أنا أؤمن بأنه توجـد عدالة سماويّة, وأن جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدنيا من مُنغصات انَّ هـو الاّ جـزاءٌ وفاق لِما أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور.ولهـذا يجب علينا أن نستقبلَ كلّ مـا يحـلّ بنـا من آلامِ الحياةِ ومآسيها غير مُتبرّمين ولا متذمّرين , بل قانعين بعدالةِ السماء ونُظمها السامية.

Highlighter
أحبُّ الكُتُبَ حبَّ السُكارى للخمر , لكنَّني كلَّما أزددتُ منها شرباً, زادتني صَحوا
ليس مّنْ يكتُبُ للهو كمَن يكتُبُ للحقيقة
الجمالُ والعفّــة فـردوسٌ سماويّ .
لا معنى لحياةِ ألأنسان اذا لم يقم بعملٍ انسانيٍّ جليل .
اعمل الخير , وأعضد المساكين , تحصل على السعادة .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقـوم بأعمالِ الخير نحـو ألأنسانيّة .
الموتُ يقظةٌ جميلة ينشُدها كل مَنْ صَفَتْ نفسه وطَهرت روحه , ويخافها كلّ من ثقُلت أفكاره وزادت أوزاره .
ان أجسامنا الماديّة ستمتدّ اليها يـد ألأقـدار فتحطِّمها , ثمّ تعمل فيها أنامل الدهـر فتتَّغير معالمها , وتجعلها مهزلةً مرذولة . أمّا ألأعمال الصالحة وألأتجاهات النبيلة السّامية , فهي هي التي يتنسَّم ملائكة اللّه عبيرها الخالد .
نأتي إلى هذا العالمِ باكين مُعولين، و نغادره باكين مُعولين! فواهً لك يا عالمَ البكاء والعويل!
جميعنا مُغترٌّ مخدوعٌ ببعضه البعض.
العدلُ كلمة خُرافية مُضحكة.
أمجادُ هذا العالم وهمٌ باطل، و لونٌ حائل، و ظلٌّ زائل.
لا باركَ الله في تلك الساعة التي فتحتُ فيها عينيّ فإذا بي في مكانٍ يطلقون عليه اسم العالم .
أنا غريبٌ في هذا العالم، و كم احنُّ إلى تلك الساعة التي اعود فيها إلى وطني الحقيقيّ.
الحياةُ سفينةٌ عظيمة رائعة تمخرُ في بحرٍ، ماؤه الآثام البشريَّة الطافحة، و امواجه شهواتهم البهيميَّة الطامحة، و شطآنه نهايتهم المؤلمة الصادعة.
كلّنا ذلك الذئبُ المُفترس , يردع غيره عن اتيانِ الموبقاتِ وهو زعيمها وحامل لوائها , المُقوّض لصروح الفضيلة , ورافع أساس بناءِ الرذيلة .
الحياةُ سلسلة اضطراباتٍ وأهوال , والمرءُ يتقلَّب في أعماقها , حتى يأتيه داعي الموت, فيذهب الى المجهولِ الرهيب , وهو يجهلُ موته , كما كان يجهلُ حياته .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقومَ بأعمالِ الخير نحو الانسانيّة .
المالُ ميزان الشرِّ في هذا العالم .
السعادةُ ليست في المال , ولكن في هدوءِ البال .
كلُّ شيءٍ عظيمٍ في النفسِ العظيمة , أمّا في النفسِ الحقيرة فكلُّ شيءٍ حقير .
الرُّوح نسمةٌ يُرسلها الخالق لخلائقه لأجل , ثم تعودُ اليه بعجل .
الرُّوح نفثةٌ الهيَّة تحتلُّ الخلائق , وكل منها للعودة الى خالقها تائق .
الرُّوح سرٌّ الهيٌّ موصَدْ لا يعرفه الاّ خالق الأرواح بارادته , فمنه أتتْ واليه تعود .
أنا أؤمن بأنه توجـد عدالةٌ سماويّة , وأنَّ جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدُّنيا من مُنغِّصاتٍ وأكدارٍ انَّ هـو الاَّ جـزاء وفاق لمِا أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور . ولهـذا يجب علينا أن نستقبل كلَّ مـا يحـلُّ بنـا من آلام الحياة ومآسيها غير م
الحرّيةُ منحة من السماءِ لأبناءِ ألأرض .
الموتُ ملاكُ رحمةٍ سماويّ يعطف على البشر المُتألّمين , وبلمسةٍ سحريّة من أنامله اللطيفة يُنيلهم الهناء العلويّ .
ما أنقى من يتغلّب على ميولِ جسده الوضيع الفاني , ويتبع ما تُريده الرُّوح النقيّة .
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
الراحة التامّة مفقودة في هذا العالم , وكيفما بحثت عنها فأنت عائدٌ منها بصفقةِ الخاسر المَغبون .
ليس أللّــه مع الظالم بل مع الحقّ.
ان الصديق الحقيقي لا وجود له في هذا العالم الكاذب.
ما أكثر القائلين بالعطف على البائسين وغوث الملهوفين والحنو على القانطين , وما أقلَّ تنفيذهم القول.
يظنُّ بعض ألأنذال ألأدنياء أنّهم يُبيّضون صحائفهم بتسويدِ صحائف الأبرياء , غير عالمين بأنَّ الدوائر ستدور عليهم وتُشهّرهم.
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السَّلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
رهبة المجهول شقاء للبشرِ الجاهلين للأسرارِ الروحيَّة , وسعادة للذين تكشّفت لهم الحقائق السماويَّة .
الموتُ نهاية كل حيّ , ولكنه فترة انتقال : امّا الى نعيم , وامّا الى جحيم .
الحياةُ خير معلِّمٍ ومُؤدِّب , وخيرَ واقٍ للمرءِ من الأنزلاقِ الى مهاوي الحضيض .
حين تشكُّ بأقربِ المُقرَّبين اليك تبدأ في فهمِ حقائق هذا الكون .
مَنْ يكون ذلك القدّيس الذي لم تخطرُ المرأة في باله ؟ لو وجدَ هذا لشبَّهته بالآلهة .
المرأة هي إله هذه الأرض الواسع السُّلطان. و هي تحملُ بيدها سيفاً قاطعاً لو حاولَ رجالُ الأرض قاطبةً انتزاعه منها لباؤوا بالفشلِ و الخذلان .

