"الإلهات الستّ"
الجداول والينابيع والأنهار
تشترك مع الطير والشجر والرياح
في عزف سمفونيّة الحبّ السماويّ الخالد
بقلم الشاعر ياسر بدر الدين
الكتاب في 56 صفحة ، قطع كبير ، لوحة الغلاف للفنان نينوس ، اللوحات الداخليّة لقيصر الجميل ، يجمع بين الخط الفارسي وبعض الخطوط العربيّة .
أول ما يستوقفك في الكتاب أنّ صاحبه لم يتعمّد الكتابة من أجل الكتابة ، ولم يتوخّ الكسب الماديّ . هذان العنصران هما أهمّ ما يدور حوله تفكير أدبائنا ومفكّرينا المعاصرين ، وأكاد أقول ، السالفين .
لم يقصد الكسب ، حيث أنّ الكتاب صائر إلى خسارة ماديّة مُحتّمة .
ولم يقصد الكتابة من أجل الشهرة ، لأنّ الكاتب يكفيه ما نال منها ، على غير قصد منه ، وما سينال ، ولأنّ الكتاب في مجمله يدور حول الحقيقة والعدالة ، ومن كان هدفه الحقيقة والعدالة ، فإنّ طريقه حتماً مفروشة بالمرارة ، مُثقلة بالمصائب والمتاعب ، حافلة بالتضّحيات الصامتة، بعيدة عن الشهرة والجاه والأنا .
فقد تعمّد كاتب "الإلهات الستّ" بل تعبّد للحقيقة والفنّ والجمال ، فجاء الكتاب تحفة خالدة نادرة ، وأثراً إنسانيّاً متفوّقاً بين ركام الكتب والآثار التي لا تعدو عن كونها أوراقاً ملوّثة بالحبر ، لا تجد لها مكاناً في قلب القارئ ونفسه ، ولكنّها تجد عند الصحافة ووسائل الإعلام الكثير ، في عمليّة التمثيل والتصفيق المتبادل التي تتمّ في وضح النهار على عيون الجميع بلا استثناء ؛ هذه المهازل التي سيكشفها الضوء النقديّ الموضوعيّ أكثر فأكثر ، والتي تلوّث أدبنا العربي الحديث وتسم النقد المواكب له بالخضوع والمجاملة والتزلّف ، والبعد عن الموضوعيّة والحقيقة .
إنّ الباحث عن الحقيقة ، كالباحث عن "إرم" المفقودة ، والقابض عليها كالقابض على الجمر ، سيّما في هذا العصر حيث يتحرّك الادباء والمُفكّرون في الاتّجاه المعاكس للحقيقة تماماً ، وينصب الناس العداء لمن يسير باتجاهها ، وتنصب السلطة لهم المشانق ، فالناس دائماً عبيد أهوائهم ونزواتهم ومطامعهم . والأهواء والمطامع لا حدود لها ولا نهاية ، ومن أجل ذلك كانت الروادع والضوابط التي تتمثّل في أربعة : العقل ، والدين ، والعجز ، والسلطان . وكما يبدو أنّ أكثر الناس لا يتّعظون بعقلٍ ولا دين ، ممّا حدا بالبعض أن يفضّل وجود السلطة الجائرة على عدم وجودها .
ذلك أنّ العلّة كامنة في النفس البشريّة ونزعاتها الشرّيرة ، والتي لو لم تهذّبها الروادع والأخلاق والحضارات ، لظهرت بصورها الوحشيّة الهمجيّة المخيفة . وقد وصف الرسول العربي الكريم ضبط النفس والتغلّب عليها بالجهاد الأكبر ، كما كان يقول أحد العظماء :" إذا احترت في أمرين أنظر لأرى أيّا منهما أقرب إلى نفسي فأرفضه ".
إنّ الناس جميعهم يدّعون الانتساب إلى الحقيقة ، وهي لا تنتسب إلى أحد . يقتلون ويغتصبون باسم الحقيقة ، وينزرعون علوّاً في الأرض ويستكبرون ؛ فالحقيقة لا يعرفها الناس ، ولا يمكن أن تكون إلاّ من عند الخالق وبواسطة أنبيائه ورسله . فالقريب من الله قريب من الحقيقة ، والبعيد عنه بعيد عنها .
