الشاعرة غالية خوجة
شاعرة وروائية سورية. تحمل إجازة في الحقوق من جامعة حلب (1993).
من منشوراتها الشعرية "إلياذة الدم" (1997)، و"أوذيسا البنفسج" (1999). ومن منشوراتها الروائية "برزخ اللهب"(1999) و"الفصول المجنونة" (للأطفال، 2001). نالت عدة جوائز على أعمالها الشعرية والقصصية.
تجربةُ الدكتور داهش الإبداعية
لكل روحٍ مبدعةٍ ملكوتُها الذي تُشرِفُ على ذاتها وعلى العالم من خلاله. ولا بد لهذا الملكوت من أن يعكس تحولاته في الحركة والسكون من خلال الشرود والتأمل والاستبصار والنُزوع إلى كلا الأعمق والأعلى، للكشف والمكاشفة.
وتختلفُ طريقةُ التعبير كما تختلفُ طريقةُ الرؤيا تبعًا لثقافة الروح وإشراقاتِ المجاهيل، وهذا ما ألِفنا تسميته بـ(الأُسلوب). ولا أحد واعٍ بالجماليات يشكُّ في أن الفارق بين مبدعٍ ومبدع هو (الأسلوب) = (الروح).
فبماذا تميز الدكتور داهش؟ وبماذا تميزت تجربتُه الإبداعية؟
تميز داهش بروحه الطامحة إلى أقصى آفاقِ الحُلم لدرجة الإتيان بعقيدة جديدةٍ خلاصتها المحبة والرغبة في الكشفِ عن الواقع للوصول إلى الحقائق من خلال تعرية سلوكيات الناس على الأرض، ومن ثمة الاتجاه إلى فلسفة الكشف عن الأرواح والسيالات واشتراكها في النسق الإيجابي أو النسق السلبي، وذلك تناغمًا مع ثنائيات الخير والشر، الضوء والظلمة، العدالة والظلم، إلخ... ومن أجل التعبير عن كافة المستويات، ترك داهش لروحه ونفسه ووعيه ولا وعيه أن تنطلق بمنتهى الحرية. ولذلك نجد تفاوتاً في طريقة الكتابة بين الواقعية المباشرة، والوصفية العادية، والوصفية الخلاقة، والمشهدية، والسيناريوهاتية، والحكائية، والمخيلة الجامحة، والرمزية، والدادائية، والسُّريالية.
وبناء على هذه البنية المتشاكلة، فإن لقارئ أعمالِ داهش أن يرى بوضوحٍ أهم محورين، موضوعيًا وفنياً:
1. محور الثيمة الموضوعية الذي اختزله بالبحث عن أفضل القيم المكنونة في الإنسان والوجود من خلال الارتقاء بالأرضي إلى العلوي، من المادي إلى المجرد، من المرئي غلى اللامرئي، وذلك من خلال معياريةٍ ثابتةٍ يُصرُّ عليها كل مبدع حقيقيٍّ: القيم/ الأخلاق، وما بينها من جمالٍ وحقٍّ ومُساواةٍ وعدالةٍ وتنزيهٍ وارتقاءٍ ومجاراةٍ للأَسمى بُغيةَ إنجاز(النهوض الروحي الإنساني) للوصول إلى الحضارة.
2. محور الثيمة الفنية الذي يتلخصُ بمقدرة المخيلة على الانطلاق ضمن بنيةٍ تتالفُ من تداخُلات الخرافة، والأسطورة، والفلسفة، والاحتمال، والواقعية، مُثقفة بالموروث الإنساني ومُبتكرةً لأحلامها وظلالها ولا مألوفيتها، الأمر الذي ينتجُ عنه نصوصٌ تتحركُ بالحدث أُفقيًا، أو تقاطعيًا، أو التفافيًا، أو تشعبيًا، أو...
يقول الدكتور داهش في مقدمة كتابة "بروق ورعود": "هي بروقٌ نفسية ورعودٌ كلامية حاولتُ فيها شرح ما أشعر وأُحسُّ به في مختلفِ شؤون هذه الحياة بصورةٍ موجَزةٍ لا تتعدى السطورَ الستة لكل قطعةٍ منها"1
وفعلاً يقدِّم لنا لوحةً بستة سطورٍ، فيها اللغةث تباشرُ الحالاتِ المختلفة للإنسان. وهو يعبر بمباشرةٍ، فيسمي الأشياءَ بمسمياتها، باحثًا، من خلال علائقها، عن السعادة والحُلم، فلا يجدُ إلا الفناء، والدنيا، والكآبة، والذكريات، والنساءَ، والجحيم، والفرار تارةً، والاقتحام تارة....
