نكباتهم المتكرِّرة التي تحدثت عنها سابقًا، صورت لهم أن "مسيحهم" يجب أن يولد من بيت داوود الملكي ملكًا، أو ينزل من السماء آتيًا على السحاب (تأويلاً حرفيًا للتوارة) ليُحرر اليهود من سلطة الرومان، ويؤمن لهم القوة والرخاء المادي. وبكلمة أخرى، تصوروا أن ملك المسيح يجب أن يكون سياسيًا، وقوته عسكرية، وشريعته شريعة أحبار اليهود وكتبتهم، لأنهم "مقدسون".

تجاه تلك الفئات الخمس وقف يسوع الناصريُّ وقفةً مغايرة لهم جميعًا. فهو يريد التغيير، ويبشرُ ببعث الموتى وجزائهم حسب أعمالهم ونزعاتهم على نقيضٍ من الصدوقيين. ويرغب في البقاء قريبًا من الناس واهتماماتهم، من أجل إصلاحهم، على نقيض الأسينيين. ويُلحُ على المحبة الشاملة والمقاومة السلمية بمحبة الأعداء لا بمقاومتهم المسلحة، على نقيض الجماعات التي التزمت المقاومة العنيفة الدموية. أما الفريسيون فخالفهم في أنه شدَّد على المحبّة والشفقة ونقاء النفس لا نقاء الجسد والطعام. وكذلك على المساواة بين الناس يهودا وغير يهود، فريسيين وسامريين، أحرارًا وعبيدًا، أغنياء وفقراء؛_ فكان يؤاكلُ ويحادث الخطأة والمهمَّشين وجامعي الضرائب للرومان؛ وكان يناقضُ شريعتهم التي تحرمُ العمل عليهم يوم السبت، حتى لإنقاذ إنسان، فكان يشفى المرضى في هذا اليوم وكذلك كان يتكلم بسلطة مؤولاً الأسفار المقدَّسة تأويلاً جديدًا، مخالفًا لتأويل الكتبة. وأخطر ما في حياته وتعاليمه وخوارقه كان أنها ناقضت جميع ما اعتاده الشعبُ اليهوديُّ بكل فئاته، ولا سيما الطائفة الأقوى فيه التي جعلت رؤساء الكهنة امتدادًا للعائلات اليهودية الأرستقراطية يُساندُ بعضها بعضًا. حتى إنهم، يوم حاكمه بيلاطس، وخيرهم في من يطلقُ لهم يسوع أم برأبا، رئيس إحدى عصابات المقاومة المسلحة، فضلوا عليه برأبا.

ذلك كان موقفه من مختلف فئات الشعب اليهودي. أما موقفه من الدولة الرومانية الحاكمة فكان موقف المؤنب على الظلم، المقاوم مقاومةً سليمة. فمؤسسُ الداهشية كشف، في كتباه الموحى، "مذكرات يسوع الناصري"، الذي يروي فيه أحداثًا جرت في طفولة يسوع بين الثانية عشرة والخامسة عشرة، أن معجزته الأولى تمَّت في كفرناحوم، إذ إن قائد الشرطة، بعد أن استجوب يسوع وأنذره لأنه يثيرُ الاضطرابات الفكرية بين الأحداث، الأمرُ الذي استنكره أهاليهم، سأله (لما عرف أن والديه في الناصرة): "وكيف؟ هل أنت متمرد عليهما؟" فأجاب يسوع: "أنا لا أتمرد إلا على الظالمين أمثالك." فرد القائد: "يا شقي، اصمت". فكان جواب يسوع: "أنت الشقي. أما أنا فإنني أضرعُ إلى أبي أن يجرِّد عليك سيف حقيقته البتَّار ، لترى من منا سيصمت". وهوى قائد الشرطة ميتًا. وكان لهذا الحدث الخارق ضجة ومهابة!

