حدائق الآلهة وفراديسها الشهيّة
بقلم علي مهدي
قال الشاعر الكبير لامارتين :" إنّ الأديب الفذّ هو من يستطيع خلق موضوع اجتماعي محبوك بأسلوب رائع ، يدع قارئه يتابع مطالعته بشوق ولذّة قائقين ".
ورأي لامرتين صحيح مئة بالمئة ، وعليه أمثلة وبراهين تاريخيّة تؤيّد صوابه .
الدكتور داهش هو المثل والبرهان . فحياته وسلوكه ، وعاداته وبنيانه الجسدي ، وآراؤه وأدبه ، وخياله الجامح ، ومسحة الحزن التي توشّي أدبه ، كل هذا ينير لنا الطريق للدخول إلى قدس معبده الأدبيّ السّامق .
فشخصيّته آسرة ، تتميّز كنتاجه السّخي ، بطابعٍ من الحزنِ والكآبة السّأئدة في أكثر ما يدونه يراعه . وعندما كانت نفثات قلمه تطرّز قطعه الوجدانيّة ، كان يومذاك بعمر الورود . وكان قارئ كتاباته يجدها مغمورة بالشجن مُغلّفة بالحزن ، مُوشّاة بالألم ، ومغموسة بالكآبة المؤسية .
كما كانت قطع أخرى ومواضيع مُتعددة مما كان يكتبه عنيفةً جبّارة ، تكمن المُتفجّرات الهائلة في كل حرف من حروفها . فهي أشبه بقنابل نووية متّصلة الحلقات بعضها بالبعض ، إذا ما تفجّر حرف منها تفجّرت بأكملها ، وأحدثت خراباً شاملاً عامّا لا يبقى ولا يذر .
أمّا قصصه المُخيفة فقد بلغت القمّة ، واستوفت كلّ عناصر الخوف البالغ ، والهلع المُروّع ، والقلق الهائل ، والجزع المردّم ، والاضطراب المُدمّر .
ففي كلّ كلمة من قصصه تجد الرعب سائراً بركابها ، مدموجاً بنقاطها ، فما يملك القارئ نفسه لشدّة اضطرابه وثورة أعصابه وارتجافه المنلك المهلك ، إذ يتملّكه الجزع ويغمره الهلع ، ويحتاطه هول الفزع .
لقد تفوّق على – أبرام ستوكر – مؤّلف دراكولا ، وفاز عليه وعلى سواه ممن تخصّصوا بكتابة الرعب حائزاً قصب السبق . إنّ قصصه المُخيفة خلقت لإخراجها كأفلام سنمائيّة تبثّ الرعب الطاغي ، وتنشر الهول الباغي لمشاهد أحداثها الفاجعة العاصفة الصّادعة .
وقد تمرّس الدكتور داهش بكتابة الهجاء أيضاً ، فأبدع بهذا النّوع القاذع وأي إبداع ، فإذا بكلماته قنابل هيدروجينيّة مُميتة ، لا يُرجى منها شفاء ، فلا طبّ يداويها ولا دواء يحييها . فالهول يسير بكلمات هجائه المُرعبة فلا يبقى ولا يذر . أمّا قطعه العاطفيّة فهي تذوب رقّة ، وتفنى عذوبة ، فهي كالسلسبيل الفرات ، وكوشي الأزهار المتوّجة للمروج ، بأجمل يوم من أيّأم الربيع الغنيّة بخيراتها الوفيرة .
ومن يقرأ كتاب "عشتروت وأدونيس" تبهره مقاطع تلك الأسطورة المُلهمة العجيبة ، إذ تمتلك لبّه فينسى نفسه ويتمنّى أن يمكث في ذلك العالم السحري المُعطّر بزنابق تلك الفراديس الغنّاء ، العجيبة المفاتن ، الغارقة بلذاذاتِ عشتروت السرمديّة الأنوثة .
والناظر إلى وجه داهش ، يجد أنّ القوّة والبأس يتفجّران من قسمات ملامحه ، ذات الرجولة البادية للعيان ، وكأنّ الطبيعة تمنح مزاجاً حيويّاً خارقاً لهؤلاء الذين يخلقون بأدبهم عوالم عظيمة ، وأفكاراً مثلى رائعة ، ووقائع ثابتة . وحسبما أعرف ويعرف الجميع ، أنّ كلّ أديب ، قد تخصّص بناحية من النواحي ، فذاك تخصّص بالقصّة ، وسواه بالدين ، وآخر بالشعر ، وغيره بالحقوق وسواه بالأدب أو الثقافة وهلمّ جرّا .
