أنا أؤمن بأنه توجـد عدالة سماويّة, وأن جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدنيا من مُنغصات انَّ هـو الاّ جـزاءٌ وفاق لِما أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور.ولهـذا يجب علينا أن نستقبلَ كلّ مـا يحـلّ بنـا من آلامِ الحياةِ ومآسيها غير مُتبرّمين ولا متذمّرين , بل قانعين بعدالةِ السماء ونُظمها السامية.

Highlighter
أحبُّ الكُتُبَ حبَّ السُكارى للخمر , لكنَّني كلَّما أزددتُ منها شرباً, زادتني صَحوا
ليس مّنْ يكتُبُ للهو كمَن يكتُبُ للحقيقة
الجمالُ والعفّــة فـردوسٌ سماويّ .
لا معنى لحياةِ ألأنسان اذا لم يقم بعملٍ انسانيٍّ جليل .
اعمل الخير , وأعضد المساكين , تحصل على السعادة .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقـوم بأعمالِ الخير نحـو ألأنسانيّة .
الموتُ يقظةٌ جميلة ينشُدها كل مَنْ صَفَتْ نفسه وطَهرت روحه , ويخافها كلّ من ثقُلت أفكاره وزادت أوزاره .
ان أجسامنا الماديّة ستمتدّ اليها يـد ألأقـدار فتحطِّمها , ثمّ تعمل فيها أنامل الدهـر فتتَّغير معالمها , وتجعلها مهزلةً مرذولة . أمّا ألأعمال الصالحة وألأتجاهات النبيلة السّامية , فهي هي التي يتنسَّم ملائكة اللّه عبيرها الخالد .
نأتي إلى هذا العالمِ باكين مُعولين، و نغادره باكين مُعولين! فواهً لك يا عالمَ البكاء والعويل!
جميعنا مُغترٌّ مخدوعٌ ببعضه البعض.
العدلُ كلمة خُرافية مُضحكة.
أمجادُ هذا العالم وهمٌ باطل، و لونٌ حائل، و ظلٌّ زائل.
لا باركَ الله في تلك الساعة التي فتحتُ فيها عينيّ فإذا بي في مكانٍ يطلقون عليه اسم العالم .
أنا غريبٌ في هذا العالم، و كم احنُّ إلى تلك الساعة التي اعود فيها إلى وطني الحقيقيّ.
الحياةُ سفينةٌ عظيمة رائعة تمخرُ في بحرٍ، ماؤه الآثام البشريَّة الطافحة، و امواجه شهواتهم البهيميَّة الطامحة، و شطآنه نهايتهم المؤلمة الصادعة.
كلّنا ذلك الذئبُ المُفترس , يردع غيره عن اتيانِ الموبقاتِ وهو زعيمها وحامل لوائها , المُقوّض لصروح الفضيلة , ورافع أساس بناءِ الرذيلة .
الحياةُ سلسلة اضطراباتٍ وأهوال , والمرءُ يتقلَّب في أعماقها , حتى يأتيه داعي الموت, فيذهب الى المجهولِ الرهيب , وهو يجهلُ موته , كما كان يجهلُ حياته .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقومَ بأعمالِ الخير نحو الانسانيّة .
المالُ ميزان الشرِّ في هذا العالم .
السعادةُ ليست في المال , ولكن في هدوءِ البال .
كلُّ شيءٍ عظيمٍ في النفسِ العظيمة , أمّا في النفسِ الحقيرة فكلُّ شيءٍ حقير .
الرُّوح نسمةٌ يُرسلها الخالق لخلائقه لأجل , ثم تعودُ اليه بعجل .
الرُّوح نفثةٌ الهيَّة تحتلُّ الخلائق , وكل منها للعودة الى خالقها تائق .
الرُّوح سرٌّ الهيٌّ موصَدْ لا يعرفه الاّ خالق الأرواح بارادته , فمنه أتتْ واليه تعود .
أنا أؤمن بأنه توجـد عدالةٌ سماويّة , وأنَّ جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدُّنيا من مُنغِّصاتٍ وأكدارٍ انَّ هـو الاَّ جـزاء وفاق لمِا أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور . ولهـذا يجب علينا أن نستقبل كلَّ مـا يحـلُّ بنـا من آلام الحياة ومآسيها غير م
الحرّيةُ منحة من السماءِ لأبناءِ ألأرض .
الموتُ ملاكُ رحمةٍ سماويّ يعطف على البشر المُتألّمين , وبلمسةٍ سحريّة من أنامله اللطيفة يُنيلهم الهناء العلويّ .
ما أنقى من يتغلّب على ميولِ جسده الوضيع الفاني , ويتبع ما تُريده الرُّوح النقيّة .
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
الراحة التامّة مفقودة في هذا العالم , وكيفما بحثت عنها فأنت عائدٌ منها بصفقةِ الخاسر المَغبون .
ليس أللّــه مع الظالم بل مع الحقّ.
ان الصديق الحقيقي لا وجود له في هذا العالم الكاذب.
ما أكثر القائلين بالعطف على البائسين وغوث الملهوفين والحنو على القانطين , وما أقلَّ تنفيذهم القول.
يظنُّ بعض ألأنذال ألأدنياء أنّهم يُبيّضون صحائفهم بتسويدِ صحائف الأبرياء , غير عالمين بأنَّ الدوائر ستدور عليهم وتُشهّرهم.
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السَّلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
رهبة المجهول شقاء للبشرِ الجاهلين للأسرارِ الروحيَّة , وسعادة للذين تكشّفت لهم الحقائق السماويَّة .
الموتُ نهاية كل حيّ , ولكنه فترة انتقال : امّا الى نعيم , وامّا الى جحيم .
الحياةُ خير معلِّمٍ ومُؤدِّب , وخيرَ واقٍ للمرءِ من الأنزلاقِ الى مهاوي الحضيض .
حين تشكُّ بأقربِ المُقرَّبين اليك تبدأ في فهمِ حقائق هذا الكون .
مَنْ يكون ذلك القدّيس الذي لم تخطرُ المرأة في باله ؟ لو وجدَ هذا لشبَّهته بالآلهة .
المرأة هي إله هذه الأرض الواسع السُّلطان. و هي تحملُ بيدها سيفاً قاطعاً لو حاولَ رجالُ الأرض قاطبةً انتزاعه منها لباؤوا بالفشلِ و الخذلان .

