أنا أؤمن بأنه توجـد عدالة سماويّة, وأن جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدنيا من مُنغصات انَّ هـو الاّ جـزاءٌ وفاق لِما أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور.ولهـذا يجب علينا أن نستقبلَ كلّ مـا يحـلّ بنـا من آلامِ الحياةِ ومآسيها غير مُتبرّمين ولا متذمّرين , بل قانعين بعدالةِ السماء ونُظمها السامية.

Highlighter
أحبُّ الكُتُبَ حبَّ السُكارى للخمر , لكنَّني كلَّما أزددتُ منها شرباً, زادتني صَحوا
ليس مّنْ يكتُبُ للهو كمَن يكتُبُ للحقيقة
الجمالُ والعفّــة فـردوسٌ سماويّ .
لا معنى لحياةِ ألأنسان اذا لم يقم بعملٍ انسانيٍّ جليل .
اعمل الخير , وأعضد المساكين , تحصل على السعادة .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقـوم بأعمالِ الخير نحـو ألأنسانيّة .
الموتُ يقظةٌ جميلة ينشُدها كل مَنْ صَفَتْ نفسه وطَهرت روحه , ويخافها كلّ من ثقُلت أفكاره وزادت أوزاره .
ان أجسامنا الماديّة ستمتدّ اليها يـد ألأقـدار فتحطِّمها , ثمّ تعمل فيها أنامل الدهـر فتتَّغير معالمها , وتجعلها مهزلةً مرذولة . أمّا ألأعمال الصالحة وألأتجاهات النبيلة السّامية , فهي هي التي يتنسَّم ملائكة اللّه عبيرها الخالد .
نأتي إلى هذا العالمِ باكين مُعولين، و نغادره باكين مُعولين! فواهً لك يا عالمَ البكاء والعويل!
جميعنا مُغترٌّ مخدوعٌ ببعضه البعض.
العدلُ كلمة خُرافية مُضحكة.
أمجادُ هذا العالم وهمٌ باطل، و لونٌ حائل، و ظلٌّ زائل.
لا باركَ الله في تلك الساعة التي فتحتُ فيها عينيّ فإذا بي في مكانٍ يطلقون عليه اسم العالم .
أنا غريبٌ في هذا العالم، و كم احنُّ إلى تلك الساعة التي اعود فيها إلى وطني الحقيقيّ.
الحياةُ سفينةٌ عظيمة رائعة تمخرُ في بحرٍ، ماؤه الآثام البشريَّة الطافحة، و امواجه شهواتهم البهيميَّة الطامحة، و شطآنه نهايتهم المؤلمة الصادعة.
كلّنا ذلك الذئبُ المُفترس , يردع غيره عن اتيانِ الموبقاتِ وهو زعيمها وحامل لوائها , المُقوّض لصروح الفضيلة , ورافع أساس بناءِ الرذيلة .
الحياةُ سلسلة اضطراباتٍ وأهوال , والمرءُ يتقلَّب في أعماقها , حتى يأتيه داعي الموت, فيذهب الى المجهولِ الرهيب , وهو يجهلُ موته , كما كان يجهلُ حياته .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقومَ بأعمالِ الخير نحو الانسانيّة .
المالُ ميزان الشرِّ في هذا العالم .
السعادةُ ليست في المال , ولكن في هدوءِ البال .
كلُّ شيءٍ عظيمٍ في النفسِ العظيمة , أمّا في النفسِ الحقيرة فكلُّ شيءٍ حقير .
الرُّوح نسمةٌ يُرسلها الخالق لخلائقه لأجل , ثم تعودُ اليه بعجل .
الرُّوح نفثةٌ الهيَّة تحتلُّ الخلائق , وكل منها للعودة الى خالقها تائق .
الرُّوح سرٌّ الهيٌّ موصَدْ لا يعرفه الاّ خالق الأرواح بارادته , فمنه أتتْ واليه تعود .
أنا أؤمن بأنه توجـد عدالةٌ سماويّة , وأنَّ جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدُّنيا من مُنغِّصاتٍ وأكدارٍ انَّ هـو الاَّ جـزاء وفاق لمِا أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور . ولهـذا يجب علينا أن نستقبل كلَّ مـا يحـلُّ بنـا من آلام الحياة ومآسيها غير م
الحرّيةُ منحة من السماءِ لأبناءِ ألأرض .
الموتُ ملاكُ رحمةٍ سماويّ يعطف على البشر المُتألّمين , وبلمسةٍ سحريّة من أنامله اللطيفة يُنيلهم الهناء العلويّ .
ما أنقى من يتغلّب على ميولِ جسده الوضيع الفاني , ويتبع ما تُريده الرُّوح النقيّة .
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
الراحة التامّة مفقودة في هذا العالم , وكيفما بحثت عنها فأنت عائدٌ منها بصفقةِ الخاسر المَغبون .
ليس أللّــه مع الظالم بل مع الحقّ.
ان الصديق الحقيقي لا وجود له في هذا العالم الكاذب.
ما أكثر القائلين بالعطف على البائسين وغوث الملهوفين والحنو على القانطين , وما أقلَّ تنفيذهم القول.
يظنُّ بعض ألأنذال ألأدنياء أنّهم يُبيّضون صحائفهم بتسويدِ صحائف الأبرياء , غير عالمين بأنَّ الدوائر ستدور عليهم وتُشهّرهم.
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السَّلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
رهبة المجهول شقاء للبشرِ الجاهلين للأسرارِ الروحيَّة , وسعادة للذين تكشّفت لهم الحقائق السماويَّة .
الموتُ نهاية كل حيّ , ولكنه فترة انتقال : امّا الى نعيم , وامّا الى جحيم .
الحياةُ خير معلِّمٍ ومُؤدِّب , وخيرَ واقٍ للمرءِ من الأنزلاقِ الى مهاوي الحضيض .
حين تشكُّ بأقربِ المُقرَّبين اليك تبدأ في فهمِ حقائق هذا الكون .
مَنْ يكون ذلك القدّيس الذي لم تخطرُ المرأة في باله ؟ لو وجدَ هذا لشبَّهته بالآلهة .
المرأة هي إله هذه الأرض الواسع السُّلطان. و هي تحملُ بيدها سيفاً قاطعاً لو حاولَ رجالُ الأرض قاطبةً انتزاعه منها لباؤوا بالفشلِ و الخذلان .

