"القلب المحطم"
عبقرية متجلية في بساطة التعبير ونضج التفكير
بقلم الدكتور سمعان سالم
الدكتور سمعان سالم أستاذ في الفيزساء النووية بجامعة لونغ بيتش في ولاية كاليفورنيا. نشر له ثلاثة كتب في التاريخ والحضارة وأكثر من مئة مقالة في الفيزساء النووية. |
وصلني كتاب الدكتور داهش "القلب المُحطَّم" هدية من "مكتبة تراث داهش". وعلى الفور ابتدأت ألتهم صفحاته. وما إن قاربت منتصفه حتَّى طلبَ إليَّ بعضهم أن أُبدي رأيي في الكتاب. تساءلتُ: ما قيمة رأيي عندما يعتقد كثيرون أن الدكتور داهش هو رجل المُعجزات، وقد يكون "القلب المحطَّم" إحداها.
فكَّرت مليًا، ثم عدتُ إلى الصفحة الأولى ادرسها وأنعم النظر بما جاء فيها، إذ أدركت أنه يجب عليَّ أن أتفحَّص وأتفهَّم ما أقرأ، ففي صفحات هذا الكتاب آمال وآلام رجلٍ في قلبه جروحٌ وفي نفسه حروقٌ، وهو يكتبُ والدمُ مدادُه.
"القلبُ المحطَّم" يحتوي على خمس وستين مقالة في موضوعاتٍ مختلفة، لكن الرسالة قد تكون واحدة جليَّة. ترافقُ جميعَ هذه المقالات رسومٌ من نسيجِ خيال المؤلِّف فتزيد المعنى جمالاً وإيضاحًا، وتعطي الكلمات رموزًا رائعة. وقد قدَّم الكتاب الشاعر الكبير حليم دموس فأنشدَ وأجاد.
عندما يدرك القارئ أن جميع المقالات الواردة في هذا المجلّد وضعت عندما كان الكاتب في الرابعة والعشرين ربيعًا، قد يعود بذاكرته لما كان يجول في تفكيره ( أي تفكير القارئ) عندما كان هو في ريعان الشباب، فيُقارن، إذْ ذاك، آراءه وأفكاره بآراء الكاتب وأفكاره، فتتجلّى له عظمة الروح والأفكار التي كانت تختلج في نفسِ مؤسس الداهشية.
إن الدكتور داهش يكتب بسرعة خيالية فتسيل عصارة أفكاره كالنهر الجارف، فتأتي كتاباته بأسلوبٍ بالغ السهولة، بليغ التأثير. فالعبقرية متجلِّية في بساطة التعبير ونضج التفكير وعمق المعنى.
إن في الأسطر الأوائل إشارةً واضحةً لما يحويه الكتابُ من جيد التعبير وقوة الإدراك وما في قلب المؤلف من آلامٍ وأحزان.
"أنا ابنُ الأسى ووليدُ العذاب
فطهريني أيتها الآلام".
الروحُ تطهرُ بالآلام والحرمان والتقشف والابتعاد عن مهازل الحياة التافهة، ولقد صدق الشاعرُ حليم دموس عندما قال:
"لم أشكُ من وقع المصائب مرةً
إن المصائب هذَّبت أخلاقي" لقد انفرد وتنسَّك الدكتور داهش بروحه، فارتفع عن الحياة الدنيا ووصفها بعبقرية قد تكون فريدةً في التفكير وعُمق الفلسفة وحُسن الإيجاز:
"كلما ازددتُ تعمقًا في ضروب الحياة، تكشَّفت لي منها نواحٍ عديدة ساقطة كنتُ أجهلها".
احتقاره للمادَّة يتجلَّى بوضوحٍ في كل صفحة وفي كل سطر حتى يبلغ الذروة في مقاله "المال المال"، إذ يخاطب المال قائلاً:
"فافن من هذه الأرض وتلاش
يحلُّ الهدوء محلَّ الصخب
والسعادةُ محلَّ الشقاء".
ويزدادُ المعنى إيضاحًا عندما يخاطب جبران خليل جبران بقوله:
أيها الطيف الغير المنظور بأعيننا
التي لا ترى غير عالم المادَّة،
أيها النابذ عالم المادَّة الحقير".