الدكتور داهش والفنَ

طوني شعشع

شغل الدكتور داهش منذ أمدٍ بعيدٍ، وما يزال، أقلام الدراسيين والأدباء والصحافيين، فكان موضوعًا لمقالاتٍ ودراساتٍ ومصنفاتٍ كثيرة تناولت سيرته وأدبه وفكره. إلا أن ثمة بعدًا بارزًا من أبعاد شخصيته لم يحظ منهم بالعناية الوافية، ولم يتعد كلامهم عليه الإشارات السريعة؛ نعني به البعد الفني.

ولعل السبب في مجانبتهم إياه أن مؤسس الداهشية لم يفرد مؤلفًا مستقلاً يعرض فيه نظرته إلى الفن أو الفنانين أو المدارس الفنية، بل نثر آراءه في مواضع شتى من مؤلفاته، وبخاصة في سلسلته الشهيرة "الرحلات الداهشية حول الكرة الأرضية" – الأمر الذي يستدعي تقصيها وتصنيفها واستخراج الدلالات منها. زد أن أكثر تلك الآـراء قد ظهر متأخرًا، ومنها ما لم يصدر بعد.

ولعل السبب أيضًا غفولُ الباحثين عما للفن من شأنٍ في حياة الدكتور داهش، أو إيلاؤهم إياه قيمةً دون قيمته الحقيقية، يسوقُهم إلى ذلك أن أثره في الشأن الأدبي غيره في الشأن الفني؛ فهو في الأول مبدعٌ، وفي الثاني جامع. وجلي، بعامةٍ، أن ما يبدعُه الإنسان ألصَقُ بنفسه مما يقوم بجمعه، فإذا الأنظار تتجه إليه أولاً. ولكن يجب ألا يستهان بما جمع فهو قد يرفدُ الباحث بما يُعينه على استجلاء الأثر الأدبي، دع أنه صادرٌ عن نظرةٍ خاصةٍ يمكن الاهتداء إليها بعد استقرائه كله. على أن غرضنا في هذه الدراسة مقصورٌ على مقام الفن في حياة الدكتور داهش، أولاً، ثم على نظرته إليه، ثانيًا. ولا يفوتُنا أن ثمة موضوعاتٍ أخرى متصلة بهما تقتضي معالجةٌ مستقلة، منها موقفه من الفنانين والمدارس الفنية، ومنها آراؤه في المتاحف الفنية التي زارها.

مقام الفن في حياة الدكتور داهش

 يرجع شغف الدكتور داهش بالفن إلى مرحلةٍ باكرةٍ من عمره. فهو يقول: "منذ طفولتي وأنا أتوق لمشاهدة أي شيء يمثله الفن، سواء أكان لوحةً زيتية أم مائية أم بالباستيل، كما أرغب رغبةً عارمة بالتماثيل الفنية..." ويؤكد ذلك في موضعٍ آخر، فيقول: "فأنا أحب الفنون الجميلة منذ نعومة أظفاري". وللقارئ أن يسأل: كيف تأتي لطفلٍ نشأ في بيئةٍ فقيرة لا تفتقر إلى الثقافة الفنية فحسب، بل إلى الثقافة عمومًا، كما أن عهده بالمدارس لم يتجاوز أشهرأ – كيف تأتي له أن يشغف بالفن ويرغب فيه "رغبة عارمة"!"

   هل سر ذلك ميل فطري متأصل في كيانه، على نحو ما عبر هو نفسه عنه؟ فهو يقول: "فحب الفنون الجميلة يسري في دمائي..." ولكنه يذهب إلى أبعد في وصف علاقته بها فيقول: "فـ]الفن[ لي كالروح للجسد". والحق أن هذا القول غني بالدلالات. فإذا صح أن علاقة الروح بالجسد علاقة جوهرية، وأن ما ينشأ عن اتحادهما ذات واحدة متكاملة القوى، فلا أبلغ من هذه الصورة لبيان مبلغ الاتحاد القائم بينه وبين الفن! وإذا كانت الروح علّة دوام الجسد وعلّة حياته، فقد لزم أن الفن علةُ دوام الدكتور داهش وعلةُ حياته. تُرى هل في هذا القول مُغالاةٌ أدبية؟

   لم يكن الدكتور داهش بغافلٍ عما يعتور الحياة الدنيا من شقاء وشرور؛ وهذه مؤلفاته الأدبية تنصحُ بالبرم بها. فإذا لم يكن الفن ما سوغ له البقاء على قيد الحياة، فقد كان، ولا ريب، عاملاً رئيسًا في تلطيف شفائها وتجميل قبحها.

