أنا أؤمن بأنه توجـد عدالة سماويّة, وأن جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدنيا من مُنغصات انَّ هـو الاّ جـزاءٌ وفاق لِما أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور.ولهـذا يجب علينا أن نستقبلَ كلّ مـا يحـلّ بنـا من آلامِ الحياةِ ومآسيها غير مُتبرّمين ولا متذمّرين , بل قانعين بعدالةِ السماء ونُظمها السامية.

Highlighter
أحبُّ الكُتُبَ حبَّ السُكارى للخمر , لكنَّني كلَّما أزددتُ منها شرباً, زادتني صَحوا
ليس مّنْ يكتُبُ للهو كمَن يكتُبُ للحقيقة
الجمالُ والعفّــة فـردوسٌ سماويّ .
لا معنى لحياةِ ألأنسان اذا لم يقم بعملٍ انسانيٍّ جليل .
اعمل الخير , وأعضد المساكين , تحصل على السعادة .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقـوم بأعمالِ الخير نحـو ألأنسانيّة .
الموتُ يقظةٌ جميلة ينشُدها كل مَنْ صَفَتْ نفسه وطَهرت روحه , ويخافها كلّ من ثقُلت أفكاره وزادت أوزاره .
ان أجسامنا الماديّة ستمتدّ اليها يـد ألأقـدار فتحطِّمها , ثمّ تعمل فيها أنامل الدهـر فتتَّغير معالمها , وتجعلها مهزلةً مرذولة . أمّا ألأعمال الصالحة وألأتجاهات النبيلة السّامية , فهي هي التي يتنسَّم ملائكة اللّه عبيرها الخالد .
نأتي إلى هذا العالمِ باكين مُعولين، و نغادره باكين مُعولين! فواهً لك يا عالمَ البكاء والعويل!
جميعنا مُغترٌّ مخدوعٌ ببعضه البعض.
العدلُ كلمة خُرافية مُضحكة.
أمجادُ هذا العالم وهمٌ باطل، و لونٌ حائل، و ظلٌّ زائل.
لا باركَ الله في تلك الساعة التي فتحتُ فيها عينيّ فإذا بي في مكانٍ يطلقون عليه اسم العالم .
أنا غريبٌ في هذا العالم، و كم احنُّ إلى تلك الساعة التي اعود فيها إلى وطني الحقيقيّ.
الحياةُ سفينةٌ عظيمة رائعة تمخرُ في بحرٍ، ماؤه الآثام البشريَّة الطافحة، و امواجه شهواتهم البهيميَّة الطامحة، و شطآنه نهايتهم المؤلمة الصادعة.
كلّنا ذلك الذئبُ المُفترس , يردع غيره عن اتيانِ الموبقاتِ وهو زعيمها وحامل لوائها , المُقوّض لصروح الفضيلة , ورافع أساس بناءِ الرذيلة .
الحياةُ سلسلة اضطراباتٍ وأهوال , والمرءُ يتقلَّب في أعماقها , حتى يأتيه داعي الموت, فيذهب الى المجهولِ الرهيب , وهو يجهلُ موته , كما كان يجهلُ حياته .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقومَ بأعمالِ الخير نحو الانسانيّة .
المالُ ميزان الشرِّ في هذا العالم .
السعادةُ ليست في المال , ولكن في هدوءِ البال .
كلُّ شيءٍ عظيمٍ في النفسِ العظيمة , أمّا في النفسِ الحقيرة فكلُّ شيءٍ حقير .
الرُّوح نسمةٌ يُرسلها الخالق لخلائقه لأجل , ثم تعودُ اليه بعجل .
الرُّوح نفثةٌ الهيَّة تحتلُّ الخلائق , وكل منها للعودة الى خالقها تائق .
الرُّوح سرٌّ الهيٌّ موصَدْ لا يعرفه الاّ خالق الأرواح بارادته , فمنه أتتْ واليه تعود .
أنا أؤمن بأنه توجـد عدالةٌ سماويّة , وأنَّ جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدُّنيا من مُنغِّصاتٍ وأكدارٍ انَّ هـو الاَّ جـزاء وفاق لمِا أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور . ولهـذا يجب علينا أن نستقبل كلَّ مـا يحـلُّ بنـا من آلام الحياة ومآسيها غير م
الحرّيةُ منحة من السماءِ لأبناءِ ألأرض .
الموتُ ملاكُ رحمةٍ سماويّ يعطف على البشر المُتألّمين , وبلمسةٍ سحريّة من أنامله اللطيفة يُنيلهم الهناء العلويّ .
ما أنقى من يتغلّب على ميولِ جسده الوضيع الفاني , ويتبع ما تُريده الرُّوح النقيّة .
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
الراحة التامّة مفقودة في هذا العالم , وكيفما بحثت عنها فأنت عائدٌ منها بصفقةِ الخاسر المَغبون .
ليس أللّــه مع الظالم بل مع الحقّ.
ان الصديق الحقيقي لا وجود له في هذا العالم الكاذب.
ما أكثر القائلين بالعطف على البائسين وغوث الملهوفين والحنو على القانطين , وما أقلَّ تنفيذهم القول.
يظنُّ بعض ألأنذال ألأدنياء أنّهم يُبيّضون صحائفهم بتسويدِ صحائف الأبرياء , غير عالمين بأنَّ الدوائر ستدور عليهم وتُشهّرهم.
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السَّلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
رهبة المجهول شقاء للبشرِ الجاهلين للأسرارِ الروحيَّة , وسعادة للذين تكشّفت لهم الحقائق السماويَّة .
الموتُ نهاية كل حيّ , ولكنه فترة انتقال : امّا الى نعيم , وامّا الى جحيم .
الحياةُ خير معلِّمٍ ومُؤدِّب , وخيرَ واقٍ للمرءِ من الأنزلاقِ الى مهاوي الحضيض .
حين تشكُّ بأقربِ المُقرَّبين اليك تبدأ في فهمِ حقائق هذا الكون .
مَنْ يكون ذلك القدّيس الذي لم تخطرُ المرأة في باله ؟ لو وجدَ هذا لشبَّهته بالآلهة .
المرأة هي إله هذه الأرض الواسع السُّلطان. و هي تحملُ بيدها سيفاً قاطعاً لو حاولَ رجالُ الأرض قاطبةً انتزاعه منها لباؤوا بالفشلِ و الخذلان .

