الخريف
في فصل الخريف تنوح الرياحُ وتتعرى الأشجار؛
إذ تتساقط الأوراق عنها وقد كساها اصفرار الموت،
وتصمتُ البلابلُ الصادحة عن أغاريدها،
وتهجرُ الطيورُ وُكُناتها راحلةً إلى بلاد يكون الرّبيع قد احتلها.
وفي الخريف تذبل شقائق النعمان،
وتتناثر أوراقها الحمراء، فيتلاعب بها الهواء،
ويُحتضر البنفسج المتواضع،
وتموت الورود الضاحكة،
وتقفر المروج من البهجة الخلّابة.
فالفراش توارى،
والنحل المحوّم حول الأزهار انطلقت جيوشه وبادت آثاره.
وابتدأت موسيقى الرياح الحزينة تعزف ألحانها الكئيبة،
منذرةً بأنينها المتواصل ترقّبها لفصل الشتاء المنتظر:
فصل البروق المومضة،
والرّعود القاصفة،
والصّواعق المزمجرة المنقضّة،
والرّياح المجنونة الطّائفة، المولولة، العاصفة؛
فصل الثلوج التي تكسو الطبيعة بثوبها الناصع البياض.
وفي الخريف تخلو الكروم من عناقيد أعنابها الذهبية،
والأشجار من ثمارها الجنيّة،
والاخضرار الذي كان يكسو الغابات بحلته الخضراء السندسية،
ذهبت آثاره الندية،
وتلاشت أخباره السّحرية.
جناتُ عدنٍ وفراديس غناء،
أشجارها وارفة وطيورها صادحة،
وفراشها العجيب المزدهي بألوانه الفاتنة،
وأزهارها المذهلة بجمالها العجيب وروعتها التامة،
قد استبدلتْ جميعها بأرضٍ جرداءَ قفراء
ينبو النّظر عنها ويشيحُ عن رؤيتها.
لقد استبدل الجمال بالقبح، والروعة بالدمامة، والحسن بضدِّه،
إذ انقلبت المقاييس.
وفي الخريف يعلو أنين الجداول،
فشتَّان ما بين رنين ضحكات هذه الجداول وترنّمها في فصل الربيع،
وأنينها ونواحها في هذا الفصل الكئيب.
وفي الخريف تختبئُ السّناجب
محتجبةً في شقوق الأشجار الضّخمة وتضاعيفها
بعد أن كانت ترقص طربًا ومرحًا على رؤوس الأشجار
المكتسية بالأوراق الخضراء الغضة التي كانت تحجبها عن العيون الفضولية.
وفيه تتوارى الثعالب
التي كانت تسطو على عناقيد العنب الذهبية، المثقلة بدواليها،
فتأكل منها ما شاء لها نهمها أن تأكل.
ولفصل الخريف حكمة خاصَّة أوجدها الله فيه،
مثلما أوجد الحكمة المثلى بالفصول الثلاثة الأخرى.
فلكل فصل منها منافعُ جمة تعود لمصلحة الإنسان ولخيره.
فسبحان من أوجد الكائنات ونظمها بمقدرته الإلهية الفائقة،
ومنحنا أرضنا التي نولدُ فيها، ثم نموت فتحتوينا بين ذراعيها.
الولايات المتحدة الأمريكية الساعة الرابعة والنصف
من فجر 25/10/1977