أنا أؤمن بأنه توجـد عدالة سماويّة, وأن جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدنيا من مُنغصات انَّ هـو الاّ جـزاءٌ وفاق لِما أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور.ولهـذا يجب علينا أن نستقبلَ كلّ مـا يحـلّ بنـا من آلامِ الحياةِ ومآسيها غير مُتبرّمين ولا متذمّرين , بل قانعين بعدالةِ السماء ونُظمها السامية.

Highlighter
أحبُّ الكُتُبَ حبَّ السُكارى للخمر , لكنَّني كلَّما أزددتُ منها شرباً, زادتني صَحوا
ليس مّنْ يكتُبُ للهو كمَن يكتُبُ للحقيقة
الجمالُ والعفّــة فـردوسٌ سماويّ .
لا معنى لحياةِ ألأنسان اذا لم يقم بعملٍ انسانيٍّ جليل .
اعمل الخير , وأعضد المساكين , تحصل على السعادة .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقـوم بأعمالِ الخير نحـو ألأنسانيّة .
الموتُ يقظةٌ جميلة ينشُدها كل مَنْ صَفَتْ نفسه وطَهرت روحه , ويخافها كلّ من ثقُلت أفكاره وزادت أوزاره .
ان أجسامنا الماديّة ستمتدّ اليها يـد ألأقـدار فتحطِّمها , ثمّ تعمل فيها أنامل الدهـر فتتَّغير معالمها , وتجعلها مهزلةً مرذولة . أمّا ألأعمال الصالحة وألأتجاهات النبيلة السّامية , فهي هي التي يتنسَّم ملائكة اللّه عبيرها الخالد .
نأتي إلى هذا العالمِ باكين مُعولين، و نغادره باكين مُعولين! فواهً لك يا عالمَ البكاء والعويل!
جميعنا مُغترٌّ مخدوعٌ ببعضه البعض.
العدلُ كلمة خُرافية مُضحكة.
أمجادُ هذا العالم وهمٌ باطل، و لونٌ حائل، و ظلٌّ زائل.
لا باركَ الله في تلك الساعة التي فتحتُ فيها عينيّ فإذا بي في مكانٍ يطلقون عليه اسم العالم .
أنا غريبٌ في هذا العالم، و كم احنُّ إلى تلك الساعة التي اعود فيها إلى وطني الحقيقيّ.
الحياةُ سفينةٌ عظيمة رائعة تمخرُ في بحرٍ، ماؤه الآثام البشريَّة الطافحة، و امواجه شهواتهم البهيميَّة الطامحة، و شطآنه نهايتهم المؤلمة الصادعة.
كلّنا ذلك الذئبُ المُفترس , يردع غيره عن اتيانِ الموبقاتِ وهو زعيمها وحامل لوائها , المُقوّض لصروح الفضيلة , ورافع أساس بناءِ الرذيلة .
الحياةُ سلسلة اضطراباتٍ وأهوال , والمرءُ يتقلَّب في أعماقها , حتى يأتيه داعي الموت, فيذهب الى المجهولِ الرهيب , وهو يجهلُ موته , كما كان يجهلُ حياته .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقومَ بأعمالِ الخير نحو الانسانيّة .
المالُ ميزان الشرِّ في هذا العالم .
السعادةُ ليست في المال , ولكن في هدوءِ البال .
كلُّ شيءٍ عظيمٍ في النفسِ العظيمة , أمّا في النفسِ الحقيرة فكلُّ شيءٍ حقير .
الرُّوح نسمةٌ يُرسلها الخالق لخلائقه لأجل , ثم تعودُ اليه بعجل .
الرُّوح نفثةٌ الهيَّة تحتلُّ الخلائق , وكل منها للعودة الى خالقها تائق .
الرُّوح سرٌّ الهيٌّ موصَدْ لا يعرفه الاّ خالق الأرواح بارادته , فمنه أتتْ واليه تعود .
أنا أؤمن بأنه توجـد عدالةٌ سماويّة , وأنَّ جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدُّنيا من مُنغِّصاتٍ وأكدارٍ انَّ هـو الاَّ جـزاء وفاق لمِا أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور . ولهـذا يجب علينا أن نستقبل كلَّ مـا يحـلُّ بنـا من آلام الحياة ومآسيها غير م
الحرّيةُ منحة من السماءِ لأبناءِ ألأرض .
الموتُ ملاكُ رحمةٍ سماويّ يعطف على البشر المُتألّمين , وبلمسةٍ سحريّة من أنامله اللطيفة يُنيلهم الهناء العلويّ .
ما أنقى من يتغلّب على ميولِ جسده الوضيع الفاني , ويتبع ما تُريده الرُّوح النقيّة .
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
الراحة التامّة مفقودة في هذا العالم , وكيفما بحثت عنها فأنت عائدٌ منها بصفقةِ الخاسر المَغبون .
ليس أللّــه مع الظالم بل مع الحقّ.
ان الصديق الحقيقي لا وجود له في هذا العالم الكاذب.
ما أكثر القائلين بالعطف على البائسين وغوث الملهوفين والحنو على القانطين , وما أقلَّ تنفيذهم القول.
يظنُّ بعض ألأنذال ألأدنياء أنّهم يُبيّضون صحائفهم بتسويدِ صحائف الأبرياء , غير عالمين بأنَّ الدوائر ستدور عليهم وتُشهّرهم.
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السَّلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
رهبة المجهول شقاء للبشرِ الجاهلين للأسرارِ الروحيَّة , وسعادة للذين تكشّفت لهم الحقائق السماويَّة .
الموتُ نهاية كل حيّ , ولكنه فترة انتقال : امّا الى نعيم , وامّا الى جحيم .
الحياةُ خير معلِّمٍ ومُؤدِّب , وخيرَ واقٍ للمرءِ من الأنزلاقِ الى مهاوي الحضيض .
حين تشكُّ بأقربِ المُقرَّبين اليك تبدأ في فهمِ حقائق هذا الكون .
مَنْ يكون ذلك القدّيس الذي لم تخطرُ المرأة في باله ؟ لو وجدَ هذا لشبَّهته بالآلهة .
المرأة هي إله هذه الأرض الواسع السُّلطان. و هي تحملُ بيدها سيفاً قاطعاً لو حاولَ رجالُ الأرض قاطبةً انتزاعه منها لباؤوا بالفشلِ و الخذلان .