كنوزٌ مجهولة

 

بقلم الدكتور مرسي سعد الدين

أثناء زيارتي الأخيرة إلى أمريكا، كنتُ أسيرُ في "الشارع الخامس" حين شاهدتُ يافطةً تقول: "متحف داهش" Dahesh Museum" فجذَبَ انتباهي هذا الاسم، إذ كنتُ قد قابلتُ، منذ سنواتٍ بعيدةٍ في مصر، لبنانيًا باسم الدكتور داهش؛ فطلب مني في ذلك الوقت ترجمةَ بعض أعماله الادبية غلى اللغة الإنجليزية. ولم يتَّسع وقتي، إذ ذاك، لقبول تلك المهمَّة. ومضت سنوات، ونسيتُ كل شيءٍ عنه حتى مروري مصادفةً أمام المتحف.

ودفعني حب الاستطلاع إلى دخول المتحف، وهو في أهم وأغلى منطقةٍ في نيويورك. استقبلني مدير المتحف الأمريكي، وسار معي في دورةٍ بالمتحف. والمتحف يحتوي على ستمئة لوحةٍ من حوالى 1600 لوحة من مُقتنيات الدكتور داهش كان يحتفظ بها في لبنان. وعندما بدأت الحرب الأهلية هناك، أرسلها إلى أصدقاء أمريكان. وفي عام 1987، أقيم المتحف، وأصبح ما أراده له الدكتور داهش: مركزًا ثقافيًا هامًا في حياة أمريكا.

والمتحف ينقسم إلى مجموعاتٍ مختلفة، منه المناظر الطبيعية، والتاريخية. وهي تعكسُ الروحَ الرومانسية التي اتَّصفت بها فنونُ القرن التاسع عشر، والتي استمدَّ الفنانون موضوعاتها من الآدابِ والفنون الكلاسيكية، وتعكسُ هذه الفترةُ تقنياتٍ مختلفة. ومن أهم فناني هذه المجموعة نيكولاس بوسان وكلود لوران، ثم جاء بعدهما يوجين بودين وألفريد سيسيلي وكاميل بيسارو وكلود مونيه. وهناك قسمُ الطبيعة الصامتة؛ وتجدُ فيه لوحاتٍ للزهور والطيور والأسماك. وقد اشتهر القرنُ السادس عشر في هولندا وبلجيكا بهذا النوع من اللوحات. ثم جاء بعضً الفنانين المحدثين بمثل هذا النوع من اللوحات، ومنهم سيزان.