تتسمُ هذه النصوصُ بثيمة الحكمة المتسعة لتفاصيل السيكولوجيِّ والسوسيولوجي. ولذلك جاءت في محاولةٍ لاختزال الواقع المعيش بكل تدرجاته الراغبة في الانفلات منه إلى بُؤرةِ توتُّرٍ أشد جاذبية وحضورًا في الدُّومان، ربما بحثًا عن اللازوال أو بحثًا عن الطمأنينة. وللوصول إلى هذه الحالة النفسية المشعة، كان لا بد من الزهد فيما يحدثُ على الأرض، وتمني العودِ إلى السيرة الأولى للتكوين، والانفتاح مع الموت على عالَمٍ آخر. هذا ما تُركزُ عليه "حقيقة الحياة" (ص 58):
--------------------------------------
1 الدكتور داهش: "بروق ورعود"، ط 2 (الدار الداهشية للنشر، نيويورك 1999)، ص 17.
---------------------------------------------
"وهمٌ هي الحياةُ وضربٌ من الخبلْ
كلُّ ما فيها رسومٌ حائلةٌ يسري فيها الخلل
الناسُ تهيمُ كالأشباح وقد أصابها الفشل
وفي بطاحها الجرداء تعشِّش شتى العلل
سئمتُ فيها عيشي وأصابني منها الملل
فمن يرتحل عنها سريعًا هو في مذهبي البطل"
وحده الإنسان المتجلي في العرفانية يدرك أن الحياة وهم أو نفق للعبور باتجاه الحقيقة. لذلك تسمو الروحُ عن الزائل لتتصل بوعيها الآخر، ولتنجز ما يتنامي من جذورها في فراغ الامتلاء، وفي امتلاء الفراغ. وهذا ما تنسابُ منه الشبكةُ العلائقية للسطور الستة السابقة المُنكتبة بلغةٍ بسيطةٍ جدًا، ومعانٍ مجربة تتمحورُ من خلال المونولوغ لتنبسط من خلال المحيط المتراكم بين الدلالات (وهم/ رسوم حائلة/ الأشباح/ الجرداء/ سئمتُ/ الملل) التي تعني، برؤيا ما، اللاشيءَ السالب. وللتملُّص من هذه الحالة اللاشيئية الى الحالة الأكثر إشراقًا وسموًّا، يأتي سطرُ الختام وهو يخاطبُ هو، مُركزًا على فعل "يرتحل" وكيفية الارتحال "سريعًا"، بما في هذه العلاقة من تنافُر مع الزمكانية السطحية إلى الزمكانية العُمقى. وفي هذه الحركة من الرحيل تكمنُ مقصدياتٌ كثيرة، أهمها الرحيلُ إلى الجواني الذاتي، ثم الرحيل إلى السماوي، ثم الرحيل عن الوجود إلى وجودٍ مختلف لا وهم فيه ولا ملل.
تتناوبُ تحولات الظل في المقطوعات السداسية المضاءة بالتأمُل في الملكوت بين الخالق والمخلوق، بين الحقيقة الإلهية والوهم الإنساني، فتنفعلُ، حينًا، وهي تتحدثُ بألم عن صفات البشر بين الصدق المطلوب المفقود، والخيانة والكذب الحاضرين أبدًا.