الدكتور متري جميل نبهان

باحثٌ لبناني. حاز الدكتوراه في اللغة العربية وآدابها من جامعة القديس يوسف ببيروت (1984). زاول التدريس المتوسط والثانوي قبل تفرُّعه للتعليم الجامعي. تولى رئاسة تحرير مجلة "الرؤى" ثلاث سنوات. شارك في غير مؤتمر أدبي في لبنان وخارجه. عضوٌ في "أتحاد الكتاب اللبنانيين" و"اتحاد الكتاب العرب" و"مجلس قضاء زحلة الثقافي". من مؤلفاته: "راجي الراعي الشاعر"، المملوكي". شارك في تاليف كتبٍ مدرسية. نشرَ عدة أبحاثٍ جامعية وتربوية.

أضواء على أدب الدكتور داهش

تقديم

تألق نجمُ الدكتور داهش في القرن العشرين، فكرًا وروحًا، وبكليهما أعطى ما لم يُعطه إنسان لازم الحياة منذ العصور الغابرة وحتى عصرنا الذي نعيش. فما كتب كان إبداعًا لوجود، تُصافحُ فيه الأرضُ السماءَ شكرًا وابتهالاً، وتُبادلُها السماءُ بركةً ونوالاً.

          وفي ظل ذلك ينعمُ الإنسان بدُنيوين: دنيا الأرض ودنيا السماء، فيتحدى الأولى بالموت، ويتحدى الثانية بالحياة.

          الدكتور داهش متقدمٌ على سواه من النخبة، أُدباءَ وشعراء، لكَونه الفكر الممنع بحصانة الخلود، والروح المتعالية على كل وجود، والقلب الحاضن لمآسي الأزمان، والحسّ المترنِّح داخلَ كل إنسان.

          ومَن كان هذا شأنه، فهو جديرٌ بالبحث والإحاطة الموضوعية المتأنية لكل ما أعطى وأثار.

          وبما أن المساحة الفكرية لديه واسعة، نبيلةُ الأهداف، بعيدةُ الأغوار والآفاق، على تنوُّع وترابط في الموضوعات المتناولة، فقد اكتفي، وضمن المتُاح، بإلقاء الضوء على الأبعاد الفكرية والفنية المعنوية في أدبه الخلاق.

أولاً: القداسة الروحانية

          تمثلت القداسةُ الروحانية في أدب الدكتور داهش بميزتَين: الأولى، محبته للجمال تيمُّنًا بعطاءِ الخالق؛ والثانية معايشتُه الألم، طلبصا للعطاء في سبيل الحياة. وكِلتا الميزتين تتكاملان في الممانعة وقوة الصعود والارتقاء.

  1. سرُّ الجَمال

جاء مقدمة "ضجعة الموت": "إن لبي يخفق بالحب للجمال، ومَن أدرك سرَّ الجمال، فإنه قد خطا خطوات واسعة في فهم أسرار الأزل والخلود..."1

          إنه بلا شك، المؤمنُ العابدُ للجمال... أي جمال آنس الذات انتشاءً، فعبق في عمق أعماقه كما تعبقُ الأزهار بالعبير والشذا، تفوح عند ارتائها الربيع حلةً موشاةً بغير لون، يكشفُ سرَّ الطبيعة، وُجودًا وعطاءً.

          هذا، والإنسان لا ينفصل عن الطبيعة، لأنه ملازمٌ لها بكلِّ ما فيها من ماء وهواء ونبات. ولا تمدُّه بالغذاء والحياة فحسب، إنما تهذبُ روحَه وتحرِّك عواطفَ نفسِه. وكم يلجأُ إليها الشعراء والأدباء مناجين ومخاطبين، باثنين فيها مكنوناتِ النفس وخلجاتِ الروح، كاشفين أسرارها، مُعجبين بجمال عناصرها وأشيائها. والطبيعة على  لسان إلياس أبي شبكة هي قيثارة الشاعر، وعبثًا يحاول البحثُ عن أوتاره في غير هذه القيثارة.2

          إن الطبيعة لم تغبْ عن أدب الدكتور داهش؛ فكلُّ خلجة من خلجاتها كان لها صدًى في ذاته. فهو ابنُ الطبيعة، استلهمها في حيرة، في سكون، في حُزنٍ وألم، وفي حبٍّ هائم. نعم، تحسسها بحدسِه، وتعانقا بالروح، فيقول:

"يا فتنةَ روحي وقصيدة أيامي،

أحِنُّ إليكِ مثلما يحنُّ البلبلُ الشادي إلى الرياض الدائمة الاخضرار.

أحِنُّ إليكِ مثلما تحنُّ الورود الجورية إلى قطرات الطلِّ في فجرِ ليلةٍ بهية.

---------------------------------------------

1 من كتاب "أقوال الأدباء والشعراء والصحافة بكتاب ضجعة الموت" (دار النسر المحلق للطباعة والنشر، بيروت 1980)، ص 24.

