الدكتور وجيه فانوس
أستاذ النقد الأدبي والأدب المقارن في قسم الدراسات العليا في كلية الآداب والعلوم الإنسانية في الجامعة اللبنانية. حاز الدكتوراه في النقد الأدبي المقارن من جامعة أكسفورد في بريطانيا. تولى إدارة كلية الآداب في الجامعة اللبنانية (1986 – 1992). شارك في عدة مؤتمرات وندوات عربية وعالمية، وقدم فيها أوراق عمل وأبحاث. من مؤلفاته "الريحاني والمعري" (1993)، "محاولات في الشعري والمجالي" (1995)، "إشارات من التثاقف العربي مع التغريب في القرن العشرين" (2004).
ملاحظاتٌ تأسيسيةٌ حول النص القصصيِّ
في "قصصٌ غريبة وأساطيرُ عجيبة" للدكتور داهش
تقديم
"قصص غريبة وأساطير عطيبة" مجموعةٌ قصصية من جزأين،1 تضمُّ خمسصا وثمانين قصةً وضع المؤلف معظمها في مطلع الثلث الأخير من القرن العشرين، ما بين سنة 1976 وسنة 1978. أما مؤلف هذه المجموعة فالدكتور داهش، وهي صادرةٌ سنة 1979 عن "دار النسر المحلق" في بيروت – لبنان.
يقوم الجوُّ العام لهذه القصص على انطلاقٍ من أفكارٍ توحي بخلفيةٍ واقعيةٍ لها وتشكل تعبيري يعتمدُ لغةً عربية واضحة سلسة؛ فضلاً عن جوٍّ يعبقُ بآفاقٍ ملحميةٍ كونيةٍ ضاجة، تنطلقث من الخاص المحدودِ بناسِه وأحداثه، لتصلً إلى رحاب العام المشتمل على عمقٍ إنساني نافذ إلى أمورٍ هي من أسسِ الوجود الإنساني وأُفقٍ شديد الاتساع، ينفتحُ على كثير من مجالات الفكر والفلسفة، ناهيك بالرُؤى والمبادئ الداعية إلى تبصُّرٍ معين في أمور الوجود برُمَّته.
--------------------------------------------
1 كتاب "قصص غريبة وأساطير عجيبة" هو في أربعة أجزاء، اقتصر الباحث هنا على الجزأين الأول والثاني. (الناشر)
---------------------------------------------
معظم القصص قصيرُ الطول، وقلَّ أن يكون بينها الصفحات القليلة في العدد؛ بل إن غالبية كبرى منها تحضر بين صفحتين أو اربع على أبعد تحديد؛ وأقلية منها تمتدُّ على مدًى يتجاوز هذا العددن لكنَّه لا يتجاوزه بكثير (مثل "راعي الأغنام" و"وأُبيدت صيدون" و"الخائن المطرود" و"حبيبان فقيران" و"قصر الأسرار المذهلة" ,"الأعمى")!
الشخصيَّات في هذه القصص واقعيةٌ فيم رات كثيرة، وخرافية في بعض المرات، لكن بحضور حيواني أو نباتي أو جمادي، يتجلببُ برداء الواقعية الإنسانية، ويمثل وجودًا إنسانيًا. (أنموذج "القنديل اليتيم" و"في رحاب ربِّ الأرباب" و"الكوكب فومالزاب" و"مملكة أرهاط الجن" و"رحلة وردة جورية").
تدورُ أحداث القصص في أزمنةٍ معاصرة وقديمة ومستقبلية، كما إن قسمًا من هذه الأحداث يجري في عوالمَ متخيلة؛ لكن سرعان ما تقود جميعُها إلى تصوير لتشكلاتٍ من واقع العيش الإنساني المطلق، بغض النظر عن الزمان أو المكان. فهي أحداثٌ لا يمكن إلا أن تصب في خانة ما هو إنسانيٌّ وما هو مطلق كليٌّ في الإنسان.
لعلَّ سطوة الحق، أو ما يمكن تسميتُه بـ"جبروت الحق"، هو الموضوع الأساس الذي يتشكل عبر جميع قصص هذه المجموعة، أو هو تتشكل به قصصُ المجموعة. فما من واحدةٍ من القصص الواردة فيها إلا وتقود غلى تأكيد فكرة أو مبدأ أن الحق لا بد من أن يتحقق؛ لكن ما يمتاز به حضورث الحق في هذا المجال أنه لا يتحقق بوداعةٍ أو لطف، بل بكل قوة وسطوة وجبروت. إنه، تاليًا، الحق المهيب والمهاب، الحقُّ الذي لا يقبلأن يتجاهل فاعليته أحد، وإذا ما كان من تجاهل فإن هذا الحق لا يمكنه إلا أن يفرض أحقيته بأعتى ما في القوة من بطش وجبروت. ومن هنا، فإن الموضوع الأبرز في جميع قصص هذه المجموعة هو "سطوة الحق عبر جبروت وجوده" أو هو "الحق المرعب"!