الأديبة خديجة الموسوي

مجازة في تعليم اللغة الفرنسية وآدابها (الجامعة اللبنانية 1987). حصلتْ على شهادة الدراسات العليا في الآداب والفنون (جامعة بروفانس، إكس – مرسيليا، فرنسا 1990) والماجستير في تعليم اللغة الفرنسية لغير الناطقين بها (جامعة بروفانس 1998). تزاول تدريسَ اللغة الفرنسية والترجمة في AEC Associaes, French Language Services بكاليفورنيا.

داهش الغريب العجيب

مئة عام مرتْ على ولادة الرجل الذي أقلُّ  ما يقال فيه إنه طالما أثار حوله العجب والإعجاب، ورافقته الغربة والغرابة في كل لحظةٍ في حياته وكل جانبٍ من مَسار وجوده وفي كل أعماله وأفكاره ومؤلفاته؛ حتى لكأنَّ كل ما مَتَّ إليه بصلةٍ، من قريب أو بعيدٍ، بات يتصفُ بالعجيب الغريب، ليجعلَ من مصيره الشخصي قدرًا مميزًا وحيدًا فريدًا.

          وإن وصفت الغرابة ما "يبتعدُ عن التصورات المألوفة لدى مجتمع ما "لكي تثير "الدهشة والتعجُّب،" 1 فإن القزويني يقولُ في شرح العجب إنه "حيرةٌ تعرضُ للإنسان لقُصوره عن معرفةِ سبب الشيء أو عن معرفة كيفية تأثيره." 2 وهو إذ يربطُه بالعقل والعِمل والمعرفة، فإنَّه يدعو إلى التفكُّر في المعقولات للبحث عن حكمتها وتصاريفها وخلفياتها وحقائقها.

          ولعلَّه من الغرابة بمكانٍ أنَّه في مطلع القرن العشرين، عصرِ هيمنةِ العقل والإنجازات العلمية، يُطلُّ داهش على الدنيا، وتُفاجئنا طفولتُه وحداثتُه بأنباءٍ متشحةٍ بالإعجاز وبأعمالٍ خارقة قام بها، تخرجُ عن كل مألوفٍ معتاد. فالطفل، ابنُ الأعوام

----------------------------------------------------

1عبد الفتاح كيليطو: "الأدب والغرابة: دراسات بنيوية في الأدب العربي"، (دار  الطليعة، بيروت 1997)، ص 57 – 59.

2 الفزويني: "عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات"، (المطبقة العامرة، مصر 1421 هجرية)، ص 7.

----------------------------------------------------

الثلاثة، يشفى بصورةٍ عجائبية"، وينطقُ بلغةٍ لا عهدَ له بها مُشيرًا على الطبيب بالدواء الذي كان يتوجب عليه وصفُه. والفتى يضربُ على الرماد ليُعيدَه كتابًا، أو يمشي فوق ماءِ إحدى بِرَك النبي سليمان في بيت لحم، تمامًا كما فعلَ قبله بقرون يسوعُ الناصري. والشابُّ، إذ ينزل عند طلب "الجمعية الدولية النفسية" ويرضى بأن يريَها آية النبي يونان، يخرجُ حيًّا باسمًا بعد إمضاء أُسبوع في صندوقٍ حديديٍّ في قعر نهر السين1.

          ولئن بدا من العبث تفسيرُ ماجَرياتِ هذه الأحداث بالمنظار الحسي الملموسِ المتداول، لأنه بالتحديد لا ينطبقُ عليها، فلا بدَّ للمرء، أمام كل هذا الخرق للعُرف العلمي الشائع في المجتمعات الحديث’، من أن يلجأ إلى ما يفوقُه وما وراءه، فيتأمل عندها في أسباب الأمور ومسبباتها، ويبحث في مقصدها ومغزاها.

          وعجيبٌ الاسم "داهش"، كأن مصير حامله أن يُحير عقولَ العقلاء ويبهر نفوس الأذكياء، فيجعلهم يتساءلون في معاني الأمور وينظرون إليها بعين البصيرة. ذلك بأن الشعورَ بالعجب والدهشة يُشكل، في نظرِ كل من أفلاطون وأرسطو،"الخطوة الأولى نحو التفكير الفلسفي"2 ونحو التساؤل عن مكنوناتِ الوجود وألغازِه وأُحجياته.

          والأعجَبُ أنه في زمن انهيار القيم وقيام الشك والإلحاد يدعو الرجلُ في عقيدةٍ روحية للعودة إلى الإيمان بالله وبوجود الروح, وللرجوع إلى القيم الأخلاقية والإنسانية، مُعلنًا للملإ نظرته الفلسفية الشاملة للحياة وللوجود ككل، وحتى لحقائق الكون واسرار الخلق المبهمة. وهو إذ يُحيي بتعاليمه القيم الدينية الروحية الثابتة، فإنه يواكبُ التطور وينير الطريق للعقل البشري المعاصر الذي بات يلتجئُ إلى العبثية في تفسير الأمور الغامضة على نظره وفهمه. بل إنه يستبقُ العلم في تفسير روابط المخلوقات فيما بينها من خلال مفهوم السيالات وامتداداتها في الأرض وفي الكون، ومن خلال نظام التقمص والعدالة الإلهية الشاملة. وهو، إذ يميطُ اللثامَ عن خفايا وأُحجياتٍ دهرية ليُنيرَ العقل الإنساني بوضوح المنطق وشفافيته، يزيدُ من غرابته ويضيفُ إلى الحيرة التي يولدها شدها وذهولاً طاغيين.