أبو العلاء المعرّي وضع الإصبع على شيء من الحقيقة حين شكّ في كلّ شيء قائلاً :
"إنّما نحن في ضلال وتعليل فــإن كنت ذا يقين فهاته
ولحبّ الصحيح آثرت الروم انتساب الفتى إلى أمهاته "
وفي مكان آخر :
"فـــــي الاذقيــــة ضجّــــة مـــا بيــن أحمــد والمسيح
هــــــذا بناقـــــوس يـــــدقّ وذا بمئذنـــــــــة يصيــــح
كـــــــلّ يمجّــــــد دينــــــه يا ليت شعري ما الصحيح "
لقد أصاب أبو العلاء في كشفه أنّ المسلمين والمسيحيّين على خطإ ، ولكنه أخطأ في عدم إقراره بأنّ المسيحيّة والإسلام على صواب . كان عليه أن يعلن ، وهو الفيلسوف الحبيس الخبير ، أنّ الإنسان هو الذي يشوّه المُعتقدات والرسالات وينحرف بها ، وأنّ الله سبحانه لا يريد بالإنسان إلاّ خيراً .
إنّ مُدرك الحقيقة عليه أن يجسّدها قولاً وعملاً . فالقول والعمل متلازمان ، وإنّ من يعمل بغير ما يقول هو كمن يقول بغير ما يعمل ، ليس من الصواب في شيء . والحقيقة هي الإيمان والقول والعمل .
والدكتور داهش في كتابه "الإلهات الستّ" ، كما في سائر كتبه ، طلب الحقيقة وعمل لها وضحّى من أجلها ، فجاءت كتاباته مُنسجمةً مع إيمانه وعمله ، وكان شأنه شأن جميع المُرسلين والمُصلحين ، تضحيةً وعملاً دائماً من أجل الحقّ والخير والفنّ والجمال .
ولو ألقينا بعض الضوء على الحقبة التي عاشها الدكتور داهش من خلال نظرة هادئة مُتأملة ، لتبيّن لنا بوضوح كم كانت عظيمة حياة هذا الرجل العظيم ، وكم كانت مُذهلة مواقفه ، حيث لم يتراجع عن مبادئه قيد شعرة ، وهو الرجل الأعزل وخصمه السلطة الحاكمة بما تملك من وسائل القمع والرعب والظُّلم .
عرف الدكتور داهش الحقيقة لأنه عاش وقضى من أجلها ، ولأنّه مُلهم من ربّ السّماء والأرض ، فقد أعلن بلسان الخبير الواثق المُجرّب أنّ لا وجود للحقيقة ولا حتى لظلّها على هذه الأرض .
" ربّاه ... أنّ الحقيقة التي ينشدها هذا الشاب
والعدل الذي يتمنّى أن يظفر به يوماً ،
لا وجود حتى لظّلهما على هذه الأرض
إلاّ في مخيلة الخياليّين أمثاله ...
لو كانت الحقيقة وشقيقتها العدالة تقطنان هذا العالم ،
لكانت الأرض ترفل لحلل من السعادة ،
ولسادت الطمأنينة هذا الكون ".
يرسم الدكتور داهش في كتابه "الإلهات الستّ" بألوان الحزن الشاحبة لوحة الغربة ، حيث يعيش الرجل ، المنفصل عن عالمه الأصليّ كرهاً أو طوعاً ، في عالم آخر بعيد عن أحساسه وخياله وتصوّراته . فهو دائم التوزّع بين الواقع والخيال , قدماه في تراب الشقاء ، وحنينه أبديّ النزف إلى العالم الآخر . أعصابه أسلاك مشدودة دائماً إلى فردوسه النقيّ ، وخلجاته نسمات عذبة نافحة يرجّعها النعيم رفيقة هادئة إلى قلبه الكبير الرقيق الحزين .
