أنا أؤمن بأنه توجـد عدالة سماويّة, وأن جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدنيا من مُنغصات انَّ هـو الاّ جـزاءٌ وفاق لِما أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور.ولهـذا يجب علينا أن نستقبلَ كلّ مـا يحـلّ بنـا من آلامِ الحياةِ ومآسيها غير مُتبرّمين ولا متذمّرين , بل قانعين بعدالةِ السماء ونُظمها السامية.

Highlighter
أحبُّ الكُتُبَ حبَّ السُكارى للخمر , لكنَّني كلَّما أزددتُ منها شرباً, زادتني صَحوا
ليس مّنْ يكتُبُ للهو كمَن يكتُبُ للحقيقة
الجمالُ والعفّــة فـردوسٌ سماويّ .
لا معنى لحياةِ ألأنسان اذا لم يقم بعملٍ انسانيٍّ جليل .
اعمل الخير , وأعضد المساكين , تحصل على السعادة .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقـوم بأعمالِ الخير نحـو ألأنسانيّة .
الموتُ يقظةٌ جميلة ينشُدها كل مَنْ صَفَتْ نفسه وطَهرت روحه , ويخافها كلّ من ثقُلت أفكاره وزادت أوزاره .
ان أجسامنا الماديّة ستمتدّ اليها يـد ألأقـدار فتحطِّمها , ثمّ تعمل فيها أنامل الدهـر فتتَّغير معالمها , وتجعلها مهزلةً مرذولة . أمّا ألأعمال الصالحة وألأتجاهات النبيلة السّامية , فهي هي التي يتنسَّم ملائكة اللّه عبيرها الخالد .
نأتي إلى هذا العالمِ باكين مُعولين، و نغادره باكين مُعولين! فواهً لك يا عالمَ البكاء والعويل!
جميعنا مُغترٌّ مخدوعٌ ببعضه البعض.
العدلُ كلمة خُرافية مُضحكة.
أمجادُ هذا العالم وهمٌ باطل، و لونٌ حائل، و ظلٌّ زائل.
لا باركَ الله في تلك الساعة التي فتحتُ فيها عينيّ فإذا بي في مكانٍ يطلقون عليه اسم العالم .
أنا غريبٌ في هذا العالم، و كم احنُّ إلى تلك الساعة التي اعود فيها إلى وطني الحقيقيّ.
الحياةُ سفينةٌ عظيمة رائعة تمخرُ في بحرٍ، ماؤه الآثام البشريَّة الطافحة، و امواجه شهواتهم البهيميَّة الطامحة، و شطآنه نهايتهم المؤلمة الصادعة.
كلّنا ذلك الذئبُ المُفترس , يردع غيره عن اتيانِ الموبقاتِ وهو زعيمها وحامل لوائها , المُقوّض لصروح الفضيلة , ورافع أساس بناءِ الرذيلة .
الحياةُ سلسلة اضطراباتٍ وأهوال , والمرءُ يتقلَّب في أعماقها , حتى يأتيه داعي الموت, فيذهب الى المجهولِ الرهيب , وهو يجهلُ موته , كما كان يجهلُ حياته .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقومَ بأعمالِ الخير نحو الانسانيّة .
المالُ ميزان الشرِّ في هذا العالم .
السعادةُ ليست في المال , ولكن في هدوءِ البال .
كلُّ شيءٍ عظيمٍ في النفسِ العظيمة , أمّا في النفسِ الحقيرة فكلُّ شيءٍ حقير .
الرُّوح نسمةٌ يُرسلها الخالق لخلائقه لأجل , ثم تعودُ اليه بعجل .
الرُّوح نفثةٌ الهيَّة تحتلُّ الخلائق , وكل منها للعودة الى خالقها تائق .
الرُّوح سرٌّ الهيٌّ موصَدْ لا يعرفه الاّ خالق الأرواح بارادته , فمنه أتتْ واليه تعود .
أنا أؤمن بأنه توجـد عدالةٌ سماويّة , وأنَّ جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدُّنيا من مُنغِّصاتٍ وأكدارٍ انَّ هـو الاَّ جـزاء وفاق لمِا أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور . ولهـذا يجب علينا أن نستقبل كلَّ مـا يحـلُّ بنـا من آلام الحياة ومآسيها غير م
الحرّيةُ منحة من السماءِ لأبناءِ ألأرض .
الموتُ ملاكُ رحمةٍ سماويّ يعطف على البشر المُتألّمين , وبلمسةٍ سحريّة من أنامله اللطيفة يُنيلهم الهناء العلويّ .
ما أنقى من يتغلّب على ميولِ جسده الوضيع الفاني , ويتبع ما تُريده الرُّوح النقيّة .
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
الراحة التامّة مفقودة في هذا العالم , وكيفما بحثت عنها فأنت عائدٌ منها بصفقةِ الخاسر المَغبون .
ليس أللّــه مع الظالم بل مع الحقّ.
ان الصديق الحقيقي لا وجود له في هذا العالم الكاذب.
ما أكثر القائلين بالعطف على البائسين وغوث الملهوفين والحنو على القانطين , وما أقلَّ تنفيذهم القول.
يظنُّ بعض ألأنذال ألأدنياء أنّهم يُبيّضون صحائفهم بتسويدِ صحائف الأبرياء , غير عالمين بأنَّ الدوائر ستدور عليهم وتُشهّرهم.
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السَّلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
رهبة المجهول شقاء للبشرِ الجاهلين للأسرارِ الروحيَّة , وسعادة للذين تكشّفت لهم الحقائق السماويَّة .
الموتُ نهاية كل حيّ , ولكنه فترة انتقال : امّا الى نعيم , وامّا الى جحيم .
الحياةُ خير معلِّمٍ ومُؤدِّب , وخيرَ واقٍ للمرءِ من الأنزلاقِ الى مهاوي الحضيض .
حين تشكُّ بأقربِ المُقرَّبين اليك تبدأ في فهمِ حقائق هذا الكون .
مَنْ يكون ذلك القدّيس الذي لم تخطرُ المرأة في باله ؟ لو وجدَ هذا لشبَّهته بالآلهة .
المرأة هي إله هذه الأرض الواسع السُّلطان. و هي تحملُ بيدها سيفاً قاطعاً لو حاولَ رجالُ الأرض قاطبةً انتزاعه منها لباؤوا بالفشلِ و الخذلان .