-----------------------------------------------------

1 إسكندر شاهين: "الدكتور داهش رجل الأسرار" (الدار الداهشية للنشر، نيويورك 2001)، ص 20 – 25.

2 CF. Platon, Le théétète.

-------------------------------------------------------------------------

والعجب العُجاب أن يقوم، لتوثيق دعوته، بخوارق تحدت القانون الطبيعي وتجاوزت العلم، وشهد لها نخبةٌ من مثقفين وأدباء ورجال سياسةٍ ودين، وتناقلت أخبارها وصورها الصحف. ومنها "تكثيرُ الخبرز والثمار، تعدد الشيء الواحد بحيث يصبح أشياء، نبوءاتٌ دقيقةٌ صحيحة، تحويلٌ من مادةٍ إلى أخرى، وعجائب شفاء!"1  كلها أحداثٌ غريبة تدمغُ النفس والروح الإنسانية بأثرِ ثابت دائم، وآياتٌ تولد عجبًا، بالبعد القرآني للكلمة، أي إنها تبهرُ العقل والفكر والحس والإدراك بإعجازها أو بحدوثها برغم استحالتها، وتثيرُ بذلك الحيرة بكل أبعادها الدينية الروحية والفلسفية الفكرية والنفسية الذاتية والعلمية الطبيعية والوجودية الكونية.

          ولا تقتصر الغرابةُ على ذلك، لأن وقْعَ أفكار الرجل يتجلى غريبًا، يكادُ المرءُ لا يفقهُ له سببًا؛ إذ إن السلطات اللبنانية في حينه، بشخصِ رئيسها ونَفَرٍ من المسؤولين فيها، حركتها النقمةُ والغيظ، فشنتْ حربًا ضروسًا مشحونةً ضدَّ الرجل، استخدمت فيها أعنف وسائل الاستبداد والتعسُّف والاضطهاد. وها إنه، خلافًا لكل القوانين والأعراف الوطنية والدولية، وبعد الفشل الذريع الذي باءً به في محاولاته لاغتيال الرجل أو تجريمه بالوسائل المشروعة، يُصدرُ رئيسُ الجمهورية مرسومًا استثنائيًا يقضي بسجن الرجل وتجريده من جنسيته ونفيه خارجَ الحدود اللبنانية ظُلمًا وبهتانًا. وما ذلك لذنهبٍ ارتكبه أو جُرم اقترفه، وإنما لأنه دعا "الجميع لنشدان الحقيقة، والسيرِ على الطريق العادلة، والتمسكِ بالفضيلة".2 وغريبٌ أيضًا أن يُصيبه كلُّ هذا الظلم والجور من غير أن يرتفع صوتٌ من أصوات مفكري وأُدباء لبنان لكي "يُدافع عن الحق الهضيم" أو "ينافحَ عن العدالة تدوسُها سنابك الباطل" حتى إ، "صحيفة واحدةً لم تتطوعْ لشجب الجريمة النكراء،" و"لم يظهر أي رجلٍ، ولم يتطوعْ أيُّ مخلوقٍ للدفاع" عنه ضد الظُّلم  الغاشم؛ بل، على العكس، راحَت الصحف، من أسبوعية ويومية وشهرية، تُهاجمُه مهاجمةً شعواء وتحاولُ النيل منه.3  ولم يستثنِ الاضطهادُ لا شقيقته التي سُجنت بدون

-----------------------------------------------

1  ماري حداد: "معجزات الدكتور داهش وظاهراته الروحية" (دار النار والنور للطباعة والنشر، بيروت 1983)، ص 16.

2 الدكتو داهش: "مختارات" (دار النسر المحلق للطباعة والنشر، بيروت 1970)، ص 2 – 3 .

-------------------------------------------------------

 محاكمةٍ, ولا مؤيديه الذين أحيتهم النعمةُ والتقوى فوهبوا كلَّ غالٍ ونفيس في سبيل العقيدة الجديدة.

وإذا بالرجل الفردِ الأعزل، الذي يواجهُ دولةً بأجهزتها المسخرة أشبه بداود الفتى في وجه الجبار جالوت، يعودُ سرًا إلى بيروت، ويواجهُ ظالميه، ويقول في ذلك: "فاضطررتُ أن أنتضيَ قلمي وأحاربَ به الباغية الطاغية ومن ساعدَه بجريمته المنكَرة المُستنكرة"1 وهو إذ أصدر "الكتب السوداء" التي كشفت عن فساد الرئاسة وغيها، ووزعها على الأفراد والمؤسسات في لبنان وعلى القنصليات العربية والأجنبية، فقد أسهَم في إسقاط النظام الذي اضطهدَه، ونجحَ في استرداد حقِّه السليب. ولو أنعم المرءُ النظرَ في هذه الوضعية، للمسَ حالةً عجيبةً تناقضُ المعقولات. لأن الرجل يهزمُ السلطة المجحفة والظلم بجهاده وعزيمته، فكأنهما ناتجان عن قدرٍ محتوم مكتوب منذ الأزل وإرادةٍ علوية تتخطى التصور وتتحدى الفهم البشري، كما يُلمِحُ قائلاً: "فتجلَّدتُ على الكارثة التي دهمتني لتيقُّني بأنها إرادتُه العُلويَّة"2

