أنا أؤمن بأنه توجـد عدالة سماويّة, وأن جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدنيا من مُنغصات انَّ هـو الاّ جـزاءٌ وفاق لِما أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور.ولهـذا يجب علينا أن نستقبلَ كلّ مـا يحـلّ بنـا من آلامِ الحياةِ ومآسيها غير مُتبرّمين ولا متذمّرين , بل قانعين بعدالةِ السماء ونُظمها السامية.

Highlighter
أحبُّ الكُتُبَ حبَّ السُكارى للخمر , لكنَّني كلَّما أزددتُ منها شرباً, زادتني صَحوا
ليس مّنْ يكتُبُ للهو كمَن يكتُبُ للحقيقة
الجمالُ والعفّــة فـردوسٌ سماويّ .
لا معنى لحياةِ ألأنسان اذا لم يقم بعملٍ انسانيٍّ جليل .
اعمل الخير , وأعضد المساكين , تحصل على السعادة .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقـوم بأعمالِ الخير نحـو ألأنسانيّة .
الموتُ يقظةٌ جميلة ينشُدها كل مَنْ صَفَتْ نفسه وطَهرت روحه , ويخافها كلّ من ثقُلت أفكاره وزادت أوزاره .
ان أجسامنا الماديّة ستمتدّ اليها يـد ألأقـدار فتحطِّمها , ثمّ تعمل فيها أنامل الدهـر فتتَّغير معالمها , وتجعلها مهزلةً مرذولة . أمّا ألأعمال الصالحة وألأتجاهات النبيلة السّامية , فهي هي التي يتنسَّم ملائكة اللّه عبيرها الخالد .
نأتي إلى هذا العالمِ باكين مُعولين، و نغادره باكين مُعولين! فواهً لك يا عالمَ البكاء والعويل!
جميعنا مُغترٌّ مخدوعٌ ببعضه البعض.
العدلُ كلمة خُرافية مُضحكة.
أمجادُ هذا العالم وهمٌ باطل، و لونٌ حائل، و ظلٌّ زائل.
لا باركَ الله في تلك الساعة التي فتحتُ فيها عينيّ فإذا بي في مكانٍ يطلقون عليه اسم العالم .
أنا غريبٌ في هذا العالم، و كم احنُّ إلى تلك الساعة التي اعود فيها إلى وطني الحقيقيّ.
الحياةُ سفينةٌ عظيمة رائعة تمخرُ في بحرٍ، ماؤه الآثام البشريَّة الطافحة، و امواجه شهواتهم البهيميَّة الطامحة، و شطآنه نهايتهم المؤلمة الصادعة.
كلّنا ذلك الذئبُ المُفترس , يردع غيره عن اتيانِ الموبقاتِ وهو زعيمها وحامل لوائها , المُقوّض لصروح الفضيلة , ورافع أساس بناءِ الرذيلة .
الحياةُ سلسلة اضطراباتٍ وأهوال , والمرءُ يتقلَّب في أعماقها , حتى يأتيه داعي الموت, فيذهب الى المجهولِ الرهيب , وهو يجهلُ موته , كما كان يجهلُ حياته .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقومَ بأعمالِ الخير نحو الانسانيّة .
المالُ ميزان الشرِّ في هذا العالم .
السعادةُ ليست في المال , ولكن في هدوءِ البال .
كلُّ شيءٍ عظيمٍ في النفسِ العظيمة , أمّا في النفسِ الحقيرة فكلُّ شيءٍ حقير .
الرُّوح نسمةٌ يُرسلها الخالق لخلائقه لأجل , ثم تعودُ اليه بعجل .
الرُّوح نفثةٌ الهيَّة تحتلُّ الخلائق , وكل منها للعودة الى خالقها تائق .
الرُّوح سرٌّ الهيٌّ موصَدْ لا يعرفه الاّ خالق الأرواح بارادته , فمنه أتتْ واليه تعود .
أنا أؤمن بأنه توجـد عدالةٌ سماويّة , وأنَّ جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدُّنيا من مُنغِّصاتٍ وأكدارٍ انَّ هـو الاَّ جـزاء وفاق لمِا أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور . ولهـذا يجب علينا أن نستقبل كلَّ مـا يحـلُّ بنـا من آلام الحياة ومآسيها غير م
الحرّيةُ منحة من السماءِ لأبناءِ ألأرض .
الموتُ ملاكُ رحمةٍ سماويّ يعطف على البشر المُتألّمين , وبلمسةٍ سحريّة من أنامله اللطيفة يُنيلهم الهناء العلويّ .
ما أنقى من يتغلّب على ميولِ جسده الوضيع الفاني , ويتبع ما تُريده الرُّوح النقيّة .
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
الراحة التامّة مفقودة في هذا العالم , وكيفما بحثت عنها فأنت عائدٌ منها بصفقةِ الخاسر المَغبون .
ليس أللّــه مع الظالم بل مع الحقّ.
ان الصديق الحقيقي لا وجود له في هذا العالم الكاذب.
ما أكثر القائلين بالعطف على البائسين وغوث الملهوفين والحنو على القانطين , وما أقلَّ تنفيذهم القول.
يظنُّ بعض ألأنذال ألأدنياء أنّهم يُبيّضون صحائفهم بتسويدِ صحائف الأبرياء , غير عالمين بأنَّ الدوائر ستدور عليهم وتُشهّرهم.
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السَّلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
رهبة المجهول شقاء للبشرِ الجاهلين للأسرارِ الروحيَّة , وسعادة للذين تكشّفت لهم الحقائق السماويَّة .
الموتُ نهاية كل حيّ , ولكنه فترة انتقال : امّا الى نعيم , وامّا الى جحيم .
الحياةُ خير معلِّمٍ ومُؤدِّب , وخيرَ واقٍ للمرءِ من الأنزلاقِ الى مهاوي الحضيض .
حين تشكُّ بأقربِ المُقرَّبين اليك تبدأ في فهمِ حقائق هذا الكون .
مَنْ يكون ذلك القدّيس الذي لم تخطرُ المرأة في باله ؟ لو وجدَ هذا لشبَّهته بالآلهة .
المرأة هي إله هذه الأرض الواسع السُّلطان. و هي تحملُ بيدها سيفاً قاطعاً لو حاولَ رجالُ الأرض قاطبةً انتزاعه منها لباؤوا بالفشلِ و الخذلان .