ولكنّ الدكتور داهش احتضن الجميع ، فهو يكتب بالأدب والشعر ، والدين ، والهجاء ، والقصّة ، الخ الخ .... إنّه موسوعة عظمة لا مثيل لها إطلاقاً .
وسلوكه مزيجٌ غريبٌ من العذوبة الفائقة ، والوداعة التامّة ، والصرامة التي لا شكّ فيها عندما تدعوه الحاجة والملابسات لهذا الموقف العنيف .
كلّ شيء فيه يشير بأنّه مُنتخب ، فكلّ من يعاشره يتأكّد بأنّه يرى شخصاً ليس كالأشخاص ، فهو مُميّز بكلِّ شيء ، ولا يمكن لمن يتعرّف عليه أن ينساه إطلاقاً .
والكثيرون يجلون أنّ الدكتور داهش يمتاز بحساسيّة مُذهلة . وهو أيضاً نقّاده لا يخيب نقده إطلاقاً ، وبحّاثة لا يصطلى له بنار ؛ وثقافته عالية ، فهو يطالع كلّ يوم ليس أقلّ من ثماني ساعات يصرفها بمطالعة الصحف اليوميّة ، والأسبوعيّة والشهريّة ، ثم أحدث الكتب الصادرة .
ولديه مكتبة تحتوي على 60 ألف مجلّداً بمختلف العلوم والفنون التي أنتجتها العقول . وقد جمع مئات اللوحات الزيتيّة وهي نواة لمتحف سيؤسّسه . كما اقتنى مئات التماثيل الفنيّة من العاج والبرونز والخشب والفضّة والذهب والميناء .
وقطعه العاطفيّة مشبعة بالحب ، مغموسة بالفتنة ومغمورة بالجمال ، ومصبوبة بقالبٍ شعريّ يستهوي مُطالعها ويمتلك لبّه فلا يترك الكتاب إلاّ وهو مُنتش ممّا طالعه .
إنّ الدكتور داهش عظيم بأسلوبه الأدبي الفذّ . إنّه مُعجزة وحسب . وقطعه العاطفيّة يشوبها حزن عميق ، وعباراتها محكمة كالجواهر المُثبّتة بالحلى الذهبيّة الثمينة .
إنّ أسلوبه العجيب خارق ، فهو مسرود كالدرع المحبوك المتين ، فهو من النوع السهل المُمتنع ، إنّه يستهوي القارئ كلّ الاستهواء ويسير نحو الهدف المُقرّر . وهذا يؤكّد عبقريّة هذا الكاتب المُبدع .
إنّه يصوّر ما يكتبه بقلمه المُعجز ، فإذاه آسر مُرعب أو مُؤس ، أو مُشوّق ، أو مُلذّ ، فهو غريب كلّ الغرابة واستثنائي في طريقته الفكريّة المُبتكرة الآسرة للألباب .
يدخل القارئ إلى عالمه مثلما يدخل بدوّامة . فحيناً تراه هادئا وتارة عنيفاً ، ثم تراه ضاجّاً وصاخباً ، ثم هادئاً ، واذاه هادم ومقوّض . فهو يترك الفكر في يقظة تامَّة ، فالقارئ يدرك أنّ شيئاً مُدهشاً سيفاجئه ، وفجأة يُذهل للمفاجأة التي يوصلها إليه فتتملّك إحساسه إذ تخلب لبّه .
إنّ لداهش من الطاقات الروحيّة ما يجعل القارئ مُضطرّاً لمُتابعة الكاتب الألمعيّ بسرده القصصي الجذّاب . وداهش يحمل على المرأة الفاسدة جملة رهيبة مزلزلة فيردّم ارتكاباتها ويعرضها بعريها وخزيها أمام الملإ فتودّ لو تنشقّ الأرض وتبتلعها .
إنّه جبّار بما يملكه من خبرة أدبيّة ، أصبحت كالعجينة الليّنة بين يديه ، مطواعة لرغبته .
إنّ داهش قد اجتاز القمم الفنّية الوعرة ، وغاص في مهاوي الفكر الإنساني ، واكتشف بأثناء حياته التي طوّقته فيها العواصف المُزلزلة ، ما لم يكتشفه سواه ؛ أقول لقد اكتشف أدباً جديداً ونمطاً غريباً وأسلوباً فريداً يدهش الخيال ، ويروي العقول الظامئة أبداً إلى الجمال والفتنة ، فلندخل إلى حديقته الإلهيّة العامرة بالورود الفردوسيّة ، ولنلج فردوسه الإلهي الموشّى باللينوفار المُقدّس .
ولنرتع بعالم داهش الحافل بالمتع البهيّة واللذاذات الشهيّة .
علي مهدي
بيروت الساعة 4 وربع بعد ظهر
30/1/1980