2 مقدمة "أفاعي الفردوس"، ص 21.

---------------------------------------------

أحِنُّ إليكِ مثلما تحنُّ الجداول الرقراقة للاتصال بالنهر العذبِ الخرير...

أحِنُّ إليكِ مثلما يحنُّ ثمرُ الكرز إلى لونه الأحمر القاني.

أَحِنُّ إليك مثلما تحنُّ الطبيعة لفصل الربيع بمحاسنه...

أحِنُّ إليكِ بروحي ولُبِّي، وأَهبُكِ عاطفتي الجياشةَ مع حبي.

آه! أحِنُّ إليكِ. أحِنُّ إليكِ!"1

نعم نعم! إنه حنينُ الروح للروح، وفي الحنين حبٌّ مثال، شوقٌ وابتهال.

2. سر الألم

إذا كان الجمال سرًا نحسُّه، نُحيي به فرحَ الحياة، فقد يكون الألمُ سرَّ الأسرار، نقاومُه بالمِنعة، بالصفاء، ونأبى إلا أن يكون فرحًا للعطاء.

          الدكتور داهش قد أحاط بكلِّ الاسرار، فأدرك كُنهَ الحياة بإشعاع روحيٍّ أمدَّه بحيويةٍ فائقة وإمكاناتٍ خلاقة لا تعرف الزيف والانحراف. تأتيه في لحظاتٍ أو ساعات، فينفعل بها، وبالتالي يفجرُها عطاءً كما يتفجر النبع من بين الصخور، وعبر الأتربة، وبعد مخاضٍ عسير يشقُّ مَجراه.

          وفي ضوءِ ما تقدم، نستطلع ما خطَّ قلمُه في كتابه "ضجعة الموت" حين قال: "لا يعرف لذَّة الحياة مَن لم يسحقه الألمُ العميقُ المُشبع".

ثم يمضي إلى القول أيضًا:
"فبآلام نفسي أكتب الآن هذه السطور.

وبتأثُري البالغِ أَخُطُّ ما أَخُطُّه.

وبحُزني الشديد المتزايد أشرحُ ما أُريدُ شرحه.

وبدموع عينيَّ الفياضتين أغمِسُ ريشتي هذه.

وبخفقات قلبي الهائم أُعبِّرُ عمَّا يجيش في نفسي من آلامٍ وآمال...

وليس مَن يكتب للَّهوِ كمَن يكتب للحقيقة"2.

----------------------------------------

1 الدكتور داهش: "نبال ونصال" (دار النسر المحلق للطباعة والنشر، بيروت 1971)، ص 21 – 23.

2 الدكتور داهش: "ضجعة الموت أو بين أحضان الأبدية" (مطبعة دار الأيام السورية، القدس 1936)، ص 8 – 10.

----------------------------------------

هذه هي حقيقة الدكتور داهش، نراه يعبّر عنها بكبرٍ وانفعال عبر مسلماتٍ ثلاث عاناها بنفسه وهي: "الألم، الحزن، البكاء".

          أجل بالألَم، بالحزن كتب، وبالموت اضطجع، وبالروح استلهم، فتربع على عرش الأدب أميرًا مانحًا إياه هيبة الحضور وسطوة العبور... العبورِ الى كل ناحٍ من نواحي الحياة اىلملأى بالفساد وشهوات الارتداد، والصاخبة بالشرور، بالتفيش، بالغرور.

          الدكتور داهش، القابضُ على أسرار الكون، هو بحد ذاته كونٌ حافلٌ بالآمل والأحلام، وجسرُ عبورٍ إلى السعادة الأبدية، السعادة التي حُرِمَ منها في حياته الأرضية عندما قال: "السعادة قطعت على نفسها عهدًا ألا تزورني ولو لِمامًا! ولكنني سعيدٌ بألمي الطاغي الخفيِّ هذا."1

          فهو أبدَع مَن أبدعَ فنًا، وأفصحُ مَن أفصحَ خُلقًا، وأسمى من تسامى روحًا، وأشعرُ مَن شَعَرَ إحساسًا. وما كانتِ الآلامُ التي تعتريه عبئًا عليه، بل سبيلٌ إلى التطهر والخلاص، بقوله:

          "أنا ابنُ الأسى ووليدُ العذاب! فطهريني أيتها الآلام، وانتشليني يا إلهةَ الطهر مما أنا فيه من تعسِ بالغٍ وعذابٍ كبير"2

3. نقمةٌ وثورة

كتب الدكتور داهش لنفسه لتغدو نفسُه مرآةً لكل نفس، تئنُّ من حُزنٍ، من ألم، من شقاء، ومن نقمةٍ على الأوضاع الفاسدة التي لا تسمح للإنسان بالهوض إلى مستوى إنسانيته، ولا تقيمُ وزنًا لشؤونه وشُجونه، فاستخفَّ بالأحداث المهنية والمخيفة متحديًا إياها بقوله:

"أنا القويُّ الجبار، والعنيفُ البتار.

فمهما حاولتِ الأحداثُ أن تتغلبَ عليَّ، أو تخضعني لجبروتها،

فإنها لن تعودَ إلاَّ بصفقة الخاسرِ المغبون."3

-------------------------------------------

1 الدكتور داهش: "القلب المحطم" (دار النسر المحلق للطباعة والنشر، بيروت 1984)، ص 50.

2 من كتاب "كلمات" نقلاً عن "القلب المحطم"، ص 13.

3 الدكتور داهش: "ناثر وشاعر"، ج 3 (دار النار والنور للطباعة والنشر، بيروت 1983)، ص 8.