الدكتور علي جمعة

كاتبٌ وشاعرٌ لبناني. حاز الدكتوراه في الأدب العربي من جامعة السوربون بباريس. أستاذٌ الأدب العربي في كلية الآداب والعلوم الإنسانية في الجامعة اللبنانية.

          من مؤلفاته الشعرية "عزفٌ على قيثارة الرحيل" (1995)، و"المرآة الأخرى". وله عدة دراسات وابحاث أدبية، منها دراسة مقارنة بين بدر شارك السيَّاب ومحمود درويش وعبد الوهاب البياتي.

مناجاةُ الموت في أدب الدكتور داهش

في الذكرى المئوية الأولى لولادة الدكتور داهش، سأطرقُ باب تراثه الأدبي كاشفًا مزينة ومسلطًا الضوء على ظاهرة الموت في خطابه الفني. وما قادني للحديث عن أدب الدكتور داهش نصوصٌ تسكنُ ذاكرتي، وحنينٌ يعرشُ في حنايا طفولتي، ولم تزل أطيافُها تُداعبُ خيالي، ولم تزل صورتها ساطعةً في عالم الكتاب. حسبي أني داهشيُّ الوجد أسعى إلى حدائق الروح.

          أما اختياري لظاهرة الموت، فمردُّه أنها تشغلُ حيزًا مهمًا في النص الداهشي، إذ تُرتبُ مسارات الفكر على تُخوم المستحيلن وتخطُّ صفحات الغرابة على أوراق الذاكرة، وفي تجليات الحلم البعيد.

ماهية الموت (تحوُّلٌ في التحوُّل)

          إن الموتَ في الأدبِ الداهشي قد شكل بمهارةٍ حقولَه الفتانة على مساحاتٍ واسعةٍ من النص، وصاغَ لغتها ببساطةٍ مُهيمنصا على فضاءٍ شاسعٍ من خطابها الفني؛ قلما تجدُ نصًّا لا تعثُر فيه على مُفرَدة الموت. إنَّ قراءةً في معناها على مستوى الفكر أو مُقاربةً لسِماتِها على مستوى الرمز يجعلان المتلقي يقفُ حائرًا أمام مقولةٍ مختلفةٍ غير مؤتلِفة تُؤسِّس العلاقات نصيَّة اتسقتْ أنساقُها، وتآلفتْ مفرداتُها، فترسمُ إبداعها بدقةٍ ورقة في وجهيها الجماليِّ والدلاليّ. إنَّ التقاط جوهر الموت واختراقَ مجالِه الحيويِّ والتواصُّل إلى معانيه، عبرَ مزيدٍ من التقصي والمُعاينة، تُفضي ضرورةً إلى مستوًى جديدٍ من مُستويات القراءة.

          في مقطوعة "هي الموت"1 تلمسُ هذا البعدَ المختلف: "هي رائحةٌ بتُّ أنشدُها بشوقٍ ولوعة!... هي رائحةٌ يخشاها كلُّ بشريٍّ غيري!.... هي رائحةُ (الحقيقة) التي بحثَ  عنها الفلاسفة، فلم يجدوها إلا فيها!... هي! هي الموت!".

          وما ينبغي ذكرُه أن فرادةً للرؤيا قد تجلت في هذه المقطوعة، إذ إن الدكتور داهش يثعلنُ صراحةً أنه يتشوقُ إلى رائحة الموت. اليس غريبًا أن يكون الموتُ موضوعًا مشوقًا بينما يخشاه كل بشريٍّ غيره؟! أما هذه القراءة فهي محاولةٌ لمعرفة تلك الرائحة/ الحقيقة التي كان يبحثُ عنها، فهو مؤمنٌ بأن حياة الإنسان لا تنتهي بالموت، بل تبتدئُ بالدقيقة التي تُفارقُ فيها روحُه جسده. وينتفي السؤالُ إذا أفردنا للنص جناحًا على التراث الديني، وافتتحنا له بابًا في الذاكرة نلج منه غلى القرآن الكريم: (فتمنوا الموت إن كنتم صادقي.) (القرة: 94): (إن زعمتم أنكم أولياءُ لله من دون الناس فتمنوا الموت.) (الجمعة: 6) فالموتُ أمنيةُ الصادق الأمين، وقد تمناه الدكتور داهش وكان صادقًا أمينصا. وقد ورد في الإنجيل: "وقال لها يسوع: سيقومُ أخوك، فأجابت: أعرفُ أنه سيقومُ في القيامة في اليوم الآخِر. فقال لها: أنا هو القيامةُ والحياة. مَن آمنَ بي يحيا وإنْ مات. وكلُّ من يحيا مؤمنًا بي لا يموتُ أبدًا". (يوحنَّا: 23 – 26).