سرتُ مع مدير المتحف من قسمٍ إلى قسم، وهو يتحدث معي عن الدكتور داهش. وكنتُ طوال الوقت في تعجب، لأننا نحن العرب، لسنا من هواة اقتناء اللوحات الفنية، وليس في مصر إلا محمد محمود خليل الذي تعدُّ مجموعة مقتنياته التي يضمّها متحفه المشهور من روائع الفن التعبيري. وقد أثارت هذه الزيارةُ في نفسي نوعًا من حب الاستطلاع. وحين عدتُ إلى مصر، بدأتُ في قراءة الكتب والنشرات الصادرة حول الدكتور داهش أو بقلمه... وهنا أقفُ لحظةً لأعطي بعض تفصلات حياة ذلك الشاعر والفنان المغمور في بلاده، والمعروف في الخارج. وليس هذا بالمستغرب؛ فكما نقول: "لا كرامة لنبي في وطنه".

وُلِدَ الدكتور داهش في القدس عام 1909، ثمَّ هاجر مع أسرته الى لبنان، وحصلَ على الجنسيَّة اللبنانيَّة. له تاريخٌ مُثير وصِفاتٍ أكثر إثارة. نشر ما يزيد عن مئةٍ وخمسين كتاباً في الشعر والقصَّة وأدب الرحلات وسائر الفنون الأدبيَّة. وله مدرسة لها العديد من الأتباع والمُريدين في جميع أنحاء العالم، من أهمِّ أسسها: السلام ورفض الحروب، والدَّعوة الى الآخاء الدينيّ والمحبَّة بين الأديان. وإنَّ له في كلِّ عام جناحاً خاصاً في معرض القاهرة الدوليّ للكتاب.

عدّتُ الى القاهرة، وبدأتُ في القراءة، فوجدتُ نوعين من الكتب: مجموعة بقلم بعض الأدباء والنقَّاد في تقييم مؤلَّفات الدكتور داهش وفي بعض صفاته وخوارقه، ومجموعة أُخرى من أشعاره وقصصه ووجدانيَّاته ورحلاته حول العالم. المجموعة الأولى تحتوي على حكاياتعن بعض الخوارق التي كان يقوم بها، وبعض هذه الحكايات بأقلامٍ لا يمكن الشكَّ في نزاهتها . ولكنّي لا أريد الخوض فيها، وإنَّما سأركِّز على الجانب الأدبيّ والفنِّي للدكتور داهش. والغريب أنَّه، مثل جبران خليل جبران الذي هاجر الى أمريكا كان يُزيِّن مؤلَّفاته برسومٍ فنِّية.

ومن الصعب هنا تعدادُ جميع مؤلَّفات الدكتور داهش. ولعلَّ أهمُّها " مذكَّرات دينار " الذي يصفه البعض بأنَّه أُذيسة القرن العشرين. الطتاب رحلةُ دينار يطوف العالم، ويصف ما يراه من أمَّةٍ الى أمَّة ومن شعبٍ الى شعب. ثمَّ هناك كتاب " جحيم الدكتور داهش " الذي يشبِّهه البعض ب "الكوميديا الإلهيَّة " لدانت الإيطالي. ونجد فيه أنَّ جحيم داهش هو جحيم الحياة في لبنان في فترات مُعيَّنة، إذ من المعروف أنَّ داهش تعرَّض للسجن والتعذيب من أجل آرائه في فترة حُكم بشارة الخوري ( 1943 – 1952 ) وكان

ردَّ داهش على ذلك الاضطهاد مجموعةً من الكتب السوداء والمقالات التي نشرت في الكثير من جرائد الدول العربية.

وسأعطي هنا عرضًا سريعًا لبعض مؤلفاته. ففي "مذكرات دينار" نجد دينارًا ذهبيًا منذ أن يولد في منجم للذهب إلى أن يُسَكَّ في دار ضرب النقود. ثم يمضي متنقلاً من منزل إلى حانوت إلى حانة، ومن تاجر إلى رجلِ دين ثم حاكم. وهو يروي في أثناء تنقلاته مشاهداته ومطالعاته شارحًا ظروف تجواله. الكتابُ قصة طويلة تحتوي على عددٍ من الحكايات القصيرة والحوادث التي تعترضُ طريق الدينار.