الدكتور رياض زكي قاسم

أكاديميٌّ لبناني. نال الدكتوراه من قسم اللغة العربية واللغات الشرقية وآدابها في جامعة الإسكندرية (1979. أُستاذ اللغويات في الجامعة اللبنانية. تولى عماده كلية الآداب بين العامين 2001 – 2005. اضطلعَ بعدة مهمات تربوية خارج الجامعة، منها في المركز التربوي للبحوث والإنماء. من مؤلفاته "اتجاهات البحث اللغوي الحديث في العالم العربي" (جزءان)، "المعجم العربي – بحوثٌ في المادة والمنهج والتطبيق"، "تقنيات التعبير العربي". وله بحوثٌ ومقالاتٌ كثيرة، وكتبٌ مدرسية في اللغة العربية من الروضة الى نهاية المرحلة الثانية

اللغة في النص الداهشيّ

مقدمة

  1. يرتكز هذا البحثُ، من حيث مصادرُ المادة، على عدة كتب للدكتور داهش كانت قد صدرت بتواريخ مختلفة، بدءاً من العام 1932 فصاعدًا. وقد شكل تاريخُ النص أساسَ التصاعُد المعتمد في الدراسة.
  2. تصدر النصوص، موضوعُ البحث، عن ثلاث ميزاتٍ هي شكلٌ من الانطباعية، والانفعال، والايقاع.

أ‌.   أما الأولى فترتد في إطارها العام إلى "الإلهام" أو ما يظنه الكاتب رسالةً تُمليها قوةٌ خارقةٌ لكي ينقلها إلى ما يكتب. فكأنه أمسى وسيطًا لربه النثر والشعر؛ فإذا هو بذاك ملهمٌ، إذا ظن أنه لا يعتمد على ملكاته الشخصية، وإنما يصدر عن إرادة خارقة أسمى وأقوى من أرادته.

ثم ما نراه في النصوص من التقاط حي لما هو "مادة" في الحياة الدنيا أو ما هو متغير سريعُ الزوال، بشقية الملموس والمتخيل، جراء تأثيراتٍ من العالم الخارجي على مشاعر نفس الكاتب وحساسيتها، أدى إلى شيءٍ من التداخل، فالتماهي أحيانًا بين الذات والموضوع. فتراه في انطباعيته يعبر عن المشاعر وما وقَرَ من آثار الشيء أو الموقف في نفسه، مستحضرًا في ذِهن القارئ صورة حية لمكان له وجودٌ موضوعيّ، فيغدوان (الكتبُ والقارئُ، معًا) متلقيين  لانطباعات نفسية أثارتها فين فسيهما رؤيةُ ذلك الحي، مثلهما في ذلك مثل المصور الانطباعي الذي يجوزُ رسم الشيءِ إلى تسجيل انطباعاته عنه.

     لكن، كيف تجلت هذه الانطباعية، التي هي سبط الإلهام، في نصوص هذا البحث؟ لقد تجلت بشيءٍ من الرجحان بين التفتيت والاكتمال الشكلي، ورصفِ العبارات جنبًا إلى جنب في رابطٍ داخليٍّ هو التوتر، والانفعال، والتماهي؛ وأحياناً ترابط العبارات بوصفها الحاد، جنبًا إلى جنب، في رابط آخر هو الرابط السببي أو المعنوي، إضافةً غلى الجنوح المفرط في استعمال الجمل القصيرة ذات الجرس التعبيري المتسارع حينًا، والجمل الأكثر طولاً في نصوص الابتهال أو الدعاء أو الرجاء أو ما يعكس صفاءَ الذِهن والنفس معًا. ثم تندرج النصوص، في كثير منها، في لونٍ إيقاعي، يتكون من التكرار، والتعاقب، والترابط.

ب‌. وأما الميزة الثانية فهي الانفعال الأدبي الذي بدا في ما يعانيه الكاتب أو يتحمله، إذ يتعامل مع جميع الظواهر التي تحتملها النفس احتمالاً مقدورًا، أو سلبيًا.

