أنا أؤمن بأنه توجـد عدالة سماويّة, وأن جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدنيا من مُنغصات انَّ هـو الاّ جـزاءٌ وفاق لِما أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور.ولهـذا يجب علينا أن نستقبلَ كلّ مـا يحـلّ بنـا من آلامِ الحياةِ ومآسيها غير مُتبرّمين ولا متذمّرين , بل قانعين بعدالةِ السماء ونُظمها السامية.

Highlighter
أحبُّ الكُتُبَ حبَّ السُكارى للخمر , لكنَّني كلَّما أزددتُ منها شرباً, زادتني صَحوا
ليس مّنْ يكتُبُ للهو كمَن يكتُبُ للحقيقة
الجمالُ والعفّــة فـردوسٌ سماويّ .
لا معنى لحياةِ ألأنسان اذا لم يقم بعملٍ انسانيٍّ جليل .
اعمل الخير , وأعضد المساكين , تحصل على السعادة .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقـوم بأعمالِ الخير نحـو ألأنسانيّة .
الموتُ يقظةٌ جميلة ينشُدها كل مَنْ صَفَتْ نفسه وطَهرت روحه , ويخافها كلّ من ثقُلت أفكاره وزادت أوزاره .
ان أجسامنا الماديّة ستمتدّ اليها يـد ألأقـدار فتحطِّمها , ثمّ تعمل فيها أنامل الدهـر فتتَّغير معالمها , وتجعلها مهزلةً مرذولة . أمّا ألأعمال الصالحة وألأتجاهات النبيلة السّامية , فهي هي التي يتنسَّم ملائكة اللّه عبيرها الخالد .
نأتي إلى هذا العالمِ باكين مُعولين، و نغادره باكين مُعولين! فواهً لك يا عالمَ البكاء والعويل!
جميعنا مُغترٌّ مخدوعٌ ببعضه البعض.
العدلُ كلمة خُرافية مُضحكة.
أمجادُ هذا العالم وهمٌ باطل، و لونٌ حائل، و ظلٌّ زائل.
لا باركَ الله في تلك الساعة التي فتحتُ فيها عينيّ فإذا بي في مكانٍ يطلقون عليه اسم العالم .
أنا غريبٌ في هذا العالم، و كم احنُّ إلى تلك الساعة التي اعود فيها إلى وطني الحقيقيّ.
الحياةُ سفينةٌ عظيمة رائعة تمخرُ في بحرٍ، ماؤه الآثام البشريَّة الطافحة، و امواجه شهواتهم البهيميَّة الطامحة، و شطآنه نهايتهم المؤلمة الصادعة.
كلّنا ذلك الذئبُ المُفترس , يردع غيره عن اتيانِ الموبقاتِ وهو زعيمها وحامل لوائها , المُقوّض لصروح الفضيلة , ورافع أساس بناءِ الرذيلة .
الحياةُ سلسلة اضطراباتٍ وأهوال , والمرءُ يتقلَّب في أعماقها , حتى يأتيه داعي الموت, فيذهب الى المجهولِ الرهيب , وهو يجهلُ موته , كما كان يجهلُ حياته .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقومَ بأعمالِ الخير نحو الانسانيّة .
المالُ ميزان الشرِّ في هذا العالم .
السعادةُ ليست في المال , ولكن في هدوءِ البال .
كلُّ شيءٍ عظيمٍ في النفسِ العظيمة , أمّا في النفسِ الحقيرة فكلُّ شيءٍ حقير .
الرُّوح نسمةٌ يُرسلها الخالق لخلائقه لأجل , ثم تعودُ اليه بعجل .
الرُّوح نفثةٌ الهيَّة تحتلُّ الخلائق , وكل منها للعودة الى خالقها تائق .
الرُّوح سرٌّ الهيٌّ موصَدْ لا يعرفه الاّ خالق الأرواح بارادته , فمنه أتتْ واليه تعود .
أنا أؤمن بأنه توجـد عدالةٌ سماويّة , وأنَّ جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدُّنيا من مُنغِّصاتٍ وأكدارٍ انَّ هـو الاَّ جـزاء وفاق لمِا أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور . ولهـذا يجب علينا أن نستقبل كلَّ مـا يحـلُّ بنـا من آلام الحياة ومآسيها غير م
الحرّيةُ منحة من السماءِ لأبناءِ ألأرض .
الموتُ ملاكُ رحمةٍ سماويّ يعطف على البشر المُتألّمين , وبلمسةٍ سحريّة من أنامله اللطيفة يُنيلهم الهناء العلويّ .
ما أنقى من يتغلّب على ميولِ جسده الوضيع الفاني , ويتبع ما تُريده الرُّوح النقيّة .
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
الراحة التامّة مفقودة في هذا العالم , وكيفما بحثت عنها فأنت عائدٌ منها بصفقةِ الخاسر المَغبون .
ليس أللّــه مع الظالم بل مع الحقّ.
ان الصديق الحقيقي لا وجود له في هذا العالم الكاذب.
ما أكثر القائلين بالعطف على البائسين وغوث الملهوفين والحنو على القانطين , وما أقلَّ تنفيذهم القول.
يظنُّ بعض ألأنذال ألأدنياء أنّهم يُبيّضون صحائفهم بتسويدِ صحائف الأبرياء , غير عالمين بأنَّ الدوائر ستدور عليهم وتُشهّرهم.
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السَّلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
رهبة المجهول شقاء للبشرِ الجاهلين للأسرارِ الروحيَّة , وسعادة للذين تكشّفت لهم الحقائق السماويَّة .
الموتُ نهاية كل حيّ , ولكنه فترة انتقال : امّا الى نعيم , وامّا الى جحيم .
الحياةُ خير معلِّمٍ ومُؤدِّب , وخيرَ واقٍ للمرءِ من الأنزلاقِ الى مهاوي الحضيض .
حين تشكُّ بأقربِ المُقرَّبين اليك تبدأ في فهمِ حقائق هذا الكون .
مَنْ يكون ذلك القدّيس الذي لم تخطرُ المرأة في باله ؟ لو وجدَ هذا لشبَّهته بالآلهة .
المرأة هي إله هذه الأرض الواسع السُّلطان. و هي تحملُ بيدها سيفاً قاطعاً لو حاولَ رجالُ الأرض قاطبةً انتزاعه منها لباؤوا بالفشلِ و الخذلان .