   وما دام الأمر كذلك، فليس غريبًا أن يكون شغفُه به لا حدود له. يستشهدُ الدكتور داهش بقول الإمام علي بن أبي طالب: "منهومان لا يشبعان: طالبُ علمٍ، وطالبُ مال". ثم يُردِف قائلاً: "وأزيدُ عليهما ثالثًا، فأقول: "وطالبُ فن" – الذي هو أنا. فإني، وأيم الحق، لا يمكن أن أشبع نهمي من الفن إطلاقًا". ويقول له الدكتور جورج خبصا، رفيقه في رحلته الأولى حول العالم عام 1969: "أنتَ لا يمكن أن تُشبع نهمك من التحف واللوحات الزيتية". ولما برر تأخره عن موعدهما معًا بأنه تاه عن الفندق، قال له الدكتور خبصا: "أنت لم تته عن الفندق، بل الكنوز الفنية هي التي جعلتك تتيه...".

   هذا الشغف اللامحدود بالفن كيف تجلَّى في حياة الدكتور داهش؟

1 – اقتناء المصنوعات الفنية:

لقد تجلَّى، أولاً في سعيه الحثيث الباكر إلى اقتناء المصنوعات والمنشورات الفنية حتى إنه لا يجد حرجًا في القول إنه وقف على ذلك عمره كله: "لقد صرفتُ أعوامَ عمري بأكملها باحثًا منقبًا وجامعًا للكنهوز الفنية النادرة". أما شروعه بجمع اللوحات الفنية فيجعله في عام 1930، أي في مستهل عقده الثالث. ومما نُقل عنه أنه شاهد في إحدى المجلات. وهو بعد حدثٌ، صورة لوحةٍ بريشة الفنان الفرنسي ج. ف. روتج G.F.Rotig  تمثل أسدين متحفزين متربصين بقطيع غزلان، فاقتطعها منها، واحتفظ بها نيفًا وعشرين عامًا. وفي مطلع الخمسينيات. أرسل الصورة المقتطعة إلى الفنان الفرنسي نفسه طالبًا إليه رسمها له ثانية، ففعل.

   ولقد أثِر عن الدكتور داهش أنه كان رحالة لا يستقر له في وطن قرار. طوَّف في شتى أقطار العالم وفي راس أهدافه اثنان: الأول زيارة المتاحف الفنية والتمتع بما فيها من معروضات والثاني ابتياع ما أمكنه من اللوحات والصنائع الفنية. فهو يقول: "إنني أسافر بقصد زيارة المتاحف ومشاهدة الكنوز الفنية المحفوظة فيها... وكل ما يمت إلى الفن بصلة أود مشاهدته، وأرغب في اقتنائه". ومَن يطالع سلسلة مؤلفاته "الرحلات الداهشية حول الكرة الأرضية"، يتبين له أن ذينك الهدفين قد تساوقا في رحلاته الأولى، ولكنهما تفاوتا في رحلاته المتأخرة، فغلب الثاني الأول حتى كاد يستقل بالرحلة المتأخرة: "أمضيتُ هذه المدة الطويلة ]80 يومًا[  في البحث عن اللوحات الزيتية النادرة والتماثيل الفنية الجميلة. وابتعتُ عددًا كبيرًا منها...".
   ويمكن تعليل ذلك بأنه في رحلاته المتأخرة قد زار بلادًا سبق أن زارها مرارًا وتمتع بمشاهدة متاحفها حتى بات في غنى عن تكرار زيارته إياها.

أما إذا اتفق أنه لم يزر ذلك البلد أولاً، فإنه لا يتوانى عندئذٍ عن زيارة متاحفه، وكأنه في إحدى رحلاته الأولى. ويمكن تعليل ذلك أيضًا بأن شغله الشاغل في أخريات أيامه بات إغناءُ المتحف الداهشي" بلوحاتٍ وتماثيل جديدة. لذلك اقتصر في رحلاته المتأخرة – إلا نادرًا – على زيارة المتاجر الفنية وصالات المزاد لابتياع المصنوعات الفنية. وإنه لحسن بنا الوقوف قليلاً عند هذا "المتحف"، لأنه في رأينا أسطع تجلٍ لشغف الدكتور داهش بالفن.

2 – المتحف الداهشي

لا نعلم يقينًا متى روادت مؤسس الداهشية فكرة إنشاء متحف خاص، لكن الثابت أنه باشر تنفيذها جديًا منذ أواخر الأربعينيات، وذلك في أثناء احتجابه القسري ببيروت إثر الاضطهاد الجائر الذي أنزله به رئيس الجمهورية اللبنانية بشاره الخوري (1943 – 1952)، وما نجم عنه من انتزاع جنسيته اللبنانية اعتسافًا. وقد دام ذلك الاحتجابُ ما يُنيف على ثماني سنوات (منذ أواخر عام 1944 إلى أوائل عام 1953، حيت استرد جنسيته السليب)، ثم عقبه احتجابٌ إرادي – إذا صح التعبير – دام حتى عام 1958.