وأود هنا أن أعرض جزءًا مما جاء في ذلك الكتاب العظيم، وهي فقرةٌ تذكّرني بقصيدةٍ عنوانها "مقابلة غريبة" Strange Meeting  لشاعرٍ إنجليزي من شعراء الحرب العالمية الأولى هو ولفرد أوين Wilfred Owen؛ وأوين من الشعراء الذين شاركوا فعلاً في الحرب. يقول أوين وهو يتحدث عن مقابلةٍ له مع جندي ألماني بعدما فارق الإثنان الحياة:

"أيهاالصديق الغريب – قلتُ له – لا يوجد هنا سبب للبكاء.

"لا يوجد أبدًا – هكذا قال الآخر – إلا السنوات التي ضاعت وفقدان الأمل. إن ما كان لك من آمال كان حياتي أيضًا. لقد رحتُ اصطاد الجمال الوحشي من العالم، "والذي يوجد ليس في سكون عينيك أو الشعر المرتب، ولكنه يهزأُ بمرور الزمن الرتيب.

"وحين يحزن، فإنه يحزن أكثر من حزننا...

"إن مرحي كان سيضحك الكثيرين،

"أما عن بكائي، فشيءٌ منه سيبقى،

"وهو الذي يجبُ أن يموت الآن. وأعني الحقيقة التي لم تُقَلْ، بؤس الحرب والبؤس الذي تقطره الحرب...

"كانت لي الشجاعة، وكان لي غموضُ السر.

" كانت الحكمةُ لي، وكانت لي السيطرة".

وفي نهاية القصيدة يقول:

"أنا العدوُّ الذي قتلته، يا صديقي.

"لقد عرفتُك في هذه الظلمة. فبالأمس كشرت هكذا وأنت تطعن وتقتل.

"وحاولتُ الهروب، ولكن يدي كانتا باردتين.

"والآن دعنا ننام...".
      وفي "مذكرات دينار" يتحدث الدكتور داهش عن الحرب العالمية وويلاتها، وذلك على لسان الدينار الذي كان آنذاك في جيب جندي إنجليزي يُدعى جلبرت جُرح ووقع أسيرًا في يد الألمان، فيقول:

"... وكنتُ أنا أشاهدُ ما يمثِّله البشر على مسرح دنياهم، فيتملّكني العجب، وأدهش لأجل اقتتالهم بهذه الصورة الجنونية التي لا يمكن لمخلوقٍ أن يصدق بها لو لم يشاهدها مشاهدةً عيانية.

"أوليسوا أبناء جنسٍ واحد؟

"أوليس بينهم عقلاء يمنعونهم عن خوض مثل هذه المجزرة المجنونة؟

"أوليست لهم أهداف أسمى من هذا الهدف الوحشي؟

"أهذه هي غايةُ البشر من دنياهم المحمومة بنيران أطماعهم الدنيئة؟"

ويموتُ جلبرت... فيصفُ الدكتور داهش، على لسان الدينار، تكريم رُفاتِ صرعى الوغى، بعد أن "اجتمع مجلسُ الوزراء البريطاني وقرَّر... أن يوفد بعثةً من كبار العسكريين كي يزوروا الجبهة، ويحيوا رفاتَ الأبطال الذين سقطوا في ساحات الشرف لإعلاء كلمة بريطانيا العظمى..." ويذهب أعضاء البعثة الرسمية التي أرسلتها الحكومة إلى جبهة القتال السابقة، وهناك يجدون آلاف الصلبان المغروسة، فوقفوا أمامها خاشعين، ونثروا عليها الزهور. وانطلقت المدفعية، ورفع الجميعُ قبعاتهم إجلالاً للأرواح الخالدة. وفي هذا الاجتماع المهيب تهبط روح جلبرت، هذا الشاب الذي سقط قتيلاً منذ خمسة أعوام ونصف بشنظية قنبلة، وتنتصبُ أمام هذا الحشد العسكري، وتدوي بكلماتٍ جهوريَّة، فتقول: "أيها القوم المدلّسون! أعلنتم الحرب، يا قوم، بعدما خدعتم الأمَّة بأسرها، وانتزعتمونا من بين أهلنا وعشيرتنا، وحرمتمونا نعمة الراحة وطمأنينة النفس التي وهبها لنا خالُق السماوات والأرضين بما تحتويانه.