وفي ملمح قريبٍ من نتاج الانفعال الأدبي، في القرن الثامن عشر، تطالعنا بعضُ النصوص المؤثرة التي تجسد فيها الانفعال موجودًا، بسبب عنصري الدوام والقوة اللذين أسرا العقل، أحيانًا، فغدا الانفعال دالاً على الميول الحادة، أو لنقل المتطرفة، تلك الميول التيت متلك الإنسان، إلى حين، وتُبعده عن الخير، او العدالة، أو الفضيلة. ولكن سرعان ما ينتفض الكاتب ليتحدى هذا الطغيان، ويجنح بقوةٍ إلى الرفض، ملتمسًا ما يعتمل في داخله، ويمور عنيفًا، فتنهال عبارات الاندماج أو الاتحاد بالروح، والصفاء، ونشدانِ الرجاء، والتأكيد على الخلاص، وانتهاج دربِ المسيح في الافتاء والصعود السامي.

ج. وأما الميزة الثالثة فهي الأيقاع، حيث تنتظم مضامين النصوص، في أغلبها، في ثنائيةٍ متتابعةٍ بين النور والظلام؛ بين القوة والضعف؛ بين اللذة والتصوف؛ بين التوتر والابتهال الهادئ. وقد طغى اللون الإيقاعيُّ بثلاثية التكرار، والتعاقب، والترابط.

3. جمعت النصوص، موضوعُ البحث، بين النثر، والشعر، والشعر المنثور. وشكل كتاب "أناشيدي" نظرةً استرجاعية، بما تضمنه من مختارات شاء جامعها أن يعطي صورةً واضحةً عن أدب الكاتبن بما التقطه من تُراثه الداهشي.

4. ينطلق البحث، لغويًا، من دراسة النص أولاً، ليخلص إلى أسلوب الكاتب، ويتعرف الى شخصيته ومزاياه. ولعل ما جاء في متن المقدمة خيرُ ما تجمع وتم استصفاؤه من النصوص المقروءة.

     إذن، لا يُسقط البحث أفكارًا، أو معلوماتٍ، قبليةن أو سابقة، أو منقولة، أو متواترة، عن الدكتور داهش، ولم يتاثر كاتبُ البحث بما قيل أو سيُقال، وإنما التزامه في ما يصدر عن النص، فحسب.

أولاً: مُعجمُ التضادّ

في نفس الدكتور داهش متسعٌ لاجتماع حالتين متضادتين، معًا، تستغرقان، وتصدقان على الإحساسات والإدراكات والصور العقلية، وحالات الشعور باللذة والأَلم والتعب والراحة؛ فهي – عنده – حالاتٌ متضادةٌ يوضحُ بعضُها بعضًا.

     فالحياة تستدعي الموت، والموت يستدعي الحياة. وكذلك يستدعي الشر نشدانَ الخير. وتتداعى مظاهرُ الخير لتحيل إلى الشر، في تقابل جدليٍّ مثير يتحكم الكات بإيقاعه.

وهذا التداعي للمتضادات يصدر عن وعيٍ حينًا، ويصدر عن اللاوعي حينًا آخر، ولا سيما في زمن سيطرة ربةِ الكتابة، أو انقداح شرارة الإبداع.

     وقد نجد تداعي المتضادات في تقابل سريع، أو بطيء وفي ما يلي تحليلٌ لهذا المعجم:

  1. تسجل النصوص الواردةُ في كتاب "جحيم الذكريات" تجربة الكاتبة من العام 1932 حتى العام 1942. ففي عقدٍ من الزمن استقرت ظاهرةُ التضاد، والصاع بين الجسد والروح؛ فالجسد ظلامٌ من خمود، والروح نور من خلود (ص 79). وتأخذ هذه الظاهرة ما يمكن اعتباره "مفتاح" النصوص كلها في الكتاب؛ فهو يُنكر أشد النكر "مهزلة الحياة" (ص 81) ويُقبل بشغفٍ على نداءِ الموت، فيقول:

"ويا حبيبي الموت!/ يا حبيبي البهىي، وطيفي الوفيّ!/ يا بلسمَ جراحي، وخيالَ أفراحي!/ ألقِ على (جسدي) ظلامًا من خُمود،/ وعلى (روحي) نوراً من خُلود!" (ص79).

  1. وفي نص "حقيقة واقعة" تبدو النفس التعبة: "إن (روحي) معذبةٌ حيرى!/

والاضطراب يسيرُ في جسدي لمهدم البالي!/ والأسى يشيع في حنايا نفسي الهائمة!"