ولا يبقى في الحواس، من هذا الصراع، سوى الطَّواف حول التعالي، لتظهر مقدرةُ الله في جبروته ولا هوته، وطاقةُ الكائن في ضعفه وناسُوته. وتُمثلُ سداسية "فناءٌ فعدم" ("بروق ورعود"، ص 100) هذه التقريرية بين البقاء الحق والفناء الحقيقي:
"إن هذا الفلكَ الدوَّارَ الذي أوجدَهُ الواحدُ القهار
وجميع ما يحتويه من بحارٍ وأنهار
ومن كل سهلٍ واسعٍ أو جبلٍ شامخٍ جبار
والغاباتِ الكثيفة وما تحويه من أغصانٍ وأشجار
وما يغردُ على الأفنان الفيناء من أطيار
ستهوي، ستذوي، ستفنى، وتنهار"
وفي رأيي أن ترتيب الأبيات من الأعلى إلى الأسفل يأتي ترتيبًا يستوي عليه الخالق "الواحدُ القهار"، ثم تظهر تدرجات الخلق وتداخلاتُ العناصر بعدما يأمر الخالقُ بالتكوين، فينبثقُ الفلك مع حركته الملاصقة لكينونته ("الدوَّار"). وكأن البيتَ يُضمِرُ "الأثير". بعد ذلك، يأتي عنصرُ الماء("البحار والأنهار")، بينما تنشأُ في المرتبة الثالثة الراسياتُ ("الجبال") مع مدِّ الأرض مدًّا ("السهول"). وفي ذلك كنايةٌ عن عنصر "التراب" الذي يُضيفُ إلى تشكلاتِه حركةً جديدةً تتمُّ من خلال الدرجة الرابعة التي تبدأ معها الغاباتُ الكثيفةُ بالانتشار، لتصل الطبيعةُ إلى مرتبتها الخامسة بفضائها المتسع للأطيار حيث ينطلقُ عنصرُ "الهواء".
وإذا ما بحثنا عن عنصر التكوين الرابع فلسفيًّا ("النار")، فلربما نجدُه في البيت الأخير أو المرتبة السادسة وجودًا رمزيًا بالضرورة تُمثِّلهُ تدرجاتُ الأفعال الربعاية المسبوقة بسين المستقبل القريب. وهكذا تبدو القيامةُ على حافةٍ زمكانية غير بعيدة، لكن الأغلبية لا يتحسسونها، ولا يستشعرونها، فيظلون في "الفناء = الانهيار".
واللافت هو الاختيار العفويُّ أو القصديُّ لحرف الراء الذي يختتمُ الأبيات الستة موحيًا بسقوط الموجودات ضمن خط بياني من الأعلى إلى الأسفل العميق. ويزيدُ التوكيد صوت الراء اللفظي المتساقط إلى الجوف!
لكن، لماذا اعتمد الدكتور داهش على الأبيات الستة في "بروقه ورعوده"؟
للإجابة احتمالاتٌ عدة، منها، أولاً، التذكير بالحاسة السادسة التي تضمُّ الحواس الخمس، وتنفصلُ عنها في آنٍ معًا. ومنها، ثانيًا، أن الرقم ستة يقفُ ليترك للمتأملين الفراغات التي لم يكتبها الرقم 7 على أهميته التاريخية والدلالية والموسيقية. وثالثاً، قد يكون إشارة إلى أيام الخلق كما قال تعالى: "في ستة أيام ثم استوى على العرش).
وهذا يشير إلى استنتاج متسارع اختزلته بكثافة قراءة داهش للأديان السماوية، وبعمق ثقافته في الفلسفة وعلم النفس والأسطورة والموروث الإنساني بشكل عام. وهذا ما تدلُّ عليه أعمالُه الأخرى التي تبدو وكأنها الدراما التي تُذكرنا بسمفونية "القدر" لبيتهوفن حين ينجزُ دراماه الموسيقية بهيئة سؤال وعتاب وانصياع وصراع يعلون ويخفت،
يخفتُ ويعلو، فتشبتكُ المونولوغات بالديالوغات، بالعنف والهدوء، بالتحدي والقبول، بالتجوُّل في أنفاق الأعماق العليا للإنسان والأعماق العليا للكون.
وإذا ما عُدنا من أعماق بيتهوفن إلى أعماق داهش وقرأنا "مفاتن الشعر المنثور"1 نتبين كيف يتحايثُ الهمُ الإنسانيُّ مع الهم الوطني، خاصة في قصيدة "أمة طال كراها" (ص 106):
لست أدري يا صديقي ما الذي سبب ضيقي
حائرًا أصبحتُ حقًــــــــــــا مذ بــــــــدأتُ في طريقي
ناشدًا حقًّــــــا وعـــــــــــــــــدلاً بعدمــــــا ماتت حقوقي
أمةٌ ضلت فتاهت! ويحكِ هيَّا أفيقي
وهذه القصيدة مكتوبةٌ في بيروت بتاريخ 4/1/1975 وما تزال حالُ الأمة هي منذ 34 عامًا! وهي حالُ العربي منذ أكثر من قرن!