السببية الروحية في مجرى الأحداث العامة (4)

في ضوء المفاهيم الداهشية: الشرقُ الأقصى

 بقلم الدكتور غازي براكس

تأثير البوذية في الشرق الأقصى

يحاول علماء الاجتماع والاقتصاد والسياسة أن يفسروا نهوض الشعوب وقوتها أو ضعفها وانحطاطها وفق قوانين يستخرجونها من ماجريات التاريخ ومظاهره الحضارية. لكن استنتاجاتهم، على صحتها، تقفُ عند سطح الحياة. والحياةُ أشبه بنهرٍ من السيالاتِ الحية العاقلة الجارية بين الأزلِ والأبد، والإنسانُ لا يرى منه إلا ما يتكشفُ في اللحظة التي هو فيها. فظهورُ بوذا، مثلاً، كان رحمةً للشعبِ الهندي؛ لكن شعبه بمعظمه فضل استمراره في الخضوع للبراهمة، وبالتالي لحياة الخنوعِ والأوهام والأحلام وآثرَ انجذابه لشهواتِ اللحم والدم مدى مئات السنين؛ وهذا ما جعل الشعب غير مستحق لرحمة الهداية الجديدة، إلا أقلية استطاعت برقي نفوسها أن تنجذب إلى الهادي الروحي الكبير. فجاذبية البوذية الروحية ما كانت لتفعل إلا في أناسٍ سما فيهم الإدراكُ بعض الشيء، كما سمت النزعاتُ واتخذت منحىً إنسانيًا شاملاً، أي في نفوسٍ أعدها مُستواها الإدراكيُّ التروعي إلى تقبل البوذية. وهذا مبدأ عام ينطبق على جميع الهدايات الروحية والأديان السماوية. وقلَّة القادرين على التجاوب مع التعاليم البوذية مُجسَّدة في الأعمال جعلت الهند تنتظر حوالى ثلاثة قرون قبل أن يظهر فيها حاكمٌ حصل فيه تحول روحي عميق هو أشوكا Ashoka  ( نحو 273 – 232 ق.م).

   لكن قبل أشوكا بحوالى خمسين سنة كان حكمُ جده شاندرا غوبتا Chandragupta Mauria (نحو 325 – 321 ق م) تمهيدًا هندوسيًا – بوذيًا – جينيًا لحُكمٍ فاضل. فعلى قسوته، حاول أن يجمع أفضلَ ما أعطته المذاهبُ الثلاثة. وبعد أن خاض معركةً مع سلوقس نيكاتور Seleucus Nicator، أحد قادة الإسكندر، الذي أسس عهد السلالة السلوقية في إيران بعد وفاة الإسكندر، عاد فعقد معه معاهدةً تنازل سلوقس له بموجبها عن المقاطعات التي عبر الإندوس مقابل 500 فيل قدمها شاندراغوبتا له. واستتم التحالف بزواجٍ متبادل وصداقةٍ سجلتها الكتبث اليونانية والسانسكريتية. واعتنق شاندرا، في أواخر حياته، المذهب الجيني، وسلك في حياة التقشف، بعد أن تنازل عن العرش لابنه بندوسارا Bindusara، ثم التحق بفريق من الرهبان الجينيين ليعيش جنوبي الهند حيث مات بالامتناع عن الطعام حتى الموت على طريقة الجينيين.

