السفير محمد سعيد السيِّد
سفير مصري من الدرجة الممتازة يحمل وسامي الجمهورية والاستحقاق من الطبقة الأولى. شغل عدة مناصب دبلوماسية. وهو الآن المشرف العام على مجلة "الديبلوماسي" التي شغل رئاسة تحريرها ونيابة الراسة زهاء 17 عامًا. حصل على درجة الماجستير في العلوم السياسية من جامعة القاهرة، وأنهى دراسات في القانون الدوليِّ العام والخاص في أكاديمية القانون الدولي بلاهاي، ودراسات الاقتصاد والإحصاء والمالية العامة في المجلس البريطاني بالقاهرة، ودراسات الفن التشكيلي في أكاديمية الفنون الجميلة بلاهاي.
دنيا الكلمات الداهشية
إن كلمات الدكتور داهش عمت الآفاق القريبة والبعيدة، فلا مكان ولا زمان بلا كلمةٍ داهشية عنه. إن الكلمات الداهشية تنبضُ دائمًا بالحياة بلا قيدٍ يُوقفها فتذوي وتتلاشى. إنها كلماتٌ منطلقةٌ ومستمرة، تحرك ما حولها وتحرك العقول والفكر لمَن يتلقاها، وتدفع بفكر المتلقي إلى آفاقٍ فسيحةٍ نوارنية شفافةز إنها كقلبٍ يدفع برحيقه في أجساد البشر لتفيض بحياةٍ فكرية تُغطي الحاضر والماضي والمستقبل من الزمان. أما المكان، فالكلمات الوصفية تُبقيه على حاله في أغوار الماضي كما تُبقي على حاضره ليُصبح ماضيًا فيما بعد... أما المستقبل، سواءٌ أكان زمانًا أم مكانًا، فالكلمات عنه هي رؤًى داهشية لمَن يلمسُها ويتفهمُها. وهي تتجاوزُ العينَ التي تقرأُها والأذنَ التي تسمعُها إلى الأعماق والأبعاد الفلسفية لكلماتٍ مهما كانت بساطتها وسهولتُها ومهما كانت واقعيتها أو معنوياتها. إنها انطلاقاتُ فكرٍ بلا حدود ولا عوائق تصدُّه وتمنعُه عن الانتشار. وتظلُّ الكلمات في انتشارها تتجدد وتجدد من فكر المتلقي إلى الأبدية. وكلما وصلت كلمةٌ إلى منتهى معانيها على المتلقي، تجددت وبُعثت من جديد، ربما في نفس المكان أو في مكانٍ آخر، وفي نفس الزمان أو في زمنٍ آخر. إنها حيويَّةُ الكلمة الداهشية لا يدُركها إلا من تلقاها وسايرها من أصولها إلى حداثتها، فإلى ما بعد ذلك.
إنها كلماتٌ إذا وصلت إلى فكر المتلقي، فتحت أمامه أبوابًا وطرقًا وسيالاتٍ متعددة متنوعة. هي ما بين جبالٍ شامخة تتحدى العقل، وسبلٍ وطرقٍ ممهدة خضراء وارفةِ الظلال ووديانٍ تجري فيها الأنهار تريح المشاعر والنفوس. إنها طبيعةٌ ساكنة لا ترى فيها أحدًا. ولكن قد تجدُها مرةً أخرى وقد ملئت بالبشَر وبالحياة الإنسانية، وكلها تشكيلاتٌ لصُورٍ تتداعى في خيال المتلقي، تسكن وتتحرك باستمرارية الكلمات الداهشية التي تؤدي إلى أعمال الفكر والعقل مع تلك الكلمات المطلقة المُنتقاة التيلا تحدّثها حروفُ الكلمة.
وإني قد التقيتُ مع الكلمات الداهشية مصادفةً حين جمعتنا الأقدار، بلا تقديم من أحد، وكان ذلك مع كلمات رحلة "الدينار الذهبي" حول العالم،1 فكان لها الصدى الجميل والاثرُ العميق، إذ تدفقت المعاني بأعماقها الفلسفية وبشكل مطلق. إنها كلماتٌ تسمو وتعلو وتتألق بضيائها على جميع بقاع الأرض. هكذا كان لقائي الأول بالكلمات الداهشية.