ومؤرخو نشأة المسيحية يرون أن الدولة الرومانية كانت تراقب أعمال المسيح وكلامه وتنقلاته والحشود التي تجتمع حوله، ولم يكونوا ليميزوا تمييزًا قاطعًا بين حركته والحركات العنيفة المقاومة لهم، خصوصًا أن رؤساء الكهنة والأرستقراطيين من اليهود كانوا حلفاءهم. ولعلَّ أعنف موقفٍ وقفه من رؤساء الكهنة المحالفين للرومان كان يوم دخل أورشليم دخول الفاتح، وولج الهيكل مع الجموع وطرد بسوطه الباعة والصيارفة من ساحته، وشفى المرضى. فاغتنم رؤساءُ الكهنة والحراسُ اليهود من الفريسيين هذه الفرصة ليدعوا أنها كانت محاولةً من يسوع للسيطرة على مجمع الهيكل الضخم (أكثر من 200 يارد عرضًا و450 طولاً) الذي يضم 20 ألف موظف يعملون في مختلف الإدارات، فضلاً عن اشتماله على المصرف المركزي الحاوي كمية ضخمةً من النقود والأحجار الكريمة والودائع. ولذلك رافقت الجموعُ يسوع إلى بيلاطس مدفوعةً من رؤساء الكنهة والأرستقراطية اليهودية، وأخذوا يتَّهمونه قائلين: "وجدنا هذا الرجل يثير الفتنة في شعبنا، ويمنعه أن يدفع الجزية إلى قيصر، ويدعى أنه المسيح الملك" (لوقا 23:2 – 5). كل هذا يؤيد ما قاله مؤسس الداهشية أن السيد المسيح "أطلق ثورةً نبيلة كي يحطم بواسطتها كبول الظلم والإرهاق، ويقطع أغلال الرقِّ والعبودية..." وأنه "ثلاثة وثلاثين عامًا جاهد جهاد المُستميت، داعيًا الجميع للانتفاض على دستور القوة والبطش، دون أن يسير في ركابه أحد، خوفًا من الدولة الرومانية القوية الشكمية... ما خلا نفرًا من البُسطاء الذين فتنتهم تعاليمنه العلوية، وأضاءت قلوبهم بأنوار المعرفة الإلهية. لم ييأس... ولم يتراجع... بل راح يهاجم قيصر روما في شخص هيرودس، طاغية فلسطين... وفي النهاية، عظمت التضحية وضخم العداء. فقد بذلك الثائر حياته فداء لحرية البشرية المُعذبة؛ هذه البشرية المتألمة التي أعمت الشهواتُ والنزواتُ بصرها وبصيرتها، فقدمته ضحية على مذبح جهلها الصارخ، إذ كافأته على جهوده في سبيل تحريرها وحبه إياها بتعليقها إياه على خشبة الصليب!".

لكن ما دام السيد المسيح كان يعلم من سيسلمه إلى السلطات، فلماذا سكت عنه؟ وهل حقيقة أنه صُلِبَ؟

عرفتُ من مؤسس الداهشية أن يهوذا الإسخريوطي كان من أحب التلامذة إلى السيد المسيح، وقد أوكل إليه أمانة الصندوق، بالرغم من معرفته أن فيه بعضًا من سيالات قابين الروحية. بل إن معرفته تلك زادته حرصًا على إحاطته بالعناية والمحبة لعلَّه يتغلَّبُ على سيالاته السفلية؛ لكن يهوذا لم يُفلح. فرأى يسوع، عشية القبض عليه، أن الساعة قد حانت ليتابع عملية الفداء التي أتى من أجلها، والتي كانت قد بدأت منذ عصيان آدم وحواء وسقوطهما في التجربة الجنسية. فإذا به، وهو على العشاء مع تلاميذه، يلمح إلى أن واحدًا من بينهم سيسلمه. وإذ سأله يوحنا الإنجيلي، وكان أصغرهم، مَن هو؟ "أجاب يسوع: "هو الذي أناولُه اللُقمة التي أغمسُها. وغمس يسوع لقمة ورفعها وناول يهوذا بن سمعان الإستخريوطي. فلما تناولها دخل الشيطان فيه. فقال له يسوع: "اعمل ما أنت تعمله ولا تبطئ" (يوحنا 13:25- 27) أما الشيطان المشار إليه فإنما هو سيَّالُ قابين التابع للإسخريوطي والذي كان في دركٍ جحيمي جزاء له على قتله لأخيه هابيل.