-------------------------------------------

وفي مكانٍ آخر يثورُ على الوجود والموجود، على البشرية بأسهرا لكون الشر تأصَّل فيها، فيطلبُ من الله أن يدمرها، وذلك بقوله:

"أنا ثائرٌ وثورتي جبارة

ثائرٌ على الوجود والموجود

ثائرٌ على البشرية بأسرها

بقضها وقضيضها

فالشرُّ تأصل فيها

واستشرى بخوافيها

فليت الله يعصفُ بها

ويدمرُّ بجبروتٍ كل ما فيها".1

          لا شك أن لثورته تلك بُعدًا دلاليًا يفونق كل تصوُّر، قوامُه الروح التي منحته قوة الوحي والإيحاء. استبطن واستجلى، فعرف القاصي والداني واثقًا مطمئنًا. استملك الحياة. فخوافيها، حيث بات قادرًا على قول ما لا يثقال، غير آبهٍ بصعابٍ ولا خائفًا على مصير، همُّه الوحيد مثاليَّةُ الإنسان في عُنفوانه وَقدْرِه، في رحيله وإيابه. وهذا شأنُ العِظام المتفوقين، ليس بإيمانهم وحسب، بل بالكلمِ الذي يتفوهون به، الكلِمِ المنمق بالتركيب الفني الرائع، والمُشبعِ بحيوية الإيصال والتواصل.

          هذا ولم يقف داهش عند حدودٍ جغرافيةٍ معينة، وإنما تعداها متجاوزًا الحدودَ والسدودَ، ثائرًا على كل ظالمٍ في الأرض، مناصرًا كل مغبونٍ ومقهورٍ وفقيرٍ ومُعَوزٍ،  في قوله:

          "أيُّها العالَمُ السخيف، ما أقسى شرائعك وأحكامك! وما أظلمَ منعطفاتك التي نسيرُ في جنباتها متعثرين! وما أقبحَ تعاليمك المجحفة بحقوق الفقراء والمعوزين! وما أتفهَ ما تُبديه، وأشأمَ ما تواريه!"2

          وكأني بالدكتور داهش قد جُبل من طينةٍ غير طينةِ البشر. لِمَ لا؟ وهو الروحانيُّ المحلقُّ بجناحَين: جَناحٍ فكريٍّ، وجَناحٍ خياليٍّ رؤيَويّ، عاصيًا على الحياة وما فيها من

-----------------------------------------

1 الدكتور داهش: "ناقوس الأحزان أو مراثي إرميا" (دار النار والنور للطباعة والنشر، بيروت 1983)،

ص10.

2 الدكتور داهش: "بروق ورعود"، ط 2 (الدار الداهشية للنشر، نيويوك 1999)، ص 53.

-------------------------------------------------------

أباطيلَ وأوهام، وما يتحرك بين ظهرانيها من قرقعةٍ وضجيج. فكلُّ ما فيها وعليها ظلامٌ بظلام، وسخافات وتفاهات. لذا نراه يقول:

          "أنا غريبٌ في هذه الحياة الغريبة عني.

          نعم، أنا جئتُ من عالَم مُضيءٍ غير هذا العالَمِ الكئيب"1

          وفي كتابه "نبال ونصال" يقول:

          "يحُفُّ بنا ظلامٌ دامس ويُحيقُ بنا الألم

          نحن أبناءُ هذه الحقيرة أشبهُ بالرِمَم...

ولو سمَونا بأرواحنا لافتتنا بأعذب النَعَم...

لقد أتينا من العدم، وسنعود إلى العدم!"2

إنها نفثاتٌ روحيةٌ ناقمةٌ على كلِّ موجود ينفرُ منه الوجود، ناقمةٌ على المَكر والخِداع والرياء والرذيلة والفساد، بل على جرائمِ أبناءِ هذه الأرضِ الذين لا يأبهون لقداسةٍ ولا يتهيبون ألوهةً، فيطلب من الله تعالى أن يعصِفَ بهم ويدمرَهم إنقاذًا للحياة.3

ومن ثم يتابع نقمته على الدنيا وأُناسِها ناعتًا إياهم بأقسى النعوت في قوله:

"وهمٌ هي الدنيا بما فيها من أسباب.

دويُّ بهارجِها يصل إلى سمعي، وكأنَّه طنينُ ذُباب.

أُناسُها الحيارى في عربَصاتِها تراهم يجوبونَها ككِلاب.

كلُّ ما في الدنيا وَهْمٌ، فالعمر مفقودٌ منه النصاب".4

4. الخيال الحالِم

تجلى الخيالُ الحالمُ في أدب الدكتور داهش في ظكاهرة التساؤل. والتساؤل لديه سِمةٌ فكريةٌ جانحةٌ جُنوحَ العقل إلى مراقي المعرفة، وجُنوحَ الروح إلى مراتب العُلا، في مثل قولِه:

------------------------------------------

1" القلب المحطم" ص 35.

2 "نبال ونصال" ص 35.

3 المصدر السابق، ص 7 – 9.

4 المصدر السابق، ص 36 – 37.

--------------------------------------------

"أنا من أنا؟ ومَن كنتُ في غابرِ الأزمانِ؟...

وَيحَ قلبي! أين أصبحتُ الآن؟ وأين محطُّ أمانيّ؟

نعم، أنا مَن أنا, ومَن كنتُ؟ واليوم هذا مكاني"1

تُرى! له مكانُه اليومَ في العالَم الثاني؟

لا شكَّ أن حُلمَه قد تحقق. وهو الآن بعانية السماء في المكان الذي رغب الوصولَ إليه... والله أعلَم. وقد بدا ذلك ف تساؤلِه "أنا؟".