          وإن ظنَّ المرءُ منا أن في ما سبق ما يملأ ويفيض عن حياة بشريةٍ بكاملها، فإنه يُخطئُ، لأن الرجل في غرابته يطالعنا بوجهٍ آخر كجامعِ كُتبٍ وقطع فنية، وقد صرف أعوامَ عمره "بأكملها باحثاً منقبًا وجامعًا للكنوز الفنية النادرة."3 فأسس المكتبة الداهشية التي تتضمنُ آلافَ المجلدات والمجموعات من ثقافيةٍ وأدبية وعلمية وصحفية، وبعضها من الكتب النادرة الثمينة. ولنسمعه يروي كيف قام بتحصيلها: "استمريتُ طوال أسبوعين كاملين وأنا أنتقلُ من مكتبةٍ إلى مكتبةٍ فمكتبة منتخبًا من كل منها الكتبَ النفيسة، مبتاعًا إياها لأضيفها الى مكتبتي الغنية... وقد أصبحت مكتبتي تحتوي على ثلاثين ألف مُجلدٍ ابتعتُها في خلال عامين ونصف العام؟"4

          كما أنشأ، بفضل جهده الجبار الدؤوب المتواصل، المُتحَفَ الداهشي بمجموعته الفريدة من اللوحات الزيتية والتُّحف والتماثيل الفنية؛ وقد افتُتِح في قلب مدينة نيويورك

------------------------------------------------

1 الدكتور داهش: "مختارات"، ص 3.

2" نبال ونصال"، ص 65.

3 الدكتور داهش: "الرحلات الداهشية حول الكرة الأرضية"، ج 19 (الدار الداهشية للنشر، نيويورك 1994)، ص 64.

4 الدكتور داهش: "يجي المزلزلة" (دار النسر المحلِّق للطباعة والنشر، بيروت 1979)، ص 94.

------------------------------------------------

عام 1995 كمتحف اختص بالفن الأكاديمي الأوروبي من القرن التاسع عشر حتى أوائل القرن العشرين. ولعل شغفه وولعه الغريبين بالفن متجذران في ذاته لدرجة أنه يتفانى في تحصيل مقتنياته على مدى سنين طويلة بدون كلالٍ أو ملل، يدفعه حافزٌ خفي لتحقيق هدفه الجليل حتى في الأوقات العصيبة من حياته، وفي أشد أيام المحنة والشيخوخة والمرض. فلا احتجابه إبان الاضطهاد منعَه من مُراسلة "الآلاف من الفنانين وغاليريهات الفنِّ،"1 ولا الوعكاتُ الصحية المتكررة حالتْ دون قيامه برحلته العشرين التي دامت ستة أشهرٍ وقفها على ابتياع الصنائع والقِطَع الفنية. ذلك أن الرجل ذو عزيمةٍ وإرادةٍ فولاذيتين، لا يميلُ ولا تُحولُه المنون والصعاب عن مقصده. فقد كان يكتفي بقسطٍ قليل من الراحة والنوم مُكرِّسًا طاقته ونشاطه لإتمام مُهمةٍ رسمها لنفسه ورسالةٍ أُوكِلَ إليه تحقيقها.

          وهو في الرحلات التي قام بها حول العالم بقصد "زيارة المتاحف ومُشاهدةِ الكنوز الفنية المحفوظة فيها،"2 وفيها دوَّن تفاصيل يومياته بحذافيرها، يثيرُ الحيرةَ والإعجاب بدأبه الدائم الحثيث لتجميع ما قرر اقتناءه من قطع قيمةٍ نادرة، وبتحمله، بصبرٍ قل نظيرُه وإنكارٍ للذات فريد، كل ما ينتجُ عن ذلك من تعبٍ بدنيٍّ وإرهاقٍ جسدي.

          ولم تقتصر غرابةُ الرجل على كل ما ورد، فإذاه، وهو الذي لم يتعد عهدُه بالدراسة النظامية مدة ثلاثة أشهُر، يغرفُ مناهل العلم والمعرفة بعصاميةٍ ومثابرةٍ تدعوان إلى التأمل. وهو قد خصَّ بموهبةٍ أدبية راقية قلما عرفت لها مثيلاً بنتاجها الكثيف، وتعدد ألوانها الأدبية ورُقيها الفني والفكري وبحثها الدؤوب عن الحقيقة في أي تعبيرٍ أو بيانٍ أتت. ففي  رأيه، "إن على الكتاب واجبًا مفروضًا هو قولُ الحقيقة دون سواها".3 واللافتُ في كتاباته أنها منذ بواكيرها نضحت بجماليةٍ وعذوبةٍ ثابتتين، لم يحد عنهما قلمُه لا في شِعره ولا في نثره. كما إنها توخت المثالية في كل كلمةٍ وكل سطر، ولم تسفَّ مرَّةً، ولم تبتعد قيد أُنملة عن مستواها الرفيع الراقي وميلها الروحاني النبيل. ولا تظهرُ الغرابةُ في

----------------------------------------------

1 الدكتور داهش: "الرحلات الداهشية..."، ج 17 (الدار الداهشية للنشر، نيويورك 1994) ص 50  - 51.

2 الدكتور داهش: "الرحلات الداهشية..."، ج 5 (الدار الداهشية للنشر، نيويورك 1990)، ص 139.

3 الدكتور داهش: "قصص غريبة وأساطير عجيبة"، ج 1 (دار النسر المحلق للطباعة والنشر، بيروت 1979)، ص 5.

