في مدينة الأموات بجنوى
دلفتُ إلى مدينة الأموات بجنوى،
فإذا بالسكينة تشمل مدينة الراقدين رقاد الأبد،
وإذا بالهدوء يسود مثوى الراحلين من أرضنا الفانية،
فيكاد لا يُسمَع ركزٌ ولا إيقاع.
آلاف من القبور تعلوها الأنصبة الرخامية،
وقد ثوى فيها رجال ونساء، شبان وشابات،
كما ثوى في الثرى أطفال رُضَّع لم تكتحل أعينهُم بمرأى عالمنا الفاني.
وكانت أشجار السرو تُظلل قبور الراقدين
وهي تتمايل من تأثير النسيم، فتهتزّ، وكأنها تهتزّ اهتزاز التأثّر
على رحيل هذا الجيش العرمرم من الخلائق.
وكانت التماثيل الحزينة تحكي قصة الألم المرير
الذي أحاق بمن وضعوا هذه الأنصبة فوق قبور أحبائهم.
خشعتُ لمرأى الآلاف من القبور المنتثرة،
والمنتشرة في هذه الرقعة من الأرض العظيمة الاتساع،
وقرأتُ اسم شابة لم تُكمل سنيها العشرين
وقد ثوت تحت ثرى جنوى،
فحزنتْ نفسي لهذه الوردة النضرة التي حصدها منجلُ الموت الرهيب، قبل أن تذوق حلاوة الحياة أو مرارتها.
وهناك قبرٌ رخاميّ ضمَّ في ثناياه شابًا غضَّ الإهاب
ملؤه برد الشباب،
انطلق من عالم الأرض، ورحلَ بعيدًا عنها إلى عالم المجهول القصيّ.
إنَّ من يرقدون في أجداثهم قد ابتعدوا عن عالمنا المليء بالشرور والمُترَع بالشهوات الأثيمة.
فمنهم لو امتدت به الحياة لاصبح شهيرًا يُشار إليه بالبنان،
ومنهم الأغنياء الذين بذلوا أموالهم في مُتعهم الدنيوية القصيرة الأمد،
ومنهم الفقراء الذين انطلقوا دون أن ينالوا ما كانوا يهدفون للوصول إليه،
ومنهم الأذكياء السريعو الخاطر، ومنهم الأغبياء صنو من يسير على الحافر،
ومنهم السكير العربيد، والناسك القانت، والداعر المبتذلة،
والمدعية بصونها لشرفها.
ومنهم من خلَّف لذويه حرقة ولوعة ستلازمهما ما لازمتهم الحياة،
ومنهم من ترك لمن خلفهم وراءه فرحة عظيمة،
إذ سيتمتعون بأمواله الوافرة.
أجداثٌ وأجداث، وقبورٌ ممتدَّة
لا يستطيع أن يُحصيها راغبٌ بمعرفة عددها،
وقد ثوى في جوفها الصالح والطالح، الشَرِس والوديع،
الشديد البخل والكريم!
واهًا لحياة الإنسان الشقية! أو هذه هي نهايته التي لا بد منها؟!
حقًا إن جميع مُتع دنيانا أجلُها أقرب إلينا من حبل الوريد.
فجميع آمال الإنسان مصيرُها إلى زوال أزليّ.
وجميع أمانيه نهايتها إلى فناء أبديّ.
وخرجتُ من مدينة الأموات وأنا حزين النفس، كسير الروح،
وأنا أُردد بنفسي قائلاً:
- أيْ خالقي وموجدي وواهبي الحياة،
إذا لم تشملنا بعين عنايتك الإلهية وترحمنا،
فإن مصيرنا هو جهنم النار المتقدة.
ثم أحنيتُ رأسي أسى، وتوجهتُ إلى مدينة الأحياء الأموات.
مقبرة جنوى، في 22/10/1971
من الساعة الواحدة إلا ربعًا حتى الواحدة