أيها الموت!
يا موت!
أيها الحبيبُ الشفيق، ويا نِعمَ الصديق!
أيها الطيفُ الساري، والقضاءُ الذي لا بُدَّ منه!
أيها الخيالُ الذي أراكَ في منامي، وأتخيلُلك في أحلامي!
يا سميرَ وحدتي، وأنيسَ يقظتي، ومخفف بلوتي!
يا طِلابَ نفسي، ومطمحَ روحي، ومهوى فؤادي!
يا عشيقي البعيد، ومُرادي القريب!
يا عروسي الهائم في مشارق الأرض ومغاربها،
وفي معالمها ومجاهلها!
أيُّها العاصفة الجبارةُ المجتاحةُ كل من يُقاوم إرادتها البتارة!
يا شِبَعَ نفسي الجائعة، ورِيَّ روحي الظامئة!
يا فردوسي المفقود، وأمّلي المنشود!
يا منحى نفسي، وخِفيَةَ روحي، ومسرى ضميري!
يا سعادتي وهنائي! ويا ماحي شقوتي، ومُزيلَ عنائي!
يا ابن الخفاء، ورسولَ السلام!
ويا بارقةَ الرجاء، ومُزيلَ الآلام!
يا مُوقِفَ نبضاتِ القلوب، ومُجتثَّ حركاتِ الأجسام!
يا كَفَنَ المطامع، ونعشَ المظالم، ورمسَ الأحقاد!
أيُّها الهادِمُ الباني، والمُقوِّضُ المُعمِّر،
والعابسُ الباسم، والقلقُ المطمئن!
أيُّها العابثُ المُشفِق، والشجاعُ الوَجِل،
والمَرِحُ الحزين، والمضطربُ الهادئ!
يا رسولُ الآلهة، ومُنفِّذَ الإرادة المجهولة الأبدية السرمديّة!
أيّها الغائبُ الحاضر، الباطنُ الظاهر، المعلومُ المجهول!
أيُّها الهازئ بشرورنا، الساخرُ بآثامنا، المُشفِق على جهالتنا!
أيُّها الشاهدُ ما ترتكبُه البشريَّةُ من مظالم،
وما ترمي إليه الإنسانيةُ من أطماع!
أيها الموجودُ في كل زمانٍ ومكان،
في الماءِ والهواءِ، في السهول والجبال،
في المنخفضات والمرتفعات،
في الأودية والحُزون، في المعالمِ والمجاهل، في الأبعادِ والأسحاق!
أيُّها الناظرُ غير المنظور، الحاصرُ غير المحصور!
أيُّها المُحصي علينا أعمالنا بكلّ دقّةٍ وإمعان!
أيُّها القائمُ وحدَكَ بما يعجزُ عنه البشرُ قاطبة!
أيها المعجزةُ الفريدة، بل يا معجزةَ المُعجزات!
أيُّها الحاكمُ بأمره، الساريةُ كلمتهُ قانوننًا نافذًا، ودستورًا حاسمًا!
أيُّها الناظرُ بلا شيءٍ إلى كل شيء!
أيُّهاالكأسُ التي ذاقها الأولون، وسيذوقُها الآخرون!
يا إمامَ رغائبي، ودليلَ ميولي, ومُتجهَ آماليّ
يا عزيزي، وحبيبي، وصباحي ومغيبي!
يا أَمَلي ومُناي، ويا مطمحي ورَجاي!
يا باعثَ إحساسي، ومُرهِفَ شعوري!
يا ملاذَ نفسي، ومعاذَ روحي!
أيُّها الكرى المعسول الذي يُراودنا بين فترةٍ وأخرى:
يا حبيبي الموت!
أقفِل عينيَّ، يا حبيبي،
أقفِلهما، فقد تعِبتا من النظر إلى هذا العالَم القّذِر الموبوء!
نعم، وأوقِف ضرباتِ قلبي،
هذا القلب المُحطم الذي أجهدته كثرةُ الضربات دون جدوى!
وأخفتْ أنفاسي،
فقد عافت استنشاق هواء هذا العالم الفاسد!
وأفقدني حاسة الشم!.
إذ بحسبي ما تنسمتُ من رائحة هذه الحياة الكريهة النتنة،
المفعمةِ بالأرجاس!
وقيدني بقيودكَ الخفية، الخفيفةِ الظلّ،
فقد تَعِبتْ قدمايّ من السير في مفاوز هذا العالم،
المليء بالشرور والآثام، والزاخر بالحسراتِ والآلام!
وأنِخْ عليّ بكلكلِكَ المُريح!
فقد ضاق صدري بسخافات البشر، وسخرياتِ القدر!
وضعْ بلسمكَ الشافي على جراح روحي الحائرة الحزينة،
فقد آن لها أن تستشعر نعيمَ السعادة الأزليَّة،
والغبطة السرمدية، والنشوة الخالدة القُدسية!
أُدْنُ منّي، لا تنأ عني،
فإني أتذوَّقُ الراحةَ إلى قربك،
وأتلظَّى في جحيمِ العذاب لبعدك!
أشفق عليَّ، يا حبيبي،
فقد تعبت نفسي من البقاء في هذا العالم البارد المُخيف!
هاتِ يدك الحارة، وضعها على يدي الباردة،
ودعْ قلبي يخفق خفقاتٍ الغبطة والحبور!
هاتِ، يا حبيبي، ولا تقسُ عليَّ!
إذ حسبي، في هذا العالم الفاني، قسوةُ كلّ من يعيشون فيه!
هاتِ، يا حبيبي،
وأرِحني من هذا العالم،
واختطفني من هذا الحياة.
آه! يا حبيبي!
ما أتعسَ هذا العالم!
وما أمضَّ آلامَ هذه الحياة!
آهّ ما أشقى هذا الوجودَ، وما أقساه!
للهِ! وما أجملَ عالَمكَ، وما أبهاه!
رحماكَ! رحماكَ، يا حبيبي الموت!
الا تسمع؟!
القدس، في 7 كانون الثاني سنة 1935