ثلاثة عشر عامًا من الاحتجاب أتاحت للدكتور داهش أن يراسل آلاف الفنانين والمتاجر الفنية في مختلف أقطار العالم بحثًا عن الصنائع الفنية. لنسمعه يقول: "يومذاك]عام 1949[ كنتُ في منزل الأخ جورج حداد، عديل الشيخ بشاره الخوري، رئيس الجمهورية اللبنانية، ومنه كنتُ أراسل الآلاف من الفنانين وغالريهات الفن المختصة ببيع اللوحات الزيتية ومكتبات الكتب النادرة، بينما كانت الحكومة اللبنانية تظنُّ أنني قد رحلتُ من عالم الأرض إلى عالم الخلود".

   على أن الدكتور داهش لم يكفَّ، بعد خروجه من احتجابه، عن مواصلة بحثه عن التحف الفنية، سواءٌ بالمراسلة أو بالسفر، حتى آخر لحظةٍ من حياته.

   لقد تسنى له أن يجمع حتى عام 1976 ما يناهز "2500 لوحةٍ زيتيةٍ رائعة ومئاتٍ من مختلف أنواع التماثيل الفنية الثمينة، الرخامية والبرونزية والخشبية والعاجية... ولما اشتد أوارُ الحرب اللبنانية عامذاك، استطاع إنقاذ "هذا التراث الجبار" بنقله إلى الولايات المتحدة الأميركية حيث أتيح له عام 1995 أن يعرض في متحف قائمٍ بقلب مدينة نيويورك، أطلق عليه اسم Dahesh Museum .

لقد كان "المتحف الداهشي" أحد أحلام الدكتور داهش الرائعة. ولشد ما كان يتمنى أن يراه بعينيه وقد أنشئ. ولعله كان مرتابًا من تحقق أمنيته، فقال في 18 نيسان 1976: "ترى هل سيتاح لي أن أعرض اللوحات في متحف أطلق عليه اسم "المتحف الداهشي" في نيويورك؟ إن هذا الحلم رائع، حلم فاتن أخاذ، إذا تمّ. ولكن دونه صعوباتٍ كبيرةً... فهل يقدر لي في حياتي أن أشاهد هذا المتحف، أم إنها أضعاث أحلام وأخيله أوهام؟".

3 – الإخراج الفني لمؤلفاته:

لم يقتصر شغف الدكتور داهش باالفن على اقتناء كل صنيع فني في سبيل إنشاء "المتحف الداهشي"، بل تعداه إلى إنتاجه الأدبي أيضًا. كان حريصًا على طبع مؤلفاته طباعة فنية مزينة بلوحاتٍ تناسب النصوص، منها لوحاتٌ عالمية مشهورة، ومنها ما كان يُملي موضوعه على الفنانين. يقول الدكتور داهش بهذا الصدد: "أنا أطبع مجموعة كتبي طبعًا فاخرًا، ليس للربح المادي إطلاقًا، بل حبًا بالفن والأناقة".

   وبحسبنا أن نقف ههنا قليلاً عند كتابين له تميزا بطباعتهما الفنية الأنيقة حتى ليصح القول إنهما أثران أدبيان مُتحفيَّان. أما الأول، فكتاب "ضجعة الموت"، باكورة مؤلفاته المطبوع، وقد وقف على طبعه في القدس عام 1936. لنسمعه يحدثنا عنه عام 1980، حين دفع مؤلفه "قيثارة الآلهة" إلى الطبع:

   "في مطلع عام 1936 طبعتُ كتابي "ضجعة الموت" بمطبعة شنلر الألمانية بالقدس، وكانت حينذاك أهم مطبعةٍ في الشرق.

   وكنت قد عثرت على فنان إيطالي اسمه موريللي بالقاهرة، فكلفته أن يرسم لي رسوم كتابي "ضجعة الموت". والحقيقة أنني لم أعجب بمقدرة هذا الفنان، وكنتُ أود أن أعثر على فنانٍ يفوقه بالإبداع.

وقد خرج كتابي "الضجعة" بحلةٍ أنيقة قشيبة مدهشة. والحق الذي يجب أن يقال إنه بعد مرور أربعةٍ وأربعين عامًا على طبعي لهذا الكتاب لم يطبع كتابٌ آخر سواه يكون بمستواه الفني بين مئات الآلاف من الكتب التي طبعت بجميع البلاد العربية. إذ طبع بأالوان أربعة طباعة أنيقة للغاية. وقد خطه الخطاط المشهور نجيب الهواويني، والخطاط محمد حسني. والورق صقيل، ومن النوع الممتاز للغاية. وتجليده فنّي، وأناقته مثلى".

أما الكتاب الثاني فالجزء الأول من "جحيم الدكتور داهش" الذي ألفه عام 1942، وفيه يصف خمسين دركًا من دركات الجحيم مفردًا أربع سداسيات مسجعة لكل منها. وقد طلب إلى الفنان الروسي كوروليف أن يرسم لكل سداسيتين لوحةً مستوحات منهما. وهكذا، فقد حظي كل درك بلوحتين معبرتين عما فيه من صنوف العذاب. كما قام الخطاط نجيب الهواويني أيضًا بخط الكتاب. وقد أصدرته "الدار الداهشية للنشرط بنيويورك عام 1989 في طبعةٍ ثانيةٍ مجلدة ومزينة بـ 140 لوحة في قطع عملاق (42 سم × 32 سم).

