دخلتُ (مدينةَ الأمواتِ) الصامتة!
ثم وقفتُ أمام جدثٍ تعلوه رخامةٌ مصقولة!
وإذا بي أقرأ اسمَ (الصبية) التي تثوي تحتها!
فوجمتُ، وانهمرتْ من عيني دمعةٌ حارّة!
لقد حَصَدها منجلُ (الموت)
ولمَّا تُكملِ الثامنةَ عشرةَ من سنيها!
إنها زهرةٌ نديّة، وغصنُ أُملودٌ رطب،
وكاعبٌ هيفاءُ نافرة!
لها آمالٌ عذبةٌ لم تُحققها لها الأيامُ الغاشمة،
فانطوتْ صحيفتُها وأصبحتْ في ذمِة الأبد،
تضمُّها حفرتُها الخاليةُ، الباردةُ، المنسيّةُ، حتى يومِ النشور!
وانتقلتُ إلى قبرٍ آخر... وقرأتُ اسمَ قاطنهِ!
فإذا بهِ (شابٌ) في الحادية والعشرين!...
لله أيّها (الموتُ) ما أقساك!
وما أبعدَ الرحمةَ عن فؤادك!...
أتهصرُ غصنَ هذا (الشاب) وتُوردهُ موارد التهلكة،
وهو ما يزالُ في ميعةِ الصّبا وعنفوانِ الشباب؟
ألمْ تعطفْ على والديهِ المُسنين، المسكينين، المهدمين؟!
ألم ترحمْ شيخوختهما الذابلة،
فتترك لهما وحيدّهما، ومُعيلهما؟!
ألم تأخُذكَ بهما رحمةٌ فتُشيحَ بوجهكَ عنه؟
تُرى؟.. ما هي الحكمةُ في طيِّ صفحةِ هذا الشاب!،
وإبقاءِ الشيخِ المُسِنِّ الذابل؟
... وانسكبتْ عبرةٌ أخرى من عيني!...
فشعرتُ بها تلذعُني كالجمرةِ المتقد!...
وسرتُ الهُوَيْنى، وأنا مُنكَّسُ الرأس،
والحزنُ يسري في أحشائي...
وأنا تائهُ اللّبِّ، مضطربُ الجَنانِ، معقودُ اللسان!
فاصطدمتُ بمجموعةٍ كبيرةٍ من القبورِ، تعلوها الأنصاب،
وقد نُقِشَتْ على لوحاتِها أسماءُ مَنْ يرقدون تحتها وأعمارُهم.
وقد لفَتَ نظري أسماءُ بعضِ الأطفال
الذين لم يتجاوزوا الثالثةَ، والخامسةَ،
وقد طواهم (الموتُ) بجَبَروتِه الصارم!
فعفَتْ آثارُهم، بعد أن تصرَّمَتْ حبالُ أعمارهم!
وللحال، رحتُ أتأمَّلُ في حياةِ الإنسان الغريبة العجيبة:
تُرى ما هي (الحكمةُ) الإلهيَّةُ من خَلْقنا،
ثمَّ دفعنا إلى وادي الدموعِ والآلام؟!
ولِمَ ينتهي أجَلُ تلك الصبيةِ وهي ما تزالُ في إبّانِ صباها،
ورَيَّانِ أمانيها؟!
وذلك الشابّ؟ وهو بعدُ لم يعرفْ خيرَ الحياةِ من شرّها!
وما الداعي للقضاءِ على هؤلاءِ الأطفال الأبرياء
الذين لم يجنوا ذنبًا يستوجبُ عليهم القصاص؟
تُرى ما هي الحكمةُ من قصةِ الحياةِ ثم الموت؟!
أطرقت!... ثم فكرتُ، ولكن عبثًا!
إذْ ما عادت عليَّ هذه الأفكارُ بطائل!
ولمّا أعياني البحثُ والاستقصاءُ خرجتُ من (مدينةِ الأموات)،
وأنا أجهلُ مني ساعةَ ولجتُها!
وكان صوتٌ رهيبٌ يُدّوِّي في أعماقي قائلاً:
إعتبرْ أيها المسكينُ مما شاهدتَ، وسِرْ على الطريقِ القويم،
كي يُكتبَ اسمُك في سِجِلِّ العالمِ الخالد.
واعلَمْ أنَّ حياةَ الإنسان مهما طالت فهي قصيرة!
فأجبتهُ بضميري: نَعَمْ نَعَمْ، سأفعل.
بيروت، مساءَ 22 كانون الثاني 1943