أضواء على "قيثارة الآلهة"
للدكتور داهش
بقلم باسيل دقّاق
من محرّري جريدة "الحياة" البيروتيّة
يكاد يكون هذا الكتاب تتمّة لكتاب "أسرار الآلهة" . إلاّ أنّ فيه بعض المواضيع التي تختلف عن سابقه . فإنّ داهش بك يتحدّث فيه لأوّل مرّة بوضوحٍ عن رسالته السامية التي خلقه الله لإتمامها ، والتي كانت سبب تألّب رجال الدين عليه ، وتدبيرهم المكائد للإيقاع به والقضاء عليه .
ولكنّه مع هذا لا ينسى موضوع كتابه الأساسيّ ، وأعني به حبّه "لسوسو" ، أو "ديانا" كما يسمّيها في بعض الأحيان . وهذا الكتاب أيضاً مُرتّب ، كسابقه ، حسب تواريخ الحوادث وعلى طريقة المُذكّرات .
يبدأ الدكتور داهش بك "قيثارة الآلهة" بمُناجاة حبيبته ، نابشاً ذكريات الماضي ، باحثاً عن آثار خلّفتها حبيبته في غرفته في زياراتها المتعدّدة في الماضي . ويرسم لها صورة صادقة فيقول :" لقد صنعتها الآلهة".
وفي نهاية مُناجاته لا ينسى أن يؤكّد لها أنّه ما زال وفيّاً لحبّها ، ومُخلصاً لعهدها على الرغم من طول مدّة الفراق .
وينتقل بنا إلى "رؤيا سحرية" تراءت له في إحدى الليالي . فقد تعب من ضوضاء المدينة ، وقصد إلى أحد الحقول ، حيث جلس تحت شجرة ، وراح يتأمّل الطبيعة الجميلة ، ويرقب العصافير وهي تتنقّل بين أغصان الأشجار ، مُرفرفة بأجنحتها الصغيرة .
وحلّ الليل ، وهو لم يزل في جلسته هذه ، غير منتبه للظلام الذي أحاطه بوشاحه . وفجأة ، انتصب أمامه شبح جبّار ملأ قلبه فزعاً . ولكنّ الشبح طمأنه ، وجلس بجانبه وراح يباسطه الحديث ، ويلقي عليه أسئلة عن حياته الخاصّة وأمانيه في هذه الحياة . ويجد نفسه في النهاية ، دون أن يدري ، يصارحه بمكنوناتِ صدره ، وبما يختلج بقلبه من أمانِ ورغبات . وإذا به يهدف إلى غاية واحدة هو الذهاب إلى مصر ، حيث تقيم حبيبته . فيشفق الجبّار عليه ، ويظهر له مصر ، فيرى فيها حبيبته جالسة تفكّر فيه . فتتناجى روحاهما ، وتتشاكيا الهوى وعذاب الفراق . وتختفي الرؤيا فجأة ، فيعود وحيداً ، شقيّا يملأ الحزن قلبه ، بعد أن تذوّق السعادة لحظات معدودة .
في هذه الرؤيا تصوير للأحلام التي تمرّ بمُخيّلة العاشق ، المفارق مالكة فؤاده ، والفرح المُفاجئ الذي يملأ قلبه ، إذ يتخيّلها أمامه ، والتعاسة التي تعود فتغمره عندما يعود إلى عالم الحقيقة ، فيجد نفسه وحيداً ، وقد اختفى كلّ أثر للحبيبة .
ودام بعاده عن حبيبته ثلاث سنوات ذاق فيها الأمرّين ، وكانت الصعوبات تعترض دائماً طريقه كلّما حاول أن يعود إلى مصر . وأخيراً عاد إليها .
وفي إحدى الليالي نراه في حفلة راقصة ، وقد تأبّط ذراع إحدى الحسان . وتراه ديانا . فترسل صديقتها تستدعيه إليها . فيذهب ، ولكنّه يتظاهر بأنّه نسي غرامها وسلاها ، ويقول لها إنّه عزم على الزواج من فتاة اخرى تدعى "سعاد". فتحاول استرضاءه ، ولكنّه يظلّ على موقفه منها ، ولا يلين . فتثور بوجهه ، وفجأة تستلّ خنجراً من صدرها وتطعنه به . وفيما هو يحتضر ، يكشف لها عن حقيقة عواطفه ، فإذا به لا يزال يهواها . أمّا زواجه من سعاد فرواية اختلقها ليثير غيرتها ، ويجعلها تأتي إليه بمحضِ إرادتها . ويقضي أخيراً بين ذراعيها وهي تبكيه أحرّ البكاء .