نظرةُ الدكتور داهش إلى الفن

1 – النقل عن الطبيعة:

يبدو واضحًا أن الدكتور داهش، في نظرته إلى الفن، أقرب إلى النظرية الأفلاطونية الآرسطية القائلة إن الفنّ مُحاكاة الطبيعة Mimesis فهو يقول: "الفنانون ينقلون مواضيعهم عن الطبيعة. فالطبيعة التي خلقها الله لا يجاريها مجارٍ. إنها من صنع الله، وكفى". وعندما يطالعه في الطائرة مشهدُ غروب الشمس، يصفه وصف لوحةٍ فنية حية، ثم يعقب عليه بالقول: "ولا حاجة بي إلى القول إن هذه النيران التي كانت تبدو للعيون الناظرة ما هي إلا وهج الشمس الجانحة للمغيب وقد رسمت هذا التابلو السحري الخيالي. فيا لقدرة المبدع!".

يفهم من هذين النصين أن الفنانين يتطلعون إلى تقليد الطبيعة، صنيعة الله. فكأنه تعالى الفنان الأعظم، وكأنهم، إذ يبدعون، يحاولون مجاراته تعالى في فعل الخلق. إلا أنهم، أوتوا من موهبةٍ وبراعة، مقصرون عن ذلك جبرًا. ذلك أن في أشياء الطبيعة من الخصائص والملامح والدقائق ما يستحيل على الفنان الوقوف عليها كلها أو نقلها إلى صنيعة. ثمة أطراحٌ في كل محاكاة، أي عجزٌ عن المجاراة التامة. ولعل السبب الكياني الأخير لذلك كمالُ المبدع، ونقصُ المقلد.

وعليه، فيقدر ما يكون الصنيعُ الفني أقرب إلى الطبيعة وأشد نبضًا بالحياة، يكون أدنى إلى الكمال وأعظم قيمةٌ فنية. يعجب الدكتور داهش، مثلاً، بلوحةٍ تمثل شابًا في مقتبل العمر، فيقول: "أنتَ تحسبُه حيًا تنبضُ الحياةُ فيه، وتاسرك نظراته الحية فتظنُ أنه يكاد أن يخاطبك!" وتروقه لوحة تمثل منظرًا طبيعيًا فيه "بحيرة تكاد تروي غليلك من مائها السلسبيل!" ويؤخذ بتمثال إلهةٍ "لا يمكن أن يكون أبدعُ أو أروع منه... كأنها امرأةٌ يسير الدم في شرايينها..." والأمثلة على ذلك كثيرة.

   إلا أن مفهوم النقل أوسع من مفهوم التقليد؛ فهو يحتويه ويتجاوزه في الآن نفسه. التقليد أقرب إلى النسخ. وهما (أي النسخ والنقل) يختلفان في جملة أمور.

   يختلفان أولاً في حدود المطابقة. ذلك أن النسخ يستوجب التطابق التام بين المنسوخ والمنسوخ عنه. والدكتور داهش يستخدمه في معرض كلامه على نسخ اللوحات الفنية. أما النقل فيفيد، أيضًا، معنى الاقتباس من غير اشتراط التطابق التامّ. ثمة قدر من الحرية في النقل لا يجوزه النسخ. إلا أن ذلك القدر محدود بهوية المنقول عنه. قد يقتبس الفنان صورة من الطبيعة، ويتصرف بها، فيبتكر صورًا جديدة ليس لها على الأرض ما يقابلها، ولكن في حدود لا يجوز تعديها لئلا ينقلب النقل إلى تشوبه.

   دعْ أن النسخ ينفي – أو يكاد – كل أثر ذاتي في المنسوخ. أما النقل فيتسع له، ولكن في حدود أيضًا. ولعل حمل النقل ههنا على معنى الترجمة – وهي من معانيه في اللغة العربية – يزيدُ الأمر وضوحًا. ذلك أن الناقل (أي المترجم) لا يسعه إلا أن يبث شيئًا من ذاته في النص المنقول، وبخاصة إذا كان أدبيًا، وقد يتصرف به. لكنه ملزمٌ، في شتى أحواله، بالتقيد بالمعاني المنقولة خشية أن يتَّهم بالتحريف.

   تخلصُ من ذلك كله إلى أن نظرة الدكتور داهش إلى الفن لا تقتصر على الاتجاه الكلاسيكي الأكاديمي – على عظيم شأنه عنده – بل تشتمل أيضًا على الاتجاهات الفنية المعتدلة، كالاتجاه الانطباعي مثلاً. كما إنها لا تنحصر في الموضوعات المستمدة من الحياة الواقعية، بل تتعدّاها إلى الموضوعات الفردوسية والميثولوجية وسواها.

2 – النفاذ من الطبيعة إلى ما بعدها:

بيد أن الأشياء في الطبيعة، كما يرى الدكتور داهش مجاريًا أفلاطون، ظلال أو أوهام تقوم حقائقها في غير عالم الأرض. ومن كلماته بهذا الصدد: "نحن ظلال سرعان ما تمر في وادي الحياة وتتلاشى. ومنها: "جميعُ ما تقع عليه العين وهم من الأوهام". فهل يذهب مؤسسُ الداهشية مذهب فيلسوف الأكاديمية القائل إن الصنيع الفني ظلُّ الظلّ، يندرج في المرتبة الثالثة من مراتب الوجود؟

   ليس في كتابات الدكتور داهش ما يشير إلى ذلك. والأغلب، في رأيه، أن الفنان الأصيل إذ يحاول محاكاة شيء ما إنما يحاول النفاذ منه إلى حقيقته في عالمٍ ثانٍ – وقد يقوم بذلك من غير علمٍ به. يؤيد ذلك، عنده، أن الذات الفنية في كيان الفنان – إذا صح التعبير – تنتمي، في الأصل، إلى عالمٍ مادي يفوق الأرض درجةً روحيةً – وهذا ما سيأتي إيضاحه. فهو يولد على الأرض وفي نفسه تهجع صور عالمه العلوي. فإذا نقل عن الطبيعة شيئًا ما خلع عليه ما ماثله من تلك الصور، فجاء صنيعه أقرب إلى ما هو عليه في عالمه.

