مقدّمة "القلب المُحطّم "
الترجمة الفرنسيّة
بقلم ماري حدّاد
"القلب المُحطّم " مجموعة من القصائد النثريّة والشعريّة التي تتنوّع تنوّعاً كبيراً في أغراضها وأساليبها الإنشائيّة المتّسمة أحياناً بالرمزيّة والسريّة .
ويصوّر المؤلّف نفسه فيها في مظاهر مختلفة .
بعد هذه القصائد تسابيح وابتهالات ، مثاله تلك المُعنونة باسم "الله":
" كلمة رقيقة ، عذبة ، شفّافة ، أثيريّة مُقدّسة !...
كلمة قاسية ، ولكنها عطوفة !...
كلمة رهيبة ، ولكنها معسولة !...
كلمة تضمّ في ثناياها أسرار الأبد وخفاياه !..."
وفي "صلاة الفجر " يقول :
"اتبعيني يا بنيّتي لنذهب إلى "بيت الله" لنرفع له الصلوات ...
لنتناسَ كلّ شيء يا بنيّتي ،ونتّجه نحو القدير ..."
أمّا السلام فهو توق إلى العالمِ الآخر :
"سلام على ذلك العالم الروحيّ المضيء الخالد !...
سلام على تلك الربوع المُقدّسة النقيّة !"
وثمّة صفحات تعبّر عن كره وازدراء تامّ للحياة والعالم :
"متى تحين تلك الساعة الخالدة ،
ساعة انطلاقي من (الأسر) إلى فضاء (الحريّة )؟!"
أمّا الموت الذي يرهبه الناس فيمجّده ويدعوه بحرارة "
" ولكنّ الساعة التي تحين بها مغادرة الروح لجسدها البالي الحقير ،
ساعتذاك تهتك الأسرار الأزليّة الخالدة !
وتبدو الحقيقة التي نشدها البشر آجالاً عبثاً ،
فيعرف كلّ لم أتى إلى هذه الحياة الفانية ؟
وما سرّ الدموع والآلام التي كان يعانيها ؟"
أنّه موضوع يتردّد دائماً على صفحات الكتاب :
" نعم ، أنا غريب في هذه الحياة الغريبة عني ..."
وفي قصيدة أخرى تراه يحنّ إلى أقاصي الفضاء ....
"هناك حيث الهناء ، حيث السرور ، حيث النور ، حيث الحريّة والسعادة ،
حيث الحبّ والعدل ، حيث الخلود السرمديّ ، الأبديّ الأزليّ ، اللانهائيّ ...".
ويقول في موضع آخر :
"إذ أكون في الغد قد اندمجت مع (حبيبي)، وفي هذا سعادتي الكاملة الشاملة "...
ونلاحظ مقارنات كثيرة ، تتكرّر في صيغ مختلفة ، بينه
هو ابن النساء والخمر ، والجاه والمال ، والنفوذ والسلطان والحياة ...
ولي الله ، والسماء ، والحقّ ، والمعرفة ، والعدالة ، والمجهول ،
والاندماج (بالقوّة الموجدة)!".
وفي قطعة أخرى يقول :
"نفسي جائعة ! ولكن إلى غير خبزكم المعروف ...
إنّ نفسي جائعة ، وجائعة ...
ولكن ..إلى (الإكسير) السماوي".
ويصبّ لعنات طويلة على المال سبب كلّ شرّ وهلاك ؛
إنّه العجل الذهبيّ الذي تنحني البشريّة أمامه ، مكبّلة بالعار والخطيئة .
أمّا الزواج فهو جريمة تولّد كائنات مرهونين للشقاء والعذاب والموت . وبدون الزواج ينقرض النوع البشريّ من سطح الأرض ، وانقراضه يكون لخير الإنسان ، ولكن هيهات أن يفعل البشر ذلك .
وفي إحدى صفحاته يشبّه الصداقة الزائفة بالبرج الحصين المنيع قد تقوّض فيقول :
"وفي ذلك البرج الضخم الفخم ،
الذي كانت ترتدّ عنه عقبان الجوّ ، ونسور السماء ،
وغزاة الهواء ، وغيلان الفضاء ...
أصبح – واأسفاه ! مرتعاً لخفافيش الفضاء وصغار الطير ...
فليندب النادبون ، وليندم النادمون ،
وليتب الأثمة والخاطئون ، ولتهم العبرات الحرّى من العيون ،
وليعتبر المُعتبرون ، وليشهد هذه المأساة الأليمة الشاهدون ".
وفي قطعة أخرى يقول :
"أنا ثائر ! وسأظلّ ثائراً حتى تطوّق ثورتي الكائنات !
بل ، ستجتاح (ثورتي) معالم هذه النّظم الجائرة السخيفة ،
وتدكّها دكّاً ، وتتركها قاعاً صفصفاً ،
لتبني على أنقاضها نظماً أخرى ".
أمّا الحبّ ، حسبما يفهمه ، فقد رفعه إلى درجة سامية من الروحانيّة والقداسة ، وجرّده من كلّ قيد جسمانيّ . إنّه بالحبّ يبلغ الألوهة .
إنّ كتاب "القلب المُحطّم" يعبّر عن شخصيّة الدكتور داهش الفريدة التي تضاهي بعظمتها أولئك القلائل الأعلام الذي شرّفوا الإنسانيّة بوجودهم على الأرض .
وبعض كتاباته تثير العجب ، لكن إذا أتيح للقارئ ، ذات يوم ، أن يتعرّف إلى صاحبها ، فإنه لن يجد أيّة مُغالاة في ما يقوله : ذلك بأنّ كتاباته جميعها مبنيّة على يقين لا يتزعزع ، على قوّة الحقيقة .
هذا المؤلّف يعكس نفسيّة رجل يختلف عن جميع الرجال ، رجل يقف على النقيض منهم بأفكاره ، وميوله ، وأعماله . والسلطة والقوّة اللتان تنبعان من كلامه تفرضان نفسهما ، لأنّ كلام الدكتور داهش هو مقدّمة عمله ، فكلاهما وحدة تصدر عن مبدإ لا يعروه وهن أو تبدّل .
فلنحيّ فيه فجراً جديداً ، وآفاقاً مضيئة ، وينبوعاً لثروات روحيّة يمكن أن نستفيد منها إذا أردنا .
ماري حدّاد
بيروت ، في 9 كانون الثاني 1955