"... أَمْ كنتُ عدَمًا رهيبًا، فوهبني الله كياني فأحياني".2

          وفي تساؤلٍ آخر من أناشيد "ضجعة الموت" نقرأ:

          "ربَّاه! أَفي يقظةٍ أنا أَمْ في مَنام؟

          أين أنا الساعة، وماذا بيَ الآن؟

          إنني أرى نفسي نائيةً عن الأرض التي كنتُ أحيا فيها.

          وها هي الكواكبُ محدِقَة بي

          وكأنها تُكيل النظرَ إليَّ محدقةً فيَّ."3

          إن خياله البارعَ الموشَّى بأناقةِ اللفظ بعد التساؤل الحائر أفضى إلى رؤيا قلَّ مثيلُها عند الشعراء والاُدباء؛ إنها رؤيا... داهش الذي يجاور العلاءَ بروحانيته المضمخة بعبير الألوهة.

          ونقرأ أيضًا وأيضًا من أسرار تساؤلاته الخيالية:

          "فمن هو الذي يكشف لنا أسرارَ الليل والنهار؟

          وما هو سرُّ الوردة المخضلة؟ ولِمَ خضَّب اللونُ القاني الجلَّنار؟

          ولِمَ نرى قومًا من الطُغاة الفجَّار؟ وأقوامًا من الأبرار الأطهار؟

          وما هو سرُّ الإباء والشمم؟ ثمَّ المذلَّة والانكسار؟

          واللهِ، لا أدري، لا أدري،

          إنها من الأسرار!"4

------------------------------

1 المصدر السابق، ص 32 – 34.

2 "ناثر وشاعر" ج 3، ص 87.

3 "ضجعة الموت"، ص 128.

4 نبال ونصال" ص 27.

---------------------------------------------------

في هذا التساؤل طلب، وفي الطلب حيرة، وفي الحيرة شك، وفي الشك يقينٌ، وفي اليقين تسليمٌ بالحقيقة غير المنظورة. نعم إنها الأسرار. وكلما كشف سرًا، بقيت اسرارٌ. وهكذا دواليك... والخالق هو العالِمُ دون سواه بكلِّ الأسرار.

          وبعد، فالدكتور داهش لم يُحرج بما تُملي رؤاه، وتعتصرُ خفاياه، وينطقُ نُهاه. أناشيدُه الفريدةُ كما ونوعًا دائمةُ الصدحِ عذبةٌ شجية، تجوب رحاب السماء بغير حلةِ بهاء. ومعظمُ أدبِه حافلٌ أبدًا بالحُزن والشقاء، بالألمِ والبكاء، بالظفر والجنون، بعزة النفسي وصفاءِ الروح، بلذة الحب وعشقِ الجمال، بالانعتاق والتحرر، بالموت والحياة.

          من هنا يَكمُنُ سِرُّ إبدعِه، المخالف بالفكرة سائرَ الناس، أُولئك الذي يَرون الحياةَ قبل الموت. أما هو فيرى الموتَ قبل الحياة إنقاذًا للحياة من عَبَثٍ ودنَس. وهذا شأنُ القديسين الذين يطلبون العذاب لأجسادهم في سبيل تطهُّرِ أرواحِهم طلبًا للحياة المُثلى.

          أخيرًا، فمن يقرأ الدكتور داهش يرَ الوجود سائرًا إلى العدم والموت، إلى الخلود... خلودِ الروح في كينونة الكون.

ثانيًا: بين النثر الفني والشعر الجديد

          إن المُمعنَ في أدب الدكتور داهش يرى التجديد فيه ماثلاً، إنْ في الإطار، وإن في المحتوى.

          ففي الإطار، لا يمن اعتبارُه نثرًا صارمًا، ولا شعرًا عروضيًّا؛ وإنما هو نثرٌ فنيٌّ قاربَ فيه ما يُسمَّى بالحداثة الشعرية، أو الشعر الجديد.

          وفي المحتوى، تكمُنُ الجدةُ فيه بأفكاره استلهامًا ورؤيا وتطلُّعًا. وكما أسفلنا، لم يُجارِه شاعرٌ أو أديبٌ فيما كتب. حقًّا! إن الدكتور داهش فريدٌ في عصره لجهةِ ما أنتجَ من مؤلفاتٍ لها أبعادُها الإشراقية في ميادين الحياة كافة.

          إذا كانت المحاولاتُ الأولى للنهوض بالشعر الجديد قد بدأت في العراق مع نازك الملائكة في قصيدتها "الكوليرا" التي نُشرت في كانون الأول سنة 1947،1 فيكون

--------------------------------

1 راجع كتابنا "راجي الراعي الشاعر"، ط 1449، ص 36.

وفي الشهر نفسه صدر ديوان للشاعر بدر شاكر السيَّاب "أزهار ذابلة" وفيه قصيدة حرة، وفي عام 1950 صدر ديوان لعبد الوهاب البياتي "ملائكة وشياطين" وفيه بعض القصائد الحرة.

--------------------------------------

الدكتور داهش هو الأسبق في احتواء ظاهرةِ التجديد، وبالتالي له الفضل الأوَّل في نشأتها، لأن مبادرته هذه بدأت في أوائل الثلاثينيات من القرن العشرين.

          ففي ضوء ذلك، وانطلاقاً من مقاييس الشعر الجديد، أُحاولُ إبراز شاعريةِ الدكتور داهش منحًى، واتجاهًا، وقيمةً.