وتطلُ الجراحُ كعادتها سواءً من الذات أو الحب أو المرض أو الغُربة أو الوطن...
لكنها جراحٌ مشتركة تأبى أن تكون فرادى. ولأن الجراح تتكاثر ولا تذوب، تتفتحُ حين تتحول إلى كلمات نراها نازفةً من قلب داهش المُحب حتى لألامه. وهذه هي حال العاشق لفتاة الحلم التي تتخذُ اسم هدى مرةً، وأميرة مرةً أخرى، وماجدة وفاتن إلخ... وتجتمعُ النبضاتُ بسمةِ الرومانسية الشفافة الواصفة للفراق والسفر والموت والبعاد، فتصفُ حالةَ المعذب في وحدته، وحواسه، ومتاهته، لنقرأ مقطعًا من "يا ظالمة" (ص 220):
"لله كم سأشتاقك بعد سفرك،
وكم ستُحيطني الأشجان عند بُعدك.
سأرفعُ ضراعتي لخالقي ليَسمحَ أن أكونَ بقربك.
فحياتي بدونك صحراءُ قاحلةٌ، لأني أحبك".
وقد يأتي الحبُّ واصفًا طبيعةَ العلاقة بين المرأة والرجل، وما يفعله الحُلمُ والجمال وتزيده المخيلة حتى يتحول العاشق إلى مطيعٍ ومنفذٍ لكل ما تريده المحبوبة.
--------------------------------------------
"الدكتور داهش: "مفاتن الشعر المنثور" (دار النسر المحلق للطباعة والنشر، بيروت 1984).
--------------------------------------------------
ومن نبضةٍ أخرى، نلمسُ كيف تصبح هذه العلاقة إشكالية من خلال الأسئلة الوجودية التي يجادلُ بها داهش الطبيعة. فها هو يتساءل بفلسفية ما في قصيدته "مُعميات" (ص 241):
"ولِمَ زيدٌ يُولد ذكرًا؟ وتلك تُولد أنثى؟
وسواهما ألمعيٌّ بتفكيره، وآخرُ دومًا تراه ينسى!
وبعضهم بمعدنه الرقةُ، وزميلُه من الفولاذ أقسى!
حيرتني أسرارٌ موصدة، فرددت لعلها تحل وعسى...
معميات ستبقى مغلقة دهورًا، بالخفايا تُكسى!"
أسئلة تمسُّ جوهر الوجود، والحضور، على مستوى الجندر (الجنس)، وعلى المستوى التفكيري الاختلافاني بين الذاكرة والذكاء، وعلى المستوى الماهوي المرموز له بالمعدن الرقيق الشفاف أو الفولاذ الصلب القاسي! وهذه التنويعاتُ المتضادة شكلاً وجسدًا وسلوكًا وحساسية، وتلك التفاوتاتُ بين بني البشر، هي أسرارٌ وأسئلةٌ لن نجد لها اجابة نهائية أو كشفًا ثابتًا. ولأنها كذلك، فستظلُّ من "الخفايا" التي كلما عريتها، احتجبت أكثر.
وفي هذا الكشف والاحتجاب يكتبُ جاهش كتابة "قصصٌ غريبة وأساطيرُ عجيبة"1. وهنا نكون قد ولجنا في الحكاية والسرد والخرافة والواقع والدهشة والعادية والاحتمالية...
وأدعو إلى قراءة قصة "مقبرة الأهوال المرعبة" (ج 2، ص 15) التي تزخمُ بفكرةٍ ومتخيلةٍ في الآن نفسه. كما إ،ها تمنحُ الحكمة بتعاملها مع الميتافيزيقا من خلال "القيامة" التي تظهر بشكلٍ غير متوقعٍ عبر"العاصفة" التي تمرُّ على الأرض أو، بالتحديد، على "المقبرة".