"زعتمتم، وما أكذب مزاعمكم، أنكم ستمنحوننا الحريَّة التَّامة، وتملأون أهراءنا بالحبوب... وأنكم ستحرروننا من الخوف والقلق الدائمين، وغيرها كثير من الوعود العرقوبية التي هي فرع من الأصل، كالعدالة والإخاء والمساواة... فماذا كانت النتيجة الواقعية بعد الانتصار؟"

ويستمر جلبرت في خطابه حتى يصل إلى الجزء الذي أريد أن أؤكده، وذلك حين يقول:

"إننا، معشر الأرواح الذين بتْنا في ملإ علوي شفاف من كافة الجنسيات التي جعلت الأطماعُ الدنيوية منا أعداءً الداء، قد اجتمعنا هنا ونزعنا من أرواحنا أدران الأرض وخباثاتها... لقد اجتمعنا هنا، وكوَّنا أسرةً روحية واحدة. فأعداءُ الأمس الذين كانت تغمرُ قلوبهم الكراهية أصبحوا أصدقاء اليوم، تعمرُ أرواحهم المحبّة الحقيقية".

هكذا قال ولفرد أوين: "أنا العدو الذي قتلته، يا صديقي!"

      ويستمر داهش على لسان جلبرت فيعبر عن فلسفته الحقيقية، وهي نبذُ الحياة المادية واعتناق الروحانيات. ففي نفس الكتاب ونفس المشهد يقول أيضًا على لسان جلبرت:

"وثقوا، أيها المغرورون المغرِّرون، بأنكم في اليوم الذي تخلصون فيه من جسدكم المادي وتتحرَّرون من قيوده الكاذبة التي تكبلكم تكبيلاً وتفرضُ إراداتها الشيطانية عليكم، ويوم تعاينون الحقّ بعدما تصبحون أرواحًا شفافة مثلنا، ويوم يتم الله – سبحانه – نعمته العظيمة عليك ويسبغها على أرواحكم التي كانت رهينة رغبات أجسادها الترابية... إذ ذاك  ستــتأكدون أن مهازلكم كانت غاية في الحقارة، وأنكم كنتم في غياهب الجهل تعمهون...".

      ومن الكتب التي وقفتُ أمامها طويلاً، بعد قراءتها كتابُ "جحيم الدكتور داهش" الذي يقارن بعض النقاد بينه وبين "رسالة الغفران" للمعري و"الملهاة الإلهية" لدانتي.

      يقول الدكتور داهش في إهداء هذا الكتاب:

"إلى ربِّ الهاوية القاطن في أعماقها السحيقة،

"هناك حيث تجد الأهوالَ دومًا به مُحيقة،

" هناك حيث تزحفُ مجموعات مُخيفة من أرعب الأفاعي الخالدة في جهنمها،

"ومن عقارب الظلام في تلك الأروقة الدهرية المتدفِّقة بالأهوال...

"إلى سيد الظلمات... ورب الآثام... ومؤدِّب الطغام، "إلى الهازئ بالنعيم... القاطن في أعماق الجحيم، "والمخلّد في أتونه السرمدي من جيلٍ إلى جيل، "حتى انقضاء الأعمار والأدهار، "أرفعُ، جحيمي، هذا".

و"جحيمُ" داهش هو جحيم لبنان الذي عاشه الدكتور داهش وقاسى منه ما قاساه. إنه عبارةٌ عن دراسةٍ للأخلاق والنفسيات والضمائر والنيَّات، دراسةٍ للشرور والآثام. وبعد، فهذا الكتاب، كما يقول الدكتور داهش، "هو "اعترافي" أدونه ليبقى "شاهدًا" عليَّ في الأجيال القامة الزاحفة... نعم، لقد ضقتُ ذرعًا بهؤلاء البشر الملاعين، فأحببت أن ألقيهم في جحيمي هذا آخذًا بعضهم برقاب بعض، علني أبرد غليلي وأشفي أوامي عندما أشاهدهم يتقلبون على جمر الغضا، والأبالسةُ يسوطونهم بسياطهم الأفعوانية".