أبعادة العدالة لدى مؤسس الداهشية (2)

العدالةُ في الحكم

                                             بقلم الدكتور غازي باركْس

العدالةُ لدى مؤسس الداهشية ذاتُ ثلاثة أبعادٍ رئيسة، هي العدالة في التعامل بين الناس، والعدالة في الحكم، والعدالة بين الشعوب. وقد مهدتُ، في العدد السابق، بإيضاح نظام العدالة الإلهية الشامل في فكر الدكتور داهش، ونتائجه الظاهرة في أوضاع البشر، ثم فصَّلت مفهوم العدالة في التعامل بين الناس مركزًا على ثلاثة أوجهٍ منها تتمثل في عدالة التعاطي بين الرجل والمرأة وبين المرشد الديني والمؤمن، وبين المستثمرين والزبائن، ومبينًا أن العدالة في التعامل تقوم على أساسٍ عام هو الصدق بمعناه الواسع الذي يشمل الاستقامة والأمانة والإخلاص فضلاً عن الصراحة.

وفي هذا المقال سأتناولُ المفهوم الداهشي للعدالة في الحُكم من خلال الأنظمة السياسية، وسلطات الحُكم الثلاث، وأنظرُ في أساليب العقوبة، وواجب الثورة على الحكام الفاسدين.

الأنظمة السياسية

منذ صيف عام 1969 ، بدأ مؤسس الداهشية رحلاته حول العالم بغية تعرف الشعوب عن كثب في معالمِ حضاراتها، كما في عاداتها وأخلاقها ومحاسنها وسيئاتها؛ فزار مُعظمَ الدول في آسيا وإفريقيا وأُوروبا وأمريكا الشمالية، ودون رحلاته في سلسلة "الرحلات الداهشية حول الكرة الأرضية" في 22 مجلدًا. ومن خلال تعاطيه مع الأفراد والجماعات حيثما ذهب، تحصلت له خبرةٌ أيدت نظرته الثاقبة الصائبة المبنية على معرفته الروحية الخارقة. وفي مطلع عام 1982، إذْ كان في فندق بدفورد بباريس، كتب كلمةً انطوت على خُلاصةِ نظرته في الأنظمة السياسية المهيمنة على العالم. وقد جاءَ فيها: في عصرنا الحالي لا تسمعُ إلا بالنظم الديمقراطية، والدكتاتورية، والرأسمالية، والاشتراكية، وسواها وسواها من المضحكات المبكيات على اختلاف اشكالها وألوانها واتجاهاتها. وقد سلبت من الإنسان روح إنسانيته بعدما أوقعته في شباكها اللعينة الكاذبة، وأسرته، فإذاهُ آلةٌ مسيرة غير مخيرة. لقد اصبح خاليًا من التعاطف والتواد والتراحُم والشعور الإنساني المتبادل بين الإنسان وأخيه الإنسان.

فإذا لم ينبذ الجميعُ هذه العقائد الإلحادية القذرة، فسيبقون راسفين في قيودهم الشيطانية التي تشد على أعناقهم لتوردهم موارد التهلكة.

إن العودة إلى الدين هي طريقُ الخلاص للجميع، ففيه يجد الإنسانُ راحته وأمنه، وفيه يجدُ قلبه وقد اطمأن، وروحه وقد استقرت.

إن الدين هو الطريق الوحيد الذي يقودُ إلى واحةِ الأمان والطمأنينة. فعليكم بالعودة إليه والسير في طريقه المستقيمة، لكي يكون معنى لحياتكم واستقرار لوجودكم الذي عصفت به المادية عصفًا مبيدًا.

فالحياةُ بدون القيم الروحية السامية جحيم مخيف رهيبٌ بنتائجه المزلزلة.

ماذا يمكننا أن نستنتج من موقف الدكتور داهش السابق من الأنظمة السياسية المعاصرة، إذا استلهمنا نظرته الروحية الشاملة التي استمد منها موقفه؟

أولاً – إن الأنظمة السياسية لا معنى لاختلاف تسمياتها إذا اتفقت في نتائجها الوخيمة على الإنسان.

ثانيًا: لا يكون الإنسانُ إنسانًا إلا بقدر ما يتمتع بروحٍ إنسانية تتجلَّى في "التعاطف والتواد والتراحُم والشعور الإنساني المتبادل".

ثالثاً: البشرُ إخوةٌ في أسرةٍ واحدة، ويجبُ ألا يفصل بينهم لون أو عرقٌ أو معتقد أو قومية.

رابعًا: إن للأنظمة أشكالاً برَّاقة تجتذب الإنسان في مراحل زمنية معينة، لكن هذه الأشكال البرَّاقة ليست إلا شباكًا تأسره وقيودًا تكبّل حريته الروحية، فيصبح عبدًا للنزعات المادية أو القومية أو العرقية. وبدل أن يساعد النظام الإنسان على تناميه وتفتحه الإنساني، يخنقه ويزرع الشقاء في نفسه.

بناء على ذلك يمكن أن يُقاس صلاح نظام ما بقدر ما تتهيأ فيه ثلاثة عناصر هي الحرية والعدالة والروح الإنسانية. ولئن تهيأت الحرية والعدالة نسبيًا في بعض الأنظمة المعاصرة، فإن الروح الإنسانية مفقودة منها جميعًا فما ضمان إدخال الروح الإنسانية إلى النظام السياسي؟ في رأي مؤسس الداهشية الضمان الوحيد لذلك هو العودة إلى الدين؛ لا إلى قشور الدين وأعراضه المتمثلة بطقوسه وشعائره أو حدوده الاجتماعية التي أملتها الظروف المحيطة بنشأة الدين، بل إلى جوهره المتمثل بالقيم الروحية السامية. فالقشور والأعراض هي التي تفرق دينا عن آخر، والمُغالاة في التشبث بها تؤدي إلى عصبيةٍ عمياء، طالما أضرَّت بالدين والإنسان، وطالما أشعلت الفتن والحروب؛ في حين أن الجوهر الروحي واحدٌ في الأديان كلها.

