أنا أؤمن بأنه توجـد عدالة سماويّة, وأن جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدنيا من مُنغصات انَّ هـو الاّ جـزاءٌ وفاق لِما أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور.ولهـذا يجب علينا أن نستقبلَ كلّ مـا يحـلّ بنـا من آلامِ الحياةِ ومآسيها غير مُتبرّمين ولا متذمّرين , بل قانعين بعدالةِ السماء ونُظمها السامية.

Highlighter
أحبُّ الكُتُبَ حبَّ السُكارى للخمر , لكنَّني كلَّما أزددتُ منها شرباً, زادتني صَحوا
ليس مّنْ يكتُبُ للهو كمَن يكتُبُ للحقيقة
الجمالُ والعفّــة فـردوسٌ سماويّ .
لا معنى لحياةِ ألأنسان اذا لم يقم بعملٍ انسانيٍّ جليل .
اعمل الخير , وأعضد المساكين , تحصل على السعادة .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقـوم بأعمالِ الخير نحـو ألأنسانيّة .
الموتُ يقظةٌ جميلة ينشُدها كل مَنْ صَفَتْ نفسه وطَهرت روحه , ويخافها كلّ من ثقُلت أفكاره وزادت أوزاره .
ان أجسامنا الماديّة ستمتدّ اليها يـد ألأقـدار فتحطِّمها , ثمّ تعمل فيها أنامل الدهـر فتتَّغير معالمها , وتجعلها مهزلةً مرذولة . أمّا ألأعمال الصالحة وألأتجاهات النبيلة السّامية , فهي هي التي يتنسَّم ملائكة اللّه عبيرها الخالد .
نأتي إلى هذا العالمِ باكين مُعولين، و نغادره باكين مُعولين! فواهً لك يا عالمَ البكاء والعويل!
جميعنا مُغترٌّ مخدوعٌ ببعضه البعض.
العدلُ كلمة خُرافية مُضحكة.
أمجادُ هذا العالم وهمٌ باطل، و لونٌ حائل، و ظلٌّ زائل.
لا باركَ الله في تلك الساعة التي فتحتُ فيها عينيّ فإذا بي في مكانٍ يطلقون عليه اسم العالم .
أنا غريبٌ في هذا العالم، و كم احنُّ إلى تلك الساعة التي اعود فيها إلى وطني الحقيقيّ.
الحياةُ سفينةٌ عظيمة رائعة تمخرُ في بحرٍ، ماؤه الآثام البشريَّة الطافحة، و امواجه شهواتهم البهيميَّة الطامحة، و شطآنه نهايتهم المؤلمة الصادعة.
كلّنا ذلك الذئبُ المُفترس , يردع غيره عن اتيانِ الموبقاتِ وهو زعيمها وحامل لوائها , المُقوّض لصروح الفضيلة , ورافع أساس بناءِ الرذيلة .
الحياةُ سلسلة اضطراباتٍ وأهوال , والمرءُ يتقلَّب في أعماقها , حتى يأتيه داعي الموت, فيذهب الى المجهولِ الرهيب , وهو يجهلُ موته , كما كان يجهلُ حياته .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقومَ بأعمالِ الخير نحو الانسانيّة .
المالُ ميزان الشرِّ في هذا العالم .
السعادةُ ليست في المال , ولكن في هدوءِ البال .
كلُّ شيءٍ عظيمٍ في النفسِ العظيمة , أمّا في النفسِ الحقيرة فكلُّ شيءٍ حقير .
الرُّوح نسمةٌ يُرسلها الخالق لخلائقه لأجل , ثم تعودُ اليه بعجل .
الرُّوح نفثةٌ الهيَّة تحتلُّ الخلائق , وكل منها للعودة الى خالقها تائق .
الرُّوح سرٌّ الهيٌّ موصَدْ لا يعرفه الاّ خالق الأرواح بارادته , فمنه أتتْ واليه تعود .
أنا أؤمن بأنه توجـد عدالةٌ سماويّة , وأنَّ جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدُّنيا من مُنغِّصاتٍ وأكدارٍ انَّ هـو الاَّ جـزاء وفاق لمِا أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور . ولهـذا يجب علينا أن نستقبل كلَّ مـا يحـلُّ بنـا من آلام الحياة ومآسيها غير م
الحرّيةُ منحة من السماءِ لأبناءِ ألأرض .
الموتُ ملاكُ رحمةٍ سماويّ يعطف على البشر المُتألّمين , وبلمسةٍ سحريّة من أنامله اللطيفة يُنيلهم الهناء العلويّ .
ما أنقى من يتغلّب على ميولِ جسده الوضيع الفاني , ويتبع ما تُريده الرُّوح النقيّة .
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
الراحة التامّة مفقودة في هذا العالم , وكيفما بحثت عنها فأنت عائدٌ منها بصفقةِ الخاسر المَغبون .
ليس أللّــه مع الظالم بل مع الحقّ.
ان الصديق الحقيقي لا وجود له في هذا العالم الكاذب.
ما أكثر القائلين بالعطف على البائسين وغوث الملهوفين والحنو على القانطين , وما أقلَّ تنفيذهم القول.
يظنُّ بعض ألأنذال ألأدنياء أنّهم يُبيّضون صحائفهم بتسويدِ صحائف الأبرياء , غير عالمين بأنَّ الدوائر ستدور عليهم وتُشهّرهم.
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السَّلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
رهبة المجهول شقاء للبشرِ الجاهلين للأسرارِ الروحيَّة , وسعادة للذين تكشّفت لهم الحقائق السماويَّة .
الموتُ نهاية كل حيّ , ولكنه فترة انتقال : امّا الى نعيم , وامّا الى جحيم .
الحياةُ خير معلِّمٍ ومُؤدِّب , وخيرَ واقٍ للمرءِ من الأنزلاقِ الى مهاوي الحضيض .
حين تشكُّ بأقربِ المُقرَّبين اليك تبدأ في فهمِ حقائق هذا الكون .
مَنْ يكون ذلك القدّيس الذي لم تخطرُ المرأة في باله ؟ لو وجدَ هذا لشبَّهته بالآلهة .
المرأة هي إله هذه الأرض الواسع السُّلطان. و هي تحملُ بيدها سيفاً قاطعاً لو حاولَ رجالُ الأرض قاطبةً انتزاعه منها لباؤوا بالفشلِ و الخذلان .