ثمَّ كانت كلمات الدكتور داهش التي أحيتْ أرض الفراعنة الكامنة في وجدان كل مصري، تتلامسُ وتتوغل في مشاعره وفكره وعقله وخياله، فيظلُّ هائمًا في المكان والزمان الفرعونيِّ، مع الكلمات الداهشية، مهما كان منغمسًا في معيشة الحاضر زمانًا ومكانًا. إن السيالات وعظمتها، ومن خلال الكلمات الداهشية وسيُولتها عن الأميرة المصرية الفاتنة، شخصية لامعة تُدعى فرانسوا. إنها شخصية بينها وبين أي مصري ترابطٌ من وقائع الماضي والتاريخ إلى انفتاحاتٍ على العالم المستقبلي انبثقت من الخطاب الداهشي؛ فهي عنه وإليه.2
إن فرانسوا شابٌّ يعيش في باريس. ملامحُه وقسماتُ وجهه ليست كمن يسكنون القارة الأوروبية من شمالها إلى جنوبها؛ فهي تختلف عنهم بلونها الأسمر وبما تُنبئُ به من أن أصل موطنه في شمال إفريقيا.
--------------------------------------------
1 إشارة إلى كتاب الدكتور داهش: "مذكرات دينار"، ط 2 (الدار الداهشية للنشر، نيويورك 1986) \
2 القصة الواردة لاحقًا مستوحاتٌ عامة ومقتبسة جزئيًا من قصة الدكتور داهش "الأميرة المصرية الفاتنة" المدرجة في الجزء الثاني من كتابه "قصص غريبة وأساطير عجيبة" (دار النسر المحلق للطباعة والنشر، بيروت 1979)، ص 237. (الناشر).
--------------------------------------------
ويعشق فرانسوا التجول في ميدان الكونكورد بباريس؛ ففيه يشعرُ بالراحة وهدوء النفس وصفاءٍ يتسع به المكان من حوله وكأنه يحلق في الفضاء. كما يشعر دائمًا بأن في نفسه تواصُلاً غامضًا يجذبُه إلى هذا الميدان.
وفي أثناء سيره هناك، كانت له وقفاتٌ كثيرة يتامل فيها هذه المسلة الفرعونية الشامخة في وسط الميدان. ولكن في وقفته هذه المرة خُيل إليه إنه يسمع بكاءً ونحيبًا، فسكنت نفسه قليلاً، وتوجه بأذنيه مُنصتًا نحو مصدر النحيب، وسار صوبَه فقطع الميدان حتى وصل إلى المسلة ولامسها، فأحس أن النحيب يصدرُ منها. فأرهف السمعَ، فوجدها تُتمتمُ أيضصا ببعض كلماتٍ ليستْ فرنسية، ولكنها لغةٌ غريبة. ومع ذلك فقد فهمها وكأنه يتحدث بها معها. سمعها تقول: "إني لستُ بقاتلة! إن وجودي في هذا المكان وكأنها نبوءةٌ داهشية وقد تحققت." فوَجِلَ لهذا القول، وابتعد عن المسلة وعن وسط الميدان بأكمله، وجلس على أحد المقاعد المنتشرة في الحدائق التي تُحيط بالميدان. جلس ساكنًا في تاملٍ عميق لحديث المسلة، وجاءت جلستُه بجوار شابٍّ وصاحبته. وفي أثناء سبحه في تأملاته، تنامى الى سمعه ما يُسِرُّه الشابُّ إلى صاحبته. إنها كلماتٌ رائقة وشعرٌ فياض بالأحاسيس يخاطبُ به أميرته التي سلبت رُشده وسحرته؛ ويشهد المسلَّة على هذا العشق، فيقول:
"أي أميرة قلبي وسالبةَ رُشدي،
إن فتوتكِ، يا معبودتي المفداة، سحرتني،
وأُنوثتك المُذهلة أضاعتْ نُهاي وغمرَتني،
ورقةَ عتاطفتك استولت على كياني وبهرتني!...
لهذا أُعلن لك حبي أمام هذه المسلة السامقة
لتكون شاهدةً على غرامي الملتهب الذي أكنُّه لك.
وها إني أخطُّ لك قصيدتي عليها لتحتفظَ ذرَّاتُها بها.
فمهما مضَت الأيام، وتصرمت الشهور، وأبيدت الأعوام،
فستبقى هذه المسلَّةُ ذاكرةً حبي العظيم لأميرتي،
ذاكرةً غرامي المشبوب وهيامي الشديد بمَن أهواها".
وها فرانسو أن نحيبَ المسلة وصوتَ بكائها تلاشيا، فأخذ هو يردد كلمات القصيدة التي سمعها لتوه مندهشًا لأنه سمعها من قبل، ولكن ليس في هذا الموطن، وإنما في موطنٍ آخر. فتداخلتْ أفكاره واختلطت أحاسيسهن فكأن نفسصا أخرى تخرج من يانه وتسبحُ في عالم بعيدس عنه وما زالت كلمات القصيدة ترنُّ في اذنيه وهو يردد أنها قصيدةٌ داهشية. إنها قصيدةٌ داهشية سمعها في موطنٍ آخر أكثر هدوءًا وروحانية تحفُّه طبيعةٌ جميلةٌ خلابة.