(ص 31). ثم يقرن التوكيد(=إن) السابق بالنفي القاطع، المطلق: "ولا راثٍ لبلوتي،/ ولا مفرج لكربتي!" ويؤكد النفي بالرابط (بل) لتبدو الصورةُ أكثر قتامةً: "بل ليس من يعطف عليَّ، أو يرقُ لي!" (ص 31). وينثني عبر المارنة السريعة، ليستدركَ إرادته الضائعة، متوسلاً(لكن) في مقطع متصاعد الوتيرة: "لكني، لستُ في حاجةٍ لعطفِ مخلوق، أو رقةِ أنسان!" ويقرن الاستدراك بـ(أجل)، ممهدًا لانسياب مجموعةٍ من الجمل الاسمية التي تعمق المراد: "أجل، أنا قوي، وقوتي لا تقف عند حد، (...)/ أنا ذو بأسٍ، (...)/ أنا ثائرٌ على الوجود والموجود". ففي ما سبق يبدو التأكيد نكرانًا لما هو فيه من عذاب، ويأتي النفيُّ لاعترافه بفقدان الصديق؛ فهما في السلب متعاكسان، وكأن التأكيد الموجب يُفضي إلى غاية التأكيد السالب. ويُفصح عن مُرادِه في آخر النص، موظفًا ما سبق إلى نتيجةٍ سيرددُها في هذا الكتاب: "ولن أنِيَ عن هذه (الثورة) الجامحة الجبارة،. حتى يأتيني داعي الحمام!/ وعند ذلك،/ تنتهي هذه (الحياة) الغارقةُ في اضطرابها!" (ص 33)

  1. ويطالعنا النص "نفس تعبة" ليعيد المشهدن محافظًاعلى التضاد، ولكن في معجم لفظي ذي لونٍ آخر، وذي أسلوبٍ مختلف، تكثر فيه الجمل الاستفهامية المنكرة: "ما هذا (الشعور) الغريب(...)؟/ ما هذه (الكآبة) التي تظلل روحي(...)؟/ ما هذه (الأخيلة) المريرةُ التي تُدمي قلبي الحزين (...)؟/ بل ما هذه (الحياة) البائسة التي تفرض نفسها عليَّ فرضًا؟" وينعطف في استفهام مفصليٍّ يعاكِسُ بالأسلوبِ نفسه ما سبق: "ومتى سيبدل الحال غير الحال،/ وتحلُّ أيامُ الراحةِ والهدوءِ والسلام؟/ متى؟ متآ؟ يا عروسَ أحلامي!" (ص 35 – 37).
  2. وفي نص "زفرة صارخة" تتجلى لغة الاعتراف عبر جملةٍ اسميةٍ تقريرية: "نفسي حزينة!" (ص 39). فهما كلمتان تختزلان المشهد الذي سيأتي في النص كله. ويلجُ من الكلية في المطلع إلى جزئياتٍ يغلب عليها استعمال الجملة الاسمية، المتماثلة والمطلع. ويختم بجملة "لا أدري" المكرة ليحيل اللاأدرية ميسم الإنسان، أو جهل الإنسان في الحياة. فغدا الجوابُ تساؤلاً وحيرة.
  3. في النص "متى؟" (ص 41) يختزل المطلع، أيضًا، المشهد الكلي: "الآن، انتهى كل شيء، وأُسدِلَ على الماضي الستار،/ وتلاشت حتى الذكريات! واأسفاه!/" فقد استخدم الزمن الحاضر في مشروع إلغاء الماضي، متوسلاً اسلوبَ العطف في شرحما مضى، في جملٍ سريعة الوتيرة، متمثلة على مشهدها الماضوي بمشاهدَ تضجُّ بالحاضر المرئي، كي يُجزئ اللوحة التي تحمل في المُضمر، ثم العلنِن سبب ما هو فيه. إنه "الشر": "وحاك (الشر) ثوبه المظلمَ الكثيف (....)، وكانت له الغلبةُ والفوزُ في النهاية!" (ص 43). فالقوة الخارقة تتدخلُ (هنا) متجسدةً في الشرّ، لتمحوَ (الخير) الذي لم يُذكر صراحةً في النص، وإن استعاضَ عنه بـ"الصديق الحقيقي". فهل باتت المعادلة في خَلَل: "آه! لا أستطيع أن أُصرح! لا أستطيع أن أقول!" وهل الماضي ينهزم أمام الحاضر والمستقبل: "والذي (كان) محال أن يكون!" وما هو الحل؟ هل هو الفداء؟ هل هو الرجاء؟: "يا إلهي! تُرى، متى تنطلقُ (روحي) الصاخبة الجياشة،/ الثائرةُ المتمردة، المتألمة الحزينة؟/ متى تنطلقُ من هذه الحياة؟/ متى؟" (ص 44).
  4. في نص "إلى مغرورة" (ص 53 – 56) يأخذ التحدي بين العقل والجسد ثنائية تضادن تتمثل بامرأةٍ تياهةٍ بحسنها ويتجلى العقل ممسكًا الجسد، ليناى به عن اللذة. فالصراع يُفرز جُملاً متقابلةً متعاسكة:"يا مَنحَسِبتِ أنني غدوتُ (اسيرَ) عينيكِ الزرقاوين،/ ووجهك الجميل، وفمكِ الخمريّ،/ خاب فألُكِ، وبعد عنكِ متا تحسبين!/ لا تأخذكِ، يا صاحبتي، الأوهام،/ ولا تخدعنكِ الأحلام،/ فإن في راسي عقلاُ يفكر،/ وإن بين جوانحي قلباً يستشف،/ وإن لي لبصرًا نفاذًا يخترق طباقَ المجهول" (ص 53). في العودة إلى الجملة التأكيدية "فإن في راسي عقلاً يفكر" تتحمل الجملة الفعلية 0يفكر) عبء هذا التحدي. فالكاتب يناضل من أجل الصمود أمام الإغراء، ويتوسل (التفكير) اُسلوبَ تشويهِ الآخرَ حتى يصمدَ أمامه، فيستحضر المستقبلَ مشهدًا حاضرًا، مرئيًا، محسوسًا في الزمن: "غدًا يتقوَّسُ الظهر، ويتجعدُ الوجه، وتتلاشى حُمرةُ الخد،/ ويذهب الزمن ببريقِ عينيكِ غلى غير ما رجعة!" ثم يكرر غدًا وغدًا، ليُثبت الحُلمَ الآتي، ويستنهضَ عزمَ الصمود، حتى يبلغَ الغاية في طلب المقارنة: "وتقارنينَ بين الأمس واليوم، وبين اليوم والغد، فتطلبين الموت!" (ص 54). وينتقل سريعًا إلى الإطلاق والتعميم: "وما أنتِ، بالأمسِ وايومَ وغدًا،/ إلا كتلةً شوهاء من لحمٍ قذر/ (...) فأقصري، أقصريب، يا صاحبتي" (ص 55). وهذا الإطلاق لمعالم الصورة المشوهة، قصدًا، يضعثها الكاتب في إطارٍ أغلقه بإحكامٍ حتى لا تنفذ (صاحبتُه) إلى ساحة التحدي مجددًا. وفي هذا دليلٌ معاكِسٌ يرتدُّ على المؤلف نفسه. فهو (الدليل) ليس على انهزام الشرِّ والرذيلة (عبر المرأة الحسناء)، بل هو الخوفُ الذي يعتمل ويعتري الكاتب، أو العقلُ الذي يتسلح به. ولكم تبدو دقيقةً هذه المفردات: "فأقصري (...)/ ايتها الأفعى،/ باعدي ما بينك وبيني،/ وحذارِ أن تدني من مكاني!/(...) ثم حذارِ من التيه، من الدلال..."(ص55- 56). إنه في الحقيقة أُسلوبُ رجاء؛ فبقدرِ ما فيه من تحذير، فإنه يُضمرُ الارتعاش والخوف. هذه هي واقعيةُ الصراع بين العقل والجسد، ذلك التضادُّن أو المسألةُ المُثارةُ في إطار الصراع الدينويِّ المستمرِّ. وإذ يستشعرُ الكاتب الخطر الداهم، لم يبقَ أمامه سوى أن يستعين بالقادر الأوحد: "وقاني الله شرِّكِ/ (...) يا الله، استمع إلى دُعاءِ قلبي،/ واستجب لنداءِ روحي،/ يا أرحمَ الراحمين!" (ص 56).
  5. في النص "ازدراء" (ص75 -60) يشكل المطلع والخاتمة علاقة الجزء بالكل. ويدرجُ الكاتب هذه اللاقة في دائرة لعنته: "أنا اسخرُ بكل بشري،/ وأستخفُ بجميع مخلوقات الأرض، بدون استثناء." (ص 57) هذا الجزءُ سيدخل في دائرة المطلق الحسي: "ألا لعنةُ الله عليك، يا حياة!" (ص 60).