   أما أشوكا الذي خلف بندوسارا فقد بدأ حكمه بقسوةٍ شديدة على غرار جده تشاندرا غوبتا؛ فأقام سجنًا للمجرمين عُرف بـ"جحيم أشوكا". لكن حدث له انقلابٌ نفسي عميق، فاعتنق البوذية، وأصبح أول ملكٍ عظيمٍ فاضلٍ حكم الهند. وقد أصدرَ مراسيم في غاية الرقي أمر بأن تُنقش على الصخور والأعمدة ليقرأها الناسُ جميعًا ويعملوا بموجبها، وهي تهيب بهم إلى التسامح واحترام الأديان جميعًا، والعيش بصدق وتقوى ورحمة وإحسان وصفاء وسلام واحترام للآخرين. كذلك شيد لكهنة البوذية 48 ألفًا من الأديرة، وبنى باسمها في أرجاء مملكته كلها مستشفيات للإنسان والحيوان، وأرسلَ مبشرين بالعقيدة البوذية إلى سيلان وسوريا ومصر واليونان يكرزون بالمحبة والسلام. تُرى ما الذي أحدث ذلك التحول النفسي في أشوكا؟ ولماذا لم يحدث مثل هذا التحول في مَن سبقه من الحكام؟

في ضوء التعاليم الداهشية الموحاة يمكن إعادةُ الأمر إلى سببين رئيسين: الأول أن فئة كبيرة من الشعب استحقت ذلك التغيير الرحيم السامي بما اختزنته من سيالات روحية ارتقت بفعل جهادها الروحيّ وأعمالها ونزعاتها في حياتها الراهنة كما في أدوارها الحياتية السابقة. والثاني أن أشوكا نفسه ينتمي سياله الرئيسي إلى هادٍ من الهُداة، لأن كل مصلحٍ إنساني فاضلٍ عظيم لا بد من أن يكون فيه سيالٌ أو أكثر من الأنبياء والرسُل أو الهُداة، ذلك بأن الهداية الروحية ذات منبعٍ سماويٍّ واحد، وهي في أساس رقي الحضارات البشرية وجذبها إلى أعلى. وبذلك يتحقق المثل المأثور "كما تكونون يولى عليكم".

إن أشوكا جاء رحمةً للهند وتذكيرًا لشعبها بتعاليم بوذا، لكن يبدو أن الشعب بأكثريته الساحقة لم يستفد من تلك الرحمة، فعاد القهقرى، وساده الخنوعُ والاستسلام المُطلق للبراهمة مُجددًا، وكان على الهند أن تنتظر، مرة أخرى، حوالى 800 سنة، ليظهنر فيها حاكمٌ فاضلٌ آخر هو هارشافارذانا (606-647 ب.م)

كان فارذانا من أتباع شيفا، ثم اعتنق البوذية، ومارس في الهند سياسة أشبه بسياسة أشوكا. فاشتهر بأعمال البرِّ التي كان يقوم بها في حفل عظيم كل خمسة أعوام، إذ كان يدعو إليه جمع رجال الديانات، على اختلافها، كما يدعو إليه كل الفقراء والمعوزين في مملكته ويحسنُ إليهم بكل الفائض عن حاجته في خزانة الدولة. وفي ختام حفل التوزيع الذي يستمر ثلاثة أو أربعة أشهر، كان يخلع أرديته الثمينة ومجوهراته فيزيدها على الصدقات. لكن بعد وفاته عاد الانحطاط فاستبدَّ بالهند البرهمية حتى القرن العشرين وظهور غاندي.

وكان على السيالات الروحية البوذية أن تترح إلى البلدان المجاورة كبورما وسيلان وتايلاند وفيتنام ولاوس والتيبت واليابان وكمبوديا والصين.

      وشهدت اليابان عهدًا شبيهًا بعهد أشوكا عندما تسلم الأمير شوتوكو تايشي (592 – 621 بم) مقاليد الحكم بصفته وصيًا على العرش للإمبراطورة سويكو. وقد أصدر سنة 604 م قانونًا في غاية النبل والتسامح؛ ورعى الفنون والعلوم، وأدخل الأخلاق البوذية الراقية في صلب القوانين القومية. وبعد هذين الحاكمين البوذيين اللذين وازى حكمهما الرشيد البعثة الإسلامية والعصر الراشدي، لم يظهر في الهند أو الشرق الأقصى ضمن الخط الهندوسي – البوذي أي حاكمٍ فاضلٍ كبير. ولذلك كانت الأوضاع الحضارية العامة لتلك الشعوب لا تحسد عليها.

تأثيرُ لاوتسو في الصين

      تلك كانت الحال في الهند والبلدان المجاورة. كذلك في الصين لم تُدّوَّن في السجلات التاريخية أيةُ وقائع عن ظهور هداية روحيةٍ فيها قبل القرن الساسد قبل الميلاد. لكن بالرغم من ذلك، كانت فكرةُ العقاب السماوي مبدا مهمًا في ثقافة الصينيين، الأمرُ الذي يوحي بأصول بعيدة خلفت آثارًا غامضة. ففي الوقائع التاريخية التي ترجح صحتها أن آخرَ حاكمٍ في سُلالةِ شانغ Shang التي حكمت قطاعًا كبيرًا من الصين بين 1500 و1000 قبل المسيح، أغرق الفسادُ بلاطه الملكي وما فيه من معاونين إلى حد أن السماء غضبت عليه وعلى سلالته، بالرغم من قدرته العسكرية، وحولت رعايتها وتفويضها إلى أسرةٍ كانت تحكمُ مقاطعة تشاو chou الصغيرة، غربي الصين، فألهم حاكمها بمهاجمة عاصمة شانغ، فدمرها؛ وحكمت سلالته قطاعًا كبيرًا من الصين من 1122 إلى 771 قبل المسيح.