إذًا لا يدعو الدكتور داهش إلى جعل دينٍ معينٍ يسيطر على الدولة، فالدين الواحدُ، من حيث هو تنظيم بشري، ليس بإمكانه السيطرة على دولة ما إلا بأعراضه. وهذه الهيمنة، إذ حدثت، تجعل الحرية والعدالة في خطر، والمؤمنين بسائر الأديان والعقائد في مستوى أدنى. وبدل الأخوَّة الحقيقية الموحِّدة والمطمئنة، يقوم سيّد ومسود، ومستثمِر ومستثمَر، ويشيع الشعور بالحرمان والظلم لدى الأقليات أو المستضعفين، وهذا ينفي الحرية تدريجيًا ويقضي على العدالة والأمان.

خلاصة القول إن ما يدعو إليه الدكتور داهش هو جعل القيم الروحية أساساً حيًا في كل نظام سياسي. والقيم الروحية نجدها في جوهر الأديان جميعًا فإذا خلا منها دين، فهو يبطل أن يكون دينًا حقيقيًا لفقدانه الهداية الروحية.

وفي نظام سياسي أساسه القيم الروحية، لا يكون الحاكم ولا المحكوم أسيرين للنزعة المادية التي تستهدف كنز الثروة على حساب حرمان الآخرين، ولا رهن النزعة المادية التي باسم الحرية تبيح كل محرمٍ وكل شهوةٍ بهيميةٍ مجاملة لكل حركةٍ تحررية إباحية متطرفة لا يُقيّدها وازعٌ ولا رادع.

وبما أن الأنظمة السياسية المعاصرة قد تساوت في سلبها "من الإنسان روح إنسانيَّتة"، فمن البديهي أن تصبح المفاضلة، لدى مؤسسة الداهشية، مقصورة على مدى توافر مقومات الحرية والعدالة في النظام. وعلى هذا الصعيد، سبق أن رأينا أن الديمقراطية الأمريكية كانت تستهوي مؤسس الداهشية منذ أكثر من خمسين سنة، أي مذ وضع كتابه "مذكرات دينار" في أوائل عام 1946.

وجدير بالذكر أن مفهوم الدكتور داهش للنظام السياسي العادل هو قريبٌ من مفهوم المهاتما غاندي في الغاية التي يجب أن يهدف إليها، وهي حماية حقوق الإنسان الأساسية والعمل على تنميته الروحية. كذلك يلتقي مع أفلاطون وأرسطو في أن بناء الدولة يجبُ أن يقوم على الفضيلة، وعلى تشجيع المواطنين على طلبها وممارستها في تعاملهم. وبذلك يختلفُ مفهومُ الدكتور داهش للنظام السياسي اختلافاً أساسياً عن مفهوم الحكم الماكيافلي القائم، لا على الفضيلة والقيم الروحية، بل على المراوغة والبطش والقوة، واستخدام أقذر الوسائل وصولاً إلى الغاية.2

سُلُطاتُ الحُكمِ الثلاث

   إن ما عاناهُ مؤسسُ الداهشية من ظلمِ طاغيةِ لبنان شحذ رأيه المبدئي الحاسِمَ في رفضِه لكل سلطةٍ مستبدَّة، لأن الاستبداد يؤدِّي غالبًا إلى ظلم الرعية. فالرئيس المستبد يجرفُه الصلفُ والتجبر إلى الطغيان، والطغيان يعني تخطي القوانين والدستور إن كان ثمة وجودٌ لها. وهذه التجربة  تمثلت واقعياً في ما يسمى بـ"ديمقراطية" لبنان عهد بشاره الخوري (1943 – 1952) الذي ما زال اللبنانيون يعانون عواقبه الوخيمة، لأن بذور الفساد التي زرعت منذ نصف قرن ما زالت تنمو وتعطي ثمارها المرة. فرئيسُ السلطة التنفيذية الذي يتجاوز صلاحياته، ويضرب بالدستور عرض الحائط، لا يكون رئيسًا ديمقراطية حقيقيًا، بل رئيسٌ مستبد في نظامٍ ديمقراطي لم تطبق مبادئه.

كذلك السلطة التشريعية إذا لم تؤدِ دورها مثلما يجب، تصبح مجرد واجهةٍ كاذبة لحكمٍ ديمقراطي كاذب.

فمجلس الأمة يجب أن يكون مستقلاً برأيه، معبرًا عن مصلحة الشعب، وصائنًا للحريات التي يضمنها الدستور، وليس خانعًا خاضعًا لنزوات الرئيس التنفيذي.

   كما إن السلطة القضائية إذا لم تؤد دورها مثلما يجب، تغدو وسيلة قمع للحريات ووسيلة تعذيبٍ وإذلالٍ للمواطنين. وهذا ما وقع فعلاً في لبنان عهد بشاره الخوري الذي جعل القضاءَ أداةً طيعةً لتنفيذ مآربه الشخصية ومصالحه العائلية.

   يقول مؤسسُ الداهشية في رسالته الأولى إلى الدكتور حسين هيكل، رئيس مجلس الشيوخ المصري ورئيس الحزب الدستوري في الأربعينات:

   إن الدستور اللبناني، يا أخي، أشبهه ببيتِ عنكبوت واهي الخطوط لا يقوى على مجابهة النسيم الخفيف خوفًا من تمزيقه، بل ملاشاته ودكِّ آثاره دكَّا. ومن العارِ أن نقولَ إننا شعبٌ ديمقراطي دستوري ما دُمنا لا نطبقُ القولَ بالفِعل، وما دامَ في لبنان ظلمٌ خطيرٌ هائلٌ كهذا.

   كما إن المؤسف والمخيفَ جدًا هو عدمُ اهتمام النواب برفعِ حيفٍ صريحٍ كهذا! واأسفاه!

   وبعد كل ذلك يتبجحون بالقانون، والدستور، والعدالة!...

حديثُ خُرافةٍ يا أم عمرو...

   إنها كلماتٌ جوفاءُ لا معنى لها(...) ما دامَ القانونُ لا يطبقُ إلا بطريقةٍ كيفيةٍ تجرُّ وراءها المآسي  والكوارث وأخطر الأحداث.