السببية الروحية في مجرى الأحداث العامة

في ضوء المفاهيم الداهشية (3)

بقلم الدكتور غازي براكس

خط الهُداة الروحيين

لكن هل يعني انحطاط سيَّالات العبرانيين الروحية (أي مداركهم ونزعاتهم) الذي  شهد عليه أنبياؤهم،  وما سببه من تدهورٍ لحضارتهم أن الأرض خلت بعدهم من الهداية الروحية، وأن الله سخط على البشر جميعًا بسخطه عليهم؟

لا. ففي النظام الإلهي الذي تكشفت عنه التعاليمُ الداهشية أن السيالات الراقية تترحُ، في مثل هذه الحالة، من الشعب الذي كف عن استحقاقها إلى الشعب الذي يكونُ أجدر بها ومؤهلاً لاستقبالها والعناية بها. فالبشرُ، وإن تعددت شعوبهم، ينتمون إلى أصلٍ واحد، إذ إنَّ سيالاتهم متشابكة أصولها في آدم وحواء، ومتشابكة فروعها في مختلف الشعوب المتناسلة من ذراريهما بصورة تُخفى عنهم.

   لذلك شهد التاريخُ بداية نهضتين روحيتين جديدتين، إحداهما في العالم الآسيوي، والأخرى في اليونان. فما بين القرنين الثامن والثاني (ق.م) وضعت في الهند كتب الهداية الروحية الهندوسية، وخاصة "الأوبانيشاد" Upanishad" ثم "الباغافاض غيتا" Bhagavatgita  التي تشكل القسم الأوسط من ملحمة "المهابهاراتا" Mahabharata. وفي القرن السادس (ق م) ظهر فارهامانا Vardhamana  المشهور بلقب ماهافيرا Mahavira (البطل الكبير)، وهو مؤسس "الجاينية" Jainism؛ كذلك ظهر بوذا Buddha، الهادي العظيم. وفي القرن السادس (ق م) ظهر هاديان روحيان في الصين هما لاوتسو Laotzu   وكنفوشيوس Confucius. وسرعان ما امتدت أفكارُ هؤلاء الهداة من الهند والصين إلى البلدان المجاورة. وفي القرن السادس (ق م) أيضًا ظهر أورفيوس وفيثاغورس في اليونان، ثم سقراط في القرن الخامس، وما لبثت تعاليمه أن انتشرت من خلال كتابات تلميذه أفلاطون. من هؤلاء انتقل الزخم الحضاري الروحي الجديد، في خطين خلقيين وعقليين متوازيين، إلى ملايين من الناس لم يهبط فيهم نبي ولا نزل وحي.

لكن أولئك الهداة الروحيين لم تكن تحييهم إلا سيالاتٌ روحية تابعة للأنبياء أنفسهم؛ والفارق الوحيد بينهم أن الهداة الروحيين لم ينحدروا مباشرةً من الخط الإبراهيمي؛ ولذا كانوا جميعًا مدفوعين ومُسيرين بإلهامهم السامي وسيالاتهم الراقية، من غير أن يهبط الوحي الإلهي عليهم، ذلك الوحي الذي كان مؤيدًا أحيانًا بالمعجزات، والذي كان يبدو أنه محصورًا بنسلِ إبراهيم المباشر لسببٍ علمُه عند الله.