          فإذا كان الأدبُ منظومةَ قِيَم معرفيَّة وجَماليَّة وبنيوية، فالوظيفة الأهمُّ للنقد هي الإجابةُ عن سؤال القيمة. أما البحثُ عنها فهو الغايةُ العُليا للناقد الأدبيِّ. "فالنقد هو محاولةٌ تسعى عبرَ وسائلَ منضبطةٍ لإدراك العلاقات الكامنة داخلَ النصِّ، والمتخفية وراءَ ظاهرِه من أجل الوصول إلى الخصوصية التشكيلية والدلالية له والتي تُميزه عن غيره،"2 باعتباره بنيةً رمزيَّة لا تُفصحُ عن مَخزونِها الثريِّ إلاَّ في عُمق السِّياق النصيّ. فما هي الخصيصةُ الأدبية التي ينفردُ بها النصُّ الداهشي؟ وبالتالي، كيف تحوَّلتْ ظاهرةُ الموت إلى علامةٍ دالَّة في الأَدب الداهشي؟

---------------------------------------------------------------

1 الدكتور داهش: "جحيم الذكريات" (دار النسر المحلِّق للطباعة والنشر، بيروت 1984)، ص 143، 145.

2 سيد البحراوي: "في البحث عن لؤلؤة المستحيل" (دار الفكر الجديد، بيروت 1988)، ص 10.

--------------------------------------------------------

في بحثنا هذا سنقيم مقاربة تكتنهُ الأبعاد المكونة للنص، كاشفةً عن نسيج التشكيلات قصد تحليلها ثم إعادة تركيبها دلاليًا. يُطالعنا كتاب "ضجعة الموت" بمقطوعةٍ مُثبتة تحت رسم المؤلف، وهي تختصرُ رحلة الحياة، وتكتنِزُ أسرارَ الوجود، وتعبر عن رؤيته إلى ثنائية الموت/ الحياة: "أنا ظلٌّ سرعان ما يطوف في وادي الحياة ويتلاشى... والموت يقظةٌ فتانةٌ يحنُّ إليها كل َمن صفتْ نفسُه وسمت روحُه، ويخافُها مَن كثفتْ أفكارُه، وكثرتْ أوزارُه..."1

          في نسَق أخباريٍّ يعني الثباتَ في الرؤيا، تتكوَّن بنيةُ المقطوعة متَّكئةً على ثلاث علامات: الأنا/ الحياة/ الموت، حيث تتشكل أنساقُها من حركاتها ومن تفاعُلها تشابُهاً أو تضادًّا. تبدأُ حركةُ الأنا/ الحياة بالجملة "أنا ظلٌ": إسنادُها أخباريٌّ وغرَضُها فائدةُ  الخبر ولزومُ الفائدة. ويُرخي الظلُّ عالَمَه على الأنا، يفرشُ حقلَ معانيه؛ فهو يطوفُ في "وادي الحياة ويتلاشى،" كأن وقتًا قصيرًا يَحكمُ وجودَه. فقد تماهيى "الأنا" في "الظلِّ" مشكلاً وحدةً وجودية، ينتهي "الأنا" بانتهاء "الظل" لتكون الحياةُ على الأرض ممرًا نخرجُ منه إلى عالَم آخر. هكذا تصيرُ الأرضُ ظلاً زائفًا مؤقتًا.

          أمّا الحركةُ الثانية فهي الأنا/ الموت، حيث يَجذبُ الموتُ إلى دائرته "الأنا" الصافية السامية، ويُبعدُ مَن كثرت أوزاره، ليُشكل جزاءً عادلاً لمستحقيه، ويبقى علامةً دالة على التحوُّل إلى عالم سحريٍّ فتان ينالُه "كلُّ مضن صفتْ نفسُه وسمَتْ روحُه".

          ولا يتوقفُ الأمر عند هذا المعنى؛ فقد أهدى الدكتور داهش كتابه "ضجعة الموت" إلى الموت،2 ليرمزَ هذا الدالُّ إلى مدلولاتٍ كثيرة، فيكونَ قوةً قادرة، وحقيقيةً مجهولة، وقوةً جبارة... ويصيرَ عشيقًا وأليفًا وخدينًا وحبيبًا. هكذا رأى سنبلة الموت تلفُّ الوقت، وتبني عالَمَها المجازيَّ وأَبعادَها السيمائية.

          فإذا كانت "اللغة نظامًا إشاريًّا مُركبًّا ودالاً،"3 فإنَّ علامةَ الموت بوجهها المادِّيِّ الدالِّ وتصوُّرِها المدلول قد أقامتْ تواصُلاً دلاليًّا، تفاعلَ في أَنساقٍ متكررةٍ جعلَتْ من الموت منظومةً سيمائيةً خرجَتْ من معاناها اليقينيِّ إلى آخر تضمينيٍّ أو مجازيٍّ، وأرسَتْ

----------------------------------------------------------

1 الدكتور داهش: "ضجعة الموت" (مطبعة دار الأيتام السورية، القدس 1936)، ص 2- 3 .

2  المرجع السابق، ص 4.

3"في البحث عن لؤلؤة المستحيل"، ص 16.