أما السلطة القضائية في البلدان الراقية فقد أعلن الدكتور داهش بعض مهامها في رسالته الثانية التي رد فيها على رسالة الدكتور حسين هيكل المؤخرة في 9 أوغسطس (آب) 1951:

في كل البلدان الراقية يكون القضاء سياج الحريات المهدَّدة من الحكام والمتنفذين، ويقف في وجوههم شاهرًا سيفه ذا الحدَّين لبتر رغباتهم وردّ كيدهم إلى نحرهم، وانقاذ من يريديون افتراس حرياته، ودوس حقوقه، والاعتداء على حقِّه بباطلهم:

إذًا الديمقراطية لا تستتمُّ معناها إلا إذا كانت السلطات الثلاث منفصلة، مثلما هي الحال في البلدان الراقية، وقادرة على تنفيذ مهامها ففي حدود الصلاحيات الدستورية المُعطاة لها. أما أن يتضمن الدستور بنودًا تبقى حبرًا على ورق، أو لا ينفذ منها إلاَّ ما يوافق مصلحة الرئيس التفنيذي، ففي هذه الحال لا معنى للدستور ولا للديمقراطيَّة. مثال ذلك أنَّ المادّة الستين من الدستور اللبناني تلقي التبعة على رئيس الجمهورية في حال خرقه الدستور، وتوجب محاكمته أمام "المجلس الأعلى". لكن "المجلس الأعلى" المنصوص عليه في المادة الثمانين من الدستور لم يرَ النور، ولم يجرؤ أحد من النواب على المطالبة بتنفيذ بنود الدستور كاملة.

نموذج الحاكم الفاضل

يقول الدكتور داهش، بلسان "الدينار" بطلِ قصته الفذة "مذكرات دينار".

دُهشت كثيراً عندما شاهدتُ البساطة التي تمت بها مقابلتنا لجلالة الملك فيصل الأول (1883 – 1933 )، الديمقراطي الصحيح وابن الشعب، هذا الذي التفَّتْ حوله القلوب تفتديه بالمهج والأرواح، هذا الملكِ الذي يسير بين أفراد شعبه دون حاجةٍ لحراسته لأنه ليس له عدو يخشى منه على حياته الغالية على قلوب العرب.

 

من هذه الفقرة نستنتجُ عدة أمور:

الحاكمُ الديمقراطي، برأي الدكتور داهش، ليسَ من المحتوم أن يكون في نظام جمهوري. فرئيسُ جمهورية قد يكون حاكمًا مستبدًا، دكتاتورًا، وملكٌ قد يكون ديمقراطيًا صحيحًا. فالديمقراطي هو من يشعر أنه فردٌ من الشعب، يتحسس حاجات أبناء الشعب، ويشاركهم في آلامهم، ويشعر بحرمانهم بحيث لا يكون له عدوٌ في الشعب، فيسير بين الناس دون حراسة. وهذا يُذكرنا بالخليفة العادل عمر بن الخطاب. فحيثما يشيعُ العدلُ وينتفي الظلم، يطمئن الناس، وتتجه قلوبهم إلى الحاكم.

   لكن مثل هذا الحاكم، ملكًا كان أم رئيسًا تنفيذيًا منتخبًا، سواءٌ اختاره الشعب مباشرةً أم اختاره المجلس التمثيلي، لن يكون "ديمقراطيًا صحيحًا وحاكمًا فاضلاً ما لم يتمتع بنبلِ النفس وحميدِ الخصال؛ وهذا يوجبُ الترفعَ عن كل ما يغري من وسائل فيها كسبٌ لمغانم شخصية أو عائلية أو حزبيَّة أو فيها حتى مجالٌ للتسلط على الناس. ولا يتم ذلك إلا بتواضُعٍ فطري في الإنسان. فإذا استحال على الحاكم أن يكون مثل غاندي، الإنسان الكامل، فيجب أن يتحلَّى، على الأقل، بالتواضُع والشعور الإنساني الصادق. فمن العسير جدًا أن يكون حاكمٌ "ديمقراطيًا صحيحًا" من غير أن يكون فاضلاً بمعنى من المعاني. فأن يعيش الحاكمُ عيشًا أرستقراطيًا باذخًا مُغرقاً في الرفاهية والترف، بينما يكون كثيرون من شعبه غارقين في الفقر والبؤس، يُنافي روحَ الديمقراطية الصحيحة.

   هذا يؤدي بنا مجددًا إلى ضرورة أن يكون نظامُ الحكم مبنيًا على القيم الروحية التي ينطوي عليها جوهرُ الأديان جميعًا.

   لكن للحاكم الديمقراطي صورةٌ أخرى لدى الدكتور داهش، إنها صورة سعد زغلول (1857 – 1927)، رئيس الوزارة المصرية في العشرينيات من فترة الانتداب البريطاني الصعبة على مصر.

   فمن خلال ما كتبه عنه الدكتور داهش في "مذكرات دينار" نستنتجُ أن قوة سعد زغلول مستمدة من حب الشعب له، ومن معالجته الأمور بحكمةٍ سياسيةٍ وروح وطنية حقيقية، كما من شجاعته في مواقفه ضد المتسلِّطين الإنكليز، وثباته في جهاده رغم العراقيل والمصاعب الكثيرة.

والشجاعة في مواجهة الأزمات مع الحكمة السياسية من أهم مزايا الرئيس الناجح. وبهاتين المزيتين يمتدح الدكتور داهش الرئيس جون كِندي ولا سيما في معالجته قضية الصواريخ السوفياتية في كوبا.

واجباتُ السلطات العادلة تجاه الشعب

لقد رأينا أن النظام الصالح، في رأي مؤسس الداهشية، يمكن أن يقاس صلاحه بقدر ما يتهيأ فيه ثالوثُ الحرية والعدالة والروح الإنسانية، وأن أسس هذا الثالوث قائمةٌ في القيم الروحية السامية التي ينطوي عليها جوهر الأديان السماوية كلها، دونما تفريق بينها.