المجتمع الهندي القديم وكتبه المقدسة

 إن العدالة الإلهية، وفقًا للتعاليم الداهشية، مقرونةٌ دائمًا بسببية روحية، أي إنها تقضي بأن تكون أوضاع الشعوب الحضارية (الدينية والخلقية والثقافية والسياسية والاجتماعية) نتيجة لمجمل أعمالها وأفكارها ونزعاتها واتجاهاتها، في أجيالها الحاضرة وكذلك السابقة. وما حصله المؤرخون والباحثون من استنباشهم الصعب لتاريخ الهند القديم الغامض، العائد إلى الألف الثاني والألف الأول قبل المسيح، يرد سكان الهند الأصليين إلى عدة أصول، أهمها: أقوامٌ من المغول استوطنوا شمال الهند؛ وقبائل معروفة بالدرافيديين Dravidians  كانوا يستوطنون جنوب الهند؛ وكانت بشرتهم سوداء، أو مائلة إلى الدكنة، والراجح أنهم نزحوا من إفريقيا؛ وكانوا يتكلمون لغات مختلفة كثيرة، أما حياتهم فبدائية، تقوم على الصيد وجني الثمار من الأشجار وحبك القصب؛ وأقوامُ الهارابا Harappa   الذين استوطنوا وادي الإندوس حيث تمتد باكستان اليوم، كما غرب الهند، وكانوا الأكثر تقدمًا في مظاهر المدنية والعمران.

ثم بدأت تصل إلى الهند موجاتٌ من الآريين Aryans  الذين احتلوا ايران القديمة (فارس) واستمر تدفقهم منها في حقبة طويلة بين الألف الثاني والألف الأول قبل المسيح. فأنزلوا مجازر بالسكان الأصليين، واستعبدوا كثيرين منهم، وبخاصة قبائل "الداساس" Dasas الدرافيديين، ذوي البشرة الدكناء والمتعاطين الصيد أو الأعمال الوضيعة بنظر المحاربين الغزاة.

ويظهر من الآثار الباقية أن الآريين أدخلوا معهم معتقدات دينية متأثرة بعقائد البابليين، ولا سيما ما ظهر منها في ملحمة "جلقامش". كذلك يبدو أنهم  استوطنوا آسيا الصغرى وبلاد الإغريق على الأرجح. وبناءً على أصولهم الألسنية المتقاربة تمت تسمية لغاتهم بالهندية – الأوروبية indo-European  تمييزًا لها عن السامية وغيرها.

والسؤال الذي يستوجب جوابًا في هذا المجال هو: من هم أولئك الآريون، ومَن هم الدرافيديون الذين استعبدَ معظمهم، واستمروا يشكلون طبقات دُنيا برضاهم واقتناعهم الديني طوال أربعة آلاف سنة، مثلما سنرى؟

التاريخ لا يجيبُ عن هذا السؤال, ولا المؤرخون والباحثون. لكن ما دام البحث يستوجبُ أن يكون لكل حال أو حدث سببًا روحيًا، وفق المبادئ الداهشية، فما عسى يكون السبب؟

ذكرتُ، في بحثي عن السببية الروحية في مجرى الأحداث العامة (صيف 2005)، أن إبراهيم الخليل أوحي إليه بأن نسله "سيكونون غرباء في أرضٍ غير أرضهم، فيستعبدُهم أهلُها ويعذبونهم أربعمئة سنة"، ثم يخرجون من أرض العبودية. وهذه النبوءة تحققت. وقد أوضحتُ تطور الأحداث التي أدت في توالي حلقاتها إلى تحققها، من بيعِ أبناء يعقوب لأخيهم يوسف، حسدًا له، ثم ارتفاع شأن يوسف لدى فرعون، وقصد إخوته مصر للحصول على الطعام في أثناء سنوات القحط، وأخيرًا إقامتهم هناك، ليستعبد المصريون ذراريهم بعد وفاة يوسف عقابًا لهم. في هذا الضوء، قد يكونُ ثمة سبب روحي، في اساس البناء الاجتماعي الهندي في بداية الألف الثاني (ق م)، أدى إلى نتائج تحولت بدورها أسبابًا.

يؤكدُ علماء اللغات أن اللغات الهندية – الأوروبية (التي منها الفارسية والهندية السانسكريتية Sanskrit واليونانية واللاتينية وما اشتق منهما) تختلف في أصولها كثيرًا عن اللغات السامية، ( التي منها العربيَّة والعبريَّة والآراميَّة ). إذاً من هذه الناحية يستحيل إعادة عائلات اللغات الهنديَّة – الأوروبيَّة الى عائلة اللغات الساميَّة، مثلما يستحيل إعاة عائلة اللغات الدرافيدية إلى عائلتي اللغات المذكورة، إذ إنها تختلفُ في أسسها عنهما. وبينما كانت السامية منتشرة في الهلال الخصيب وشبه الجزيرة العربية، واللغاتُ الهندية – الأوروبية منتشرة في أوروبا ثم في إيران والهند، كانت اللغاتُ الدرافيدية منتشرة في جنوبي وشرقي إفريقيا وفي الهند قبل دخول الآريين إليها، الأمرُ الذي يدل على أن الشعوب الناطقة بتلك اللغات تعودُ إلى أصول بشرية مختلفة ترقى إلى آلافِ السنين قبل المسيح. فهل تعودُ إلى سام ويافث وحام بعد أن تفرقت ذراريهم؟

   ولكن كيف حدث أن استعبد الآريون الدرافيديين ولا سيما قبائل "الداساس" منهم، وغيرهم من عشرات القبائل السوداء التي كانت مستوطنة ربوعَ الهند، ثم اقتنع هؤلاء بوضعهم دينيًا من غير إحداث أي تمرد طوال أكثر من أربعة آلاف سنة!