----------------------------------------------------------

بذلك ثقافةً جديدةً ومعرفةً ذات خصوصية؛ "فالموت، كما يُعرَف في كوكبنا، هو حالةٌ معينةٌ خاصة بالأرض، وبها ينتقلث الحيُّ من مرحلةٍ حياتيةٍ إلى أُخرى، بعد أن يفقد شكله السابق... فالموتُ يحصل آنَ يغادرُ آخرُ سيَّالٍ روحيٍّ..."1  ولكن كيف قرأ الآخرون، فلاسفةً ومفكرين، ظاهرةَ الموت؟

"الموت هو عدمُ الحياة عمَّا من شأْنه أن يكون حيًّا، وقيل عمَّا اتصف بهاح أو هو تعطُّلُ القوى عن أفعالهأن وتركُ النفس استعمالَ الجسد"2 والموتُ كيفيةٌ وجودية لا يُتصوَّر إلا فيما له وجود. أمَّا الموت الإراديُّ فيعنُون به إحياءَ النفس بإماتِة الشهوات، والحياةُ الطبيعية بقاءُ النفس في الغبطة الابدية. "لذلك أوصى أفلاطون طالبُ الحكمة فقال: مُتْ بالإرادة تحسَّ بالطبيعة. وقال سقراط: إن حياة الإنسان ممارسةٌ للموت، وحياة الفيلسوف موجهةق نحو الموت، لأنه يعي دائمًا أن عمره ينتقصُ باستمرار، وأنه يعيش للموت."3 وكان الموت دائمًا مُلهِمَ الفلاسفة، ونقطةَ البدء في أيِّ ففلسفة، والفكرة التي يدأبُ عليها كلُّ أديبٍ أسيان؛ لذلك "وصفَها شوبنهاور بأنها عروسُ الفلاسفة، وغازلها الوجوديُّون حتى لُقِّبوا بفلاسفة الموت؛ فالإنسانُ عندهم هو الكائنُ الصائر إلى الموت."4

          ويبدو أن الموتَ مسألةٌ إنسانيةٌ محضة. ولا شكَّ في أنه لغزُ الحياة، شُغِل به "الأقدمون"،5 ولكنَّ الدين هو الوحيد الذي قدم فيه وجهة نظرٍ متكاملة. "والموتُ عند الصوفية هو الحجابُ عن أنوار المكاشفات والتجلي، وهو قمع هوى النفس. فمَن مات عن هُواه فقد حييَ بُهداه. ولعلَّ هذه الحياةَ هي الموت، إذ قال الرسول محمد (ص): الناسُ نيام، فإذا ماتوا انتبهوا."6 فلعلَّ الحياةَ الدنيا نومٌ مقارنةً بالآخرة، فإذا مات الإنسان

--------------------------------------------------------

1 مجلة "بروق ورعود" بيروت، العدد 19ف68,5 ، ص 456.

2 عبد المنعم الحفني: "المعجم الشامل لمصطلحات الفلسفة"، (مكتبة مدبلوين القاهرة، طبعة ثالثة 2000)، ص 851.

3 المصدر نفسه، ص 851، 852.

4 المصدر نفسه، ص 852.

5 فراس السواح: "جلجامش"، طبعة أولى (العربي للطباعة والنشر والتوزيع، دمشقن 1987)، ص 33.

راجع ول ديورانت: "قصة الحضارة"، الكتاب الأول ص 162,30 – 163 ، 221 ، 435 (لاسومريون، الفراعنة، البابليون، الفرسن في بحثٍ عن الحياة الأخرى).\

6 "المعجم الشامل المصطلحات الفلسفة"، ص 852.

---------------------------------------------------------

ظهرت له الأشياءُ بخلاف ما شاهده الآن، فيُقال له عند ذلك: (فكشفنا عنك غطاءك فبصرُك اليومَ حديد) (سورة ق: 22).

          إن مقاربةً للحديث الشريف أو الآية الكريمة تجعلُ المتلقي يُدرك أن نظرة الموت في كليهما تتفق مع النص الداهشي: الموت: اليقظة أو الموت/ الانتباه، الحياة/ النوم أو الحياة/ الظل. لقد أدرك الدكتور داهش هذه الحقيقة، فانبسطت صورتثها فهمًا واندياحًا في نصه.

          هل اختلفت الرؤيا لظاهرة الموت واتخذت منحًى جديدًا؟ وهل كان الموت ملهِمًا؟

سيمائية الموت أَو تحوَّل الدالّ

إن فرادةَ الأدب الداهشيّ جعلَت اللغةَ تلبسُ زينتها مجددًا، وتخلقُ نظمها الإشاري على طريقةٍ مخصوصة. بالرغم من بساطة التعبير وسهولة اللفظ، فقد استطاعت أن تخرج من النظام اللغوي التقليدي متجاوزةً السائدَ إلى آفاقٍ أُخرى سواءٌ أكانت استعاريةً مجازية أم كنائية. فانزياحُ الموت شكَّل علامةً سينمائية تطال حدودَ الرمز، بعدما تجاوزَ المعنى الوصفي إلى حدائق دلاليةٍ أُخرى اكتسبت حضورها من وجودها المهيمن على النص الداهشي. خيرُ شاهد نثرية "أيها الموت"1. النصُّ أشبهُ بحركةٍ للغيوم تتوالى الواحدةُ تلو الأُخرى، لا تصلُ غيمةٌ منها إلى مستقرها حتى تعلوها غيمةٌ أخرى، تولدُ منها وتعلو عليها، أو كالمدِّ والجزر عل شاطئ الحياة تتكسَّرُ على صخره أمواجُ الموجود. يعني ذلك أننا أمام سبع متتاليات.2

في المتتالية الأولى: الموت/ الحبيب("يا موتُ، أيُّها الحبيب... ويا نَعمَ الصديق") يبثُّ الدكتور داهش النداءَ حارًّا، يرتدي الدالُّ/ الموت مدلولاتٍ كثيرةً، وتتشكَّلُ حُزمةٌ جديدةٌ استعاريَّة. تصير العلامةُ/ الموت حبيبًا وعيقًا وطيفًا ساريًا، وأنيسًا أو عروسًا هائمًا في مشارق الارض ومغاربها. يصبح الموتُ فردوسصا مفقودًا أو أملاً منشودًا. هكذا تغتني اللغة بدلالاتها، أو هكذا أغناها النصُّ الداهشيُّ، إذ تفتحُ سيماءُ

-----------------------------------------------------

1 الدكتور داهش: "القلب المحطم" (دار النسرا لمحلق للطباعة والنشر، بيروت 1984)، ص 91.