ولا يتحدّث داهش بك هنا عن نفسه ، بل عن شخص آخر يطلق عليه اسم "ليو"، ولكنّه مع ذلك يضع في القصّة شيئاً من حياته الخاصّة ، ويصوّر نفسه في شخص "ليو" بطل قصّته .
ويلاحظ القارئ أنّ الحزن يسيطر على كلّ كتابات داهش بك ، وأن ليس فيها من المرحِ إلاّ النزر اليسير . وليس هذا لأنّ طبيعة الكاتب مُتشائمة ، إذ إنّه لا يعرف التشاؤم أبداً ، بل لأنّ الحالة النفسيّة التي كان فيها في ذلك الحين كان يطغى عليها الحزن من كلّ جانب .
فقد كان يحاول المستحيل للسفر إلى مصر , ولكن العراقيل كانت تظهر في طريقه فتهدم خططه من أسسها , وتضطره لمعاودة السعي من جديد . ولم تكن هذه العراقيل بنت الصدف ، بل من صنع أناس انقادوا لشهواتهم الحيوانيّة ، وساروا وراء مآربهم السافلة ، فراحوا يحاربون عودته إلى مصر بكلّ سلاح .
ويحدّثنا بعدئذ عن "الإله العاشق". وهذا الإله هو "زوس" إله الآلهة . فقد عشق غادة فتّانة تدعى "ديانا"، ووقع أسير جمالها كأيّ إنسان عادي . وحاول أن يكبت عواطفه خوفاً من أن يحزن زوجته "هيرا". ولكنّ الحبّ كان أقوى منه ، فتنكّر بهيئة شاب جميل ، وجاء يطارحها الغرام . وتضطره الغادة ، بتردّدها في مبادلة الحبّ ، إلى الكشف عن حقيقة أمره ، ممّا يجعلها تستسلم إليه بحرارة ووجد . وينسى "زوس" زوجته ، لانشغاله بهذا الغرام الملتهب ، فتعوّل على الانتقام . وتتزيّا بزيّ وصيفة "ديانا"، وتدفعها إلى أن تطلب من "زوس" أن يظهر لها بثوبه النورانيّ وجلاله الربّاني . ويحاول إله الآلهة أن يثنيها عن عزمها ، ولكنّها تتشبّث بطلبها ، فيجيبها إليه كارهاً . وتكون النتيجة أن ظهوره يسبّب حرق قصرها وهي فيه .
إنّها قصّة آلهة . ولكنّنا نلحظ أنّ داهش بك أراد أن يرينا فيها مبلغ جمال ديانا وقوّة سحرها ، حتى أن إله الآلهة نفسه وقع في غرامها . وإنّها لطريقة مُمتعة ، لوصف جمال غادة ، لم يسبقه إليها أحد .
وينتقل بنا بعدئذ إلى "حلم غريب " رآه في إحدى الليالي . فقد رأى نفسه في القرن الخامس عشر . وشاهد رجلاً تعلّقت به أبصار الجماهير الغفيرة . ولمّا سأل عنه قيل له إنّه "ديموقليس" الخطيب الشهير .
ويبدأ "ديموقليس" خطبته ، فإذا به يحمل حملة شعواء على رجال الحكومة الذين لا يأبهون لراحة الشعب وطمأنينته ، ويتحكّمون بحياته ومصيره كما يشاؤون . ثم يسرد ، كبرهان لما يقول ، حادثة جرت لأحد أصدقائه . وفحواها أن هذا الصديق حاول مراراً أن يسافر إلى أحد البلاد ، فلم تسمح له الحكومة بذلك . والسبب أنّ قنصلها في ذلك البلد أرسل إليها تقريراً كاذباً ، ينعت هذا الصديق بأحطّ النعوت ، ويلحّ على حكومته بمنعه من السفر إلى هذا البلد . ولم يفعل القنصل ما فعل إلاّ لأنّ امرأة ، يريد استرضاءها ، طلبت منه هذا . وهذه ألامرأة تفضّل أن ترى وجه الشيطان ولا ترى وجه هذا الصديق . ومن أجلها خان القنصل ضميره ، ونكث بعهده الذي قطعه على نفسه بأن يكون شريفاً ، ولا يتحيّز إلى أيّ كان مهما سمت رتبته وعلا شأنه .
وليس القنصل وحده مخطئاً ، بل إنّ الحكومة شاركته في جرمه ، إذ إنّها قبلت كلامه على علاّته ، ولم تحاول أن تحقّق في مبلغِ صدقه .