في بداية الحوار ، الشابّ كئيب حزين أعمق الحزن ، والإلهات الستّ بمفاتنهنّ وجمالهنّ يتحاورن وينشاورن فيما بينهنّ ويخترن فينوس ، إلهة الحبّ والجمال ، ليوفدنها إلى الشابّ في محاولة منهنّ لإنتزاع الكآبة من نفسه وإغرائه بالحياة ، والكفّ عن التحليق في عوالم الوهم والخيال .
يحرص المؤلّف هنا على عنصر المفاجأة ، "فينوس تظهر للشاب بغتة" وتناجيه ويبدأ بينهما الحوار الصعب .
هي تحاول بكل ما وُهبت من قوّة الاقناع وسطوة الإغواء ، التخفيف عن الشابّ ، وتجميل الحياة في عينيه ، وإزاحة بعض غيوم الحزن واليأس والمرارة المُتلبّدة في أجواء قلبه وروحه ... وهو ثابت كالطود لا يحرّكه هوى ولا يلفته إغراء ، يجيبها بلغة الحكيم اليائس النافذ إلى أعمق أعماق النفس القابض على أدقّ أسرارها ...
هي تحثّه وتعده وترغّبه في العودة إلى حياة الحبّ والفرح والأمل :
" رويدك يا فتى الأحزان ،
أيّها الشابّ ابتهج ، فإنني سأجعل أيّامك المُقبلة سلسلة أفراح متواصلة ، وسأكلّل ثغرك الحبيب بابتسامة فرح وأمان وهدوء واطمئنان ".
وهو يرد عليها دائماً "بلن".
"ربّة الحبّ لن تستطيعي يوماً أن تزيلي عن نفسي
تلك الغيوم التي تملأ صفحتها ،
ولن أتوق إلى أيّ أمر تحويه هذه الحياة المُتباينة النزعات ".
وتعود لمناجاته بقولها :
"هاك صدري الحافل لما يحتويه ، فهات رأسك الجميل المُتعب ، وألق به عليه فتهدأ ثورة نفسك المتأجّجة ".
فيجيبها بلفت نظرها إلى الطبيعة ومفاتنها وانعكاساتها الكئيبة المُظلمة في نفسه :
أنظري إلى الأفق البعيد ...
الظلمة ابتدأت تشمل الكون ...
لا لها من حلّة حالكة لا يد لبشريّ في صوغها وحياكتها ،
إنه كساء الطبيعة المُهيب يضمحلّ عند دنوّ الفجر
ليعود فيبسط سلطانه بعد المغيب ".
وفي النهاية تبذل ربّة الحبّ والجمال محاولة أخيرة لإقناع الشابّ خشية أن تعود إلى رفيقاتها بصفقة الخاسرة ، فتتقدّم نحوه وتغمره لثماً وحنوّاً وتقبيلاً ، وتظهر له وكأنّها ربّة الحقيقة أو أنّ ربّة الحقيقة اتخذت جسدها الرائع ، فيذعن ساعتئذ الشابّ لها ويخشع ولا يكاد يصدّق ما يراه ... إلى أن يقضي من شدّة فرحه وتأثّره "فرح لقائه بالحقيقة المفقودة".
ويعدها يتجسّد الحبيبان في العالم الآخر .
والتجسّد الجميل في العالم الجميل هنا ليس ليفرح الكاتب القارئ بعد أن أحزنه ، ولم يكن لضرورات فنيّة وأدبيّة ، وإنّما من أجل توضيح مبدإ على قدر كبير من الأهميّة ، مبدإ التقمّص الذي هو في عقيدة المؤلّف حقيقة واقعيّة ثابتة لا ترقى إليها الشكوك . وإنّ المتابع لكتابات الدكتور داهش الأدبيّة يكتشف أنّ الأدب عنده ، وإن استكمل شروطه الفنيّة ، ليس غايةً في حدّ ذاته ، بل هو وسيلة لغاية أفضل وأسمى ، غاية اكتشاف الحقيقة وتوضيح مبادئ الرسالة .
إذن ، فالهدف الرئيسيّ الأوّل للمؤلّف هو في تأكيد وجود العالم الآخر ، حيث يجزى الإنسان على ما سعى ، وأنّ الروح تنتقل وتأخذ شكلها الجديد ومكانتها بحسب عملها ودرجة استحقاقها .