1. الوَحدة العُضوية

أهمُّ ما يميِّز القصيدة الجديدة وحدتُها العضوية التي ترسمُها وحدةُ الشاعر، ووحدةُ الصور المركبة، ووحدةُ الفكرة والرؤيا، ووحدةُ الأثر. نتبين ذلك في قوله:

"يا مَن تحنُّ روحي إليكِ، وتطلبُك بلهفةٍ نفسي،

أذكرُكِ كلما طلعتِ الشمس من خدرها الذهبي،

وعندما تعتلي نجومُ السماء قُبةَ الفضاء الزرقاء.

أنظريني، يا معبودتي، الآن وقد نبذني المجتمع الفاسد.

وبعد أن طردتني سُلطاتُ الشر من (مدينتي) التي ترعرتُ فيها،

أصبحتُ تائهًا من مكانٍ إلى مكانٍ دون أن يستقر بي قرار.

وبالرغم من كلِّ ذلك، فإنني أراكِ، بعين خيالي، كوكبي المنير."1

تتمثل الوحدةُ العُضويةُ في هذا النص بوَحدةِ الموضوع، وهو الغيابُ القسريُّ للدكتور داهش عن وطنه. ووحدةُ الموضوع فرضَت وحدةَ المشاعر... مشاعر الحزن والأسى التي انتابته جراءَ بُعدِه عن الوطن، وحين نبذَه المجتمعُ الفاسد، على حدِّ تعبيره، وطردته السلطاتُ الجائرة، فبات تائهًا لا يستقرُّ على قرار. وبرغم ذلك، واجهَ هذا البُعاد، ليس بمشاعر الأسى، وإنما بمشاعر الحنين إلى وطنه، وذلك عبر حبيبته التي ربما ابتدعها خيالُه. وبذلك يكونن قد ورَّى صورةَ الأسى بصورة الحنين.

2. الرؤيا

هي الصدى الوجداني أو المعنى البُعديُّ الذي نستشفُّه من النص. أما ميزتُها، فهي كلية كونية، لا تقبلُ التجزئة، ولا تلتزمُ بحدودٍ زمنيةٍ ومانية. تغوص وراءَ ظواهرِ

-------------------------------------

1 من كتاب "ناثر وشاعر"، ج 3، ص 107.

----------------------------------

الأشياء وما يتصل منها بالإنسان ووضعه.

فلنسمعْ ما يقول داهش مخاطبًا المال:

"أجل! يا مال!

لولاكَ ما كان خديعةٌ وهوان، ولفٌّ ودوران!

لولاكَ لَما كان طعنٌ وقتال، وصراعٌ ونِزال.

لولاكَ لَما كان بؤسٌ وشقاء، وكَذِبٌ ورياء.

لولكَ لضما كان تنافرٌ وشحناء، وحِقدٌ وبَغضاء.

نعم! ولولاك لما كانت بدايتنا نهايةً، ونهايتنا بداية..."1

          فرؤيا الشاعر هُنا رؤيا روحيَّةً كونية، استقاها من الأرض التي تعجُّ وتضجُّ بالطمع المراودِ عقولَ أبنائها، وبالأنانية الملازمة أبدًا لنفوسهم الضعيفة، مؤثرين المادة على الإنسان وقيمة الروحية. وقد رمز بالمادة إلى المال، وإن كان المالُ عصبَ الحياة، لكن عبادته تقود إلى الدمار والفناء. من هنا جاء قولُه خاتمًا به النص:

          "نعم! ولولاكَ لَما كانت بدايتنا نهاية، ونهايتنا بداية..."

3. اللغة والغموضُ الفنيّ

اللغة ظاهرة اجتماعيةٌ وحضارية، لكونها الملكة التي تميزُّ الإنسان عن غيره من الكائنات.2 "وللغة وظيفتان: وظيفة تخاطبية مادية موجودةٌ عند كل البشر، ووظيفةٌ إنتاجيةٌ في نظام نحويٍّ موجودٍ في كل عقل، عند جماعةٍ محددة،"3 لأن في اللغة كمًّا زاخرًا من الرموز والدلالات التي لا تتحقق إلى في نظام في الأنساق هي: الجُمل والتراكيب والنصوص.4

          وما أدراك بلغة الشعر، وبخاصةٍ الجديد منه الذي راح يستعمل الإشارات والرموز في التعبير عن مكنوناتِ النفس، فانتهت به اللغة إلى ما يُسمَّى "الغموض".

--------------------------------------

1 القلب المحطم"، ص 72.

2" عالم الفكر" م 23 عدد 3 و 4/ 1995، ص 252.

3" عالم الفكر" م 26 عدد 2/ 1997، ص 226- 227.

4 راجع كتابنا عن جوزف جحا، ط 2001، ص 57.

--------------------------------

والغموض أصلاً مرفوض إذا كان مقصودًا لِذاته، أو إذا لم تكن له صِلاتٌ بالإنسان وبالكون. فالغموض المستحسن في الشعر الجديد هو الغموض الفني الذي يعتمد الرمز، ويكون خصب الرؤيا التي تفرضها تجربةُ الشاعر، ولا تخفى على القارئ المتبحر أو الباحث الهادف.

          وبعد، كيف تظهر اللغة في أدب الدكتور داهش المُدهِشِ موضوعًا، والمتأنقِ لفظًا، والمُمتع تعبيراً، والبعيد الغورِ إنشاءً وتركيبًا؟ فلنقرأ نصًا له بعنوان "أنا حائرٌ وخائر"، فماذا نرى؟

"رباه! لقد أتيتُ إلى هذا الوجود وأنا حائر

وعندما بلغت مبلغَ الرجال، ازددتُ حسرةً وغيرة

وها أنا في طَور الكُهولة وتوشك أن تقتلَني الحيرة

وقريبًا أبلُغُ دَورَ الشيخوخة ولم يفارقني الإبهام

تُرى ما الحكمةُ من خلقِنا، ثم قذفلنا إلى الحِمام؟

ربَّاه!... لقد دخلتُ الأرضَ وأنا حائر، وسأغادرُها والعزمُ خائر"1

          يحارُ القارئُ العاديُّ في فهم مضمون هذا النص. إنما القارئُ المُمعِنُ في أدبِ داهش يراه يفتِّش عن حقيقةٍ لا وجود لها على هذه الأرض التي يأتيها وهو حائر، ثمَّ يغادرها وعزمُه خائر.