   يقول السيد المسيح: "لا تسقطُ شعرةٌ من رؤوسكم إلا بإذن أبيكم السماوي". ويقولُ القرآن الكريم: (إن الله لا يظلم الناس شيئًا، ولكن الناس أنفسهم يظلمون) (يونس:44)

عقيدة "الداساس" وكثير من القبائل الدرافيدية كانت متمحورة حول تقديس عضو التناسل Lingam الظاهر في آثارهم الباقية من رسم ونحت. وهذا التمحور لا بد من أن يكون صادرًا عن هاجسس جماعي متسلط لا شعوري منشأه سيالات أصحابه.

   أما الآريون فمعتقداتهم اختلطت، مع مرور الزمان، بالعقائد الدرافيدية، وبدل أن تجذب السيالات العليا السيالات الدنيا حدث العكس.

وقد ظهر التفاعل المتبادل في أناشيد "الفيدا" Veda (1017 نشيدًا)، وخاصًة في كتابي "الأثارفا – فيدا" Atharva-Veda  و"الريغ – فيدا" Rig- Veda. وتاريخ نشأتها مختلف فيه، لكنه قد يكون قبل دخول الآريين الهند، أي في الألف الثالث؛ ونهاية وضعها يرجح أنها كانت حوالى العام 600 قبل المسيح. والمجموعة الأولى منها، التي من الراجح أنها الأقدم، حافلة بالشياطين وفنون التعذيب، وبأنواع السحر والتعاويذ والتعازيم ضد الحيات والأمراض إلخ. وفي المجموعة الثانية تظهرُ عبادةُ الإله الواحد مع الآلهة المتعددة. وبصورة عامة، تتضمن أناشيدُ "الفيدا" أدعيةً تكادُ تقتصر على طلب تأمين الحاجات المادية، من تمديد العمر إلى تأمين الغذاء والمسكن والحماية وإكثار النسل... الأمر الذي يكاد يلاشي الروحانية الحقيقية. وهذا يدل على أن المؤمنين بأناشيد "الفيدا" لم يكونوا، بصورة عامة، يسعون إلى الخلقيات والحكمة، بل للقوة المادية وملذات العيش، حتى انحصر مفهومُ الرذيلة لديهم بأمورٍ قليلة. أما التقشف والزهدُ بالدنيا فلم يكن لهما أتباع.

   ويبدو أن الهنودَ الآريين ومن سبقهم من عشرات القبائل التي استوطنت الهند انعكست أوضاعهم الخلقية والسيكولوجية في أناشيد "الفيدا". ففي أواخرها إشارةٌ إلى أن أربع طبقات انبثقت من جسد الإله براجاباتي Prajapati: العليا طبقه البراهمة، التي تضمن الكهنة ومعلمي الدين، انبثقت من فمه.  و"براهمان" مشتقة من "براهما" Brahma  التي تعني المعرفة السحرية أو الإلهية. يتلوها طبقة "الكشاتريا" Kshatriyas التي تشمل الارستقراطيين والمحاربين، وقد انبثقت من ذراعي الإله. والطبقة الثالثة "الفايشيا"Vaishyas التي تضم التجار، وقد انبثقت من فخذيه. وأخيرًا طبقة "السودرا"، التي تجمع الحرفيين من صناع ومزارعين ودباغين وغير ذلك، انبثقت من رجليه. والطبقات الأولى يعتبر أفرادها مولودين ولادتين، ولذلك يحق لهم قراءة "الفيدا" والدخول إلى المعابد، وهو حق حرمت منه طبقة الـ"سودرا".

   فضلاً عن ذلك عرف المجتمع الهندي طبقة "المنبوذين"، الذين توجب عليهم عدم الاختلاط بأفراد الطبقات الأربع خوف تنجيسهم، وخدمتهم في كل الأعمال الوضعية، كتنظيف بيوت الخلاء وطمر جثث الحيوانات الميتة، والامتناع التام عن التعلُّم ولا سيما قراءة "الفيدا" بل حتى سماعها.

وهكذا كان المجتمع الهندي مؤمنًا بسببية روحية تمثلت نتائجها في أوضاعه وطبقاته التي استحقها أفراده بناءً على أعمالهم ورغباتهم واتجاهاتهم في تقمصاتهم السابقة.

وأرجح الظن أن الغزاة الآريين تأثروا تأثرًا بالغًا بنفسية المستوطنين السابقين لهم وبخلقياتهم، مثلما تدل عليه معتقداتهم في أناشيد "الفيدا"؛ فانجذبوا إلى ملذات العيش والجسد والقيم المادية.

   هذا من ناحية. من ناحية أخرى، يبدو أن نشوة النصر رنحتهم، فاغتروا، وما لبث الخمولُ أن سيطر عليهم، وقعدت بهم همتهم. ولا عبرة ببعض الحروب القبلية التي كانت تنشبُ فيما بينهم أحيانًا. ولم يطمحوا إلى الارتقاء الحضاري في نظامهم الاجتماعي الذي كان يتراوح بين الملكية القبلية والجمهورية القبلية. يقول فيلسوف التاريخ أرنولد تويني: "يبدو أن النجاح يجعلنا خاملين أو راضين بأنفسنا أو مزهوين مغرورين". وإنها لحقيقة تكشفت لتوينبي في كثيرٍ من مراحل التاريخ. ولا شك بأنها تنطبق على هذه الحقبة من تاريخ الهند.