تظهرُ الصواعقُ والبروقُ والرعودُ والعاصفةُ كشخصياتٍ سببية تُحركُ عناصرً السرد ابتداءً من الهبوب والمتغيرات التي تتسعُ دائرتها المكانية لتصل إلى ما تحت الأرض ("مَن في القبور"): "وانقضت الصواعقُ ترجمُ الأرضَ رجْمًا، والبروقُ ومضت
----------------------------------------------------
1 الدكتور داهش: "قصص غريبة وأساطير عجيبة"، 4 أجزاء (دار النسر المحلق، بيروت 1979، 1981، 1983).
----------------------------------------------------
فانشفت الحُجُب وظهرت المخبآت. وجمحت العاصفة فإذا بجبارة الأشجار ترتجف وجلا فتتناثر أوراقها، فإذا بها عارية، بينما اقتلعتْ أخرى من جذورها، فإذا بها مُمددة هامدة... وانشقت القبور، ونهض الموتى مغادرين أرماسهم، نافضين أكفانهم، مُلقينها في قبورهم!"
وهنا، تتغير الأبعاد الدلالية في النسق بطريقة سريالية تركيبية تتمحور حول "الهياكل العظمية" التي تبرزُ في المتن كشخصيات رئيسةٍ تنفتل إلى الأحداث السابقة وسيرتها الماضية من خلال تقنية "الفلاشباك" وكأنها تذكرنا بملحمة دانتي أو "رسالة الغفران" لأبي العلاء المعري، لكنها تختلف تبعًا لأسلوبية كل كاتب: "نهضوا وهم عظامٌ غيرُ مَكسوةٍ باللحم، إذ إن الديدان قد افترسته منذ مئاتٍ ومئات من الأعوام! واختلطت الهياكلُ العظيمة حابلُها بنابلها، والعاصفة تدور بهم بين الأحداث الالكئيبة، وصفيرُ الرياح يملأ المقبرة بعزفٍ مخيفٍ ترتعدُ منه فرائض الأشباح الائمة".
وإلى جانب هذه الشخوص تبرزُ شخصيةُ إبليس والنار والهولُ والأحداث المتسلسلة والمتقاطعة: "وانشقت الأرض وتصعدت، فبرز الشيطانُ، من فجوتها السحيقة. كان هذا الشيطانُ اللعين متمنطقًا بثعبان هائل ذ عشرةِ رؤوس مرعبة، ويتصدرُ جبينه عقربٌ إبليسيٌّ ضخم الحجم، والنارُ تخرج من عينيه الضيقتين!"
صورةٌ خرافية وسُريالية مُرعبة عن الشيطان أو اللوياتان أو "فاوست" غوته تجمعُ دلالات الشرِّ برموزها الشيطانية التي تختار ثعبانًا بعشرة رؤوس بما في ذلك من إحالةٍ على الأساطير الموروثة والعفاريتِ المتعددة الرؤوس، وتكتملُ بعقربٍ نموذجيٍّ على الجبين!
ويُوظف الساردُ العالم بكل شيء رمزية الشر (الشيطان بهيئته المصورة) في الزمكانية المناسبة ليحل بديلاً عن العاصفة وكأنه عاصفتها المضمرة أو المقصدية الأهمُّ للأنا العارفة بكل شيء، فتتحول العاصفة من طبيعتها الخارجية إلى الطبيعة النفسية الجوانية. وما إن يتم هذا التحول الرمزيُّ، أو التقمص اللاواعي للنص، حتى يبدأ هذا الكائنُ بقيادة الأحداث ليُتابع حضوره النصي مع الإشارة: "وأشار هذا الشيطان بسبابته للهياكل العظمية، فإذا هي تتسمرُ بأمكنتها وهي ناظرةٌ بأوقابها الفارغة إلى ربِّ المعاصي والآثام الجِسام!"
وبعدما يضربُ بحافره الأرض، تتصدع، لتتفرج عن "فراغ سحيقٍ تتأجج فيه نيرانٌ جهنمية مخيفة. ويجوف هذه النيران أشخاصٌ تشقُّ صرخاتُ المهم الجهنمي طبقاتِ الفضاء، فيرجع الصدى صراخَ ألمهم المدمى".
ومع أول فعل لرمز الشرِّ، يعتمدُ داهش في الحركية الحديثة على الفضاء الصوتي والصمتي بين صدع الأرض ورجع السماء، مُنجزًا فضاءً آخر لحاسة السمع الداعمة لحاسة البصر التصويرية، فنُصغي لهذا الفضاء المتراكم داخل شبكة العلائق عبر (ضرب/ تتصدع/ تتأجج/ صرخات/ يرجع/ الصدى).