وتتكشف اسباب هذه اللعنة في طرح مسالةِ النسلِ والتوالد، فكأنه يقول: لِدُوا للموت؛ "لقد حصدوا جزاء ما اجترحوا: شقاءً وهمًّا، وصابًا وعلقمًا،/ إذ لفظوا أطفالاً مساكين،/وتركوهم – يا وَيحَهم! – يشاركونهم الشقاء والعناء،/ فوق هذه الأرض الغبراء النكراء!/ يا للعار والشين!/ يحصدون كل هذا في سبيل لذةِ لحظة، أو بضع لحظات!"(ص57).

          ولا رجاءَ له إلا بالخلاص، ولا خلاص إلا بالرجاء. هذه التبادلية في استخدام الألفاظ مهارةٌ اسلوبية لا ينكشفُ منها إلى الوجه الأول، أما الثاني فيبقى خلف المشهد: "آه! يا رب!/ الموتُ هو (غايتي) المُبتغاة، وأملي المنشود،/ فمتى (الموت)، يا الله، متى؟/ لقد طال الأمد،/ ولم يبقَ في قوس الصبرِ مضنزع!" (ص 59 – 60). فهل المقابلة بين اللذة والزُهد يستدعي هذا الصراع؟ ثم هل يبدو الرجاءُ هنا وسيلةً تقودُ إلى الغاية؟ وما بين المقدمة (الحياة) الملعونة والنتيجة المرتاجة، (الموت) المنتظر بشغفِ التوسل، إلى صورة من صور الاعتراف بالضعف البشري؛ وهو ما تجسد في صيغ "ما أفعل" التي حملت ازدواجية الدلالة: ظاهر السخرية بالشيء، واحتقاره، وباطن الهلع والقلق والغربة في داخل الكاتب: "ما أقبح الوسيلة! وما أوضعَ الغاية!/ وما أجدب الزرع(...)!،، ويا ما أغرب البشر(...)!" (ص 59)

  1. في نص "مهزلة الحياة" (ص 81 – 85) يبدو ظاهرُ المشهد مقارنةً بين القصر والكوخ. ثم يتسرب مفهوم الصراع بين الغني والفقر شيئًا فشيئًا ليحتل خشبة المسرح موحيًا، ثم معلنًا العودةَ الى مسالة الصراع بين الحياة والموت.