إن التعاليم الداهشية تحترم حرية الاعتقاد مهما تكن عقيدةُ الآخرين، استنادًا إلى أن كل عقيدة صحيحةٌ بالنسبة لمستوى سيالات المؤمنين بها، أي مستوى مداركهم ونزعاتهم واستعداداتهم. لكن الحضارة مرآةٌ للنفوس، ونتيجة لسيالات أبنائها. وليس من حضارةٍ يتم انحطاطها بفعلِ قوىً خارجية عنها إلا ظاهريًا. ففكرةُ الأقدار الخارجية التي تسيطر على مصير الأفراد والشعوب من غير إرادتهم وهم صرفٌ ليس فيه أثرٌ من الحقيقة. فسيكولوجية الهنود، سواءٌ المستوطنون الأصليون أو الغُزاة، جعلت منهم مجتمعًا ريفيًا مُستسلمًا للخيال والأوهامِ والأحلامِ والملذاتِ الحسية، وميالاً للخمول والاستكانة. وهذا ما استخلصه المؤرخُ والباحثُ الألماني ماكس ملر Max Muller  من دراسته للكتابات السانسكريتية القديمة. ولم يكن رأي المؤرخ البريطاني جايمس مل بعيدًا عن هذا الإستنتاج في حكمه على الثقافة الهندية بأنها تعتمد اللامعقول وتنافي التقدم.

   كذلك استخلص الفيلسوف الألماني هيغل (1770 – 1831) من دراسته تاريخ المجتمع الهندي أن الحقوق والواجبات فيه ليست للإنسان، بل للطبقات. مثاله "أن الشجاعة ليست فضيلة، بل هي فضيلةُ الكشاتريا (طبقة المحاربين)". وبناءً على العقيدة الدينية التي رسخها البراهمة في عقلية الشعب، مضت آلافُ السنين، ولم يفكر أحد في الثورة لتغيير النظام الطبقي، لأن العقيدة الدينية التي كبل الشعبُ بها لا تسمح بذلك، فكل إنسان محددة طبقته إلى ما لا انتهاء؛ بل إن الطبقات الأربع الآنفة الذكر مقسَّمة بدورها إلى حوالى ثلاثة آلاف طبقة، وأكثر من 2500 طبقة فرعية، كل منها يتراوح ما تضمه من بضع مئات إلى عدة ملايين. حتى المنبوذون لهم طبقات كثيرة. وكل من هؤلاء وأولئك يحافظ جميع أنساله على العمل الذي تعاطاه الجد الأكبر؛ وندرَ أن حدث تغيير.

   والمنبوذُ إذا شربَ من بركة ما فهو يُدنسها، ويجب تكريسها مجددًا. وإذا سمع أو قرأ "الفيدا" فيجبُ أن يُسكبَ في أذنيه زيتٌ محرق. فطبقهُ المنبوذين، بالرغم من كثرة أفرادها، لا تؤلف جزءًا عضويًا متممًا للمجتمع الهندي، فهي منفصلة عنه، ووظيفتها خدمة أعضائه. وكان ملايين المنبوذين يعيشون في أكواخٍ خارج حدود المدن والقرى، ويأكلون لحم الضأن والخنزير والدجاج مما يعتبر منجسًا للطبقات الأخرى. فهم عبيد لسائر الطبقات.

   أما البارهمة فكل منهم أحتلته الألوهة؛ ولذا فالواجب يقضي بالركوع أمام البرهمي إذا صدف أن مر بأحد من سائر الطبقات، ومخاطبته بعبارة "أنت الله". وقد خص البراهمة بعدة امتيازات؛ منها واجبُ الطبقات الأخرى أن تقر بطهارة مولدهم، والإخلاصُ والتبرع لهم، وعدم إيذائهم، وإعفاؤهم من الضرائب. وكانوا لا يحاكمون على أي عملٍ ارتكبوه، لأن الصواعق، في عقيدتهم، تنقضُ على الحاكم. فالبراهمي أكثر تمجدًا من الملك نفسه وعليه ألا يفكر بمساعدة أحد من الطبقات الدنيا حتى  إن يكن في خطر. لكن يحق له، بعد أن يتزوج امرأةً من طبقته، أن يختار من شاءَ من النساء اللواتي يرغبُ فيهنَّ ثم يطلقهن متى أراد. وبصورة عامة يوصف البراهمة بأنهم، باستثناء قراءتهم لأناشيد "الفيدا"، لا يتبعون إلا غرائزهم، أكلاً وشربًا ونومًا وإشباع شهوات.