   وبناءً على هذا الأساس الروحي تترتبُ على السلطان العادلة عدةُ مسؤولياتٍ تجاه الشعب:

   أولاً – بما أن الحياة والحرية منحتان إلهيتان، وجبَ على الدولة العادلة، استنتاجًا، أن تصونَ سلامة الأفراد وتحافظ على حرياتهم، وتدفعَ كل خطرٍ أو ضررٍ قد يتهدد حياة المواطن أو ممارسة حرياته. ]أنظر أبعاد الحرية لدى مؤسس الداهشية"، صوت داهش"، عدد آذار (مارس) 1997[.

ثانيًا- صيانةُ الحياة والحريات، استنتاجًا، توجبُ على الدولة العادلة أن تسنَّ القوانين التي تضمنُ تلبية الحاجات الأساسية التي بدون إشباعها يُهددُ وجودُ الإنسان ماديًا أو معنويًا فالحاجاتُ الماديةُ الأساسية هي المأوى والمأكل والملبس والصحة، والحاجاتُ المعنوية التي بدونها لا يكونُ الإنسانُ إنسانًا هي الثقافة.

   ولكي يستطيع المواطنون أن يقوم كل منهم بواجبه ودوره في تلبية حاجاته الأساسية المادية والمعنوية، يترتب على الدولة العادلة أن تضع أمامهم فرصًا متكافئة ليعملوا، ويحصلوا من أعمالهم ما يسدُّ كلفة تلك الحاجات الأساسية. وإذا تعذر على فئةٍ من المواطنين لأسباب قاهرة، أن يسدوا حاجاتهم الأساسية بأنفسهم، فعلى الدولة العادلة أن تستلهم "الشعور الإنساني المتبادل". و"القيم الروحية السامية" في العطف عليهم ومساعدتهم.

   وهذا الأمر يستلزم سنّ قوانين إنسانية، وقوانين تضع حدودًا لجشع التجار والمستثمرين، بحيث لا تكون الحرية الاقتصادية وسيلة لقتل الضعيف وتكثير الفقراء، وتوسيع الهوة بين الأثرياء جدًا والمعدمين. يقول الدكتور داهش، إذ يلاحظ فرقًا كبيرًا في ثمن سلعةٍ بين نيويورك وفرجينيا: "إنها سرقةٌ كبرى! في مثل هذه الحالة يجبُ على الحكومة أن تحدِّد الأرباح لهؤلاء التجار الجشعين". وكثيرةٌ هي تعليقاته على جشع التجار الأشعبي في رحلاته، حتى إنه يجعل هذا الجشع الحرام سببًا من أسباب الحروب التي تنكبُ الأغنياء أكثر مما تنكبُ الفقراء، فيقول: "هي عدالةُ الله هذه الحروب الضروس التي تُفني الزرع والضرع فلو لم يستحق الناس هذه النكبات المزلزلة. لما أدَّبهم الله بنسبة استحقاقاتهم".

   وبكلمة أخرى إن النظام الاقتصادي المتَّبع يجب ألا يُبعدَ الإنسانَ عن إنسانيته ويفقده جوهره. فإذا كان همّ الإنسان الأول التركيز على جمع المال وإنمائه، يُصبح قلبه حيث كنزُه، وتبتعدُ عاطفته حتى عن أسرته. وهذا الإدمانُ في تكديس الأموال، إذا أصبح غاية، يخدرُ ضمير الإنسان، ويدفعه إلى الجشع وبالتالي الظُّلم.

   وفي مثل هذا النظام الرأسمالي الذي لا يضبطُه ضابط، يُصبحُ العمالُ والموظفون أنفسُهم مهدَّدين أيضًا بالابتعاد عن الغاية الروحية، إذ يجعلون أصحاب رؤوس المال مثلهم العليا، يحتذون خطاهم، ويفرغونَ أنفسهم من الشعور الإنساني. وهذا يقودهم، في أكثر الأحيان، إلى التخلي عن عملٍ يحبونه ويجدون فيه عزاءً وتحقيقًا لذاتهم وتعبيرًا عن شخصيتهم، من أجل عملٍ آخر لا يحبونه، ولكنه يكون مصدر مالٍ أكثر لهم. والغايةُ الماليةُ قد تطيحُ بهم خارج الطريق القويم، فيلجأون إلى المحرَّمات والأعمال غير المشروعة، لأنها تدُّر عليهم مالاً أكثر في طريق أقصر. والمفاسدُ والشرورُ التي يتمخصُ بهما المال إذا أصبح غاية الإنسان العُظمى، أي معبودَه، عرضَها مؤسسُ الداهشية في كثيرٍ من كتاباته.

   كذلك إذا حاصرَ الجهلُ فئةً من المواطنين، فإن مجالُ حرياتهم يضيق، كما يضيقُ مجالُ عملهم، وتكافؤ الفُرَص ينتفي، إذْ ذاك، أمامهم. بل إن الحرية الحقيقية في الاختيار والتمييز بين الصالح والطالح، والخطأ والصواب، والحق والباطل، تُصبحُ بحُكمِ الملغاة.

ولذا شدَّد مؤسس الداهشية، في كتاباته كما في أحاديثه بمجالسه الخاصة، على أهمية العلم وجلال العقل وضرورة الثقافة وتوفير المدارس؛ وقد أيدَ أقواله بأعماله فأنشأ أكبر مكتبه خاصة في البلاد العربية (حوالى ربُع مليون كتاب)، وأنشأ متحفًا فنيًا يكاد يُضارع المتاحف الدولية الكبرى (وهو قائم في مدينة نيويورك). والثقافةُ الضرورية تشتملُ على مد المواطنين بالعلوم والآداب والفنون. فالعلومُ تُساعدُ على تنمية المدارك العقلية وتصويب المنطق، والآدابُ تُساعدُ على تنمية نزعات الخير وتهذيب النفس، والفنون تُساعدُ على تنمية حِسِّ الجمال لدى الإنسان ليُصبح قادرًا على إبداع الجمال أو تذوُقه، وعلى استشفاف مظاهر الجمال الروحي في كل إبداعٍ جميل، طبيعيًا كان أم إنسانيًا؛ ذلك بأن في كل جمال حقيقي ملمحًا من ملامح الألوهة يجذبُ الإنسانَ إلى فوق، إلى مصدر الحقِّ والخير والجمال.