وفي التعاليم الداهشية المُوحاة أنه لم يكن في الخطة الإلهية المبنية على العدالة الروحية أن يصلب يسوع الناصري. ولذلك سمحت بأن يفتديه سيالٌ علويّ تابع له، فهبط من عالم فردوسي وتجسّد في المكان الذي قصده جنود الرومان بصحبة يهوذا الخائن ليقبضوا عليه، بينما حجب يسوع الناصري بسيالٍ روحيّ عن العيون، وأمضى حياته الباقية التي تجاوزت عشرين سنة ينتقل مُتنكرًا . هذا السيَّال الذي كان في تجسده شبهه تمامًا لم يكن يعرف سره المسيحيون الأوائل، لكن القرآن الكريم أنبأ عنه بقوله (وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبِّه لهم) (النساء 157). غير أن فهم سر "التشبيه" بقي غامضًا وعلى تباين لدى المجتهدين المسلمين، ولم يتم جلاؤه إلا في الداهشية وفي شخص مؤسسها، بعد أن أعدم في أذربيجان في 1/7/1947، في خلال ثورة قائمة هناك، ثم بعث من الموت؛ وقد نشرت الصحف صور مصرعه في حينه. علمًا بأن في تعاليم الداهشية أن يسوع كان له سيَّال فردوسي يُسمح له بالتجسد من حين إلى آخر، مثاله حينما مشى على الماء، وظهر بعد صلبه لبعض المؤمنين والمؤمنات، واخترق جدران غرفة كان يجتمع فيها تلاميذه بعد الصلب. هذا السيَّال الفردوسي المتجسّد تسميه الداهشية "شخصية".

العقاب الإلهي وبدايةُ انتشار المسيحية

مما كتبه فلافيوس يوسيفوس نقلاً عن نيقولاوس الدمشقي، مرافق هيرودس الكبير الذي أمر بقتل أطفال بيت لحم لعله يقتلُ يسوع معهم، أن مرضًا خفيًا عصبيًا على الشفاء

أصاب هيرودس عام 4 ق.م.، وكان مصحوبًا بحمى شديدة وقرحة في أمعائه، والتهاب في رجله مع صديد ظاهر، وتعفن في أعضائه التناسلية سبب ولادة ديدان فيها، علاوة على آلام تطاق ودافع إلى حك جلده باستمرار، الأمر الذي دفعه إلى محاولة انتحار أنقذه منها أحد أنسبائه. لكن لم يطل الزمن حتى قضى نحبه في العام نفسه. وإذ ذاك ألهم يوسف في الحلم أن يعود إلى الناصرة مع الطفل يسوع وأمه، لتتم النبوءة القائلة "من مصر دعوتُ ابني" (هوشع11:1).

وفي عهد هيرودس أنتبيا، خليفة هيرودس الكبير، قبض على يسوع وسيق إلى الوالي الروماني. ولما اشتد اضطراب الجموع اليهودية مُطالبين بقتل يسوع، أخذ بيلاطس ماء "وغسل يديه أمام الجموع وقال: "أنا بريء من دم هذا الرجل. دبروا أنتم أمره. فأجاب الشعب كله: دمه علينا وعلى أولادنا". (متى 24:27 – 25). هذا الطلب أصبح سببًا روحيًا لعقاب اليهود الراغبين في تنفيذه حاضرين كانوا أو غائبين ولعقاب سلالاتهم من بعدهم، إذ قال السيد المسيح مُخاطبًا أورشليم عندما اقترب منها: "ليتك عرفت اليوم طريق السلام! ولكنه الآن محجوب عن عينيك. سيجيء زمانٌ يحيط بك أعداؤك بالمتاريس، ويحاصرونك، ويطبقون عليك من كل جهة، ويهدمونك على أبنائك الذين هم فيك، ولا يتركون فيك حجرًا على حجر، لأنك ما عرفت خلاصك عندما أتى زمان الله" (لوقا 41:19 – 44).