   لكن الهداية الروحية الحقيقية لا تقوم بمجرد أن تقوم طبقةٌ من رجال الدين وتعلن أن الألوهة متجسدة فيهم. فـ"أناشيد الفيدا" التي طورها البراهمة مدى مئات السنين لم تكن تعاليم هداية روحية حقيقية، وكان غرضُها ترسيخ نفوذهم وتوسيع امتيازاتهم في المجتمع الهندي. تُرى، ألا تتدخل العناية الإلهية، بعد قرون كثيرة ازدادت فيها غطرسة البراهمة ومظالمهم، وتفاقم شقاءُ "المنبوذين" والمساكين، فتجري العدالة بعقاب أولئك، والرحمة بإنقاذ هؤلاء، وهكذا تتجسدُ السببية الروحية في التاريخ؟

   بدءًا من القرن الثامن (ق م) أخذت خلاصة الحكمة الهندية السامية تظهر تدريجيًا إزاءَ أناشيد "الفيدا"، ليستقر بناؤها في القرن السادس (ق م) بما سمي الـ "الأوبانيشاد". إنها، من جهة، خلاصة حكمية لأفضل ما ورد في "الفيدا"، ومن جهة أخرى، تعميقٌ فلسفي لتفسير الكون، وانتقال من تعدد الآلهة إلى وحدة الألوهة. ويقوم جوهر تعاليمها على تأكيد الوحدة الجوهرية بين الخالق (براهمان) والنفس (أتمان) والطبيعة. وبينما كان الكتاب الرابع من "الفيدا" كتاب ممارسات وطقوس دينية شكلية وسحرية، من شأنها التاثير في إرادة الآلهة أنفسهم بفعل التعازيم والذبائح، إلى حد إجبارهم على استجابة طلبات المصلين، إذا بنصوص "الأوبانيشاد" (النثرية والشعرية) تستنكر الرسوم المدفوعة للكهنة، وتقاوم بقوة الطقوس والتضحيات التي تشبهها بالمراكب غير الأمينة، ذلك بأن من يعتمد عليها يحكم على نفسه بالهرم والموت المستمرين، لأن الخلود لا يمكن كسبه بمثل هذه الطرق. فالخلاص من التقمصات إنما يكون بالخلاص التام من الرغبات الدنيوية، فإذا ذاك يحدث الاتحاد مع الروح الكلي "كما الأنهر الجارية تتوارى في البحر فاقدة أسماءها وأشكالها، هكذا الإنسانُ الحكيم، بعد أن يتحرر من اسمه وشكله، ينطلق ليندمج بالكائن الإلهي الذي هو فوق الكل". (  ).

   وباستتمام "الأوبانيشاد" صيغتها بدأت في الهند تباشيرُ عهد روحي جديد دان ببنائه لحكماء كثيرين خلال عدة عصور. وليس عجيبًا أن تتلاقى أفكارُ "الأوبانيشاد" الفلسفية الهادية وأفكارُ سقراط وأفلاطون التي ظهرت بعد حوالى قرن؛ فالسيالاتُ الروحية تنتقل من بلد إلى آخر، ومن شخص إلى آخر، وفق نظام إلهي دقيق، حينما تحينُ ساعةُ الهداية والاستحقاق. ففي "الأوبانيشاد" يظهرُ نمط أفلاطون الفكري في التمييز بين المعرفة الأبدية والمعرفة الزمنية. والمعرفة الأبدية الحقيقية تعني الحرية الحقيقية، لأنها تحرِّر الذات من الرغبات الأرضية وشهوات الجسد.

لكن بالرغم من تمام "الأوبانيشاد"، لم يكن سهلاً أن تستقيم الهندوسية عقائديًا وتطبيقيًا، بعد انحرافها مدى أكثر من ألف سنة، في أثنائها ترسخت الطقوس الشكلية وفروض الذبائح، والعادات والتقاليد والطبقية، ولا سيما نفوذ رجال الدين وعيشهم في البذخ والخمول. أقول هذا بالرغم من ظهور العملين الرائعين "الرامايانا" و"الماهابهاراتا" التي بلغت ذروتها الروحية في جزئها الأوسط "الباغافاض جيتا" (نشيد الرب)، بعد عدة قرون (بين القرن الثالث والثاني قبل المسيح). وبما أن غرض البحث الجاري يقتصر على إبداء السببة الروحية الكامنة وراء الأحداث العامة، فإني أترك البحث في هذين العملين إلى حيث أبحث في وحدة الأديان الجوهرية.

   ويبدو أن العناية الإلهية اتخذت خطين لإنقاذ المستحقِّين، الراغبين في الارتقاء الحقيقي من الهندوس: خطًا يستهدف تصحيح معنى الروحانية الحقيقية من حيث السلوك، وآخر يستهدفُ تصحيح المعرفة الروحية، وإزالة الطبقية بعملية اندماج ديني جديد. الخط الأول شق طريقه ماهافيرا، والثاني غوتاما بوذا.