2 لقد أفدنا من تقسيم النص إلى سبعة أقسام، وجعلنا لكل قسمٍ متتالية.

-------------------------------------------------------------

اللغة ذراعية عاليًا. وذلك لم يكن حياديًا، لأن ثقافةً رساليةً تفرشُ سُندسَها القشيب في مبناها أو في معناها؛ إنها حضارةُ داهش العظيم.

ويطالعُنا النصُّ في المتتالية الثانية: الموت/ السكينة، بموجةٍ كنائية، ليصيرَ الموتُ كفنَ المطامع، ويصبحَ نعشَ المظالم، أو يكون رمْسَ الأحقاد. فهو يُسدلُ الستار على مطامعِ الإنسان ومظالمِه وأحقادِه،فيأْوي الجسدُ إلى كفنه. فهو يُسدلُ الستار على مطامعِ الإنسان ومظالمِه وأحقادِه، فيأوي الجسدُ إلى كفنه. وهو رسولُ الآلهة، يهدمُ الشرَّ ليبنيَ الخير، او يُبعِدُ القلقَ لتطمئنَّ النفس، وذلك ف حُزمةٍ من الطبقات البديعية التي أتَتْ عفوَ الخاطر بعيدًا عن التصنُّع والتكلُّف: الهادم/ اباني، العابس/ الباسم، المرِح/ الحزين. وبذلك يرسمُ الموتُ خريطةَ النهاية لحركة الإنسان على الأرض.

وينحو النصُّ في المتتالِية الثالثة منحًى جديدا: الموت/ الحضور. "أيُّها الموجودُ في كلِّ زمانٍ ومكان، في الماء والهواء، في السهول والجبال... فالموت الناظرُ غيرُ المنظور الذي يُحصي علينا أعمالَنا. فهو الناظرُ بلا شيءٍ إلى كل شيء." فحضورُ الموت معجزةٌ فريدة، وقانونه دستورٌ حاسم.

وتجري الأمواجُ في متتالية أُخرى: الموت/ الأمل، ليعودَ النصُّ إلى مناجاة الموت مجددًا. فهو العزيزُ والأملُ والرجاء...\

وفي صورةٍ قل خلقُها في عالم الإبداع: "يا حبيبي الموت! أقفل عينيَّ، يا حبيبي،" (الموت/ المخلص)"فقد تعبتْ قدماي من السير في مفاوز هذا العالَم المليءِ بالشرور والآثام، الزاخرِ بالآلام،" يكون الموت بلسمًا شافياً لروح حائرةٍ حزينة؛ فقد تعبَتْ نفس الدكتور داهش من البقاء في هذا العالَم البارد المخيف. أما الموت/ السعادة، فهو الرحلة لتذوُّق الراحة، والنشوةُ الخالدة السرمدية.

أما المقابلةُ النهائية (الموت/ الحياة)، فكانتْ مقارَبةً بين عالَم الآلام وعالَم البهاء. ففي مناجاةٍ وجدانية يُناشِدُ الدكتور داهش الموتَ طالبًا إليه أن يختطفه من هذا العالم إلى عالَم الغبطة. يبدو هذا الطلبُ غايةً في الغرابة! "هاتِ يا حبيبي، وأرِحْني من هذا العالَم... آه! ما أشقى هذا الوجود... لله! وما أجملَ عالَمَك، وما أبهاه!... رحماك! ألت تسمع؟!"

إنَّ مناجاتَه للموت كانتْ حنيناً إلى عالَم الروح البهيِّ الذي يتوقُ للعودة إليه: "يا عالَم الروح! أيُّها العالَمُ التقيُّ النقيّ!... أيُّها العالَم الذي تتوقُ روحي إليه!... ونفسي أبدًا بشوق عارم للقائك... يا عالمَ أحلامي الفردوسيَّ! نعم، ادعُني، ادعُني إليك، لأندمج بعالمك الروحيّ."1

ويكسرُ النهرُ مَجراه، يشكِّل انزياحًا جديدًا لعلامة الموت/ العودة إلى وطنه الروحيِّ. وقد كان هذا الحنين ملازمًا له في كل حياته.

يشيرُ نظام هذه المتتاليات إلى تدفُّقِ المعنى تدفقاً يشبه النهر، لأن الموت/ العلامة يشغلُ ضِفافًا مترامية الظلال من وِجدان الدكتور داهش، ومن جرَيانه الأزليِّ الذي يخترقُ حُحُبَ المألوف إلى فضاءاتٍ وسعُها الفراديس، ترتعُ في مداها الحقيقةُ ملائكةً وآلهة.

الموت، تجليات نصية

للموت في الخطاب الداهشي تجلياتٌ كثيرة. فمِن ماطبةٍ مباشرة("أيها الموت"، "يا موت"، "هي الموت"...) إلى بَواحٍ شجيٍّن يرثي من خلاله الدكتور داهش أصدقاءَ مقربين اختطفهم الموت، وأبعدهم إلى عوالِمَ أُخرى. وفي طيات تلك النصوص يبثُّ شكواه، ويُشعلُ حزنه، أو ينثرُ فكرَه.