------------------------------------------------

 نزعة كتاباته وصياغتها الملهمة فحسب، بل إنها تُذهل الفكر في السرعة العجائيبة التي خط فيها بعض مؤلفاته، إذ فرغ من رواية "مذكرات دينار" في خلال تسع ساعاتٍ فقط. 1

          وإذ تملك العجبُ من أي امرئ أمام تواتُر حالة الغرابة وكل هذه الميزات المخالفة للعادات المعهودة والمألوفة، فإن الرجل نفسه يُسلِّم بالأمر، إذ يقول: "أشعرُ أنني مزودٌ بقوةٍ لا أعرفُ تفسيرها، ومَدعوٌّ لأداء رسالة، وأنا جاهدٌ في هذا السبيل، ولا أبتغي جزاءً ولا شكرًا، لأن لا فضل لي في ذلك وإنما الفضلُ لربِّ العالمين."2 يبقى إذن على كل فردٍ أن يُحكمَ عقله ويفكرَ في الاسباب التي جعلت الغرابة تغزو حياة الرجل اليومية الواقعية، والعجبَ يُقيم في دقائقها وتتالي أيامها؛ الأسباب التي "تأباها طِباعُ الغبي الغافل،" و"لا تُنكرُها نفسُ الذكي العاقل" لأنه "لا يستعظمُ شيءٌ مع قدرة الخالق وجِبلَّة المخلوق"، بحسب تعبير القزويني!.

          وبعد، والحقُّ يقال، فإنني وإن لم أعرف الرجل، فإن رحلتي معه بدأت وأنا طفلة، إذ خلبتْ أخبارُه لبِّي عبرَ شهاداتِ أشخاصٍ أهلٍ للثقة، ثم بهرت خيالي وإدراكي غرابتُه وأنا بعدُ يانعة. ثم أثر فيَّ، لاحقًا، فكرُه المنير الهادي في كتاباته الملهمة، وفي سعيه الدائم للسمو بالنفس البشرية ودفعها إلى تخطي الوضعية الإنسانية المحدودة والتمسك بأفقِ روحانية تُحرر الفرد من القيود المادية والدنيوية. وقد اكتشفتُ في كل مؤلفٍ له فِلذةً من ذاته ومنحًى من شخصيته وباقةً من أفكاره وتجاربه النفسية والحياتية، فكان لي معلمًا هاديًا ونبراسًا يُنير الطريقَ أمامي في الحياة.

          ولعلَّه أوحى لناظري، في سائرِ كتاباته، بهويةٍ أدبية سردية3 كراوٍ أو كناثرٍ أو كشاعر أو كعابدٍ مؤمنٍ أو كحكيمٍ زاهدٍ أو كرحالةٍ عابرِ سبيل، هُويةٍ أدبية تعتري ملامحَها غرابةُ الرجل، وتُنبئُ سِماتُها بعجَبٍ من طيفه. فيظهرُ الكاتب غريبًا لخبرته وعِلمه بالنفس البشرية وطبيعتها العميقة ونزاعِها المستمرِّ بين الخير والشر. وهو يُحلِّلُ خفاياها، ويُبرزُ ميولها بدون ممالأةٍ ولا مُجاراة. ويعبر بصدقٍ وحمية عن عشقِه وإعلائه للخير بكل أشكاله، فيتغنى بالفضيلة والبراءة والطهر والوفاء، وبالحبِّ المخلص وصفاءِ النفس

--------------------------------------------------

1 الدكتور داهش: "مذكرات دينار" (الدار الداهشية للنشر، نيويورك 1986). تراجع المقدمة.

2 مجلة "بروق ورعود"، (السنة الأولى، العدد 3، بيروت 1968)، ص 1 – 5.

3 Ricoeur, Paul,”L’identité narrative”, in Esprit, n 7 – 8, 1988, Paris, pp. 297 – 304.

--------------------------------------------------

والتضحية والكرم والنبل والشهامة، وبإنكار الذات والجمال السماوي والرقيِّ الروحي وبالنقاء الملائكي.1

وهو يصوِّر كل حسَنةٍ في سلوك الشخصيات القصصية أو الأفراد الذين يعرضُ لهم في مؤلفاته بصيغةٍ عجيبة، مخلدًا اللحظة في تاريخ البشرية، ممجدًا النزعة الفاضلة في كل نفس، لأنه يراها طارئةً وغير تلقائية في الطبيعة البشرية.       

          ولأنه يسعى "لإثارة انفعال عند القارئ لغاية مرسومةٍ" Fascination،2 فهو يحوِّلُ العجب إلى افتتان، أي أن يذهلَه وبجذبَه نحو الخير برؤية جمال الأخلاق وفتنتها ورُقيِّ الفضيلة ورونقها، وذلك لإيقاظ الخير الراقد في ذاته ودفعهِ إلى ممارسته. لذا يعطي الأديبُ الراوي المصلح كل خطوةٍ باتجاه الخير بُعدًا إنسانيًا أرضيًّا، بل كونيًا، ويعدها انتصارًا على الشر المستشري. فهو يقدرُ ويُكبرُ كل فكرة نبيلة وكل نية فاضلة وكل عملٍ رفيع بهدفٍ الترغيب وإعلاء شأن الحق والخير في نفوس الكائنات الحية عامة.