يرى في الحياة الآلامَ، فيصفها بأسلوبٍ واضحٍ لتدخل عميقًا في قلب القارئ وروحه:
"لقد بَلوتُ الحياة وخبرتها، فإذا بها أضحوكة، بل قل إنها مهزلة".
ثم يستدركُ بغبطة وحبورٍ علمًا منه أن المهزلة لن تدومَ، فهي إلى زوال:
"ما الحياةُ غيرَ وهمٍ باطل سوفَ يزول".
وآلامُ الحياة والكآبة تطهرُ الروح، فيبتهجُ لذلك رجلُ الروح:
"وفي ألمي العميق لذَّتي
وفيه سعادتي وبهجتي".
ومَن شعرَ بسعادةٍ في الآلام فقد صارعت روحه الآلامَ فصرعتها، وفي التغلّب على الرذيلة فضيلة وبهجة وسعادة. فالدكتور داهش يرى الحياة امتحانًا؛ مهمَّة الروح فيه أن تتغلَّب على المادَّة وتقهرها، فتنتصر وتحظى بالسعادة الخالدة السرمدية، فتنتهي الآلامُ وتُبادُ الأسقام.
في عدة مقاطع يصفُ الكاتب جمال حياته السابقة، مقارنًا عذوبتها بمرارة الحياة الحاضرة، ليستدرك بأن الامتحان سينتهي وسيعودُ إلى الحياة السرمديَّة الأبديَّة:
"أنا غريب في هذه الحياة الغريبة عني
نعم، أنا جئت من عالم مضيءٍ غير هذا العالم الكئيب".
عالم عمَّه الظلم حيث الحقّ للقوة وحيث المادَّة تتحكَّم في رقاب العباد، فهي، وليس سواها، إلاهة هذه الكرة.
"أنا أنكرُ عدالة الأرض لأنها مفقودة".
ولكن الحياة عليها ليست سوى هُنيهة وتمر. ثم يطلب متوسِّلاً ليتحرَّر من سجن المادَّة وقيودها إلى:
"حيث الخلود السرمديّ الأبديّ الأزليّ اللانهائيّ"، فيناجي الموت مناجاة الحبيب للحبيب، لأن فيه التحرّر من مرارة الحياة.
"في الغد قد أندمجُ مع حبيبي الموت،
ففي هذا سعادتي الكاملة الشاملة،
فالوداع، أيتها الحياةُ القاسية المريرة، الوداع".
حبُّه للحياة الأبدية حبٌّ صادقٌ قد تحكّم بكل جوارحه، فصرف ذهنه كليًا عن الحياة الدنيا، فاحتقرها وأراد التخلّص منها. إزدراها وازدرى كل ما فيها حتى الزواج، إذ رأى فيه الشهوة العارمة لا الحبّ الحقيقي؛ فالزواج نتيجة المتعة الجنسيَّة، لأن الحبَّ الحقيقي السامي لا يمكن أن يتبلور على الأرض، فموطنه الحياة الأبدية في السماوات العلوية. ولذا،
الزواج رذيلة وليس فضيلة
كما زعموا ويزعمون".
وقد يرى القارئ في "القلب المحطَّم" دمعة عين وحرقة قلب وعصارة يأس، ولكن من أنعم الفكر وتبصَّر، ارتفعَ عن هذا إلى ما في الكتاب من تفهّمٍ للحياة وما فيها. إن فيه رسالة قيّمة؛ وفي مواضيعه دروسٌ ومعانٍ دقيقة سامية، وإن اختلفت العناوين. فالرسالةُ واحدةٌ واضحة – الابتعاد عن المادّة بكل أنواعها من المال حتى الزواج، والاندماج بالروح السماوية.
"القلبُ المحطم" في اختلاف موضوعاته وعمق أفكاره وبساطة البلاغة التي فيه فريد. فهو ثورة على المادّة وعلى الحياة الدنيا بأسرها، كما على الأساليب المعقَّدة.
وقد يتساءل القارئ هل تمكَّن الدكتور داهش من الصعود إلى قمة الرابية وأنفذ النظر في أعماق الحقيقة فشاهد ما شاهده الرسل والمصلحون من قبله، وهل ارتشف من مياه النبع الذي شربوا منه؟ الروح الطاهرة تشتاق إلى تلك الرابية، وإلى مياه ذاك النبع تبقى أبدًا ظامئة.