أ – نثرية "أخي توفيق"2 المهجاة إلى روح توفيق عسراوي: يُرسل الدكتور داهش أغصانَ أحزانه برِقَّةٍ وبساطة، يتقطَّر الدمع فيها كلامًا شفيفًا على صفحاتٍ أربع استحالت ضمَّةً من البواح الحزين على فراقِ أخ وفيٍّ، وصديقٍ نبيل... للحزن مُعجَمُه المهيمن على هذه المقطوعة، وللعاطفة النبيلة الفيَّاضة سيماتُها الدلالية، سواءٌ أكانت مفردة ("وهمَتْ عَبراتي"، "وتفجَّرتْ ينابيعُ أَحزاني وأشجاني"، و"العويل"، "فؤادي الجريح"، "تصدَّع قلبي") أم كانت صوره الملتبسة بالبُعد الاستعاري التي تتوهج به شعرية هذا النص. ليس الرثاء وحده وحسب، بل الموت.

          تتوزعُ النص مجموعةٌ من العناوين ترتكزُ إليها البنيةُ الدلالية التي تحكمُه: الموت/ الحلم؛ وهو حلم الانطلاق من هذا العالَم الفاني إلى عالَم السعادة الابدية.

والموت/ الفراقن وقد أتت هذه المقولةُ بصورةٍ معبرة: "فإذا بك تتدثرُ في (الرمال)

----------------------------------------------------------------

1 الدكتور داهش: "ابتهالاتٌ خشوعية" (دار النار والنور للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت 1983)، ص 183 – 185.

2" جحيم  الذكريات"، ص 149.

-------------------------------------------------------------

المُهالة فوق جسدِك الذي طالما ضمَّه معي فراشٌ واحد... إنها فاجعةُ الفواجع، يا أخي". والموت/ الغبطة، الارتحال إلى عالَم الأرواح السامية: "ساعتذاك... غبطتُكَن يا أخي، على ارتحالك عنا، وانطلاقِك إلى عالم (الأرواح) السامي." والموت/ الجزاء العادل؛ وهو الاستحقاقُ لناسكٍ رب المعركة: "لقد كفرتَ، يا أخي، عن ذنوبك... لا بل جُعت وعريت في سبيل عقيدتك... هنيئًا لك... لقد ربحتَ المعركة في النهاية!"

          الموت/ الخلود: "لقد بلغتَ الآن نهاية المرحلة... فاهنأ مع الملائكة الأطهار... أنت تستحقُّ الآن أكاليلَ الغار المقدس".

          الموت/ اللقاء، حيث يحنُّ الدكتور داهش إلى لقاء أخيه في عالم الخلود البهيّ. إنَّ هذا النص يشكل نموذجًا لحركة الدلالة ببعدَيها التركيبي والإيحائيِّ، ليبثَّمن خلال موت صديقه مرسلة حزينة، وينشر شراع رسالة تطوف ماخرةً عباب العقول ومرافئ الفكر.

          ب – مرثيَّة "أنعاك بمرارة"1 المهداة إلى روح الشاعر مطلق عبد الخالق: يُعلن النصُّ انتماءه إلى معجم الموت. فالنعيُّ إعلانٌ يُنشر بأسًى والم ومرارة، لتشكل هذه البداية خبارًا عن تشكيلات النص الآتية، وتكثيفًا لمعانيه المتساوقة؛ فهي غشارةٌ إلى دورٍ  بنائيٍّ ممهِّدٍ لسيرورته. وتُشير حركةُ التشكُّل إلى الموت/ الخبر الذي وقعَ وقوعَ الصاعقة: "أخي مطلق... لقد صُعِقتُ... وأبيتُ أن أُصدّق هذا الخبرَ المروِّع المفاجئ". وتتوالى بعدها إشارات الموت/ اليقظة: "يا أخي، إن ذكر اك ستبقى في أعماقي... أُنظم الآن قصيدة الخلود بعد اطلاعك على الحقائق السامية". ويأتي تاليًا الموت/ الخلود، فقد نال مطلق بُغيته: "نمْ بسكونٍ، يا أخي، واهنأ في عالَمك المترَع بالبهاء." وأخيرًا الموت/ اللقاء: "ولن يمضيَ وقتٌ طويل حتى تراني بجانبك. فإلى اللقاء، يا أخ، بل يا حبيبي، الى اللقاء".

أنهار المراثي

أ‌.   "نهر الدموع":حيث تقفُ الاقلام حائرةً أمام ظاهرةٍ أدبية فريدة؛ فهي مرثيةٌ يومية لشقيق روحه الدكتور جورج خبصا، تمتدُّ من 10 تشرين الثاني (نوفمبر) 1969

------------------------------------------------------

1 المصدر نفسه، ص 159.

2 الدكتور داهش: "نهر الدموع" (دار النسر المحلق للطباعة والنشر، بيروت 1979). (مراثي الدكتور داهش في شقيق روحه الدكتور جورج خبصا الذي توفي في الثامن من تشرين الثاني 1969).

--------------------------------------------------------

لغاية نهاية العام، أي مدة اثنين وخمسين يومًا دونما انطقاع. وابتداءً من عام 1970، تتتابعُ المقطوعات على غير ما انتظام في تاريخها، حتى 17 كانون الثاني(يناير) من عام 1979، تاريخ مقدمة كماب "نهر الدموع". تلك المقطوعاتُ بلغتْ إحدى وعشرين مقطوعة: "متدفقًا ما زال نهر الدمع... تذكاراتُ تشرين الحزين... ذكراك خالدة... فلن أنساك... لا أنساك أنت حيٌّ... أنت ثاوٍ في شَغاف القلب... وأنت شقيقُ روحي... أنت أوفى مَن رافقتُ... واحرَّ قلبي، أنت أنبَلُ مَن عرفتُّ فما أمّرَّ فراقَك!... وما اَعَزَّ لقاءك...".