يبدو هذا النص أشبه بقصة قصيرة، لذا طالت مكونات المطلع في المشهد الأول: عرسٌ في القصر، وبالمقابل "فتًى ناحلٌ محطم،/ يئنُّ أنينًا موجعًا". (ص 83)

          يتقمَّص الفتى العليل الشاحب معتقد الكتب: "والديَّ،/ كفكفا الدموع، ولا تحزنا عليَّ،/ فأنا مغادرُكما إلى عالضم بهيٍّ جميل،/ تاركًا ورائي هذا العالم السخيف". (ص 83 – 85). في المشهد تضادٌّ أول. ويلي ذلك اصداءُ مشهدٍ من القصر: "كان ذلك (القصر) المجاورُ لهذا الكوخ)/ يموج بالسعادة الزائفة والنعيمِ الزائل!/ كان يموج بالرذيلة والإثمِ(...)" (ص 85). هذا المشهد احاديُّ الصورة، لا تضاد فيه، لكنه بالتقابل مع (الكوخ) يشكل التضاد الأكبر في النص.

  1. في نص "كآبة نفس معذبة" (ص 97 – 102) مجموعةٌ من صور التضاد: بين الجسد والروح، وبين الجسد والعقل، وبين اللذة والطهارة، وبين الكذب والحقيقة.

وتكرر المقدمات والنتائج. فالمقدمات تتمثل بقوله في المطلع: "عميقةٌ هي أحزان روحي التعسة(...)" (ص 97)، والنتائج تتمثل بمقطعٍ طويلٍ نسبيًّا، إذ يخاطب الكاتب الحقيقة ويرجوها ويناشدها: "هاتي طوقيني، ودعيني أغيبُ/ في (وُجودك) العلويِّ، المطهر المقدس، الخالد الجميل(...)/ أيتها الحقيقة الخالدة، / أطبقي جفني... وأنا لا أرى إلاك،/ ولا أحيا الا بذكراك". (ص 102).

          في ما تقدم، أمثلةٌ على ظاهرة التضاد، وأمثلةٌ على رغبة الكاتب في الانعتاق من هذه الدنيا، والارتماء في أحضان الحبيب (الموت). هو كالرومنسيين في جانب أساهُم، ولوعةِ أحزانهم التي تدفعُهم إلى الانطواء والعُزلة ونِشدانِ اللقاء الذي يخلو من الكدَر والأوشاب.

          هو الموت نجاة، أو لعلَّه الهروبُ من الحياة البائسة، الشقية: "ربة الشعر! أنا أحبُّ أن أُغمض عينيَّ/ عن مَشاهد هذا العالَم التاعسِ الكئيب،/ فأنبئيني متى يأتي (الحبيب)؟/ (...) ربَّة الشعر! كم أوَدُّ الامتزاج بالعوالم الأُخرى!"(ص 185)

ثانيًا: أسلوب التساؤل المعاكس

  1. في كتاب "بروق ورعود" نصوصٌ عدة، تشكل صورةً معاكسةً لما جاء في نصوص الكتاب السابق؛ فالكاتب يُعلن عداءه للموت (رمز الفناء) المتمثل بظلمة القبر "ووحشته المخيفة الرهيبة!/(...) نحن نهابك ونلعنكِ، لأنك رمزث الموتِ والفناء".

(ص44)

وسرعان ما يكشفُ هذا المعجمُ المغاير ولع الكاتب بزمان "الشباب والفتوة والأحلام" (ص 43)، جاعلاً ذلك في حوار تعلو فيه نبرةُ التساؤل: "لماذا غادرتني، أيها الكافر القاسي (...)/ ولماذا جاهرتني العداء(...)؟"، ثم يظهرُ الأمر الذي يحمل صوتًا عميقًا يصدر من الداخل الممزق: "أعد إليَّ حلة شبابي، ورد إليَّ المرحَ والابتسام،/ ودعني أرى أحبابي (...)" (ص 43).

          وشبيهٌ بهذا تساؤلُ الكاتب عن أسباب الحزن في هذه الحياة: "فلنطرب، ولنهزج، ولنشرب، ولنثمل بخمرةِ الفرح/ ولنسعَ باحثين عن الملذات والمراح/(...) فالعمر أقصر من أن نضيعهُ بين أمواج الاضطلراب والروعة". (ص 38).

          وينفض الكاتب عن نفسه الكآبة، مخاطبًا إياها: "إطربي(...)/ أنشدي(...)/ ثم ترنمي بأيام الحب والغرام والعاطفة/ (...) تمتعي، يا نفس، بالملذات قبل أن تزوري ظلمةَ القبر الرهيب". (ص 77).