   ويندرج في هذا السياق ما يمثل العوالم الفردوسية في الصنائع الفنية – وقد كان مؤسس الداهشية مولعًا بها، فكان يطلب إلى الفنانين أن يرسموا له ما كان يتمثله منها. وتعليل ذلك عنده أنه كان يعاني على الأرض غربة روحية، كأنه في "منفى"، فلا يني يحن إلى موطنه في عالمٍ آخر: "أنا غريبٌ في هذا العالم. وكم أحن إلى تلك الساعة التي أعود فيها إلى وطني الحقيقي!" ولكن ما وطنه؟ وأين يقوم؟ هوذا يحدثنا عنه: "هناك وراء المجرة الأزلية تتهالك المسافات وتفنى الأبعاد. فمن كتب له أن يجتازها، يجد فردوسًا عجيبًا كوَّنه الله لمختاريه الأبرار الأطهار. فإلى هذه الفردوس الدائم المتع والبهجات سأعود". فكان الدكتور داهش، إذ يشاهد الموضوعات الفردوسية في الآثار الفنية، "يتذكر" وطنه الفردوسي البعيد على نحو ما يفهم أفلاطون بالتذكر Reminiscence .

3 – مقومات الصنيع الفني:

إذا صح أن النقل عن الطبيعة أصلُ الصنيع الفني، فما هي مقوماته الجوهرية؟

يقول الدكتور داهش في معرض موازنته بين متحفي واشنطن واللوفر: "هذه اللوحات العظيمة هي تراثٌ للإنسانية يتناقلها الخلف عن السلف لنرى ما بلغه الفن من رقي وما سجله من حوادث تاريخية بارزة نستطيع مشاهدتها عيانًا بأسلوبٍ حي فيه متعة، وفيه جمال، وفيه حقيقة ما أجدرها بالبقاء في عالمٍ كل ما فيه صائرٌ إلى زوال".

   ينطوي هذا النص على فكر متعددة، منها نظرية النقل، وإنسانية التراث الفني، والتطور الفني عند الشعوب. إلا أن ما يهمنا فيه الآن مقومات الصنيع الفني، وهي ثلاثة: المتعة، والجمال، والحقيقة. ولما كانت المتعة حالة نفسية تنشأ من الإحساس بالجمال أو من سواه، فقد أمكن حصر المقومات هنا باثنين فقط: الجمال والحقيقة.

   والحق أن الاقتران بين مفهومي الحقيقة والجمال في فكر الدكتور داهش ليس شأنًا عارضًا؛ فهما متلازمان. فهو يقول في توطئة كتابه "ضجعة الموت": "مَن أدرك سر الجمال، فإنه قد خطا خطواتٍ واسعةً في فهم أسرار الأزل والخلود.... ومَن كان بعيدًا عن حب الجمال، فإنه لا يفقه معنى الحياة، ولا النهاية المجهولة". ويصور لنا في كتابه "الإلهات الست" شابًا حزينًا تتجلَّى له فينوس، إلهةُ الجمال، وتحاول إغراءه بمباهج الدنيا، فيعرض عنها ناشدًا الحقيقة المفقودة على الأرض. ويطول الحوار بينهما بلا طائل. وأخيرًا تعلن إلهةُ الجمال يأسها من إدخال البهجة إلى قلبه. ثم يموت الشابُ ويتجسّد في فردوس النعيم حيث يجتمع "بـ(الحقيقة) التي كان يبحث عنها، فإذاها وقد اتخذت لها جسد فينوس المبدعة الفتنة والمذهلة الأنوثة".

يتحصل لنا مما تقدم أن بين الحقيقة والجمال، في فكر الدكتور داهش، وشائج قوية: فإدراكُ كُنه الجمال مدخلٌ رئيسٌ إلى معرفة الحقائق الميتافيزيقية، أو الحقيقة الروحية بمعنى عام، حتى إذا بلغها طالبها في العالم الثاني، وجد أنهما (أي الحقيقة والجمال) واحد. وعليه، فمن لوازم هذه النظرة الميتافيزيقية أن يندرجا في مقومات الفن الأساسية. ولكن ما معناهما في الصنيع الفني؟

   يمكن تعريف الحقيقة، عند الدكتور داهش، في المجال الفني بأنها دلالة الأثر الفني على واقعةٍ محسوسة أو تاريخية أو أسطورية... من غير أن ينطوي مفهوم الدلالة على معنى المطابقة. ذلك أنها (أي المطابقة) تختلف في مجال الفن عما هي عليه في مجال العلم. ولذلك، صح الترادف في مجال الفن بين الحقيقة والمعنى، فلا ينطبق على الأثر الفني معيارُ الخطأ والصواب انطباقه على الواقعة العلمية. فإذا قلنا إن صنيعًا فنيًا يشتمل على حقيقةٍ ما، فمفادُ ذلك أنه ذو معنى أو مدلولٍ أو موضوع.