غير أن المرحلة الحضارية المهمة في تاريخ الصين امتدت من عام 722 إلى عام 481 قبل المسيح؛ وهي المعروفة بعصر تشون تشيو Ch’un Ch’iu . ففيه عاش الفلاسفةُ والحكماءُ الكبار، وعلى رأسهم لاوتسو Laotzu  وكنفوشيوسConfucius .

عاش لاوتسو، في القرن السادس قبل الميلاد على الأرجح. لكن حياته ظلت مكتنفة بالغموض والأساطير لابتعاده عن الحياة الاجتماعية كما السياسية وإيثاره الزهد والعُزلة.

      خلف عقيدة الطاوية Taoism التي تهيبُ بالناس إلى العيش بعيدًا عن المدن الصاخبة القاسية، والحياة المتعبة السريعة، كما عن النظريات المعقَّدة، وأن لا يدعوا العلوم والقوانين البشرية تستعبدهم، لأن المعرفة لا تعني الحكمة ولا الفضيلة، ولا هي تُفيدُ بحد ذاتها روحيًا، ولا تقدم الطمأنينة والسلام النفسي، ولا تقرب من الـ"طاو" الذي يعني الله أو الحقيقة المطلقة الأزلية الأبدية، أو أصل الكون وغايته، أو الطاقة الجهورية المبدعة الكامنة في كل الموجودات، والقوة الثابتة وسط المتحولات، والفاعلة حيثما كان؛ أو "الطاو" هو، بمعنى آخر، الطريقُ المستقيم (طريق السماء) الموصل إلى الله. ويستحيل إدراكُ "الطاو" أو سلوكُ طريقه إلا بالحياة الريفية البسيطة، البيئة العفوية، الوديعة المتواضعة، القائمة على العمل الهادئ الصامت، المُسالم المُحب الخيِّر، كما على الاقتداء بالطبيعة وقوانينها، والتأمل في مظاهرها وتحولاتها؛ فمن خلال ذلك، ومن خلال الصراحة وتجنب الأنانية، وتقليل الرغبات، وعبر النشوة الروحية المُستمدة من التأمل والحدس لا من البراهنين العقلية، يمكن سلوك الطريق المؤدي إلى "الطاو".

وقد جمعت تعاليم لاوتسو، بعد عدة قرون على الأرجح، في "كتاب الطاو والتي" Tao-te- Ching  الذي يتالفُ من 81 فصلاً متفاوتة الطول؛ وهو يعتبر من أثمن ما كتب في الفلسفة الروحانية، بالرغم من غموضه. وسواءٌ بقيت التعاليم مثلما كانت في أصولها، أم طرأت زياداتٌ عليها في سياق العصور، وفق ما يذهب بعض المؤرخين، فإن جوهرها الذي ينسب إلى "المعلم القديم" لم يتغير.

      وقد كان لحياة لاوتسو الزاهدة وتعاليمه تأثير عظيم في أتباعه كما في الحضارة الصينية. فقد اعتبرته فئة من المؤمنين به منبثقًا من الله. ومخلص العالم، ونادت به فئاتٌ أخرى قديسًا. وبعد ظهور كنفوشيوس، أكبره الكنفوشيون ونسبوا إليه لقاءات مع معلمهم أجلَّ فيها لاوتسو كل الإجلال. وبعد ظهور بوذا، ذهبت الاجتهاداتُ الطاوية إلى أن للاوتسو عدة شخصيات تهبط إلى الأرض بأسماء مختلفة وفي أزمنة مختلفة لتهدي الناس والحُكام، وأن بوذا كان إحدى شخصياته.

      وعلى الصعيد الحضاري أحدثت تعاليمُ لاوتسو تأثيرًا بالغًا في الفكر والأدب والفن في الصين مدى قرونٍ كثيرة. وإليه يعودُ بروزُ ملامح السلام والبساطة والعيش قريبًا من الطبيعة في عدة أجيال من الصينيين.

   لكن "الطاوية" التي أرادها لاوتسو طريقةً لحياة بسيطة نقية مطمئنة، أفسدها رجالُ الدين بعد بضعة قرون، فأدخلوا إليها اهتمامات باطلة كثيرة، منها شعوذاتُ السحر والتعاويذ، والتنجيم، والبحث عن الطرق الطبية التي تطيل الحياة، والطرق الكيميائية التي تحول المعادن إلى ذهب... فبعدوا بالعقيدة جدًا عن أهداف مؤسسها، وكانوا سببًا لانحطاط مظاهر حضارتهم الفكرية والأدبية والفنية.