ولما فرغ الشاب من إنشاد قصيدته عانقت الفتاةُ صاحبَها، وغادرا المكان، وسارا بعيدصا حتى غابا عن نظره. وغمرَ عقل فرانسوا ضبابٌ كثيف، ولم يعد يستطيع تفسير كل ما يراه ويسمعه. وظل جالسًا لزمنٍ لا يدري له له مدى. ولما نهض من مجلسه، توجه نحو المسلة في وسط الميدانن وجلس حيالها، ووجد نفسه ينطق باللغة نفسها التي تحدثت بها معه من قبل قائلاً لها: "أوضحي وفسري لي ما أراه وما أسمعُه وما أَنطق به حتى أستريح". فتنهدتْ وأخذَت نفسًا عميقًا وقالت:
"إنك تنطق بالهير وغليفية، وإن لكل شيءٍ موطنًا. فالإنسان له موطن، والحيوان له موطن، والنباتُ له موطن. وكذلك الجمادُ له موطن. ومع ذلك، فالكلُّ في حركةٍ دائبة ودوراتٍ متواصلة لا تتوقف، ولا تنقطع. فالحيُّ يخرج من الميت، والميتُ يخرج من الحيِّ. وأنت موطُنك مصر. ولنعد إلى قصتنا. إنها قصةٌ طويلة سجلها الدكتور داهش في منظومته عن الأميرة المصرية الفاتنة. وإني متهمة، كما جاء في المنظومة، بقتل الأميرة، وها أنذا في غير موطني، أنتصبُ ف باريس، في ميدان الكونكورد. وهذه المركبات التي تسيرُ بدون خيول تجرها تدور من حولي محدثةً ذلك الضجيج والصخب العظيم والتلوث البيئي الكثيف. إني أتعذب وأُقاسي، وأتمنى حياةً جديدةً أنعمُ فيها بالهدوء والسعادة وتجمع الأحباب من حولي وهم ينشدون الحب والهيام.
"وإني سأقصُّ عليك الحكاية من أولها، وهي التي سجلها داهش بكلماته المنتقاة بلا إطالة أو تقصير. إنها واقعٌ عايشته حتى سقطتُ عن قاعدتي، وبعد ذلك انتقلتُ وانتصبتُ في هذا الميدان. والبداية هي أنه في قديم الزمان كان العمَّالُ المصريون يشتغلون بهمةٍ ونشاطٍ عظيمين وهم جادُّون في قطع كتلةٍ عظيمةٍ من الصخر يرغبون في فصلها عن الجبل الأُّمّ. وكان عملثهم متواصلاً من الفجر إلى غروب الشمس. وكان عددهم عشرين الف عامل يحثهم على النشاط المسؤول الأول الموفد من قبل فرعون مصر. فقد رغبت ابنته الأميرة سختحتي بمسلةٍ سامقة الطول لتزين حديقتها الغناء الحافلة بشتى أنواع الأشجار المثمرة. " وكنت أنتَ، في ذلك الوقت، المسؤول الأول، وكان اسمك خمعنخ، تحضُّ العمال على مواصلة عملهم باستمرار تنفيذًا لرغبة الأميرة التي اصبحتْ في شوقٍ ملح لمشاهدة المسلة تزين حديقتها في عيد مولدها السعيد، إذ لم يبقَ سوى شهرس واحدٍ لتدعو صديقاتها وكبار رجال الدولة للاحتفاء بتلك المناسبة.
"وكان خطيبها رعمون – وهو شابٌّ بمقتبل العمر سُحر بمفاتن أميرته – يزور مكان العمال ليحثهم أيضًا على الإسراع بفصل هذه الصخرة العظيمة عن الجبل الأم تلبيةً لرغبة خطيبته الفاتنة.
"إن هذه الأميرة وطيبها هما الشابُّ والفتاة اللذان كانا جالسين إلى جوارك منذ لحظات، ثم تركا مقعدهما وسار واختفيا مع السائرين. ولنعد الى حكايتنا. فقبل أن يحل موعدُ الاحتفال بعيد الأميرةن كانت المسلة سامقةً ترنو نحو السماء وبجوارها نافورةٌ من الماء الفرات تنفثُ المياه نحو العلاء، لتعودَ وتنسكبَ على بساط الأزهار المدهشة، فإذا بالفتنة تلفُّ الحديقة السحرية.