وكان هيرودس أنتيباس الذي في ظلِّ حكمه تمَّ اضطهاد السيد المسيح، متزوجًا ابنة الحارث الرابع ملك الأنباط، الذين أقاموا مملكتهم في "العربية" التي كانت عاصمتها بصرى الشام. لكن هيرودس أغرى هيروديا، زوجة أخيه فيليب (من أم أخرى) ليتزوجها؛ فقبلت، شرط أن يتخلى عن ابنة الحارث. وهذا ما دفع يوحنا المعمدان إلى تقريع هيرودس وهيروديا علنًا، الأمر الذي سبب تاريخيًا قطع رأسه. لكن ابنة الحارلث عرفت بمكيدته، فتظاهرت بالمرض وطلبت إليه أن يدعها تستجم في القلعة التي تقعُ على الحدود الفاصلة بين إمارة هيرودس ومملكة الحارث، وهي القلعة التي قُطع فيها رأس يوحنا. ومنها أوصلت خبرها لوالدها. فكان أن أرسل قادةً من جيشه مع جنودهم فاختطفوها، وأعلن الحرب على هيرودُس أنتيبا، وهزم جيشه. ولما كان هيردوس من موالي الإمبراطور الروماني طيباريوس، فقد أعز هذا الأخير إلى فيتاليو Vitalius، قائد جيشه في سوريا، بأن يُعلن الحرب على الحارث. وعند هذه النقطة يبدأ التدخل الروحي بالاتضاح، وأن ما يشاؤه الله لا يمكن أن ينقضه بشر. ففي أثناء تقدم فيتاليوس بجنوده ليدخل أورشليم وصولاً إلى مملكة الأنباط تدخل رؤساء اليهود طالبين إليه ألا يدخلها حتى لا تُدنس بالتماثيل والصور الوثنية التي يحملها الجنود على راياتهم ورماحهم. وامتد الجدالُ بينهم أيامًا، وإذا بخبر موت طيباريوس يوافي القائد، فإذا ذاك يتراجعُ القائد بجيشه، ولا تنشب الحرب. هذا من ناحية، من ناحية ثانية، اشتدت العداوة بين مملكة الأنباط العربية وإمارة هيرودس، بحيث إن كثيرين من المؤمنين بالمسيح التجأوا إليها, ومن بينهم بولس الرسول الذي بدأ تبشيره الواسع فيها بحرية دونما خطرٍ عليه.