يقنسمُ الكتابُ إلى ثلاثة أجزاء. ومن الواضح أن داهش، حين ألفه، أراد به تهديد مُضطهديه. فهو يصفُ طرقَ التعذيب في الجحيم لهؤلاء الذي طغوا وبغوا:

"لقد طغيتم في دنياكم وبغيتم

"ودجَّلتم على السماء وهتكتم الأعراض

"فلا تلوموا السماء الآن لأنها قابلتكم بالإعراض

"إن عذابكم سيستمر ملايين من السنين

"وسنذيقكم في أثنائها المر والغسلين "لأنكم شمختم بأنوفكم وعلى الضعفاء اعتديتم". وبالإضافة إلى الأجزاء الثلاثة للجحيم، فإن الدكتور داهش يقدم ثلاثة أجزاء للنعيم؛ وهو وصف الدرجات العلوية وكواكب الأحياء النورانية التي يتمتَّع بها الأبرارُ الأطهار. ومما يقوله في وصف الكوكب العلوي الأول (أنقله بحسب نظم الشاعر اللبناني حليم دموس له):

"في الكوكب الأول صوتٌ عذبُ

"يقول: طوبى للأُلى تعذبوا

"قد ناضلوا وبشروا كثيرا

"وسبَّحوا المُهيمن القديرا

"هناك رهط يرتدون حللا

"شفَّافةً والنور فيها اكتملا"

ومما يقوله في وصف الكوكب العلوي الثاني:

"في الكوكب الثاني أرى الأطفال

"أزاهرًا تكلل التلالا

"لم يغرقوا في لجة المعاصي

"وفي بحار الإثم للنواصي

"أزاهرٌ جميلة البراعم

"ترفُ في النعيم كالحمائم

"ومن هنا تبتسم الأزهار

"ومن هناك تلمع الأنهارُ

"هنالك الأطفال يمرحونا

"ملائكًا في نجمهم قُرونا"

ومما يقولُه في وصف الكوكب العلوي الثالث:

"في الكوكب الثالث حورياتُ

"بحسنهن الغض فاتناتُ

"فقلن لي: يا فاتن الغواني

"انظر إلى جملنا الفتان

"وادخل إلى فردوسنا الجميل

"من بعدِ هذا السفر الطويل"

            ***

وللدكتور داهش مجموعةٌ من كتب الأسفار أو ما يسمى بفن الرحلات أطلق عليها عنوان "الرحلاتُ الداهشية حول الكرة الأرضية"، في اثنين وعشرين جزءًا.

وهو يقول في مقدمة الرحلة الثانية منها:

"أنا بطبيعتي أحبُّ الرحلات وأتوق للسفر والترحال شرقًا وغربًا وشمالاً وجنوبًا,.

"أحبُّ السفر إلى الصحارى، والتجوال في شعاب الجبال. كما أحب الهبوط إلى الأودية السحيقة، وأرغبُ مشاهدة العواصم الكبرى والقرى النائية الهاجعة بأحضان الغابات الظليلة.

"وأحب أن ارود المتاحف العالمية لأشاهد لوحات الفنانين العظماء ممن دان لهم الفنّ وأصبح أطوع لهم من بنائهم".

لقد زار الدكتور داهش متحف الإرميتاج الروسي في ليننجراد السابقة، وكذلك متحفي تريتيكوف وبوشكين في موسكو، وشاهد متحف المتروبوليتان العظيم في نيويورك ومتحف بروكلين ومتاحف لوس أنجلوس وسان فرنسيسكو وشيكاجو وواشنطن. كما زار متحفي إلبرادو في إسبانيا واللوفر في باريس، ومتاحف روما والفاتيكان وبرلين وميونيخ. وامتد حبّه للفنّ إلى الشرق، فزار متاحف هونج كونج وطوكيو ونارا وكيوتو وأوزاكا ويوكوهاما ونيكو وكماكيرا وسيام وتركيا وفنلندا والدانمرك وبولونيا وبلجيكا وروانيا وبلغاريا وقبرص وأثينا وأديس أبابا وطرابلس الغرب وجيبوتي ونيروبي وتنزانيا. ويقول أيضًا في مقدمة الكتاب "ومع ذلك، فجميع هذه المتاحف لم تُشبع رغبتي للفنون الجميلة. فأنا أتوقُ للفنّ وأتعشقه وأبحث عنه ليل نهار. فهو لي كالروح للجسد... وبهذه المناسبة تذكرت مثلاً شائعًا دوّنته الكتب، إذ قالت: "اثنان لا يشبع نهمهما شيء: طالب علم ٍوطالب مال". وأزيدُ عليهما ثالثاً، فأقول: وطالب فن".