فاللغة، في مفرداتها، هنا تضجُّ بنبرة الشباب، وطلب العيش في حياةٍ لا يرى فيها إلا الفرح. ولكن هل يطول هذا؟ فسرعان ما ينكفئُ الكاتب ليتساءل: "أيها الصدق أين أنت؟" (ص 38)، فالصداقة موءودة (ص101)، "ولم أجد صديقًا مخلصًا، أو خلاًّ ودودًا/ وعدت والقلبُ جريح، والنفسُ كسيرة". (ص 101).

وسرعان ما ينكفيئ على ذاته، متألمًا مما حوله، فـ"يا له من عالم حقير(...)!" و"عبثًا نبحثُ في شطآنه، فلن نلاقي خليلا/ فمتى، يا رباه، تُرسلُ غلى عالمنا هاديًا ودليلاً؟" (ص 101).

          صحيح أنه، هنا، ياقسي الوحدة، وينشدُ وجدان الخل الوفي، فلا يحظى به، لكنه لا يطلب الموت أو يفر به، بل يضرب في الأرض حبورًا ومرحًا: "ولِمَ أسى النفس واللوعة/ فلنطرب(...)/ ولنسع باحثين عن الملذات والمرح". (ص 38).

لكن الحيرة التي تمتلك الكاتب، والصراع الذي يعيشه، والتخيلات المبهمة التي يعانيها: "تتيهُ نفسي في بحر فكري المتلاطمةِ أمواجُهُ الهوجاء" (ص 49)، تجعل مفرداته وعباراته في هذا الكتاب نسيجًا متداخل الأساليب، فيه عجبٌ من التناقضات إلى حد ما يمتلك القارئ من حيرةٍ وتساؤل: ما المذهب الذي ارتضاه الكاتب؟ وإلى أين المسار؟ يجيب في صفحة من الكتاب تصطرع فيها الرؤى والأفكار والأماني، فيقول: "فانتشتْ نفسي وهي بين الرياض، وتذوَّقتْ إكسيرًا سلسبيلاً/ وفجأة اصطدمتُ بالحقيقة، فإذا بي أهيمُ في عالَم الأحلام" (ص 52)؛ فلا عجب إن بدا الاصطفافُ في الأفكار المتعاكسة، وتحمل الكتاب عبء التناقض الدلالي في المفردات في سياقتها النصية، فغدا معجمُ الحبور وطلبث الملذات جنبًا الى جنب مع رنة الأسى الرومنسي الحزين، وتساؤل الفريد الغريب: "فمتى تُفكُّ قيودي، يا الله، فأغادر عالمي الفاني؟" (ص 103).

          فالكاتب يعترف، أخيراً، بشفافيةٍ تعبيرية تجترح الصدق اجتراحًا: "أنا في حرب شعواء مع ميولي ورغباتي وطموحي/ فالروح تبغي أن تُحلِّق بعيدًا عن عالم المادة المُدنَّس/ والجسمُ اللعينُ يرفضُ ما يتوق إليه عَالمُ الروح المقدس/ (...) وأنا بينهما كالريح والتاير في وسط البحار/ فأُطيعُ حينًا نزعاتِ جسمي، وحينًا أُطيعُ نزعاتِ روحي." (ص 112).

2. غير أن لغة الحيرة  تتحول إلى موقفٍ في كتاب "نبال ونِصال"، وتغدو المفردات قوية، قاسية، تطرق المراد مباشرةً، بلا تزويق: "وهم هي الدنيا بما فيها من أسباب./ (...) أُناسُها الحيارى في عرضاتها، تراهم يجوبونها ككلاب./(...) جميعهم في هذا سواءٌ: الشيبُ منهم والشباب./ فمن مماذقٍ إلى دجال، إلى لصٍّ فاسقٍ، ثم ترى ذاك النصاب./ كل ما في الدنيا وهمٌ، فالعمرُ مفقودٌ منه النصاب". ويعلو الكاتب على ارتباكه السابق صلبًا، فيتوعد: "فلو وُكِلَ إليَّ أمرُهم لصلبْتُهم... ثم لهشمتُهم بنُشّاب". (ص 36 – 37).

ثالثاً: المعجمُ أُحاديُّ الموضوع

لا بد من الإشارة إلى المعجم التجانسي الذي حفل بالموضوعات الأكثر تواترًا في النصوص الداهشية، وهي – عدا تضادَّ الحياة والموت – المرأة، والمال، والعدالة، ورجال الدين، والطبيعة الخلابة.

فلكل موضوع لغتُه الخاصة به، ومعجمُه، وما يستلزمُه من دلالاتٍ دقيقة، قارة.