ولم يمض بضعُ سنوات حتى اشتدت المقاومة المسلحة لا ضد الرمان فحسب، بل أيضًا ضد الأرستقراطية اليهودية ورؤساء الكهنة المتحالفين معهم. فقتلت فرق "السفاحين" الكاهن الأكبر يوناثان في أثناء حكم الوالي الروماني أنتونيوس فيلكس Felix A. (52 – 60 ب. م.)؛ وعام 66 (ب.م.) هدموا منزل رئيس الكهنة حنانيا، وقصرين لحفيدي هيرودس الكبير، أغريبا الثاني وشقيقته بيرينيكه Berenike، وأحرقوا المستندات المصرفية العامة. وأقسم "الغيورون" و"السفاحون" على أن يغتالوا كل يهودي خائن يشتبه بأنه يحابي الرومان، بعد أن ادعى زعيم كل فئة أنه هو المسيح المخلص؛ فكانوا يندسون بين الحشود، ويغدرون ضحاياهم بطعنهم في ظهورهم، ثم يتوارون في الفوضى التي تنتشر بين الجماهير عقب جرائمهم. وانقسمت أورشليم بين المتخاصمين، بل انقسمت كل أسرةٍ تقريبًا، بعضها ضد بعض. وفي العام 68 نشبت فتنةٌ أهلية عمياء صماء، استعمل فيها المتناحرون كل ما وصلت إليه أيديهم من أسلحة، نارية أو معدنية أو حجرية. وقد وصف المؤرخ اليهودي يوسيفس هذه الفتنة الرهيبة التي كان شاهدًا لها بأن الشعب اليهودي أصبح "أشبه بوحشٍ مجنون دفعه فقدانه الغذاء إلى أن يفترس جسده نفسه" ("الحرب اليهودية"، ص 276). وفي أواخر الفتنة انتصر المتطرفون من الشبان والفقراء، بعد أن قتلوا حوالى 12 ألف يهودي"، بينهم معظم الأغنياء. وكانت جثث الشيوخ والأطفال والنساء العاريات منتثرة في الطرق، وليس من يدفنها. وبلغت النكبة ذروتها عام 70، بعد أن أحكم تيتوس Titus، القائد الروماني، الطوق حول أورشليم، متابعًا الحصار الذي بدأه والده فسبازيان Vespasian الذي كان قد اعتلى عرش روما. فدك منازلها الباقية دكا، وقوَّضَ هيكلها العظيم تقويضًا، والقليلون الذين نجوا من اليهود وقعوا ضحايا السبي والتشريد والعنت والااضطهاد والاحتقار في مختلف أرجاء العالم مدى ألفين من السنين. وهكذا تمت نبوءة السيدة المسيح في خراب أورشليم كما نبوءته في سقوط الشعب اليهودي "بحد السيف، وسبيه إلى جميع الأمم، ودوس الأمم أورشليم إلى أن تتمّ أزمنةُ الأمم" (لوقا 21:24). وقدر المؤرخ الروماني تاسيتوس Tacitus،(نحو 55-نحو 117) عدد قتلى اليهود بـ 600,000، بينما قدره المؤرخ اليهودي يوسيفس بمليون و197,000 شخص. وقد انضم أغريبا الثاني اليهودي إلى الجنود الرومان في محاصرة أورشليم وإحراق هيكلها وتقويض عمرانها. وهذا من سخريات القدر!

وقد استطاع اليهود الذين نجوا أن يجمعوا شملهم ويوقدوا ثورةً جديدة بزعامة شمعون باركوشيبا الذي ادعى أنه هو المسيح، وذلك سنة 132. لكن الرومان قضوا عليه تمامًا بعد صراعٍ دام ثلاث سنوات، دمروا في خلالها 985 بلدة في فلسطين، وذبحوا 580,000 يهودي. وقد قضى في هذه الحرب الأخيرة ما يُساوي العدد الآنف الذكر من الجوع والمرض  والحريق، وخربت بلادُ اليهود كلها تقريبًا، وخرَّ باركوشيبا نفسه صريعًا. أما المسيحية فقد بدأت انتشارها الواسع في اليونان وآسيا الصغرى وروما نفسها بفضل جهاد بولس الرسول بصورةٍ خاصة، ومؤمنين آخرين في طليعتهم بطرس الرسول. وكانت الجالياتُ اليهودية تثيرُ الاضطراب في وجههم حيثما حلّوا. وأراد الله أن يمنح كثيرين من المسيحيين فضل العذاب والاستشهاد من أجل اسم مسيحه ونشر مجده في العالم؛ وكان في الخطة الإلهية أن يقوم بهذا الاضطهاد طاغيةٌ لا يقل إجرامًا ودناءةً عن قابين نفسه، ألا وهو نيرون الذي اقترف من الجرائم أفظعها، فقتل، في من قُتل، أمه أغريبينا وزوجته أوكتافيا، وشقيقه بريتانيكوس، وكثيرين من ذويه وأصدقائه، بينهم معلمة الفيلسوف سينيكا. ثم أمر خفيةً بإحراق روما واتهم المسيحيين بحريقها الذي بدأ في 18/7/64 واستمر نحو تسعة أيام. يقول المؤرخ الروماني تاسيتوس، معاصر نيرون، إن الطاغية من أجل أن يتخلص من تهمة إحراق روما، عمد إلى إلصاق التهمة وإنزال أفدح العذابات بطبقة من الناس بحقد الشعب عليهم لأعمالهم الخبيثة، ويسمون بالمسيحيين... وهكذا وجهت ضربة شديدة إلى خرافة خطيرة، فأوقفت نموها إلى حين؛ لكنها لم تلبث أن استعادت نشاطها ليس في اليهودية، منبع الشر الأول فحسب، بل أيضًا في روما نفسها، المركز الرائج والبؤرةِ الفاسدة لجميع الأشياء الدنيئة والممقوتة الصادرة من مختلف أرجاء العالم. وبناءً عليه، أُلقي القبضُ, أولاً، على مَن اعترفوا بأنهم مذنبون ] من المجرمين غير المسيحيين[، ثم استنادًا إلى المعلومات التي أعطوها، أدين كثيرون ] من المسيحين[، لا بناء على أدلة تثبت أنهم ارتكبوا جريمة إحراق المدينة، بل بحجة أنهم يكرهون الجنس البشري. وقد قُرنت طرقُ موتهم بمختلف فنون السخرية والازدراء... على أن المسيحيين، حتى لو اعتبروا مجرمين مُستحقين أشد أنواع العقوبات، أثاروا في الشعب عواطف الرأفة والرحمة؛ ذلك بأن تقتيلهم، مثلما بدا، لم يكن لمصلحة الشعب، إنما لإشباع وحشية رجل ] نيرون[". فثار الشعب عليه وحاول قتله؛ لكنه انتحر. وهكذا واجه المسيحيون أقسى فنون التعذيب والموت برباطة جأش وإيمانٍ راسخ، مقتدين بحياة معلمهم الإلهي، سيد المجد.