وتعودُ الهياكلُ العظمية إلى ذاكرتها ومسيرتها السابقة في الحياة الدنيا قافزةً إلى أول كانون الثاني (يناير) 1460، ليروي لنا المؤلف حكايةً اغخرى عن شخصيتيه الأساسيتين للحدث المحوري القائم على "الحب" و"الخيانة"، ويتخلص بالهيكل العظمي لكل من الحبيبين نتالي وهامان اللذين لم يتزوجا، لكنهما رُزِقا ابنًا (لهيب) وبنتًا (حبيبة)، لكلِّ من الحبيبين نتالي وهامان اللذين لم يتزوجا، لكنهما رُزِقا ابنًا (لهيب) وبنتًا (حبيبة)، وذلك خلال زواج نتالي بنابال الذي تكرهُه، ثم دست له السم لتتزوج هامان، والدّ الطفلين الحقيقي، الذي "خانها" مع صديقتها، الأمر الذي دفعها إلى أن تقتله بخنجرٍ قتلت به نفسها أيضًا. تقول نتالي وهي تعترفُ للشيطان: "لكن نهايتي كانت تعيسةً للغاية إذا إن هامان تعلق بصديقةٍ لي كانت تزورني، وإذ ذاك طعنتُه بخنجرٍ مُرهَف الحد، ثم غرستُه في قلبي".
ويصور لنا المشهد اللاحق كيف يتقدم هامان ويصفعها برغم آثار الخنجر التي ما زالت واضحة ً في عظيمةِ صدرِه، فيسقطُ راسها بين رجليها. ثم يعود "صراخ الذعر" إلى القصة، ولا يوقفه إلا صوت إبليس وهو يعنفُ هامان بحوارٍ من طرفٍ واحد، جاء بطريقةٍ مباشرة، وتقريرية، ساعدت على هبوط التوتر النصي. وعندي أنه لو تم حذفُ ما قاله إبليس، وانتقلنا إلى المشهد اللاحق لكانت اللحظةُ السردية أشد اختزالاً: "وركل الشيطانُ بحافره هامان ونتالي، ودفعهما نحو الهوة، فإذا ببحيرة النار تستقبلهما، فيخوضان غمراتها المتأججة بخالد النيران الأبدية. وكان صياحُ ذُعرهما يُفكك عُقد الصخور الراسخةِ الثبات".
يلي ذلك انتقالُ البنية إلى حيزٍ تشكيلي آخر، تلتقي في بؤرته الهايكلُ والأهوالُ والرياحُ والأمطارُ والرعودُ والجلجلة مناغمةً بين النار واعترافات الهياكل المفتوحة على مخيلة القارئ وتداخُلاتها وتداعياتها.
تستعرقُ زمنية القصة ليلة واحدة مختلفة، لكنها تمتد إلى مئات السنين بأثرٍ رجعي، ولا تمتد مكانيتها أكثر من "مقبرة" تختصرُ ما يحدث على الأرض وفي الداخل الإنساني، وتربط بين اضطرابات الطبيعة واضطرابات الوجود من خلال نقطة مكثفةٍ ناغمت الحياة والموتَ والانبعاث، كما ناغمت الماضي المتأرجح بين الحب والخيانة، والحاضر الجامد ظاهريًا (المقبرة) المتحرك باطنيًا (عودة الهياكل)، والمستقبل بين النار والمصير. كما إنها غلقت كل هذه العناصر الأساسية والهامشية والتفاصيل الأخرى بعوامل طبيعية تشبه شتاءً مجنونًا لا ينفرجُ إلا مع "الفجر" ليستديرَ متكورًا على نفسه من خلال القصة الدائرية التي تبدأُ وتنتهي بنفس الجمل والمشهدية، لكن... مع فارق واضح، وهو أن البداية تعصف لتتحايث مع الأحداث، بينما تأتي الخاتمة صامتةً، تاركةً ىثار البداية والحكاية على الجمل وفي ذاكرة القارئ: "وانجلى الفجر.... فإذا المقبرةُ قد انطرحت أشجارُها أرضًا من فعل العاصفة الهوجاء، وتشققت قبوُرها من زلزالٍ ليليٍّ عنيف فَلَقَ الارض! وإذا بهوةٍ سحيقة مخفة قد تجلت في مقبرة الأهوال المرعبة، بعد هذه الليلة الحافلة بالمخاوف!".