 

تأثير كنفوشيوس في الصين

أما كنفوشيوس فقد فقَدَ أباه في الثالثة من عمره، فربته أمه في ما يقارب الفقر. فاضطر إلى تعاطي أعمال وضيعة لتحصيل معيشته. وقد حصل معظم علمه بنفسه. وحياته الفقيرة العسيرة عرَّضته لتعرُّف حياة العاديين من الناس، فشعر بعذابهم وتأثر لأحوالهم، وفكر، مثلما فكر بوذا، بالقيام بعمل ما لتحسين أوضاعهم. وبعد أن تزوج في التاسعة عشرة ورزقَ صبيًا وابنتين، آثر اعتزال أسرته بعد أربع سنوات، من أجل تحقيق حلم حياته الكبير الذي استهدف إصلاح الحكم وإصلاح المجتمع. فتسنم عدة مناصب في الدولة. وفي الحادية والخمسين تولى وزارة العدل ثم رئاسة الحكومة. وقد ازدهرت مرافق البلاد في عهده، ونجحت سياستها الخارجية.

      لكن أمير البلاد ما لبث أن أصم أذنيه عن إرشادات كنفوشيوس وتعاليمه، واستسلم إلى الملذات الحسية، الأمر الذي جعل المصلح الكبير يغادر الإمارة متنقلاً من بلد إلى آخر في الصين، وهو بين السادسة والخمسين والثامنة والستين من العمر. وفي هذا العهد المضطرب أنشأ تعاليمه متعرضًا للإيذاء والاضطهاد أحيانًا كثيرة؛ لكنه لم ينثنِ عن هدفه، لأنه كان مؤمنًا بأن شريعة السماء تكشفت له.

 يقوم جوهرُ تعليمه على إنقاذ الإنسان ببناء سلوكه على العقل كما على الأصول الروحية النقية. ولا تعني الأصول الروحية محاكاة لأفكار السلف وعاداتهم وتقاليدهم، بل التزود بالأفكار السامية الخالدة وبكل ما هو حق وخير من أجل الإنطلاق قدمًا. وهذه الغاية توجب،  من جهة، عدم الانخداع بمظاهر المدنية (كاختراع عجلات النقل والمراكب وعربات الحراثة وما إلى ذلك)، إذ إن تاريخ الحضارة الحقيقية، في نظره، يبدأ مع الذين وضعوا الشرائع الصالحة وقواعد المناقب الكريمة أسسًا للمجتمع والدولة؛ ومن جهة أخرى تقتضي هذه الغاية السامية تعلم مبادئ الخير؛ وهذا لا يعني حفظها غيبًا، بل صيانتها وممارستها ممارسة نفسية وعملية. فليست الثقافة بحد ذاتها هي المهمة، بل معرفة الاستفادة منها في الحياة السلوكية والعملية، بحيث تصبحُ في الإنسان قوة مبدعة محركة إلى الأصلح والأفضل.

      وقد أيقظ كنفوشيوس العقل في الصين، فكان معلم الخلقيات العقلانية، يدعو إلى أشبه ما دعا إليه سقراط وأفلاطون: بناء مجتمع فاضل يحكمه ملوكٌ فلاسفة فاضلون يكونون قدوةً لشعوبهم، فيعيشُ الجميعُ بطمأنينة وسلام في ظل نظام عادل. كذلك أنشأ مدرسةً لتعليم ما يجب تعلمه من الآداب والفنون والعلوم النافعة في الحياة، ولإعداد رجال الدولة الصالحين الكفوءين؛ فتربيةُ رجالٍ فاضلين يُساندون الحكم أفضل من الشرائع الكثيرة للشعب. وأهم الأركان التي تقومُ عليها الحكومات الناجحة، في نظره ثقةُ الشعب بها، بحيث يفضل أن يُضحى، لدى الخيار الحرج، بالجيش ثم بالاقتصاد، ولا يضحى بها.

بيد أنه رأى أن تعلم الحقائق لا يستطيعه كل فرد، إذ إن شرطه الأول استعداد خلقي عال لدى التلميذ يظهر في سلوكه بين رفاقه، وفي أسرته، واستعدادٌ إدراكي، ورغبة في المعرفة. ولذلك لم يهتم بدفع الناس للبحث عن الحقيقة، إذ رأى أن المجتمع السليم يقومُ على أعضاء فيه سليمين؛ ولذا جعل محور فلسفته الخير لا الحقيقة: محبة الآخرين، تعزية المسنين ومساندتهم، رعاية الأحداث، المحافظة على الصداقة، وبالدرجة الأولى سعي كل إنسان لتحسين سلوكه وترقية نفسه، وامتناعه عن معاملة الآخرين معاملة لا يودها لنفسه؛ وهي القاعدة المثالية التي تذكرنا بتعليم السيد المسيح بعد 500 سنة.