          لكنَّ الأمرَ ليس كذلك؛ فالحقيقة المفقودة على هذه الأرض باتت له في عالَم السماء، عالَم الروح.

          لا شكَّ أن النصَّ بمُجملِه يسيطر عليه وبالكامل الغموضُ الفنيّ، رغم أناقة اللفظ والتعبير الشفافِ المتتالي معانيَّ، والمتنوعِ أنماطًا وتركيبًا.

4. الرمز

 أكثرَ الشعراءُ من استعمال الرموزِ في قضائدهم ودواوينهم لأنها مظهرٌ من مظاهر اللغة، وسببٌ رئيسيٌ في إضفاء طابع الغموض على شعرنا المعاصر. والمقصود منها طبعًا الرموزُ الشعريةُ التي يجب أن يكون استعمالُها وسيلةَ إفصاحٍ وتعبير، ووسيلةَ إضاءةٍ وتنوير. وتعاملُ الشاعرِ مع هذه الرموز هو تعاملُ خلقٍ وإبداعٍ يحتاج إلى مهارةٍ فنيةٍ كي يبلغَ بها الشاعرُ هدفَه المنشود1.

          حَفَلَ أدبُ الدكتور داهش بالرموز التي بها يتمُّ تحديدُ علاقةِ الإنسان بالله، بالكون، بالبيعة، إلى تحديد علاقته بنفسه. وقد شطح فيها شطحاتٍ صوفية وروحية، كالصراع بين قُوى الخير والشر، والصراع بين الواقع والمثال، والصراع بين المادة والروح، بينا لحياة والموت، بين الخلود والفناء. ونطرح على سبيل المثال كتابَه "ناقوس الأحزان أو مراثي إرميا" الذي صدَّره بنداءٍ خفيٍّ قال فيه:

"أُحبُّ أن أعودَ إلى المجرَّة الأزلية.

التي تضجُّ بملايين كواكبها الأبدية!

إن هذه الرغبة الجامحة لازمتني منذ طفولتي الحالمة،

وما زالت ترافقني في يقظتي ورقادي.

إني أتوق إلى الذهاب إلى بحارٍ مجهولة،

وأنهار لم تسمع خريرَها آيةُ أذُنٍ بشرية،

كما إني أُصغي إلى نداءٍ خفيٍّ

يُهيبُ بي أن أخلعَ عنِّي رداءَ المادة

كي أستطيع وُلوجَ هذا العالم السحري البهيّ."2

واضحٌ أنه بهذا النداء يجسدُ المثالية الرافضة للواقع الذي تاباه نفسُه، لكونِه واقعًا مليئًا بالفساد، بالشرور وبطغيان المادة على الروح، فآثر الموتَ على الحياة، لأنَّ الحياة فناء, وفي الموت خلودُ الروح في فيافي الكون الآخر.

          وفي تعريفه للكتاب المذكور أعلاه يختمُ بقوله:

          "وبعد، فهاكم مراثيَ النبيِّ إرميا المشحونة بالأسى، العارمة بالحزن، الفياضة بالشجن.

          وَقاكم الله ووقاني من عاديات الزمن الغادر، إنَّه السميع المجيب"3.

--------------------------------------

1 راجع كتابنا عن راجي الراعي، ص 53.

2" ناقوس الأحزان أو مراثي إرميا"، ص 8.

3 المرجع السابق، ص 18.

----------------------------------------------------

نعم! فمراثي النبيِّ إرميا لمدينة القدس التي دمرها الغزاة، وشرَّدوا أهلها في أقاضي المعمورة، باتت رمزًا للمآسي والأحزان، في كل زمانٍ ومكان. وتأكيدًا لِما ذهبنا إليه، فلنسمعْ من الكتاب هذه المقطوعة حيث النبيُّ إرميا يبتهلُ على أنقاض المدينة (أورشليم):

          "ارحم يا ربُّ مَذلَّتي،

          لأنَّ عدوِّي قد تمجَّد.

          سيطر (الغازي) على أورشليم،

          واجتاز قُدسَ أقداسِها!

          وأنتَ الذي أمرتَ

          أنْ لا يَلِجَه الاَّ أبناؤك.

          الشعبُ، بأكملِه، يبتهلُ متنهدًا،

          يطلبُ الخبزَ الجافّ.

          وفي سبيله يا الله،

قدموا العذارى للغاصب،

كي تُردَّ إليهم نفوسُهم.

أُنظر يا ربُّ، وأشفِق..."1

5. الإلتزام والثورة

 إن تلتزمَ، فهذا يعني أنك صاحبُ قضية. وقضية الدكتور داهش قضيةٌ إيمانيةٌ روحية، ساميةُ الأهداف، نقيةُ التطلع.

          أمَّا ثورته، فقد حفلت بما حفل به إيمانُه على غير صعيدٍ ومستوى، وقد أشرنا بوضوحٍ إلى كلٍّ من الالتزام والثورة اللذين لا ينفصلان عن بعضٍ في القسم الأول من بحثنا هذا.