1. فالمرأة التي أحبَّها "أبدعتها يدُ القدرة، وسطرتها يراعةُ الإلهام!/ أنتِ الأماني الساهمة(...)/ أنتِ؟ الألهاتُ الفاتنات يترنمنَ بالشدو،/ ويرجعن الغناءَ أمام مذبج جمالِكِ الخالد!(...)" ("نشيد الحب"، ص 20). وهي "شعلةٌ من ميول/ وومضةٌ من خيال!/(...)، أنتِ تنشيدن مع القماري،/ عند الفجر الموشى بشيتِ الألوان،/ أنغام الحب والهوى والحنان!/ أنتِ القُمريُّ الشادي،/ أنتِ ربةُ شعري،/ وملهمةُ قصيدي!" (ص 30 – 31)

          لكن هذا المعجم المفعم بالرومنسية يتغايرُ ويصطدمُ بقساوة المعجم الآخر المقابل: "المرأة شهوانية هوجاء (...)/ إن المرا’ الطاهرة والرجل العفيف النفس لا وجود لهما في دار الشقاء!" ("بروق وروعود"، ص 54).

2. وأما المال فلعنةٌ ما بعدها لعنات، فـ"نحن من عباد المال(...)/ نكفر بالأديان وننسى الله في سبيله/ (...) نضحي بكل صديقٍ وعزيز لاغتنام ساعةِ قبضه". ("بروق ورعودة"، ص 68).

          وينفرد كتاب "مذكرات دينار" ظاهريًا بمعجم أحادي الموضوع، هو ما اكتشفه (الدينار) أو المال مرموزًا إليه بهذا الذي صار (معبودًا)، فيكشف من خلال حله وترحاله، غير العصور، وصُحبةِ الناس، بأخيارهم وأشرارهم، مدى ما يقدسُه الناسُ فيه: لونه وجوهره وجدواه. فكم من قتيل بسببه، وكم من شعبٍ أُبيد جراءه، ولكم من تحولات في المجتمعات، وكوارثَ وحروبٍ، كانت بدافعهِ، والرغبة باحتكاره. فها هو المال (أو الدينار) في يوم الحشر يتعلي منصةَ القضاء بجلالٍ ومهابة، ليحاكم الأمم والشعوب على ضلالتها، فيفضح ما كان مستورًا، ويذلُ من كان متغرسًا، جباراً، ويرذُل من ظن أنه يقضي بالعدل، وهو عبدٌ للدينار.

          ويخاطبه الكاتب قائلاً: "يا مال! يا مال! يا ضالةَ كل بشري يقطن هذه الغبراء!/ (...) أيها الجبار! أيها الذليل!/ (...) أجل، أجل، يا مال! ما أنت نبيٌّ، بل إلَه!(...) إلهُ هذه الكرة... هذه الأرض!/ (....) انتصرت يا مال!" ("مذكرات دينار"،  ص 403 – 406)

3. وعن "العدالة الموءُودة" يخبرُنا الكاتب بأُسلوب (كم) البارع، المسبوق بالنداء: "يا أعواد المسانق، كم لكِ من ضحايا بريئة شريفة!/ وكم من أثمةٍ لم يتأرجحوا بحبالك القوية!(...) لا كنتِ يا أحكام! وتبًا لكِ أيتها القوانين السخيفة!" ("بروق ورعود"، ص 22).

ولكن أين هي العدالة الحق؟ هي في "مدينة الأموات": "وهناك وقفتُ أتأملُ الأنصاب القائمة/ وشتى الأفكارِ تتنازعُني، وتملأ شِعابَ نفسي الهائمة/ فقلتُ لنفسي: هنا العدالة، وهنا المسكين والمِلك."("بروق ورعود"، ص 71).

          4. وأما رجال الدين فـ"أبالسةُ الدنيا، بل وُقودُ الجحيمِ في العالم الثاني!/ إنهم كذبةٌ مراؤون، بل أثمةٌ مداجون/(...) هم يقطنون القصور الشامخة يسموننها "أديرة"/ ولم يكن لفاديهم مكانٌ ليسند إليه رأسَه في العالَم الفاني!" ("بروق ورعود"، ص 21)

وبصوتٍ صارخٍ ينادي الكاتب هؤلاء: "يا دجاجلةَ العصور السحيقة/ (...) أيّها المراؤون، إن نيران الجحيم ستكون بكم محيقة." ("بروق ورعود"، ص 104).

5. وأمّا الطبيعة، فالكاتب على شاكلة الرومنسيين يرى فيها الأمَّ، وموئلَ الموجعين، وملجأ المعذبين، وملاذَ القلقين: "تلك الطبيعة الفتانة التي يرتاح إليها عشاق الخيال/ هي أمٌّ لنا، ويطمئنُ إلى ألوانها العسجدية روحي/ (...) وبجمالِكِ أتغنى وبسحرِ ربيعك/ لأنك تعطفين عليَّ، وتهبينني الحب والهوى والجمال". (بروق ورعود"، ص 46).

          لقد شكلت هذه الموضوعاتُ الرئيسية نصوصًا خاصةً بسماتها الأسلوبية، ومفرداتها بدلالاتها، فأغنت مجموعةَ مؤلفاتِ الكاتب، وكانت شاهدةً على تضلُّعه باللغة ومعرفِته شعاب العربية، والتحكُّمِ بأساليبها وطبائعها؛ فقدم للقارئ صورةً جلية، ووثيقةً مهمةً عن نمط الكتابة، الإبداعية، في مرحلةٍ جازت العقود الخمسة في القرن العشرين.

                                                                                      بيروت، 5/9/2009

Developed by Houssam Ballout        Copyright 2019 This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.nfo All Right Reseved This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.