      وقد أولى كنفوشيوس الأسرة اهتمامًا خاصًا، فأوصى بقيام رابطة قوية بين أفرادها، فيقدم الأولاد طاعة واحترامًا تامَّين لوالدهم، وينسبون فضل مآثرهم وحميد تصرفاتهم إليهم بينما يتحمل الآباء مسؤولية أخطاء أولادهم وقبائحهم. كذلك وضع كنفوشيوس مبادئ الصداقة الحقيقية، وأسس التعامل بين الرؤساء والمرؤوسين، وقواعدَ الحكومة الصالحة والدولة الفاضلة.

      أخيرًا، مات كنفوشيوس وفي قلبه حسرة، لأنه عندما نظر حواليه باحثًا عن رجل شريف أو رجل يصلح لأن يكون حاكمًا، لم يجد بغيته. ومع ذلك لم ييأس، بل قال إن عصره مريض.

      ولم يطل الزمن، بعد موته، حتى أخذ أتباعه يحرفون تعاليمه مُدخلين فيها بعدًا غيبيًا، ومحولين جوهرها النقي إلى شرائع جامدة وركام من المعارف... والأدهى أن أتباعه نصبوه إلهًا، في مطلع القرن العشرين، وهو الذي رفض أن يُسمى قديسًا.

      لقد كان كنفوشيوس حاصرًا اهتمامه بطبيعة الإنسان وسلوكه، بينما كان لاوتسو مهتمًا، بالدرجة الأولى، بالحياة الريفية البسيطة النقية وسط الطبيعة العذراء وإيحاءاتها الروحية. وفي حين أن الكنفوشية تولي المجتمع وسياستة الحكم الأهمية الكبرى، فالطاوية تولي الفرد وعلاقته بالكون كله الأهمية الأولى. والمتبصِّر في تعاليمهما لا يراهما يتناقضان بقدر ما يتمّم الواحد الآخر. ففي تعاليم لاوتسو نستشف لمحاتٍ من روحانية المسيح وآراء روسو Rousseau في ضرورة عودة الإنسان إلى الطبيعة، كما نستشف في مبادئ كنفوشيوس لمحاتٍ من تعاليم سقراط وأفلاطون وآراء فولتير.

      إن الأحداث العامة التي وقعت للشعب العبراني خاصة، والشعوب المحيطة به عامة، عرفنا أسبابها الروحية من الوحي الإلهي الذي كان يتنزل على أنبياء العهد القديم. ولكن كيف نستطيع أن نعرف الأسباب الروحية للأحداث العامة التي جرت في الشرق الأقصى، مسرحِ تعاليم ذينك الهاديين؟

      القاعدةُ الروحية العامة التي تعلمنا إياها الداهشية هي أن أخلاق الشعوب والحكام المجسدة في رغباتهم ونزعاتهم وأعمالهم، خيرًا أو شرًا، هي التي تحدّد مصيرهم وواقع حياتهم سلامًا أو اضطرابًا، ازدهارًا أو شقاءً. وليس ضروريًا أن تظهر النتيجة في جيل واحد، فالأجيالُ مترابطة بعضها ببعض، سابقُها يؤثر في لاحقها، تأثير الوالدين في الأولاد والأحفاد، لأن السيالات الروحية لا تنقطع بين جيل وأخر، بل تمتد باستمرار، ومعها يمتد التأثير متبوعًا بالنتيجة. لكن لا بد من إيضاح، في هذا السياق، هو أن الله الرحيم لا يعاقب شعبًا على أعماله إلا بعد أن يُرسل إليه من يهديه، نبيًا أو رسولاً أو هاديًا، وذلك بالرغم من وجود نور العقل في الإنسان. وهذه الحقيقة جلية في عدة آياتٍ في القرآن الكريم، منها خطابه تعالى للرسول العربي الكريم، إذ سأله الكافرون أن يستترل آية محسوسةً من الله: (إنما أنت منذرٌ، ولكل قومٍ هادٍ)(الرعد: 7)؛ كذلك (وما كنا مُعذبين حتى نبعث رسولاً) (الإسراء: 14).

      ولا شك بأن تعاليم لاوتسو وكنفوشيوس كانت الموقظ والمحرك لأجمل وأرقى ما في الحضارة الصينية من فكرٍ وأدب وفن وسياسة. وكانت النار التي تذوبُ في حرارتها ونقاوتها كل غلظة ووحشيةٍ وفوضى في الطبيعة البشرية، بحيث يمكن أن ينسب إلى فضلها، بالدرجة الأولى، ما ساد بنية الصين الثقافية وخلقيتها السياسية والاجتماعية من تناسق وتآلف وسلام، ومن محبة للمعرفة والمحكمة، برغم الاضطرابات التي كانت تشوش هدوء تلك الحياة من حين إلى آخر، وذلك على مدى أكثر من ألفي سنة. يقول عالم الاجتماع والمؤرخ الكبير ول ديورانت: "لسنا نجد في هذا الزمان، كما لم يجد القدامى في الزمان الخالي، علاجًا ناجعًا لمن يعانون اضطرابًا ناجمًا عن تربية تقصر عنايتها على العقل، كما عن قانونٍ خلقي متدهور ووهنٍ في الأخلاق الفردية والقومية – لسنا نجد علاجًا لهذا كله خيرًا من تلقين أحداث الأمة مبائ الفلسفة الكنفوشية.