          وإن أكبر الكاتبُ الراوي الغريبُ الخيرَ، فإنه، على العكس، يحكمُ بقسوةٍ على البشرية لانحرافها عن الطريق القويم واستسلامها للشر والفساد والباطل. حتى إنه يتحول إلى فارسٍ غريب في خدمة الصلاح والحق، فإما يشهرُ سيفه في وجه إبليس وكوكبة من الشياطين،3 أو يلفظُ حكمَه الصارم على المجتمع الذي "لا يُبالي بالفضيلة ويُماشي الجُرم،"4 حيث يسودُ الضلال بأشكاله المتعددة من خيانةٍ وحنثٍ بالعهد وقتلِ الابن لأبيه والعائلة لابنها والصديق لصديقه والصديقة لصديقتها.5

وفي وجه هذا الشر، يبرز الأديب الراوي العقاب الذي يتربصُ بكل مُعتدٍ؛ فالله يمهل ولا يهمل."6 وها إن العجبَ أمام انقضاض القدر بالحساب العادل يتحول إلى

----------------------------------------------

1 انظر من مؤلفات الدكتور داهش: "قصص غريبة وأساطير عجيبة"، و"مذكرات دينار"، وسلسلتي "حدائق الآلهة توشيها الورودُ الفردوسية" (دار النسر المحلق للطباعة والنشر، بيروت 1980)، و"فراديس الآلهة يرصعها اللينوفار المقدس" (دار النسر المحلق للطباعة والنشر، بيروت 1980).

2 Bozzetto, Roger, Territoires des fantastiques, Aix-en-Provence, PUP, 1998, p. 210.

3 أنظر، مثالاً، قصة "تخيلات جهنمية مرعبة" في "قصص غريبة وأساطير عجيبة"، ج1، ص 148 – 150.

4Paul, J.M., “Le manuscript trouvé à Sarragosse de. J. Potocki”, in Traditions fantastiques Ibériques et Germaniques, Arras, Artois Presses University, 1998. P. 53.

5 أنظر "ققص غريبة وأساطير عجيبة"، ففيه عدة قصص تدور على هذه الموضوعات.

6 أنتظر، مثالاً، قصة "الملك الكلب" في "قصص غريبة وأساطير عجيبة"، ج2، 13 – 14.

--------------------------------------------------

ذهولٍ، فرُعبٍ أخرسَ Epouvante1 يتمكَّن من المرء ويُسيطر على كيانه. فالراوي يسعى للتأديب بإعطاء المثل. وهو يثيرُ الترهيبَ، ويدعو إلى استخلاص العِبرَ أمام عدالةٍ لا تُخطئ، ولا تنسى، ولا تكلُّ، ولا تفوتُها كلمة واحدة.2 وغالبًا ما يستخدمُ لهجةً مؤدبة لإرشاد الإنسانية إلى الصراط المستقيم، لأنه يأبى لها إلا أن تكون فاضلة، ويرفعُ في وجه الضلال الطاغي القيم الروحية والأخلاقية، مؤكدًا بذلك غرابته وفرادته. ولئن ثارَ على المجتمع البشري، فلأنه يرى الشر سائدًا فيه، طاغيًا على سلوك أفراده، جارفًا إياه بعيدًا عن النزاهة والمثالية. ولذا يُعبِّر عن يأسه وحزنه لضياع البشرية وضلالها، بدون أي سعي لتجميل الصورة أو تلافيها.

          فهو في إخلاصه للحقيقة يرسم، بفضلِ نظره الثاقب، الواقع الحياتي بتفاصيله الدقيقة وحيثياته العميقة، إذ يكشفُ حتى عن النوايا الخفية والأفكار المكتومة لإظهار كل جوانب الحدث وعدم  إغفال أيِّ طارئ. لكنه، فضلاً عن ذلك، يُسلِّطُ على هذا الواقع المتداوَل الاعتياديِّ ضوءًا جديدًا يغيِّر وِجهةَ النظر المعتمدة اجتماعيًا والمتعارَف عليها بين البشرز فإذا بالأمور والوقائع تُقاس بمعاييرَ مختلفةٍ، تتخطى المجاملات الاجتماعية والأعراف العامة الدنيوية لتطال دورَ المسؤولية الروحية للفرد وللمجتمع ككل، وتُميط اللثام عن بُعدٍ تتجاهلُه الأحكامُ الأليفة العادية. هذا الراوي الغريب يضعُ المِجهرَ على كلِّ عمل وكلِّ أداء ليُبيِّنَ ما يجرَّانه من نتائجَ وما يؤديان إليه من عواقب. فإن كانت للخير، خلدها؛ وإن كانت للشر، لم يكتفِ بشجبها، بل حكمَ عليها وقاضاها.

          من هذا المنظار يصبحُ المحيطُ المألوف غريبًا عجيبًا بمغزاه وأبعادِه ونتائجه. فالراوي يُصوِّر بذلك وجهًا للواقع غريبًا، وجهًا شفافًا لامرئيًا ولا محسوسًا، وجهًا صورَه أرسطو كنقيضٍ للواقع الموجود، فنعتَه باللاموجود، Etat du no-être3 وجهًا قائمًا بالمقياس الرلوحي والفكري والأخلاقي؛ وهو يمثل الحياة الروحية، ويتمثل عبر تحقيق عدالةٍ خالدة تقضي بتطهير كل نفس وبإيفاء كل دين. ولا يكتفي الراوي بالتوجه إلى شعور المرء، بل يخاطبُ العقل والمنطق. فهو يفسر الأقدار والأعمار، ويُجيبُ عن

-----------------------------------------------------

1  Cf. Le concept d’épouvante chez lovecraft, H.p, Supernatural Horror in literature, Traducation, Paris, Bourgois, 1985, p.35.

2  أنطر، مثالاً، قصة "التقمص والتناسخ" في "قصص غريبة وأساطير عجيبة"، ج2، ص 31 – 39.

3. Cf. au sujet de l’état du non-être chez Aristote, in les sophistes.

------------------------------------------------

التساؤلات الغريبة. فالعقابُ يأتي دائمًا من نوع العمل. كلُّ ذلك ضمن نظام عدالةٍ شاملة يسودُ الكائنات الحية من بَشَرٍ وحيوانٍ ونباتٍ وجماد، وحتى الكائنات الكونية.