      وخلال هذه الرحلات، قام الدكتور داهش بشراء العديد من اللوحات بأموال طائلة، فكانت في أساس متحفه العظيم في نيويورك.

                        ***

وقد كتب الدكتور داهش أشعارًا عديدة صدرت في كُتب مختلفة، جميعها – كما ذكرتُ من قبل – تحتوي على رسوم إيضاحية جميلة. ففي قصيدة قصيرة بعنوان "أيتها الوردة" يقول:

"يا أجمل الأزهار الندية،

"ويا أيتها الوردةالمُخلصة الجنيَّة،

"إن لونك القاني لمذهل.

"فأنت تعطرين الاجواء بعقبقك المحيي.

"يا من تتيهين على الأزهار الفاتنة بهذا الجمال الأخاذ.

"يا من تحلمُ بك العروس الفتية

"وتلثمك الكاعب اللعوب،

"لقد وهبك الله بهاءً رائعًا

"يأسر القلوب ويتيمُ الأفئدة.

"كم أتمنَّى أن تلازميني.

"وإذا دَنتْ ساعةُ مُنيتي،

"أتوقُ إلى أن تكلِّلي قبري

"فورودك العجيبةُ الألوان

"تُبهجُ روحي في عالمها الثاني.

"آه! ما أجملكِ، أيتها الوردةُ الضاحكة!

"وما أبهاك!"

وعلى الرغم من هذا الاتجاه الروحانيّ للدكتور داهش، فإن له أشعارًا عديدة يتغنَّى فيها بجمال المرأة وبحبّه لها فتراه في قصيدةٍ بعنوان: "وتضمَّني إلى صدرها الفتَّان" يقول في وصفه لحورية بحر رائعة المفاتن، ناعسة الأجفان، تغمره بحنان:

"وتدخلني الحورية إلى مقصورتها العجيبة الفريدة، إذ يعجز قلمي عن وصف روائعها الخيالية، وتضمني إلى صدرها الفتَّان".

وتكلمت عروسُ البحر الفاتنة، فقالت له:

"سأمنحك لذَّة لن تستطيع منحك إياها أيةُ ابنةِ حواء...".

"وفجأة استيقظتُ على رنين جرس التليفون، "فنهضتُ مذعورًا ولا يزال رنينُ القبلات الشهية يرنُّ في أذني، "وإذْ ذاك ردَّدتُ في نفسي: "ترى هل سأعود وألتقي بكِ، ثانيةً، يا عروسَ البحر الفاتنة؟".

ثمَّ في قصيدة مُهادة إلى آميرة بعنوان: "كم أُحبك!" يقول الدكتور داهش:

"يا فاتنة الآهلة!

"حبكِ كم أراه لقلبي أثير،

"إذ أصبحتُ بحبك أسيرًا، وأي أسير،

"وجهكِ، يا مناي، أراه يُزري بفتنة البدر المنير.

"أنا، والذي جمَّلكِ، على خطاكِ سأسير،

"وبصري، يا دعجائي، عن كواعب الأرض طرًا قد أصبح حسير،

"حسيرا عن سواك، ومعك أتمنَّى العيش ولو على حصير.

"أنا أود أن أمتلكك،

فأغنى ولو بتُّ لا أملكُ شروى نقير".

                  ***

ومن مؤلفات الدكتور داهش التي تسترعي الاهتمام صدر في بيروت عام 1979 بعنوان: "الرسائل المتبادلة بين الدكتور داهش مؤسس الداهشية والدكتور حسين هيكل باشا". والدكتور حسين هيكل هو مؤلف "زينب" وكتابي "حياة محمد" و"في منزل الوحي"؛ وكان وزيرًا ورئيسًا لمجلس الشيوخ المصري في يوم ما.