بعد وفاة كنفوشيوس بنحو قرنين، قام منسيوس Mencius (371 – 289 ق م)، أعظم أتباعه، وتلميذ حفيده، فضارع معلمه الأول بقوة تأثيره، لكنه استقلَّ عنه بالتركيز على نقاط ثلاث: الأولى تأكيده أن طبيعة الإنسان الأصلية خيرة؛ والثانية أن العظمة الحقيقية تكمن في نفس الفرد المتبع صراط "الطاو" المؤدي إلى الخلاص، لا في المجتمع؛ والثالثة تشديده على الديمقراطية وحق الشعب في الثورة على الحاكم الطاغية.

بعد وفاة منسيوس بنصف قرن، استولى على عرش الصين إمبراطور طاغية هو شي هونُغ تي shih Huang-ti (221-209/201 ق م)، فأمر بإحراق الكتب الكنفوشية مع سائر الكتب التاريخية والأدبية، ووحد إمارات الصين في دولةٍ واحدة للمرة الأولى في التاريخ، وأمر بتشييد سور الصين العظيم الذي يعتبر أضخم ما بناه الإنسان على مر الزمان، وسمى نفسه "الإمبراطور الأول"، مبتغيًا بذلك أن يمحو ذكر كل من سبقه، ليكون هو مؤسس تاريخ الصين؛ كما أمر بأن يتخذ أحفاده من بعده أرقامًا متتابعة حتى تتم سلالته بالقرم عشرة آلاف. والأخطر أنه حكم شعبه بالحديد والنار.

ولكن هل تجري أحداث التاريخ وفق ما يريده الإنسان، خصوصًا  متى كان صاحب بأسٍ وصولة وسلطان، أم تبعًا لنظامٍ إلهي مبني على الاستحقاق والسببية الروحية العادلة مثلما تذهبُ الداهشية؟

      إن "الإمبراطور الأول بغطرسته وظلمة ليشبه نمرود، وبناء السور العظيم ليشبه بناء برج بابل. فما إن مضى حوالى أربعة أعوام على موته وخلافة اثنين من أسرته له 209/210 – 206 ق .م) حتى ثار الشعب المظلوم على ظالميه، وقضى على الأسرة الطاغية. فلا السور العظيم نفعه، ولا توحيد الصين، ولا أحلامه بسلسلة الآلاف العشرة من الأباطرة في سلالته. لقد اندثر حكمه ليبقى اسمه لعنةً على ألسنة الصينيين، ولتبقى من بعده تعاليم كنفوشيوس ولاوتسو، لأنها مستمدَّة من سيالات الهداية الروحية التي ترسلها السماء إلى بني البشر، دواء ناجعًا لكل فئة منهم رحمةً بهم.

      ولم يمض زمنٌ طويل على موت الطاغية حتى تسنم عرش الصين وو- تي wu Ti (140 – 87 ق .م)، أعظم الأباطرة من سلالة هان Han، فأعاد الاعتبار إلى تعاليم كنفوشيوس، وقام بحركة إصلاحية اجتماعية واقتصادية عظيمة، إذ جرى على سياسة السلم، وأعاد إلى الشعب حرية القول والكتابة وانتقاد الحكومة، وحظر تعيين أي مواطن في مناصب الدولة إلا بعد اجتيازه امتحانًا تضعه الحكومة لهذا الغرض. كذلك سن أنظمة اشتراكية ملطفة تحول دون استثمار أية فئة من الشعب لفئة أخرى؛ فعاشت الصين في عهد رخاء لم تعش مثله من قبل. علاوة على ذلك، ازدهر العلم في عهده، وكثر الشعراء والفنانون.

      لكن بعد موته أخذ نفوذُ النساء يتفاقم في دوائر الدولة، وبدأت الفوضى والمفاسد تدبُّ في الشعب، فانحرف عن تعاليم الهُداة المُصلحين.

      ومع بدايات التاريخ المسيحي تسنم عرش الصين مصلحٌ آخر هو تشيا هوانغ تي Chia Huang-ti (نحو 9 – 23 ب م)، فأعاد إصلاح الأنظمة السياسية والاقتصادية، وألغى الرق في البلاد، وحمى الزراع والمستهلكين من جشع التجار، وناصر الأدب والعلم، واشتغل هو نفسه بهما، وقرب إليه أهلهما. وكان يعيشُ عيشةً مُقتصدة، ويوزع دخله على أقربائه وعلى الفقراء من أهل البلاد؛ وباختصار، كان مثال الرجل الصيني المهذب الكامل. لكن يبدو أن معظم الشعب لم يستحق هذا المصلح ولا مشاريعه الإصلاحية، فثارت عليه فئاتٌ ناقمة وقتلته. وبقتله قتلت السلام والازدهار في البلاد؛ فعادت المفاسدُ والفوضى تتحكَّم بها ومعها النكبات الطبيعية. ومرت ستة قرون على الصين قبل أن يقيض لها حاكمٌ فاضلٌ كبيرٌ آخر.