          وإذا بالعجب يصيرُ صعقًا أو ذهولاً عقلياً choc fantastique 1 أمام الجلال والرهبة اللذين  تُوحي بهما عدالةٌ إلهيةٌ لا محدودة. أمام حقيقة الواقع، تُصاب الشخصياتُ بصعقةٍ أو صدمة قاتلة. لكأن إدراكَ البصيرة يمنعُ استمراريَّة الحياة بغفلتِها، إذ إن الهوة كبيرةٌ بين الصورة المتوافق عليها للواقع وبين صورته المجردة البعيدة عن التملُّق.

          وها إن الراوي الغريب الذي يُحصي على الدنيا شرورها يُنذِرُ البشرية المتمادية في عصيانها بالفناء الشامل كعقاب على سلوكها وانتهاكها كل القيم والمقدسات. فهو يُعطي لهذا النهاية المأساوية للأرض وسُكانها صورةً ملموسةً محسوسةً حية تُرهب بغرابتها،2 وتُضفي على رؤيا يوحنا بُعدًا واقعياً وحياةً معاصرة.

          والأديبُ الراوي غريبٌ (من الغربة) على وجهِ هذه البرية، يقاسي الحياة البائسة في المنفى الأرضي، ويشدَّه الحنين إلى الفردوس وجناتِ عدن، فيرسمُها عبرَ رؤًى لعوالِمَ وكواكبَ بخياله الشفاف الراقي، ويصفها مقارنًا طبيعتها وكائناتها بالطبيعة والكائنات الأرضية، وقانونها والحياة والأعمار فيها بالقانون الأرضي وحياتها وأعمارها. والغربةُ تتحول لغرابة، فتسمحُ باكتشاف عوالم فيها أسرارُ الحياة اللانهائية. وهو إذ يُصور التجربة البشرية كجزءٍ لا يتجزأ من تجربةٍ كونيةٍ شاملة تُشكلُ مرحلةً من حلقاتٍ متتالية مترابطة، فإنه يتخطى بذلك صورة الواقع إلى ما وراءَها، ليُبدِعَ واقعًا آخر، روحيًا غريبًا عجيبًا.

          عبر هذه العوالم والأماكن الغريبة المجهولة، يرسمُ الراوي امتداداتٍ راقيةً لَما تحملُه الأرضُ من طبيعةٍ وكائناتٍ حية، الأمر الذي يجعلُ العالمَ الأليفَ ظلاً باهتًا لعوالِم الغرابةِ الباهرة النيرة. ولعل حنينه إلى تلك العوالم السماوية التي يقيمُ فيها الأبرارُ الأطهار، والتي يعتبرها موطنه الأصليَّ، يتجلى في نصوصٍ له كثيرة، فيخطُّ مراراً كلماتٍ تُعيدُ الرابط بينه وبين هذا الأثير الغامض، ويكتبُ له "سلام" أو "سأعود".3

                وفي تلك الأقطار البعيدةِ العُليا تُسبح الكائناتُ بقدرة الله بدون انقطاع. فإذاه يُكثِرُ

----------------------------------------------------------

Viegnes, M. Le fantastiques, Paris, Flammarion, 2006, p. 239.1

2 انظر، مثالاً، خاتمة "مذكرات دينار".

3"ابتهالات خشوعية"، ص 67 و 117.

-----------------------------------------------

من الصلوات والابتهالات والأدعية والنجاوى، يرفعها للعزة الإلهية كتعبير صادقٍ عميق عن تقواه الروحية وزهده بالدنيا. فيقول:

"سبحوا الله، سبحوا الله، سبحوا الله!

أيّثها القاطنون في ذُرى سماواته العجيبة

ردِّدوا آياتِ الشكر، وارفعوا ضراعاتِكم أمام موطئ قدَمَيه."1

ورغبتُه هذه في الانعتاق صادقةٌ غريبة، حولتْ صورة الموت من حاصدٍ للأرواح مخيفٍ إل ملاكِ عطوف رحيم رؤوف، يُحرِّرُه من وطأة الحياة المأدية، ويُخلصه من حماة الجنيا وتفاهتها، فإذاه بسميه "حبيبًا" و"صديقا" و"حنونًا". وهو، بغرابته، يُناشدُه أن طيضمه بين ذراعيه،" لأنه أرأفُ به من البشر والأحياء.

          إلا أن التواصُلَ مع العوالِم الأخرى يُشكلُ خرقًا للعادة وللطبيعة، ويجعلُ من التجربة حالةً من الغرابة. فالمدينة التي يزورُها سكانُ عالَم سماويٍّ تخلدُ بآثارٍ بنوها (هياكل بعلبك). والعالمُ الذي يزورُ أحد الكواكب يلفظُ أنفاسَه عند عودته، ذلك لأن العبورَ ليس القاعدة، وإنما الاستثناءُ والخروجُ على المألوف.2
          وتمامًا كالسندباد البري والبحري، وصنويه الهوائي والتحت أرضي،3 السندبادِ الذي بانتمائه إلى عالمين مختلفين، عالمِ الأُلفة وعالَمِ الغرابة، قد صار وسيطًا بينهما، كذاك يصبحُ الراوي المؤلف، بفضلِ تجواله ورؤاه التي تنقلُه من أُفقٍ إلى أُفق ومن واقعٍ إلى واقع، إما سفيرًا من الأثير المعروف إلى أجواء المجهول أو رسولاً من أقطار الغرابة إلى فضاء المألوف. فهو، بالإضافة إلى أسفار السندباد التي خاض فيها في أعماق عوالم البشر والنبات والحيوان والجماد والجان وحتى الأبالسة، لكشف خفاياها وغرائبها، قد حلق في الأبعاد ليطلعَ على عجائب الأكوان والمخلوقات وما وراءَ الدنيا بمكنوناته وأسراره. فها هو سندبادٌ جديد، كونيٌّ روحيٌّ، يجمعُ بين عالَم الأُلفة الماديِّ وعالَم الروح والغرابة اللامادي!.