6. النزعة الدرامية

          تعني النزعةُ الدراميةُ في الشعر الجديد التقابل والصراع بين طرفين رئيسين هما:

ذاتيةُ الشاعر والموضوع، عِلمًا أنه لا يمكنُ الفصلُ بينهما.

-------------------------------------

1 المرجع السابق، ص 31 – 33.

--------------------------------------

معظم أدبِ الدكتور داهش تُسيطرُ عليه النزعةُ الدرامية؛ فالتقابل بينه وبين موضوعه قائمٌ في غير نصٍّ من نصوصه الأدبية، لكونِه الروحانيِّ الذي لا يُمالقُ ولا يُخاتلُ أو يغدرُ ويغش. همُّه الحقُّ والحقيقةُ ليس إلا.

          أعجبُ ما حار منه                  فكري غرابةُ نفسي

          ذات التقلب، فيـــــــه                   تُرى فريــــدة جنسِ!

                                      ****

          يا صاح، طورًا تراني                  في غبطةٍ وسرورِ

          وقــــــــــــد تـــــــراني أيضًا                   في غمَّةٍ وسعيرِ!

                                      ****

          دُنيايَ لا شيءَ فيها                  يُرضي، وفيـــــه عزائي

          آهٍ! ولا شيءَ فيهــــــا                  يُهدي، وفيه رجائي!1

         

          إنه في حَيرةٍ من أمره، وتقلُّبٍ واضح بين الفرح والحزن. وكذلك لا يرى في دنياه ما يرضيه، وبه يعزي نفسَه، أو يَهديه وبه يأمل. وبعد الحيرة والتشاؤم وصل إلى ما يركن إليه، فيعترف بالحقيقة التي تنتابُه، وهي أن به مَسَّ جنونٍ، وذلك في قوله:

          حالاتُ نفسيَ تحوي                 عناصرًا من جنونِ

          والحـــــــــقَّ لا عيبَ فيه                 وذاك حقُّ اليقينِ!2

7. نزعة الحزن والتشاؤم

          بالرغم من روحاينة الدكتور داهش وإيمانه المطلق بالخالق، سبحانه وتعالى، اتسمَ أدبُه بنزعةِ الحزن في حدودٍ واسعة، لأن الحزن نتيجةُ الألم؛ وقد آمن بالألم في سبيل العطاء والخلاص معًا.

          أما التشاؤم، فقد ارتدى طابعَ النفور من الوجود الذي لا يجد فيه ما يُرضي نفسه، لكن يبقى رجاؤه الروح، وبالروح يقوى، ومنها يستمدُّ حيويته الفاعلة في مواجهةِ الشدائدِ.

---------------------------------------

1 القلب المحطم"، ص 163 – 167.

2 المرجع السابق، ص 163 – 167.

---------------------------------------------------

والملماتِ والمصاعب والمصائب المتنوعة.

          ومهما يكن، فنزعتا الحزنِ والتشاؤم متلازمتان في ذات داهش، كم وكم فاض بهما قلمُهّ! فلنستطلعْ ذلك في قوله:

         
"كلُّ ما في الكون يسيرُ إلة التلاشي، والفناء، والعدم!...

والأرضُ... بما حوَت من إنسانٍ وحيوان، وهوامّ وأزهارٍ وأطيار،

وكلُّ ما تزخرُ به من كلِّ نسمةٍ وحياة...

سيكون نصيبُها الأفولَ والفناء، والتلاشي والعفاء!...

فما اشقاك... أيُّها الإنسان!..."1

إنه يعبِّرُ هنا عن رفضِه للوجود بعد أن عكس صُورَه المأساويةَ على ذاته. وقد تكون حالُه هذه حالَ معظمِ شعراءِ الحداثة كصلاح عبد الصبور عندما قال:

"يا هذا المفتونُ البسَّامُ الداعي للبسمات

نبئني ماذا أفعل

فأنا أتوسَّل بك

إن كنت حكيمًا، نبئني كيف أجنّ

لأحسَّ بنبضِ الكونِ المجنون"2.

          وفي مكانٍ آخ نرى شاعرَنا داهش يائسًا من الحياة يعتريه الحزنُ الشديد، والآلامُ النفسيةُ تتملكُ كيانه، والكآبة تُلازمه. ومع ذلك يجد لذةً في ألمه، كما يجد سعادته وبهجته، وذلك في قوله:

"نفسي حزينةٌ!

وشعورٌ غريبٌ من الأسى يهيمنُ على كياني!

وآلامٌ نفسية شديدةُ الوطأة تتملكُ أعماق أعماقي!

وأحزانٌ بالغة تحيط بي إحاطةَ السوارِ بالمِعصم!(...)

والكآبة الخرساُ تُلازمُني!(...)

-------------------------------------

1 الدكتور دانش: "اسرار الآلهة" ج 2 (دار النسر المحلق للطابعة والنشر، بيروت 1980)، ص 113 – 114.

2 راجع" راجي الراعي"، ص 58.

---------------------------------

وفي ألمي العميق لذتي!

وفيه سعادتي وبهجتي!"1

وأخيرًا، إن مؤلفات الدكتور داهش هي أشبهُ بكُوَمٍ من الورود والأزهار المتنوعة الأشكال والألوان، جمعَها بأكمامها وبراعمها من رياضٍ فائقةِ الجمالِ حِسًّا وروحًا، رياضِ السماء، لا الأرض، فهيكلَها قِطعًا أدبيةً بأُسلوبٍ خياليٍّ مُبدع، فقاربتِ الشعرَ في مقاييسه الجديدة، وإن بقيَتْ في إطار النثرِ الفني أو قصيدةِ النثر.

                                                                             20/8/2009

Developed by Houssam Ballout        Copyright 2019 This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.nfo All Right Reseved This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.