      كان هذا الحاكم الفاضل تاي تسونغ TG’ai Tushg (627 -649( من سلالة تانغ Tang . وعهده يوازي أواخر عهد البعثة النبوية العربية والخلفاء الراشدين الثلاثة الأوائل. تمسك بالتعاليم الكنفوشية، فرفض ضروب الترف في قصره، وأبعد عنه الغواني، وحكمَ بالعدلِ والتسامح، ومنح شعبه حرية المُعتقد؛ فأم المبشرون الصين من بوذيين وزردشتيين ونسطوريين مسيحيين. فكان يُرحبُ بهم ويبسط عليهم حمايته، ويعفي معابدهم من الضرائب. وقد شهد عهده ازدهارًا وبحبوحةً كبيرين، كما شهد نهضة أدبية وفنية عظيمة، إذ كثر الشعراء والفنانون وتقلَّدوا مناصب عالية؛ فأصبحت الصين في عهده، على حد قول ديورانت: "أعظم الإمبراطوريات قوةً، وأكثرها استنارة، وأسماها رُقيًا، وأفضلها حكمًا وحضارة على سطح الأرض" (ص 703).

ومع أن الصين شهدت نهضة كبيرة في الفن والعلم في عهد سلالة سونغ sung (860 – 1276)، فإنها لم تعرف بعد تاي تسونغ إمبراطورًا كبيرًا وصالحًا آخر، لكنها عرفت في عهد الإمبراطور شن تسونغ Shen Tsung (1067 – 1086) عالمًا وأديبًا تولى صلاحيات واسعة وكان شديد الاهتمام بتطبيق مبادئ كنفوشيوس هو وانغ آن- شي Wang An-shih (1021 – 1086). وقد انصرف إلى العمل لرفاهية شعبه، غير مهتم بشخصه ولا بلباسه ولا بما يصيبه من إرهاق. اقام نظامًا اشتراكيًا صالحًا استهدف خير الشعب، وإنقاذ الزراع من المرابين، وإعانتهم من مال الدولة، وإغاثة الطبقات العاملة ورفع الحيف عنها. كذلك أصلح اساليب التعليم ونظام الامتحانات، وأجرى معاشات على الشيوخ والفقراء المتعطلين، وقام بأعمال هندسة عظيمة لمنع الفيضانات (ص 724 – 726)

لقد أتى لاوتسو و كنفوشيوس هاديين للشعب الصيني، مثلما أتى بوذا وماهافيرا وغيرهما من الحكماء هداةً للشعب الهندي وما حوله من شعوب، وذلك في زمنٍ كاد الوحي فيه يكفُّ عن العبرانيين. لكن البشر، حيثما كان، يسمعون أصوات هُداتهم حينًا، وأحيانًا يصمون آذائهم عنها. والقاعدة الروحية تبقى واحدة: ما يزرعه الإنسان فإياه يحصد. وبناءً على هذه القاعدة فعهودُ الاطمئنان والسلام واليُسر التي شهدتها الصين لم تكن لتعادل بطولها عهود الاضطراب والعذاب والشقاء. فالسجلات الصينية حفظت تأريخ 290 وباءً فتاكًا أصابت الصين كلها أو مقاطعات منها إصابات متقطعة بين سنة 243 ق م وسنة 1911 بعده، وقضت على ملايين السكان.

كذلك نشبت في مناطق مختلفة من الصين بين عام 111 قبل المسيح وعام 1978 بعده 87 حربًا أو ثورة أو فتنة أهلية زادت الفجائع والكوارث.

وفي ما يأتي من هذا البحث سنرى أن النظام الإلهي أطلع في اليونان خطأ آخر من الهُداة موازيًا في الزمن لخطَّي الهند والصين. وهذا يؤكد أن العناية الإلهية تختط تصميمًا تجعل فيه لك شعب هاديًا أو أكثر يكون صالحًا له، أي لمستوى مداركه وطبيعة نزعاته وأنواع استعداداته، وبكلمة أخرى للقوى النفسية التي تختزنها سيالات الشعب الروحية التي تبرمج جينات كل فردٍ فيه وهو في طور تكونه. فكل إنسان، وفق التعاليم الداهشية المُوحاة، يولد وفيه سيالُ دين معين. وإذا غير الإنسانُ دينه باختياره وملء رضاه، فإن سياله الديني يكون قد تغير. فـلا إكراه في الدين (2:256). أما إذا حدث الإكراه، فلا المغصوبُ على أمره سيستفيد روحيًا، ولا الدين الذي أجبر على اعتناقه سيستفيد منه، لأن سيالاته، من خلاله ومن خلال سلالته من بعده، ستسعى واعيةً أو غير واعية إلى تخريب الدين الذي غُصبت على اعتناقه.

                                                (للبحث تتمة في العدد المقبل)

Developed by Houssam Ballout        Copyright 2019 This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.nfo All Right Reseved This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.