أما ماهافيرا فقد ولد في أسرة ثرية تنتمي لطبقة "الكشاتريا" المحاربين؛ وكان والده حاكمًا. وفي حوالى الثلاثين من عمره، انتحر أفراد أسرته جميعهم بالموت جوعًا تخلصًا من العودة إلى الحياة وفق عقيدة آمنوا بها، وقد أسسها حكماءُ قبل أربعة عصور. فرفض الشابُ، إذ ذاك، أساليبَ العيش الدنيوي السائد، وخصوصًا في طبقة "البراهمة" التي تستغل وتظلمُ سائر الطبقات لزيادة ثرائها وترفها، وتخلى عن كل ملابسه إلا ما يستر العورة وجعل يجول في غرب البنغال متقشفًا، ساعيًا للمعرفة ولتطهير نفسه. وبعد 13 عامًا من إنكار الذات، انضم إليه جماعة من التلاميذ، وسموه "جينا" (الغالب)، أي الأخير من كبار الحكماء الأربعة والعشرين الذين جعلتهم أقدارهم التي استحقوها أن يظهروا في أزمنة منظمة ليُنيروا شعب الهند. وقد أنشأ ماهافيرا نظامًا للرهبان، وآخر للراهبات. وعند موته في عمر الثانية والسبعين، بلغ عدد تلاميذه 14 ألف.

   ومن أهم تعاليم ماهافيرا انَّ المعرفة الروحيَّة نسبيَّة، وأنَّ "الفيدا" ليست موحاة، وأن النفوس العاقلة تحتل كل شيء، حتى الحشرات والهواء والماء والنار. أما التقمص فيسري نظامه على الكل، ولا يخلص منه إلا أرواحٌ سامية كاملة نقية تحيا أشبه بالآلهة في عوالم قصية., وبلوغ هذه العوالم الروحية يستحيل تحقيقه إلا بالتقشف الكامل، والامتناع عن السرقة والكذب والملذات الحسية بما فيها شهواتُ الجسد، وعدم إيذاء حتىى الحشرات التي عليهم أن يُزيجوها برفق من طرقهم عند المسير، وعدم قتلِ الحيوان أو أكل لحمه، أو إتيان العنف بأي وجه؛ وهو ما أخذ به غاندي الذي يعتبره الجاينيون واحدًا منهم. ولكن الخاصة التي تنفرد بها الجاينية هي اعتقادها أن الكون أزلي، وليس له خالق وأن التحولات التي تحدث فيه تعود إلى قوى من ضمنه. فضلاً عن ذلك فهي تبشر بالتسامح الديني، وتقف من سائر الأديان وقفة غير نقدية. وهم يكرمون قديسهم ويمثلونهم بالأيقونات، لكنهم لا يعتبرونهم بمستوى الأرواح الإلهية.

 لكن معضلة "المنبوذين" ونظام الطبقية وتجاوزات رجال الدين البراهمة لم تحلها الجاينية، إذْ كان تأثيرها ضعيفًا في المجتمع؛ الأمر الذي مهد الطريق لنشوء حركات فلسفية، تشكيكية وإلحادية، عُرِفت بـ"ناستيك". وكان أصحابها يجتمعون في القاعات داخل القصور حيثُ يمنح الأمراءُ، أحيانًا، الغالبين منهم في النقاش جوائز، كما يجولون في الشوارع والغابات، وخصوصًا شمالي الهند. وجوهرُ فلسفتهم كان يقومُ على أن المعرفة محصورة بما تقره الحواس؛ وأن الدعوة إلى الفضيلة خطأ، لأن غاية الحياة هي الحياة والاستمتاع بها، ولذا فليس من ضرورة للسيطرة على الغرائز والأهواء. يقول ديورانت عن هذه الجماعة التي تكاثرت في القرن السادس: "لقد أضعفت سيطرة البراهمة على عقلية الهند، وأحدثت في المجتمع الهندي فراغًا كاد يقتضي نمو دينٍ جديد.

   وكان على صواب، لأن العناية الإلهية، حيال هذا الفراغ، لا بد من جهة، من أن تُعاقب المُسرف في نعمائه، ومن جهة أخرى، من أن تُرسِلَ هاديًا روحيًا ينيرُ الطريق إلى خلاصٍ حقيقي.

   وإذا بذلك الهادي بوذا العظيم. ولا حاجة للتفصيل في تربيته الملكية المترفة. فالمهم، في هذا المجال، أنه، بعد أن سمع نقاش المشكِّكين والمُلحدين، في بلاط والده كما في أماكن أخرى، وأدرك أن الهند تائهة، شعرَ أن عليه أن يؤدي رسالةً روحية متعدِّدة الأهداف. من أجل ذلك بدأ بالتقشف الصارم، لا يتناول من الطعام إلا حفنة منه كل يوم، وجعل ينام على الشوك وبين الجثث، واجتث شعر رأسه ولحيته... حتى غدا ذابلاً نحيلاً جدًا. أخيرًا، رأى أن جهوده التقشفية لم تفده لبلوغ المعرفة الصحيحة، بل أشعره التقشف المسرف بنوعٍ من الادعاء والكبرياء. فتخلى عنه واعتزل متأملاً بأسباب الحزن والألم والمرض والهرم. والموت. فرأى أن كل ذلك سببه عودة الولادة بعد الموت، وحدوثُ الخيبات بعد الرغبات والاطمئنان... فتأكد له أن تكرر الولادة في الأرض هو الشر كله.