وأتوقَّعُ أنَّ الخاتمة ستكون أجمل إذا حذفنا الجُملة الشارحة التفسيرية الأخيرة من القصة متوقفين عند "الأهوال المرعبة". ولا أعرفُ لماذا لم يوظف الدكتور داهش الثعبان ذا الرؤوس العشرة والعقرب الإبليسي بفاعلية أكبر؟ فماذا لو تخيلنا أن الثعبان والعقرب كانا يتجولان في المقبرة بعد هدوء العاصفة – القيامة؟ أو لو أنهما كانا محترقين قريبًا من الحفرة السحيقة؟ ومن رؤيا أُخرى، تتسع طاقة داهش للتنويع الكتابي؛ فهو ينتقلُ من جنسٍ أدبي إلى آخر بعفوية فطرية واضحة، تتسمُ بنص مثقفٍ مبني على قراءاتٍ في كافة المجالات تؤدي آثارها وظيفتها في النسق الكلامي لتكشف وتنتقد وتفلسف وتسرد وتتخيل وتتذكر منجزة غايتها إسقاطيًا، أو إحاليًا، أو تناوبيًا، وأو تقاطعيًا... تتآفقُ، أو تتقاطع، أو تستعيدُ من اللاواعية واعيتها، فتنزحُ عما يحدث إلى ما يجب أن يحدث من فضيلةٍ وصدقٍ وقيم عرفانية لا تكترثُ بالوجودية أو المادية أو الدهرية، بل تبحثُ عن الميتائي لحضور الإنسان على هذه الأرض؛ وهذا ما نقرأُه في رواية "مذكرات دينا".
---------------------------------------------------------
1 الدكتور داهش: "مذكرات دينار" ، ط2 (الدار الداهشية لنشر، نيويورك 1986)
--------------------------------------------------------
تبدأ الرواية منذ لحظة سَكِّ العملة الذهبية في بريطانيا، وتتقمصُ الأنا الساردة العالمة بكل شيءٍ الدينار كشخصيةٍ أساسية في الرواية، وتحكي من خلاله من يحدث على هذه الأرض، تحت البحر، في الاسطبلات، في الغرف المغلقة، بين البلاد والبشر والجُثث والسُّفن والحيتان، معتمدة على التحولات النفسية المتناقضة، وتدرجاتها بين الوضيعة والسامية، بين العادلة والظالمة، بين الخير والشر السائد عوالِمَ الكوكب الأرضي، مع طفراتٍ مُضيئة تتجسد بغاندي وطاغور وسواهما، كما تنعكسُ من خلال الدينار الذي يسردُ لنا رحلاته وتنقلاته وكأننا أمام "ألف ليلةٍ وليلة" أو :كليلة ودمنة" من ناحية التشويق والسلاسة والكشف....
تتداخلُ في "مذكرات دينار" السيرةُ الذاتية والمجتمعية مع التاريخ، مع أدب الرِّحلات، مع الحكمة، مع الشخصيات الواقعية، الثقافية والسياسية والعادية، مع الحرب العالمية الأولى وهتلر ومصر ونيويورك وأماكن أُخرى واقعية ومتخيلة.
وهذه هي ثيمةُ النسيج السردي فنيًا، وسِرُّها المتحرك برشاقةٍ بين النص المؤلف من 114 عنوانًا بلغةٍ بسيطةٍ ترتكزُ على المشهدية، والسيناريوهاتية، والحوارية بثنائيتها المونولوغية والديالوغية لتترك أثر الهباء بعيدًا، ولترمي وراء هوامشها المحورَ الذي تتحدث عنه (المال) وما يجنيه الإنسانُ من مثالبَ وخياناتٍ وحروبٍ وأطماع لا تنتهي بسبب هذا الدينار! ولا بد لـ"مذكرات دينار" من دراسةٍ نقدية خاصةٍ سأكتبها لاحقًا إن شاء الله، مكتفية الآن بهذه الإضاءة بمناسبة الذكرى المئوية الأُولى لبُزوغ هذا الضوء العربي في العالم.