   ثالثًا- يتوجب على الدولة العادلة أن تختار ذوي الأخلاق الحميدة والنفوس النبيلة لتسنم المناصب الرفيعة. فالجدارةُ الثقافية والخبرة لا تكفيان وحدهما لتولي المنصب الرفيع؛ ذلك بأن أصحاب النفوس اللئيمة والأخلاق الوضيعة، إذا جعلتهم الظروفُ يحتلون المناصب العالية، لا يمكنهم أن يكونوا عادلين، لأنهم بتأثيرٍ من طبيعتهم الرديئة سيتصرفون. ومن واجب الحكام ألا يُفسِحوا الفُرَصَ أمام أمثال أولئك اللؤماء، لينزلوا الظلم بالناس. ويرى الدكتور داهش أن في رأس أولئك الموظفين القناصل والسفراء وممثلي الدول على مختلف الأصعدة. فالممثل مرآة لحكومته وأمته. ولذا يجب أن يكون من الطبقة الرفيعة في أخلاقه وآدابه كما في علومهن ومقدرته. فإذا لم تكن تربيته عالية، وتصرفاته نبيلة، وأقواله صادقة، سيَّرته ميوله الوضيعة وغاياته الشخصية الدنيئة.

   كذلك من واجبات الحكومة أن تُطارد الفوضويين واللصوص والمجرمين وتطهر البلاد من شراذم الفجار والفاسقين، وتضع حدودًا خلقية للحرية حتى لا يكون مناخها المبارك موبوءًا بالجراثيم النفسية الفتاكة.

   أما السلطة القضائية فيجبُ ألا تميز بين إنسان وآخر من حيث الغنى والفقر، أو الوجاهة والوضاعة، أو قوة النفوذ السياسي وضعفه؛ فجميعُ المواطين يجبُ أن يكونوا سواسية أمام القانون. والصورةُ الواضحة في كتابات الدكتور داهش في صورة  العدالة في لبنان في العهد الخوري مقارنة بالعدالة في أمريكا. فالقاضي في لبنان هو رهنُ نزوات الرئيس التنفيذي وأعوانه، يجعلُ الأبيض أسود والأسود أبيض، يهشم القوانين ويرقصُ على أشلالها، يحكمُ حكمًا صارمًا على من يسرقُ الرغيف من أجل سد جوعه وجوع أطفاله، بينما يُشاركُ سارق الألوف والملايين في مغانمه الحرام؛ يتزلفُ للمرأة النافذة ويتملقُها، بينما يراودُ الفقيرة الضعيفة عن نفسها وبيتزها؛ فلبنان كان منكوبًا "بقضاةٍ مسخَّرين لارتكاب الآثام وطمسهم للحقّ وإعلائهم للباطل"12 أما القضاء في أمريكا فيقول عنه: "إن أعظم عظيم يتساوى ]فيها[ مع أحقر حقير، فلا سائد ولا مسود في كافة أرجاء البلاد...".

وفي ردٍّ على مقال كتبه الأديبُ اللبناني، القاضي راجي الراعي عام 1948، يحثّ فيه اللبنانيين على الرجوع إلى لبنان، يقول الدكتور داهش:

أيها (القاضي الراضي) الذي لا أدري

كيف لم تبككَ (العدالة) المؤدة بإرادة (الغاصب)، بعدما شاهدته من الأحكام الجائرة.

والأمور القضائية (اللاعادلة)، وأنتَ ربُّها وربيبها، وأنتَ الناظرُ من وراء (روبك)،

ثوبك القضائي الأسود،

تلك المهازل التي تمثل كل يومٍ

بل كل ساعةٍ بل كل دقيقة،

والعدالة التي تنحرُ ليل نهار على وضح النهار لأجل تنفيذ رغبة المسيطر،

وأنت الذي عرف وتأكد مقدار الأحكام الجائرة التي لفظها زملاؤك القضاة تحت سمعك وبصرك:

كيف يا (راجي) لا تريدني

أن أثمل من العظمة الأمريكية، هذه البلاد التي ولدت فيها أنت،

والتي هي مهد للحرية الفكرية!

نعم، أيها (القاضي العليم)،

لقد سقتني أمريكا خمرتها بكؤوسها العسجدية، فسجَدتُ أمامَ عدالتها الحقيقية، وبتُّ أندِّدُ بظُلمِ الباغية وارتكاباته الجنكيزخائية

 

أساليب العقوبة

يشير مؤسس الداهشية إلى أمرين مهمين يتعلقان بتطبيق العدالة هُما: ماهية الدافع إلى المخالفة والسجون.

   ففي رأيه أن الدافع إلى الجنحة أو الجريمة يجب أن يكون له وزنٌ في تقرير نوع العقوبة. فاللصُ الذي يسرقُ بدافع الدناءة وحب الإيذاء يجبُ أن لا تساوى عقوبته بعقوبة الذي يضطر اضطرارًا، مثلاً، إلى سرقة صغيرة ليبعد شبح الموت عن ولده المريض؛ ففي الحال الأخيرة يجبُ اعتبارُ الحاجة الملحة المقرونة بعاطفة شريفةٍ هي الحافز على السرقة؛ كما يجب ألا تساوى عقوبة اللص المحترف بعقوبة تلك التي تبتاعُ ما هي بحاجةٍ إليه وتنصرف بدون دفع الثمن من جرَّاء شرود ذهنها واضطراب نفسها.

   وتطبيق القوانين في المحاكم كما بأيدي رجال الأمن يجب أن يقترن بالعطف والشفقة على الفقير والضعيف، لا سيما إذا كان المخالف غير مُدمن للإجرام أو المخالفة.