     للحزن حقلُه الدلاليُّ اتسعتْ سنابله حتى لوَّنتْ حدائقَ للمعنى، وأنبتت بساتين للمبنى أشجارًا وورودًا اغتنى بها النصُّ ليُشكِّلَ الموتُ بذلك نِسْغًا يَروي أغصانَها. تتحرك البنية مُعبرةً عن تشكيلاتِ ذاك الفجر الحزين. لم يتركْ قلمُ الدكتور داهش لفظةً ينهمرُ من حروفها الدمع إلا وقد سيَّلها في نهره العجيب. لم يتركْ  قلمُ الدكتور داهش لفظةً ينهمرُ من حروفها الدمع إلا وقد سيلها في نهره العجيب. لم يترك صورةً تذرفُ مقلتاها الألم إل وقد تدفق حزنُها جاريًا على خديها لترويَ مطارحَ القلب وشِعابَ الوجدان وحضونَ المفردات.

هكذا خطَّ الدكتور داهش بمِداد القلب الكلمات حزنًا على صديقه، وتوقًا إلى لقائه.

ب‌.نهرٌ ينوح: في مرثية "روح تنوح أو قيثارةُ الأحزان"1 نبعٌ آخر من ينابيع الدمع صافٍ كالزُّلال، ومن أنهرُ الحزن التي سالتْ أحرفًا وبيانًا. كانت مضمخةً بروح النبالة، وممزوجةً بِرقَّة الوجدان. إنها لقيثارةُ أحزانٍ تعزفُ على وترٍ من كلماتٍ قد تآلفت بحنان، وتعانتق برِقة لتُشكلَ معزوفةً نصية فريدة لا مثيلَ لشجوها، ولا تشبهُ إلا روحًا تنوح أو حديقةً من شجر الأشجان. هه المرثية من مفاتن الأدب الداهشي. هي ضمةٌ من سنابل الوجع مُهداة إلى زهرة الداهشية ماجدا حدَّاد "التي استشهدت دفاعًا عن عقيدتها، واحتجاجًا على الجريمة المُرعبة التي أوقعتها السلطةُ اللبنانية بمؤسس الداهشية من العام 1943 إلى 1952؛ وهي تجريدُ الدكتور داهش من جنسيته اللبنانية، وصدورُ مرسوم النفي والإبعاد بحقه."2 لا يَصعبُ على قارئ النصِّ أن يكتشفَ أن بنيةَ نسيجه ترتكزُ إلى شبكةٍ من العلائق؛ فمن الموت/ الحزن، إلى الموت/ الخلاص...

----------------------------------------------------------------

1 الدكتور داهش: مقتطفات من كتاب "روح تنوح"، مُثبتة في كتاب "ناثر وشاعر"، ج 3  (دار النار والنور للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت 1983)، ص 195 – 197.

2 راجع مقدمة الدكتور داهش لكتاب "روح تنوح"، ص 11 (في أواخر عام 1942 اتنق الداهشية كلٌ من ماري حداد وقرينها وكريماتها. وهذه الجريمة ما كانت لتقدم عليها السلطة اللبنانية، آنذاك، لو لم تعتنق السيدة ماري وعائلتها هذه العقيدة؛ والجدير بالذكر أن صلة قرابةٍ كانت تربطهم برئيس هذه السلطة).

----------------------------------------------------------------

إذا كان الموتُ جسرًا لعبور الروح النقية الرائعة إلى جنَّة الخُلد، ولو بلوعةٍ وأَسًى، فإنه يتجاوزُ وظيفةَ التخطي إلى فعل التحوُّل، ليكونَ بدايةَ انبعاثٍ جديد لمرحلةٍ اُخرى. أمَّا الحزن الذي يتولَّد من القطيعة بين ضفتي الجسر، فلأَنَّه لا عودةَ إلى الجهة الأُخرى؛ فهو فراقٌ تغمُره الدموع ويجتاحُه شعورٌ بالوحدة. ولكنْ لا يستسلمُ النصُّ للحزن، ولا يطمئنُّ إلى اللحظة الراهنة، لأن الموت/ اللقاء يفرشُ جناحيه على مفردات اللغة، ويعودُ الأملُ الذي يرتجيه الكاتب حينما يجتمعُ بمَن غابتْ عنه. "أبكيكِ يا ماجدا الحبيبة، أبكيكِ، وبدماء قلبي الحزين أرثيكِ!"... "آه! ولكنْ متى متى، يا ماجدا، يتمُّ هذا اللقاء المرجَّى؟ ومتى متى تهدأُ نفسي القلِقة وتطمئنُّ روحي الوجِلة؟"... "أَذكُرك عندما تَهدلُ حمامةٌ أو تنوحُ يمامة!... وسرعان ما أندفعُ كالسهم المارق في فضاء اللانهاية حتى أبلغ موطنك... وساعتذاك... تندمجُ روحي المعذَّبة بروحك العَذبة... فتسعد روحانا في الجِنان تحت رعاية الله الفائق الرحمة والحنان!".