----------------------------------------------------------

1 ابتهالات خشوعية"، ص 127.

2 انظرْ قصة "الكوكب فومالزاب" في "قصص غريبة وأساطر عجيبة" ج1، ص 212 – 217؛ وقصة "قصة خيالية كوكبية" ج2، ص 107 – 116.

3 كيليطو، المصدر نفسه، ص 102 – 103.

----------------------------------------------------------------------------------

          وإذا خاطب الراوي البشرية، تجدث أيضًا باسمها، وكأبٍ مسؤول يحمل نفسَه – وهو الفردُ المثاليُّ – أوزارَها وشرورَها. وكالمسيح الفادي، يتوبُ إلى الله، عز وجل، بدلاً عنها، ويسكبُ ندامةَ قلبه عند موطئ عرشِ العلي باسمها، ويدعو الله إلى أن يغفرَ لها ضلالَها وضعفَها، فيقول: "ولكني بشريٌّ، يا الله. والجنسُ البشريُّ – كما تعلم – ضعيفٌ كلَّ الضعف".1

          ويعتمدُ الأديبُ الغريب، في دَوره الآدميَّ كأب للبشرية، على الميراث الحضاري للإنسانية، فيعرجُ على القصص النبوي والقصص الأسطوري، وعلى اىلحدث التاريخي أو الشخصي.2  فيعيدُ بذلك الأحداثً الى نصابها من وجهةِ نظره العجيبة الغريبة الخارقة، ويجعلُ من هذا التراث نواةً لحضارةٍ آتية، أرضيةٍ وكونية، تشمَلُ في طيها كواكبَ مادية وغير مادية.

          وفي حديثه يَجولُ الراوي الكاتب على الماضي الغامض، ويُقلبُ صفحاتِ الحاضر اللامرئي ليؤذن بالمستقبل المجهول. وإذا انهالت الغرابةُ من كتابات الرجل عبر بحثه الدائم عن الحقيقة، كأنما بإلهام "صوت نبي"،3 فلكي تُعيدَ إلى الأدب دورَه الأصيل بمقاربة الأخللااق والوظيفةِ التوجيهية الإصلاحية والتهذيبية.

          هذه الهوية السردية الأدبية، إذ تُعبر بصدق عن جانبٍ في شخصية المؤلف، فإنما تضاعفُ بغرابتها فرادته وتكشفُ عن عمقِ غربته الروحية والفكرية والأخلاقية. فالغرابة عنده ليستْ عابرة، ولا عبثية، لكنها تُشكل ميزةً ونهجًا يتبعهُ لأنه يتوقُ دائمًا إلى المُثُل العُليا، وغلى كل ما يدفعُ المسيرة الإنسانية نحو التطور والرقيّ.

          ولعلَّ كل ما يكون الغرابة عنده وما يُولّدُ العجب، بدءاً من عقيدته إلى خوارقه فشخصه فأدبه فنبوغه، يَصبُّ في كونه رائدًا مؤسسًا لحضارةِ عالمية حديثة وثقافةٍ فكريةٍ وأدبية وفنية مستنيرة. فهو يُبشر الفرد بعهدٍ من المعرفة الورحية المتماشية مع التقدم العلمي والتقني، والمعتمدة على المسيرة الحضارية الآدمية من ناحية، وعلى موقعها في

----------------------------------------------

1" ابتهالات خشوعية"، ص 68.

2 انظر "قصص غريبة وأساطير عجيبة" و"مذكرات دينار" والدكتور داهش: "مذكرات يسوع الناصري" (الدار الداهشية للنشر، نيويورك 1991).

3 Halliburton, David. Edgar Allan poe: A phenomenological View (princeton, PUP, 1973 P. 411.)

----------------------------------------------

سُلَّم الحضارات الكوكبية والكونية من ناحية أُخرى. وما الغرابةُ إلا إشارةٌ تدلُّ على أنه رسولُ الزمن الآتي الذي يأبى أن يخضعَ للواقع السائد أو أن يسير في ركابه، بل هو يقاومُه بجهدٍ جبارٍ بهدفِ تغيير مَسارِه وتصحيحهِ. وإذا نقَّبَ المرءُ في تاريخ البشرية جمعاء، فإنه يجدُ قِلَّةً قليلةً من الذين بلغوا مَرماهم في ذلك.

          وبعد، فقد حقق الرجلُ في حياةٍ بشرية لم تتعد الخمسة والسبعين سنة ما تعجزُ عن تحقيقه مجموعاتٌ، بل مجتمعاتٌ بقضها وقضيضها في حياةٍ مهما كانت مديدة. ولعل الغرابة والعجب يتأتيان، لا من بصيرة الرجل الملهمة وإدراكهِ المنير فقط، بل من العزيمة الصلبة والإرادة الفولاذية اللتين تميز بهما، أيضًا، فضلاً عن قدرته الجبارة على تحمل المشاقِّ، وعلى الصبر والتجلُّد على الآلام والتفاني في سبيل تأدية مُهمته ورسالته. وهو، بذلك، تغلبَ على وضعيته البشرية والحياتية، وأكد غرابته كمجرد إنسان.

          مئة عامٍ مرتْ على ولادة الرجل، وقد خلف للإنسانية وللأجيال المُقبلة إرْثًا تاريخيًا، وحدَه الزمنُ الآتي كفيلٌ بالكشف عن كلِّ كنوزه وكلِّ ثرواته الحضارية.

Developed by Houssam Ballout        Copyright 2019 This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.nfo All Right Reseved This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.