"وجلس خطيب الأميركة بجوارها يبثُّها حبه وهواه وغرامَه... وإذا به شاعرٌ يجيدث سب العبارات الهيامية، فجعل يُنشد معبودته النشيد الغرامي الذي سمعته منذ لحظات وأنت جالسٌ بجوارهما.
"وفي اليوم التالي، أُقيم الاحتفال الكبير الذي حضره كبارُ رجال الدولة، وكانت سختحتي قلبَ الحفلة النابض. وتم اقترانُ رعمون بأميرته وكانت ايامهما سلسلةَ أفراح.
"وفي أحد يام الربيع الفاتن، كانت الاميرة جالسةً بجوار نافورة الماء الفاتنة بالحديقة العامرة بالورود وهي تنتظرُ حبيبها وقرينها رعمون ليُشاركها في جمال هذه الورود الضاحكة، وإذا بي، أنا المسلة، أسقطُ فجأةً، ولم تستطع الأميرة الهروبَ، وفوجئت بسقوطي، فسحقتها سحقًا.
"وكانت مناحةٌ هائلةٌ في جميع المدن المصرية وتخومها حزنًا على الأميرة الشابة. أما رعمون، فقد هاله الأمر، واختلط عليه الحادث، فأضاع اتزانه، واصبح مضعضع العقل، مسلوبَ الرشد. وصمت، لا يتفوه باية كلمة. وكانت دموعُه تنهمرث كالشآبيب. وفجأةً سقط على الأرض، واق نفسه، واتسعت حدقتا عينيه، وإذاه يقول: سألتقي، سالتقي بحبيبتي سختحتي. سالتقي بأميرتي ولكن ليس في هذه المدينة، بل في مدينةٍ سيكون اسمها باريس. وسأكون جالسًا بمركبة لا تقودُها الخيول، وهي تسير بسرعةٍ كبيرة وبجواري ستجلس معبودتي وأميرتي. ومراراً وتكرارًا سنمرُّ بجوار هذه المسلة القاتلة المنصوبة في ساحةٍ سيكون اسمها الكونكورد.. كما إني أُشاهد مئات من هذه المركبات التي تسير بدون خيول. وكل مرةٍ نمرُّ فيها بالقرب من هذه المسلَّة، سأدلُّ لها بإصبعي عليها إشارةً إلى أنها القاتلة. فهذه المسلة المجرمة هي مَن قتلت حبيبتي. تمتم بهذا، ثمّ!َ اختلج اختلاجه كبرى، وإذاه جثةٌ هامدة!
"وها نحن سويًّا في ميدان الكونكورد في باريس وقد تحققت النبوءة الداهشية".
وبينما الحوارُ دائرٌ بين فرانسوا والمسلة، أقبلت فجأةً معداتٌ آلية متنوعة كبيرة الحجم بصخب وضوضاء عالية، وبدأت تحفر حول المسلة. وتجمع الناسُ مستفسرين عما يحدث، فكان الكلامُ يدور حول أن الحكومة المصرية تستعيدُ الآثار الفرعونية المنتشرة في دول كثيرة. وقد رحبت باريس بإعادة المسلة إلى موطنها. وأخذ فرانسوا يبتعدُ عن هذه المعدات التي أحاطت بها من كل جانب، ويتراجع عن وسط الميدان, وهنا مالت المسلة، والعمال يقتلعونها من مكانها، نحو فرانسوا، ونادته قائلةً له: "إني شاهدتُ من علُ موقعًا جديدًا أُعِدَّ لي بجوار الأهرام في مصر. وقد تم ارساءُ قاعدةٍ متينة لي حتى لا أسقطَ عنها مرةً أُخرى. وقد تغيرت وتحولت الصحراءُ حول الأهرام إلى بساتين غناء ملأى بالأشجار والنباتات الخضراء والزهور من كلِّ الألوان. وعلى البساط الأخضر تجلسُ الأميرةُ، وقرينُها يُنشدُها قصيدةَ حبه مرةً اخرى، ويرحبون بك وأنت تدور حولهما وتقطف لهما الأزهار والورود".
كان فرانسوا، آنذاك، قد ابتعد عن المسلة والمعدَّات الصاخبة، وأصبح في منتصف الشارع عندما سمع نداء المسلة، فالتفتَ إلى الخلف، ولم ينتبه إلى مركبةٍ بلا خيول من تلك المركبات التي ورد ذكرُها في ختام المنظومة الداهشية تسيرُ بسرعةٍ نحوه فدهسته، وإذاه جثةٌ هامدة.
ولكن لنعد مجددًا إلى بساتين الأميرة الفاتنة، ونقف من حولها انتظارًا لعودة المسلة إلى شموخها على قاعدتها الجديدة.