          ج. نهر الوجع: يُعلنُ الدكتور داهش حزنَه العظيم على أُمِّه. يناجيها بدموعٍ حارَّة، ويُناديها بدماء قلبه، وبعُصارة نفسه، وبخُلاصة روحه، وذلك في مقطوعات ثلاث مُقتطفة من كتاب "أوهامٌ سرابية وتخيُّلاتٌ ترابيَّة". "إلى روحك النقية، يا أُمَّاه...": "فقداتُك، يا مَن أرَيتني نورَ الحياة، ففقدتْ نفسي البهجة... كنتِ جبارةً، يا أُمَّاه مزَّق كبدي،(...) وأمات الآمالَ في حنايا نفسي الحزينة!... أُمَّاه! أُمَّاه! ويا ما أعذب كلمةَ "أُماه"، وأقربها إلى النفس وأصدقها إلى الروح!"..."وداع عام 1949 أو عام حزني العظيم على مَن ولدتني": "نعم، أيها العام، لقد أشعرتني باليأس العظيم بعدما رحلتْ عني... والدتي مَن أرتني نور الحياة".1

          كانت الأُمُّ روحًا نقيةً تسكنُ في عالم بهيِّ الضياء، قامتْ بأداء رسالتها على وجهها الأتمِّ، ما كانت تلينُ إلا للحقّ. وفي ندائه "أين أنت يا أُمَّاه"، يُشبه تائهًا يسألُ عن طريقٍ أضاعه أو عن عزيزٍ افتقده. ويأتي النداءُ مكسورًا على باب السؤال؛ يعرف الجوابَ، ويعلم أنها رحلت إلى عالمها إلى غير ما رجعة.

--------------------------------------------------------------

1 الدكتور داهش: مقتطفات من كتاب "أوهام سرابية وتخيلات ترابية" مُثبتة في كتاب "ناثر وشاعر"، ج 3، ص 179 – 181.

-------------------------------------------------------------

خاتمة

          في ضوء ما تقدَّم نجدُ أن حركة الموت في النص الداهشيِّ قد اتخذت مسارًا خطيًا مُسلسلاً، يتمثل في بناء حقولٍ دلالية اتسعت رؤيتها، وانزاحت لتُشكل سيماءها: فمن الموت/ اليقظة، والموت/ الحلم، والموت/ الحبيب، والموت/ الفراق، والموت/ اللقاء، والموت/ الخلود... إلى آخرِ ما أفدنا منه من مقاربة للنصوص، ومن تحليل لبنيتها بغية معرفةِ ما أنجزته من دلالة. وقد توصل هذا البحث إلى مفاهيم واضحةٍ غير ملتبسة عن حقائق داهشية أرست معالمها نصوصٌ كان الموت علامتها المميزة، حيث تمثل في حقولها معجم بذورٍ كثيرةٍ نمتْ وترعرعت تحت ضوء الشمس، وأفردت أجنحةً مُوحية على مساحة القلب، لسحرِ بيانها وحُسْنِ ظلالها. ناهيك عن "قصص غريبة وأساطير عجيبة"1 بأجزائها الأربعة التي تفتح للسؤال بابًا جديدًا عن الموت/ التقمُّص، والجزاء العادل الذي يستحقُّه الإنسان جرَّاء ما كسبَتْ يداه. "أنا أؤمن بالتقمُّص إيماني بوجودي، أي إنَّ الإنسانَ يتكرر مجيئه إلى الأرض ليتطهر من أوشابه ويتخلص من أوزاره".2
          هكذا أقمنا جسرًا للموت، حيث عبرت نصوصٌ انتشت بالجمال أينما تجلى، وامشتقت سيوفَ الحق بروقًا ورعودًا، واصطفت سنابل الخير حيثما نمت، لتفرش أإصانُ المعرفة أفياءها الوارفة على مسافة الفكر، وفي شعاب الوجدان.

          تلك كانت رحلتي، أردتُها مدخلاً موجزًا لتقصي معارج هذه الظاهرة وسبر أغوارها. ألم يكن الموت هو الحقيقة التي يسعى إليها كل من صفتْ نفسُه وسمت روحُه؟ ألم يكن غريبًا أن هذا الذي يخافُ منه الناس جميعًا، ويرتاعون من ذكر اسمه، يناجيه الدكتور داهش: "يا موت! أيها الحبيبُ الشفيق، ويا نَعمَ الصديق!... يا سميرَ وحدتي، وأنيسَ يقظتي، ومُخففَ بلوتي! يا طلابَ نفسي، ومطمحَ روحي، ومضهوى فؤادي!... يا فرودسي المفقود، وأملي المنشود!..."3

------------------------------------------------------------

1 الدكتور داهش: "قصص غريبة وأساطير عجيبة"، أربعة أجزاء (دار النسر المحلق للطباعة والنشر، بيروت 1979، 1981، 1983).

2 المصدرنفسه، مقدمة ج2، ص7

3"القلب المحطَّم"، ص 91.

------------------------------------------------------------

 والجدير ذكرُه أن من أحب الموت كثيًا قد أحب الحياة أيضًا؛ أحبها عنوانًا للعمل والجد، وأحبها نبراسًا للفضيلة والصدق، لم يهدأ يومًا، ولم يضع عصاه من عاتقه. "أنا بطبيعتي أُحبُّ الرحلات... أُحبُّ السفرَ الى الصحارى.... وأرغبُ مشاهدة العواصم الكبرى... وأُحبُّ أن أرود المتاحف... وقد غصَّت خزائني بروائع الفن..."1 دعْ أن للدكتور داهش أكثرَ من مئة مؤلفٍ ومُصنف، إذ كتب نثرًا وشعرًا، وألف في كل علم وكل فن. وقد أدركَ مفاوز التغيير ومسافاتِ التحول. ثمة شمسٌ تشرقُ دائمًا.

--------------------------------------------------------------

1 راجع الدكتور داهش: "الرحلات الداهشية حول الكرة الأرضية"، الرحلة الثانية عام 1970، (دار النار والنور للطباعة والنشر، بيروت 1983)، ص 5 – 7.

Developed by Houssam Ballout        Copyright 2019 This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.nfo All Right Reseved This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.