ويتابع "ديموقليس" خطبته ، فيحذّر الحكومة من مغبّة أعمالها ، ويذكّرها بما جرّه طغيان القياصرة الروس من مصائب عليهم .
واستيقظ داهش بك من حلمه ، فنهض وحمد الله على أنّه ليس إلاّ حلماً .
لا يحتاج هذا الحلم إلى تفسير لأنّه يتحدّث عن نفسه . فإنّه صورة صادقة لما يجري في حياتنا هذه . فرجال الحكومة لا يكادون يقبضون على زمام الحكم لتحقيق مآربهم الخاصّة . وإذا حاول أحد أن يرفع رأسه ليطالب بحقّه في الحياة الحرّة ، أسرعوا إلى القضاء عليه ، وبثّوا العراقيل في طريقه ، واتّهموه بكلّ تهمة تؤدّي إلى الانهيار والدمار .
ثم يحدّثنا عن صديق له أضمر له رجال الدين أشدّ أنواع الحقد . فقد كان هذا الصديق مولعاً بالعلوم المجهولة ، كالتنويم المغناطيسي وعلم النفس . وقد ذاع صيته في المدينة التي يقيم فيها، وتردّد اسمه على كلّ لسان لغرابة أعماله . ولمّا رأى رجال الدين إقبال الناس عليه ، ملأت الغيرة قلوبهم ، وأضمروا له الحقد . وكان من نتيجة هذا الحقد أن عقدوا جلسة مُستعجلة ضمّت عدداً كبيراً منهم . ووقف الرئيس ، فافتتح الجلسة ، مُعبّراً عن غاية الجميع .
وراح كلّ واحد منهم يسرد شكواه ، وما حدث له مع هذا "الكافر" كما يدعونه . وبعد أن تكلّم بعض الكهنة ، قام الأب فرنسيس ، وقصّ عليهم ما حدث له . فقد اعترف له هذا "الشقيّ" أنّه لا يأتي بأعماله هذه إلاّ بمساعدة إبليس ، وأراه ورقة ، إذا قرأها المرء ثلاث مرّات قبل النوم ، فإنّه يجد في الصباح جنيهاً ذهبيّاً تحت وسادته . ودفع الطمع الأب فرنسيس إلى التجربة ، فأخذ الورقة ، وفعل كما قال له . ولكنّه لم يجد شيئاً تحت الوسادة . وأعاد الكرّة في اليوم الثاني والثالث والرابع ، ولكن دون جدوى .
وأخيراً جاءه يوسف ، وأخبره أنّه نسي أن يكتب له كلمة في الورقة تأتي بالجنيه . وبينما كان الأب فرنسيس يردّد الكلمة ليحفظها جاءه رسول من قبل رئيسه يدعوه إليه . فترك يوسف في غرفته وذهب . ولمّا عاد ، كان يوسف لا يزال في مكانه . وما كاد الأب فرنسيس يدخل حتّى نهض يوسف وودّعه وانصرف . ووقف الكاهن أمام النافذة ينظر إلى الطريق ، فإذا به يرى يوسف يسير ، وقد تأبطّ شيئاً ملفوفاً بجريدة . ودهش الأب لأنّه خرج من عنده صفر اليدين . فراح يبحث في غرفته ، حتى اكتشف أن فردتي حذائه ضاعتا . فغضب كثيراً ، وقرّر أن يأكل "الفروجة" التي تغلي على القدر قبل أن يبلّغ الشرطة بالأمر ، ولكنّه ما كاد يرفع الغطاء حتى رأى الحذاء يغلي في القدر ، وقد اختفت "الفروجة".
وأخيراً ، قرّ رأيهم أن يطاردوه أينما حلّ ، وأن يخبروا زملاءهم في كلّ بلد ليتضامنوا معهم في مطاردته .
ولا يحتاج القارئ إلى بحث وتفكير ليفهم أنّ هؤلاء الكهنة لم يكونوا يتحدّثون إلاّ عن داهش بك ، وأنّ نصف ما رووه كان مختلقاً لتبرير أفعالهم ، وطمعهم في مال الدنيا الزائف . وقد نفّذ الكهنة قرارهم . إذ إنّه ما كاد يذهب إلى مصر ، حتى راحوا ينصبون له المكائد والأشراك للإيقاع به . ولكنّه لم يحفل بهم . أجل ! إنّ ذلك اليوم ليس ببعيد ، وسينال كلّ إنسان جزاء ما سعت إليه قدماه ، ونطقت به شفتاه وصنعته يداه .
باسيل دقّاق
بيروت ، 1946