وبتعبيرٍ آخر نقول: ينطوي الصنيعُ الفني، في رأي الدكتور داهش، على خصائص فنية من جهةٍ، وعلى موضوع أو مدلولٍ من جهة ثانية.

وعنده أن شأن الموضوع أو المدلول في الأثر الفني لا يقل عن شأن التقنية الفنية حتى إنه لا يتردد أحيانًا في تقديم الأول على الثاني. فقد يتفق أن يكون الأثر الفني ذا قيمةٍ فنية واضحة، ولكن موضوعه لا يروقه. يزور ذات يوم مبنى في باريس تُعرَض فيه اللوحات المعدة للبيع بالمزاد، فيقول: "وقد شاهدتُ اللوحات بقاعة هذا المبنى الفسيح ولم أعجب بأية لوحةٍ على الإطلاق. فاللوحات فنية، ولكن مواضيعها لم ترقني قط".

أما الجمال في الفن فيمكن فهمه، عند الدكتور داهش، من خلال الاقتران الذي يقيمه بين فن الموسيقى وفني الرسم والنحت. فهو عندما يتحدث عن إعجابه بلوحاتٍ للفنان ليون فريدريك، يقول: "في هذه اللوحات قوة فنية بادية للعيان؛ فهي موسيقى للبصر ومتعة منشية". وفي معرض إعجابه بالتماثيل المنصوبة أمام مدخل قصر بطرس الأكبر بلينغراد، يقول: "وأمام مدخل القصر نصبت عشراتُ التماثيل الفنية المذهلة، وجميعها موشاةٌ بالذهب الخالص، وتنبثق المياه من أفواهها، فتؤلف سمفونية بصرية لا مثيل لها". فما معنى قوله: "موسيقى للبصر و"سمفونية بصرية"؟

   لعل أبرز مقومات الجمال في الموسيقى أن يتوافر فيها تآلفُ الألحان، وإلا انقلبت إلى جلبة أو ضوضاء. وعليه، فلا بد من توافره في الأثر الفني المرئي، أيضًا، كيما يتصف بالجمال. تروق الدكتور داهش إحدى اللوحات في المتحف الوطني بطوكيو، فيقول: "إن هذه اللوحة تزخر بالحيوية والانسجام...". ومما يقوم عليه الانسجام التناسب والتكامل في الأثر الفني عمومًا. ومنه، أيضًا توزيع الألوان في اللوحة الفنية: "وقد وزع الفنان ألوانه على لوحته بطريقةٍ جاءت آيةً في الفن والإبداع".

   يلزم مما تقدم أن للعقل أثره في كل صنيعٍ فني، وأن للجمال الفني – مثله في ذلك مثلُ الحقيقة – شروطًا موضوعية تتجلى في ما يدعوه الدكتور داهش "الفن الأصيل". وهي لا تخضع للأهواء والميول، ولا تؤثر فيها عوامل غريبة عنها. الإجماع على الباطل، مثلاً، لا يقلبه حقًا. كذلك الأمر، فإن إجماع الناس أو اتفاق أكثرهم على ما لا تتوافر فيه شروط الفن لا يجعله فنًا، وإن جارتهم في ذلك السلطة السياسية. وليس غريبًا، وقد رى الدكتور داهش أن الاتجاه الفني السريالي يقلب المفاهيم، ويعصف بها عصفًا مأكولاً، أن يحمل عليه حملةً غايةً في العنف حتى إنه لم يتورع عن الحكم عليه بأنه "جنون العصر..." وذلك بالرغم من طغيان أسماء "كبيرة" كبابلو بيكاسو Pablo Picasso  وبول كلي Paul Klee  وسواهما"، وبالرغم من هيمنة ذلك الاتجاه على عصر "أصبحت المقاييسُ فيه منكسةً رأسًا على عقب".

   في ضوء ذلك كله ندرك لماذا يؤثر الدكتور داهش الفن الواقعي إيثارًا مطلقًا. لنسمعه يقول في لهجة الجازم الواثق من نفسه: "إن الفن الحقيقي هو "الرياليسم" – أي الفن الواقعي. فأنت ترى لوحةً تمثل حقلاً تملأه أزهارُ البرية السحرية أو تشاهد لوحة تتويج الإمبراطور نابليون بونابرت... إنها لوحة واقعية لا خلاف عليها. بينما إذا صورها أحدُ السرياليين اليوم، فإنه يضعُ شحطاتٍ ونقاطًا وخرابيش، ويقول لك إنها تمثل الإمبراطور نابليون ومَن معه. حقًا إنها مهزلة لا تعلوها مهزلة. وللاسف ثمة من يصدقها ويؤمن بحقيقتها، وهي وهمٌ بوهم، بل أُضحوكةُ الأضاحيك".

   ولكن يبدو أن الدكتور داهش يفهم بالفن الواقعي أكثر مما تعنيه المدرسةُ الواقعية. فهو عندما يقول: "أنا مغرمٌ" بل مدلهُ بحب اللوحات الزيتية  ذات الموضوعات الواقعية"، لا يعني فقط الموضوعات المقتبسة من واقع الحياة الأرضية فحسب، بل الموضوعات التي تحمل دلالة ما سواءٌ أكانت مقتبسة منه أم لا. يؤكد ذلك إعجابه بفنانين ينتمون إلى المدرسة الانطباعية والمدرسة الرومنطيقية وسواهما. زد إعجابه الشديد باللوحات ذات الموضوعات الأسطورية، وقد حفل بها "متحفه".