      أما الدكتور داهش فهو، كما أشرتُ سابقًا، ظاهرةٌ فريدة من نوعها، بل إنه أسطورة. وكانت له فلسفة خاصة، إذ كان يعتقد بوحدة الأديان، وكان ينادي بالاعتراف بسيدنا محمد، عليه الصلاة والسلام. ولكن هذا لم يعجب رئيس لبنان في ذلك الوقت، بشارة الخوري الذي اعتلى كرسي رئاسة لبنان عام 1943. ومنذ توليه السلطة بدأ في اضطهاد الدكتور داهش ومريديه، وحاول اغتياله في عام 1944. وفي النهاية أصدر مرسومًا، في عام 1944، بشطب اسمه، هو وعائلته، ونزع الجنسية اللبنانية منه، وطرده من البلاد. ولم ترجع إليه جنسيته إلا في أوائل عام 1953، بعد أن اضطر بشارة الخوري إلى النزول على إرادة الشعب، والتخلي عن الحكم. والرسائل بين الدكتور هيكل والدكتور داهش تدور حول هذا الموضوع، ولكنها في نفس الوقت تعكس ما يطلق عليه اسم "أدب الرسائل" Les Belles letters »" فنقرأ فيها دررًا أدبية تعكس ثقافةً واسعةً ومعرفةً بفلسفة العالم وأدابه.

نقرأ في رسالة للدكتور داهش إلى الدكتور هيكل إعجابه بكتاباته، فيقول له فيها:

"نعم، لقد قرأت كتبك منذ نعومة أظفاري. ولم يكن في مقدوري يومذاك أن أبتاعها لفقري المدقع، فكنتُ أستأجرها وأرتشف محتوياتها بشغفٍ عجيب.

"وكذلك نهلتُ من بيانك العذبِ المورد شابًا، وانكببتُ على التهام مؤلفاتك القيمة كهلاً.

و"أيمُ الحق، كانت لي غذاءً سماويًا وزادًا روحيًا، بل كانت لي الروحَ والراح".

ويستمر الدكتور داهش في ذكر فقراتٍ من كتاب "ولدي". ثم يذكر سقراط الذي "ألهم أفلاطون تلك الروح الشريفة العالية، وعلم أرسطاليس تلك الفلسفة العادلة الصادقة..." ثم يردف قائلاً: "أقول إن هذا الحكيم الكريم قد رماه مواطنوه بتهمة الإلحاد وفساد الأخلاق، فحاكموه بين يدي هيئة قضائية اقتنعت بإدانته وحكمت عليه بإعدامه".

ويرد الدكتور هيكل على رسالته، فيقول: "إني لشاكرٌ لك من صميم قلبي ما أثبته في رسالتك إليَّ عن كتاب "ولدي". فقد أعدت به أمام بصيرتي عهدًا لا أنساه، شاكرًا لك أن ذكرتني بما كتبه جون ستيورات ميل في كتابه عن "الحرية". هذا الكتاب الذي تلوتُه وتدبرته صدر شبابي، فحلّت مبادئه من نفسي محل العقيدة والإيمان، وهدتني سبيلي إلى اليوم، وجعلتني أرى المصارحة بالحق أقدس واجبٍ على كل من يؤمن بإنسانيته. ودفعتني لأكرر في كل مقامٍ قول النبي العربي الكريم: الساكتُ عن الحق شيطانٌ أخرس".

ثم يستمر كاتبنا العظيم فيقول: "ألم تذكر في رسالتك ما أصاب سقراط، هذا الفيلسوف الضخم والمعلم الأول الذي أعدم مظلومًا، فزاد الظلم ذكره رفعةً على رفعة على مدى الأجيال. فهنيئًا لك، يا أخي، ما نزلَ بك من ظلم، لأنك حاولت أن تحارب التعصب المذموم فحاربوك، وحاولت أن تجمع كلمة بني الإنسان في ظل الأخوة بين أهل الأديان جميعًا فاضطهدوك وشرَّدوك. ومن حقِّك، وأنت في منفاك، أن تتمثَّل بقول السيد جمال الدين الأفغاني: أنا إن عشتُ لستُ أعدمُ قوتًا.

وإذ مت لستُ أعدم قبرًا               همتي همة الملوك ونفسي

            نفس حر لا ترتضي الأسر قسرًا

      ويستمر الأثنان في تبادل خطابات هي نموذج لفن لم يبقَ له وجودٌ الآن. وهي، في نفس الوقت، دليلٌ على الارتباط القوي بين المُفكرين العرب، والذي دعا الدكتور هيكل إلى عرض قضيَّة الدكتور داهش في الصحافة المصرية، وهو نفس الارتباط الذي جعل شوقي يكتبُ عن دمشق في محنتها، ويرسل سلامًا إليها.

Developed by Houssam Ballout        Copyright 2019 This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.nfo All Right Reseved This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.