   لقد ركز بوذا تعاليمه على الخلقيات، بالدرجة الأولى، على الحب والرحمة وإنكار الذات والشفقة، وكذلك على الامتناع عن الأذى وشهوة الجسد والتناسل، والكذب والسرقة. أما الطقوس وشعائرُ العبادة واللاهوت والميتافيزيقا فلم يهتم بها؛ حتى اللانهاية والأبدية والسماوات كان يرفضً البحث فيها، لأنه لا يفيدُ ارتقاء الإنسان ولا يمنحُ النفسَ سلامًا، إنما يزيدُ النقاش حدةً، وربما يولدُ عداوة. وكان يتهكم على كهنة الهندوس، وعلى ادعائهم المعرفة الصحيحة، وعلى اعتقادهم أن "الفيدا" موحاة، ويرفضُ فكرة تقديم الذبائح للآلهة، بل يستفظعُ نَحرَ الحيوان من أجل ذلك. وأنكرَ عبادةَ أية كائنات متفوقة، وكذلك التعازيم والتعاويذ، وجميع أنواع التقشف المتطرف. كذلك أنكر أن يكون العقابُ والثوابُ صادرين عن إلهٍ أو آلهة، إذ اعتبرهما نتيجة لأعمال الإنسان ورغباته في حياته الحالية أو السابقة.

   لكن التعاليم البوذية لم يتح لها أن تنتشر كثيرًا في الهند حيثُ نظامُ الطبقية، إذْ إن دعوة بوذا جميع الطبقات إلى الانخراط في الدين الجديد أغاظ البراهمة جدًا، إذ كان يقول لتلاميذه: "اذهبوا إلى جميع البلدان وبشروا بهذا الإنجيل.

قولوا لهم إن الفقراء والطبقات الدنيا والأغنياء والطبقات العُليا هم جميعًا واحد، وأن جميع الطبقات تتحدُ في هذا الدين مثلما تتحدُ الانهارُ في البحر" (Durant.pp.433-434). وغضبُ البراهمة الذين كانوا ما يزالون يسيطرون سيطرة شبه تامة على الشعب جعل البوذية تهجر الهند إلى كثير من البلدان المجاورة حيث أصبحت الدين الرئيس فيها.

   ويبدو أن نظام العدالة الإلهية المبنى على السببية الروحية اقتضى أن يبقى المجتمع الهندوسي، ولا سيما ملايينُ المنبوذين، تحت ربقة رجال الدين من جهة، والقيود الطبقية من جهة خرى، وأن يظل راسفًا تحت نير الاحتلال الأجنبي ألفًا وخمسمئة سنة أخرى كانت مدى استحقاقه الروحي قبل أن تنعم السماء عليه برحمةٍ تجسدت في شخص هادٍ عظيم هو المهاتما غاندي. ذلك الروحاني القديس الذي عاش متعففًا، متقشفًا، صادعًا بالحقيقة، صارخًا بصوت ضميره، شُجاعًا بإعلان الحق، داعيًا إلى إبطال نظام الطبقات، ولا سيما طبقة المنبوذين المظلومين، رافضًا العنف والعصيان المسلَّح لتحرير الهند من الدولة البريطانية الجبارة، مؤولاً ما جاء في كتب الهندوسية المقدسة تاويلاً يتفق مع العقل والمنطق السديد والضمير السامي. لكنه جزاء لحياته الوادعة النقية ودفاعه عن الحق والعدالة اخترقته رصاصةٌ شيطانية من يد هندوسي ينتمي إلى طبقة البراهمة الحاصرة فيها روح الألوهية. وقد رثاهُ مؤسس الداهشية، منذ مصرعه في 30/1/1948، وذكر فضائله في قطع كثيرة انتثرت في كتبه. ومما قال فيه مشيرًا إلى طبقة "المنبوذين": "ولكن العناية الساهرة لم تهمل هذه الطائفة البائسة، فقد قيَّضت لهم فيلسوف الهند وقديسها المجاهد الأول: غاندي؛ هذا الرجل النحيل، العازف عن تفاهات هذا العالم الحربائي التلونات؛ هذا الضئيل في جسده، الجبار في عقليته؛ هذا القميء الذي تهتز له أكبر وأعظمُ دولةٍ على هذه الأرض ، هذا الذي تكاد الملايين تعبده لأنها تتأكد من نقاء كفه وصفاء سريرته، وأنه يعمل لأجل إسعادها. فلا الرشوةُ تستطيع أن تناول من طهارة ذمته، ولا التهديد يتمكن من أذنيه؛ أما الوعيدُ فإنه يحتقره ولا يعبأ بشأنه. إن حياة هذا الرجل الكامل لهي أعجوبة جديرة بأن تُسجَّل بأقلامٍ سماوية على طُروسٍ فردوسية. فقد قضى أكثر أيام حياته رهين المعتقلات، أسيرَ السجون، لأجل عقيدته التي ترمي لإسعاد أبناء قومه المُضطهدين..."

   فهل ستستطيعُ الإصلاحات الدستورية الهندية (1949) بشأن نظام الطبقات أن تنتصر في الهند؟ ربما. هل ستستطيع البوذية والجاينية أن تقاوما إفساد رجال الدين لهما؟ كلا، يقولُ مؤسس الداهشية.

                                                         (للبحث صلة)

Developed by Houssam Ballout        Copyright 2019 This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.nfo All Right Reseved This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.