   الأمر الثاني هو السجون وما يعاني المساجين فيها. وقد أُتيح لمؤسس الداهشية أن يدخلها بريئًا، ويعاني، كما يعاينُ، الأهوال فيها. ففي 28 آب (أوغسطس) 1944 اعتقله زبانيةُ الجحيم اللبناني، وبدون محاكمة زجّوا به في "سجن الرمل" اثني عشر يومًا، وبعدها أبعدوهُ قسرًا إلى دمشق فحلب فإعزاز على الحدود السورية التركية حيثُ أمضى أربعة أيام، قادوهُ بعدها إلى الحدود التركية ليعرِّضوه إلى القتل برصاص الحامية هناك. غير أن الله أنقذهُ وأعادَهُ سرًا إلى لبنان بعد شهرٍ واحدٍ من أقصائه. وقد فصَّل رجلُ الروح والخوارق مراحل المأساة التي عاناها وفنون التعذيب الوحشي الذي قاساهُ، من ضربٍ ولكم وشتمٍ ولذعٍ بالسياط... في كتابه "بريء في الأغلال أو يوميات سجين الغدر والخيانة ". ولم تنسه آلامه أن يصف ما كان المساجين المساكين يلاقونه هنا وهناك من فتكِ رجال الشرطة الأجلاف بهم، وأن يصف حياة المساجين البائسة التاعسة.

   وكان أول ما صدمهُ في "سجن الرمل" غرفة الأحداث الجانحين، وذلك يوم الجمعة، في أول أيلول (سبتمبر) 1944. رآهم شبه عُراة، ضائعين، مهملين، تغمرهم القذارة؛ فتألم أشد الألم، وسجل ملاحظاته على قصاصاتٍ من الورق كان يُدونُ انطباعاته عليها خفيةً.

   وفي اليوم الثالث من الشهر المذكور كتب قائلاً في صدد حال الأحداث: "إن السجون جعلت للإصلاح والتهذيب". ثم كتب:

 من المعلوم أن السجون إنما وُجدت للتأديب، وليس للتعذيب.

فالداخلُ إلى السجن، مهما كان شأنه، يدخلونه رأسًا إلى الغرفة الخامسة. فترى فيها الشاعر والأديب، والتاجر والعامل، والحمَّال وبائع السوس ، والنشَّال والفحَّام، وسالب الناس وقاطع الطريق، وشتى أصحاب المهن والحرف. وهذا خطأ فاحش من المسؤولين وممن بأيديهم مقاليد الأمور.

فالواجب والحكمة يقضيان على أرباب الأمر أن يفرزوا كل فرد مع فئته. فلا يجوز، مثلاً حشر الأدباء والشعراء في غرفة واحدة مع اللصوص والقتلة. وقس على ذلك.

   فالفوضى ضاربة أطنابها بصورة مُخيفة. والحابل تراه مُختلطًا بالنابل. والعياذُ بالله!

   هذه هي كلمتي أضعها في كتابي هذا كي تبلغ من يهمهم أمر الإصلاح. هذا إذا كانوا يريدون الإصلاحَ لا الفوضىى والانتقام.

   إن هذا الأمر لرهيبٌ إذا كان ذلك الشاعرُ أو الأديبُ من المجرمين حقيقة؛ فكيف إذا كان بريئًا، ولعله يريدها أصحابُ المناصب زُجِّ بمَن قادهُ سوءُ مصيره بين أيديهم، فدفعوهُ هم بدورهم إلى هذه الغياهب الدائمة العذاب.

   ثم من الواجب أن تكون هناك أماكنُ خاصة يوضع فيها المتَّهمون دون أن يختلطوا بالمجرمين، حتى إذا ما دانهم القضاء، وقيلت فيهم كلمةُ الفصل النهائية، إذ ذاك يتصرف بهم الظالمون كيفما يشاؤون وتشاءُ رغباتهم وميولهم الانتقامية.

   ومَن يُنعمِ النظرَ في الملاحظات السابقة يُدرِك أن مؤسس الداهشية إنما أعطاها منطلقًا من قاعدة العدالة ومن مبادئ عِلم النفس الإجرامي. فالسجونُ التي يجب أن تكون للتهذيب والتأديب، جعلها الحكام الوصوليون للانتقام والتعذيب، وحشروا فيها الأبرياء مع المجرمين، والمتهمين المنتظرين صدورَ الأحكام مع المحكوم عليهم، غير مكترثين بالآلام والجروح النفسية البالغة التي يحدثها السجنُ الاعتباطي في النفوس الحساسة أو البريئة وفي 8/9/1944، أي اليوم السابق لإبعاد الدكتور داهش قسرًا عن لبنان، عثر حراس "سجن الرمل" على منشار في فراش أحد المساجين، فسكبوا على جسمه صفيحة ماء، وجلدوه جلدًا هائلاً، ثم وضعوه في زنزانةٍ منفردة. فهال الأمر رجل الروح، فكتب معلقًا: هل بلغت القسوةُ والفظاعة بهؤلاء درجة يأنفُ أن يأتي بمثلها الوحوش!" ثم أردف قائلاً: " أيجري مثل هذا ونحن في عصر الحرية والنور! أيجري مثل هذا ونحنُ في القرن العشرين!"

وكأنما يريد أن يثبت أن حُكام تلك الدول الغاشمة وموظفيها الممالئين إنما يعيشون بأجسادهم في القرن العشرين، في حين أن عقولهم وطباعهم ما زالت تنتمي إلى عصور الهمجية. كذلك يستشف من تعليقاته أنه يجعل الدول الراقية المتبجحة، عهدئذٍ، بأنها تحارب من أجل تحرير الناس من الخوف والظلم والعوز ومن أجل تطبيق شرعة حقوق الإنسان – يجعلها مشاركة في المسؤولية عما يجري في البلدان المتخلِّفة وسجونها من استباحةٍ لكرامة الإنسان وللأعراف الدولية.

   أخيرًا يجدرُ بالذكر أن عقوبة الإعدام محظرة في العقيدة الداهشية بناءً على أمر روحي أساسُه أن واهبَ الحياة وحده له حق استردادها. وإذا كان لا بد من عقوبةٍ قصوى، فلتكن السجن المؤبد مقرونا بالتهذيب والإصلاح الروحي المبني على إيضاح ناموس السببية الروحي.