والهدف الرئيسيّ الثاني هو في إثبات أنّ الحياة الدنيا ، وإن أثقلتها المتع وزيّنتها المفاتن ، تبقى دار فناء وإغواء ، وامتحاناً لصلابة الإنسان وثباته . وهو بذلك ينسجم مع ما جاء في غير مكان من الكتب السماويّة المُقدّسة ولا سيّما القرآن الكريم في وصفه للحياة الدنيا :
] إنّما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض ممّا يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازّينت وظنّ أهلها أنّهم قادرون عليها أتاها أمرها ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس ، كذلك نفصّل الآيات لقوم يتفكّرون [ سورة 10 آية 24.
وفي السورة 18 آية 7 ] إنّا جعلنا ما على الأرض زينةً لها لنبلوهم أيّهم أحسن عملاً[.
وفي السورة 57 آية 20 ] اعلموا إنما الحياة الدّنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد ، كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرّاً ، ثم يكون حطاماً ، وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان ، وما الحياة الدنيا إلاّ متاع الغرور[.
ثمّة ومضات تبهر أبصارنا في الكتاب :
كلمات مُجنّحة تطير بنا دائماً وتنطلق :
"أنظري تلك الغيمة ، البعيدة كالتصوّرات الملونة
تحت وهج أنوار الشمس".
" فيودّ لو ينطلق من رحاب هذا العالم الغادر الجائر ".
فهمٌ عميق للحياة البشريّة :
"بتّ أرى جميع أطايب هذه الحياة الخادعة
كأحلام وأوهام تتلوها عبر وغير جسام ".
"وقد اخترت الحياة وتذوّقت مرارتها العلقميّة
بكؤوس طافحة من سائلها الجهنّميّ المذاق .
والخيانة البشريّة نالني منها : أشدّ أنواع البلاء ".
"لقد فقدت الثقة بكلّ كائن حيّ ".
وهنا يلتقي مع كبار الحكماء سيّما المُتنبي حيث يقول :
" ولمّا صار ودّ النــاس خبًّـــا جزيت على ابتسام بابتسام
وصرع أشكّ في من أصطفيه لعلمي أنّه بعض الأنــــــام "
إنّ هذه الأفكار الهامّة المطروحة في الكتاب صيغت بدقّة ومرونة ومهارة . فقد اعتمد المؤلّف البساطة والعذوبة مبدأ في الكتابة ، مركّزاً على احترام الصلة المُقدّسة بينه وبين القارئ ، إذ حرص على أن لا يفوّت عليه كلمة واحدة ، فكان لكل كلمة بل لكلّ حرف وظيفته في عمليّة تناغم وتحاور هادئ ومخلص وموصل كلّ الإيصال ومثمر أحسن الثمر ، فجاءت هذه الكتابات بعيدةً كل البعد عن "لعبة العصر الكلاميّة" ، حيث أصبحت الكتابة هدفاً ، وساد التعقيد والإبهام والغموض والصنعة والتكلّف والثقيل من الكلام والغريب ، ودارت الكلمة في حلقة مفرغة حول نفسها وسقطت جثّة بلا حراك ، وأصبح الأدب من الزبد الذي يذهب جفاءً وليس فيه ما ينفع الناس .
وعلى العموم ، يتميّز الكتاب بنزعة ورمانسيّة حادّة ، إذ إنّ ألذات تظهر جليّة في كلّ الصفحات ، واضحة حيناً متوحّدة مع الطبيعة والأشياء أحياناً .
ضباب الكآبة الشفيف يغطّي جميع حقول الكتاب ووروده ، وتتوحّد مع الزهر قطرات من اللؤلؤ . والحزن يسري في مفاصل الكلمات وشرايينها دماً ودفئاً وحياة . والجداول والينابيع والأنهار تنتشر في أرجاء الصفحات وتشترك مع الطير والشجر والرياح في عزف سمفونيّة الحبّ السماويّ الخالد .
ياسر بدر الدين
بيروت ، في 4/2/1980