وإن قارنا خسارة المسيحيين البشرية بخسارة روما الوثنية، لبدت الأولى لا تُذكر. فالمسيحيون الذين قُبض عليهم كانوا قليلين جدًا، لأن مجموعهم، عام الحريق، كان ما يزالُ نزرًا، إذ إن بولس الرسول، كان قد أُفرِجَ عنه من السجن في روما قبل سنتين فقط؛ في حين أن خسائر الرومان في الحياة والعُمران كانت هائلة. واستشهادُ المسيحيين مع انكشاف جريمة نيرون أثارا الفُضول في الشعب الروماني ليتعرف الديانة الجديدة. فكانت الأحداث حافزًا قويًا لانتشار المسيحية.

      فضلاً عن ذلك، ففي 24/8/79، ثار بركان فيزيوف Vesuvius فجأة؛ وكان من شهوده بليني الأصغر Pliny the Younger الذي تلقى تاسيتوس رسالتين منه. ولما وقف هيجانه، في اليوم التالي، كانت مدينة بومبي Pompeii مغطاةً بطبقة من الرماد البركاني والحطام كثافتها تتراوح بين 19 و23 قدمًا. وفي مدينة هركيولانيوم Herculanium، امتزجت حُمَمُ البركان بسيولٍ من المياه وتغلغلت في أرجاء المدينة كلها وطمرتها بطبقة محرقة متجمدة بلغت  كثافتها 65 قدمًا. وما حل في هركيولانيوم حل في ستابيه Stabiae. وقد كشفت الحفريات عن داراتٍ واسعة كثيرة جميلة، وحدائق وساحات ومسارح وأسواق وابنية دينية واقتصادية  وقضائية، وأعمدة تحيطها، وتماثيل لجوبيتر وجونو و ميزفا وأبولو وفينوس وإيزيس، وعن مئات المباني السكنية التي تكثر بينها الصروح الفخمة التي تدل على رفاهية أصحابها، مع جدرانها المرصعة وأراضيها المزخرفة وحدائقها ذات الينابيع. أما أكثر المشاهد تأثيرًا من تلك الآثار المحترقة التي جمدها الزمن فمشاهدُ آلاف الهياكل العظمية التي يختلط فيها الرجال بالنساء والأطفال، وبينها كثيرٌ في حال المضاجعة. هذه النكبة الطبيعية ساعدت المسيحيين في تنبيه ضمائر كثيرة إلى أن فوق البشر والقياصرة قوّة إلهية جبّارة مراقبة، وأن يسوع الذي قتله الرومان في فلسطين قد يكون حقًا قام من الموت وذا حقيققة وجبروت.

Developed by Houssam Ballout        Copyright 2019 This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.nfo All Right Reseved This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.