   ولكن هل اقتصرت مقوماتُ الصنيع الفني عنده على عنصري الحقيقة والجمال؟

   إذا كان الفنُ مجاراة القوة المبدعة في فعل الخلق، فلا عجب أن يعد الدكتور داهش الفن العظيم البالغ الإبداع "فنًا علويا". فهو يقول بعد زيارته متحف فيلا بورغيزي بروما: "لقد بهرنا من روعة الفن العظيم الذي لا يعلو عليه إبداع مطلقًا... تستمتع بروعته العيون، وتجتليه النواظر وهي خاشعة لهذا الفن العلوي الذي يأخذ بمجامع القلوب". وعليه، فلا بد من أن ينطوي "الفن العظيم" على عنصر علوي لا يثير في النفس المتعة الفنية فحسب، بل الخشوع أيضًا. ولكن ما هو هذا العنصر العلوي؟

يقتضينا الجوابُ عن هذا السؤال الرجوع إلى عقيدة الدكتور داهش الروحية، وبخاصة نظرية السيالات فيها. ولا يتسع المقام ههنا لتفصيل الكلام عليها، دع أنه ليس من اليسير توضيحها. بحسبنا القول إن السيالات، في العقيدة الداهشية، أشبه بالنفوس الجزئية المنبثقة من الروح الكلية عند افلوطين. إلا أنها لا تنبثق من روحٍ كلية مجردةٍ واحدة، بل من أرواحٍ متعددة تقوم في عالمها المفارق. وتختلف السيالاتُ، بعضها عن بعض، بالنوع والدرجة. كما إنها تتوزع في شتى العوالم المادية، المعروفة والمجهولة، فتحلُّ في الأجسام والمواد على اختلافٍ في العدد. فكأنها (أي السيالات) أشعةٌ مختلفة منبثقة من شموس متعددة، تنفذ إلى المنازل والكهوف والإوار، وتتعاقب عليها، لكنها تظل موصولة أبدًا بمصدرها. على أنه لا يمكنها أن تعاودَ الاندماج به إلا إذا بلغت من الصفاء ما يؤهلها لذلك.

وما العنصر العلوي في الآثار الفنية العظيمة سوى أثرٍ من آثار نوع من السيالات يدعوه الدكتور داهش "سيال الفن"؛ وقد زود به الفنانون. هذا السيال ينتمي، في الأصل، إلى عالمٍ أو عوالم تفوق الأرض درجة روحية، وفي قصة "الحلم الهابط إلى أرض البشر" ما يوضح ذلك.

   يستفاد من هذه القصة أن ثمة كوكبًا يدعى "كوكب النور الوضاء" وفيه "نقطن أرواح عباقرة الموسيقيين الذين تركوا لعالم الأرض تراثًا إلهيًا من الأنغام". كما إن ثمة كوكبًا يُدعى "كوكب الخلود الباهر" وفيه "تقطن أرواح الأدباء والشعراء". وعندما تعتزمُ أحلام، بطلة القصة، مغادرة عالمها العلوي إلى الأرض لتولدَ فيها، يرافقها أحد الملائكة، ويزودها "بسيالاتٍ من الموسيقيين والأدباء وأرباب الفنون الجميلة". ويُقال لها إنها عند بلوغها فتوتها لا بد من أن تشعر برغبةٍ مُلحة في الموسيقى والأدب. لكن جسدها الترابي يحول دون تذكرها سر تلك الرغبة البعيد.

   وقياسًا على ما سبق يمكننا القول إن للرسامين والنحاتين عوالمهم العلوية’ وإن الموهوبين منهم على الأرض مزودون بسيالاتٍ منها تتجلًى آثارها في صنائعهم الفنية، وتحمل المرء على الخشوع أمامها. وهذا ما يسوقنا، أخيرًا إلى السؤال الآتي: هل للفن غرض خُلقيٌّ عند الدكتور داهش؟

   لا يبدو إطلاقًا أن للفن عنده غرضًا تبشيريًا أخلاقيًا مباشرًا. بحسبنا أن نعرض موضوعات اللوحات والمنحوتات في "متحفه"، فتتحقق من ذلك. ثم إنه (أي متحفه) يكاد يخلو من معروضاتٍ ذاتِ موضوعاتٍ دينية. على أن هذا لا ينفي أن يكون لذلك العنصر العلوي أثره غير المباشر في تهذيب النفس والسمو بها فوق مستوى الأرض، ولعلهما الغرضُ الأخير لكل صنيعٍ فني أصيل.

   تلك كانت دراسةٌ موجزةٌ في بعض الجوانب الفنية من حياة مؤسس الداهشية وفكره. ولسنا ندعى أننا استوفيناها. فإن ما قمنا به جهد أول في هذا المضمار، له ما لكل جهدٍ أول من فضل الريادة، وعليه ما عليه من عثراتها أو غفلتها. وإلى ذلك كله، فالدراسة أقربُ إلى التأمل الشخصي منها إلى المعالجة الأكاديمية العلمية.   

Developed by Houssam Ballout        Copyright 2019 This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.nfo All Right Reseved This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.