الثورة على الحكام الفاسدين ضرورةٌ محتومة

اقتراف الحاكم للظلم رأسُ المفاسد التي تستدعي الثورة عليه. عام 1933، كتب الدكتور داهش "حلم غريب" وقد بناهُ على تورية، إذ جعل ديموقليس، الخطيب، يخطب في الشعب معلنًا نبوءته لما سيقع للحكومة. ومن الواضح أنه كان يقصدُ الدولة المصرية في العهد الملكي وما ارتكبته من مظالم. كان المؤلف عهدئذٍ، في الرابع والعشرين، والرسالة الداهشية لم تؤسس ولم تعلن بعد؛ ومع ذلك فنظرتُه الروحية الخارقة كانت واضحة. مما يقولُ على لسان ديموقليس:

يا مَن بيدِكُم مقاليدُ الأمور،

إن الشعبَ اختاركم

لتحكموا بينه بالعدل أحكامًا عادلة،

لا أن تكونوا جلاديه(...)

أنظروا إلى التاريخ القريب،

لا، بل إلى (الثورة الفرنسية)

التي التهمت الأخضر واليابس(...)

أخبروني أين هو الباستيل،

رمزُ الجبروت والقوة الغاشمة؟(...)

أيتها الحكومة! اسمعي (نبوءتي) الصادقة:

"إن الظلم والإرهاق اللذين تزرعينهما اليوم، ستحصدينهما غدًا: ثورةً وانقلابًا.

وفي امبراطورية روسيا المسكينة، لكِ خيرُ شاهد...".

   ولا تقتصرُ مفاسدُ الحكام الذين يستحقون طرد الشعب لهم على الظلم فحسب، بل تشملُ أيضًا، برأي مؤسس الداهشية، عدة أمور، منها: الفسق، السرقةُ من خزينة الشعب، استغلال النفوذ للاستفادة المالية، تقريبُ الحاكم لأقربائه حتى لو كانوا أغبياء، وتحكيمهم برقاب الناس، خرق الدستور بتجاوز الصلاحيات المنصوص عليها في بنوده، تسخيرُ القوانين وتأويلها لمصلحته الشخصية أو مصالح أعوانه، تزويرُ الانتخابان التدخل في أحكام القضاء، سجن المناوئين أو غتيالهم الخ... كل من هذه المفاسد تستحق الطرد، وقد جمعها بشارة الخوري كلها في شخصه.

يرى الدكتور داهش أن "التاريخ يعلمنا أنه ما من ظالمٍ غاشم إلا ولاقى شر الجزاء الرهيب..." وعلى الصعيد الروحي، يستشهد بقول المسيح:

"بالكيل الذي تكيلون يكال لكم ويزاد". وهو يذكر المظلومين بـ"أن الحق يؤخذ ولا يستجدى"، وبأنه "ما من حق ضاع ووراءه مطالب، لأن  صاحب الحق لا يعدم نصيرًا؛ وإن عدمه كان الله نصيره".

وفي العقيدة الداهشية أن على الداهشيين أن يكافحوا الظلم بجميع الوسائل، وأن الثورة على الحكام الطغاة أو الفاسدين واجبة، وأنه إذا حدث مثل تلك الثورة، تكون إصبع الروح القدسية هي التي حركتها، ليستقيم ميزان العدالة الروحية الشاملة.

   ولكن يجب الانتباه لأمر في غاية الأهمية هو أن الثورات بحد ذاتها لا تكون بالضرورة عاملاً للتقدم الحقيقي في المجتمعات البشرية؛ والتاريخ حافلٌ بالأمثلة على الفظائع التي تتمخضُ الثورات بها. حسب القارئ أن يعتبر بذيول الثورة الفرنسية والثورة البلشفية، وهما أعظمُ ثورتين في التاريخ. لكن الثورات وسيلة بشرية ضرورية يتخذها مجرى العدالة الإلهية. والأخذُ بمنهج غاندي السلمي في الثورة على المظالم والمفاسد هو الأفضل. ووحدها تعاليمُ الأنبياء والهُداة يمكنها أن تغير المجتمع تغييراً إيجابيًا وتدفعُ به صعدًا في معراج الرقي الروحي، إذا اعتنقها الناسُ صادقين، فأثرت في سيالاتهم (أي طاقاتهم النفسية) وغيرت نزعاتهم؛ (إن الله لا يُغيرُ ما بقَومٍ حتى يُغيروا ما بأنفسهم) (سورة الرعد:11)

والحكمُ أو السيادة كالثورة بين يدي الإنسان، قد يكون تجربة له كما قد يكون استحقاقًا. فإما أن ينجح فيكون عادلاً وفاضلاً، فيكافأ، وإما أن يفشلَ فيظلم ويأتي الشر، فيعاقب عقابًا شديدًا.

وفي رأي مؤسس الداهشية أن مَن لا يستطيعُ إسماعَ صوته في وطنٍ وئدتِ العدالةُ فيه وافترسَهُ الظلم، فهجرته إلى بلادٍ تُصانُ فيها الحريات أولى به. يقولُ في مقالٍ كتبه عام 1948، وقد أشرنا إليه سابقًا:

إنني لن أشتاق إلى وطنٍ تنحرُ فيه الحرية، وتذبح الحقيقة، وتُداسُ بين ربوعه العدالة، وتُهشم بين سمعه وبصره الكرامة، وتكبلُ بين جدران سجونه القاتمة الحريةُ الفكرية بزج أدبائه وشعرائه وأبريائه مع محترفي الإجرام لأنهم جاهروا بحرية أفكارهم التي تشجبُ جرائم المالكين سُعداء لزمنٍ محدود".

  

 

من كلمات الدكتور داهش

  • إن العودة إلى الدين هي طريق الخلاص للجميع ففيه يجد الإنسان راحته وأمنه، وفيه يجد قلبه وقد اطمأن، وروحه وقد استقرت.
  • ومن المعلوم أن السجون إنما وجدت للتأديب وليس للتعذيب.
  • الحياة بدون القيم الروحية السامية جحيم مخيف رهيب بنتائجه المزلزلة.
  • صاحب الحق لا يعدمُ نصيرًا؛ وإن عدمه كان الله نصيره.
  • إن السجون جُعلت للإصلاح والتهذيب.
  • الحقُ يؤخذ ولا يُستجدي.
Developed by Houssam Ballout        Copyright 2019 This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.nfo All Right Reseved This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.