السِمات التكوينية للنص الروائي
تقوم أقاصيص المجموعة، بجزأيها، على لغة سرديةٍ تعتمد المباشرة، أكان ذلك بالتقرير أو بالوصف وحتى بالاستخلاص أو بالاستنتاج أو ما يمكن أن يُعرف، تقليديًا، بالعبرة. وهذه المباشرة السردية أعطت الراوي تميُّزًا واضحًا، بل طاغيًا، في النص القصصي، وبات أشخاصُ القصة مجرد حضورس ثانوي لخدمة حضور الراوي الذي لا يفتأ يتحول، في أغلب القصص، إن لم يكن فيها كلها، إلى البطل الحقيقي صاحب القرار النهائي والمحرك الأساسي لمجري كل واحد من الأحداث في النص. فالراوي هو مَن يعرض للحدث ويصف مسرحَه ويشرح خلفياته ويهندسُ أحداثَه ويبرر منطقه. ولمَّا كان حضور "الحق" اساسًا في هذه المجموعة القصصية، ولما كان الراوي هو مهندسُ الأحداث التيت قود إلى تجلي الحق ونفاذ وجوده، فإن "الراوي" و"الحق" باتا وكأنهما يشكلان ثنائيًا موحدًا فيما بينهما؛ فلا يكاد ينماز واحدُهما عن صاحبه، بل هما تكاملٌ مذهل في سطوته على القص.
يتاسس النص، في كل واحدة من أقاصيص المجموعة ، على واقع معيش، وقل أن ينطلق من واقعٍ متخيّل وحتى في الواقع المتخيل الذي يبرز في بعض القصص، فإن محال التخيل يكون في تحديد المكان أو الزمان، وأما ما تبقى من أحداثٍ ومشاعر ينبني عليها النص، فكلها من صلب الواقع الإنساني المعيش والمعروف (أنموذج قصة "الحلم الهابط إلى أرض البشر"). ولعل في هذا البعد الواقعي في النص ما خدم بقوةٍ الجانب الرسالي منه؛ فما من قصة إلى وتحملُ في تضاعيفها رسالةً ما، وما من رسالة إلا وتصبُّ في خانة "جبروت الحق". وهكذا فإنَّ الواقعية التمثيلية، إن جاز التعبير، خدمت غائية النص القصصي في هذه المجموعة.
لئن انطلقت نصوصُ المجموعة من المباشرة الوصفية الصارمة، فإنها استطاعت بهذه المباشرةن أن تصل إلى ما هو رمزيٌّ وإيحائيّ. ومن هنا، فلم تأتِ المباشرةُ لتقتلَ رمزية النص أو إيحائيته، كما هو متعارفٌ عليه من فاعليات المباشرة التعبيرية، بقدر ما قامت لخدمة هذه الرمزية أو الإيحائية. ولعل السر في هذا يكمن في أن مباشرة نصوص المجموعة لم تكن مجرد مباشرةٍ إشارية سطحية، تدل على الموجود بذاته، بقدر ما كانت مباشرةً بنائية عميقة، تدل على ما يشير إليه الموجود وما يحتويه من وجود. إنها مباشرة تستغل إشارتها إلى المحدود، لتصل عبره إلى المطلق والكلي. ومن هنا، فإن ما يرد في نصوص المجموتة من ذِكر لأشخاصٍ وأحداثٍ وانفعالاتٍ ونتائجَ يدلُّ على أمرين في الوقت عينه، أوَّلُهما الحقيقةُ المباشرة للمشار إليه، وثانيهما الحقائقُ الكامنة أو المطلقة، "الرمزية"، التي يكون المشار إليه مجرد مفتاحٍ للولوج إلى رحابها.
صحيحٌ أن القصَّ، تقليديًّا، ينهض على سردٍ ما، أو تصوير، لأحداثٍ يقوم بها اشخاص. أما في هذه المجموعة من القصص فإن القص، وما ينهض عليه، إنما يتشكل بأفكارٍ يصورها بأحداثٍ وأشخاص. فالفكرة هي العمود الفقريُّ للقص في هذه المجموعة، خلافًا للتقليد القائل بأن الحدث وأشخاصه هم قوامُ الفعل السردي. وأفكار المجموعة برمتها تقوم على مبدأ إحقاق الحق، كما يفهمُه الراوي ويعتقد به ويؤمن به ويبشِّر به وهو، في جميع الأحوال، حقٌّ لا يفرضُ وجودَه إلا بقوة هذا الوجود وسلطته بل بجبروته. ولذا فالمجموعةُ عبارةٌ عن قصصٍ فكري يتسربلُ التشخيص لإظهار وجودِه وإبراز تجلياته عبره. إنها، تاليًا، مجموعةٌ تعتمد التشخيصَ الفكري منهجًا لعرض ما ترمي إلى عرضه من مبادئَ وأفكارٍ وقيَمٍ ومُثُل.
إذا ما كان ثمة اعتبار لبعض المقاييس الأرسطية في القص أو الراوية، وضرورة انتهاء القص بحل يسبقُه عقدةٌ تقوم على صراعٍ ما ينشأ عن تمهيد، فإن أقاصيصَ هذه المجموعة بكليتها لا ترتمي إلى في أحضان عدم المصالحة في الحلول. فلا حلٌّ الاَّ ويؤكد انتهاء الصراعية القصصية لصالح طرف "الحق" دون سواه، ولا عقدةٌ إلا وتقوم على خدمة انتهائها بتفوقِ "الحق" وأعلان جبروته، بل لا تمهيدٌ إلا ويؤسس لمسرحِ تجلي سلطةِ الحق وأعلان بطشِه المطلقِ والساحق في وجه كل من يعترضُ وجوده. ولعل في هذا التطرُّف المُمْعِنِ في تطرُّفه لجهةِ طرفٍ واحدٍ وحيدٍ في كل المجموعة هو "الحق"، ما يعطيه فائدةً عمليةً واضحة في تحديد سماتِ كثيرٍ من البناء القصصي فيهاز إنه تطرفٌ في بناية النص القصصي يبني لمجموعةِ قصصٍ تهدف إلى تأكيدِ رسالةٍ واحدةٍ لا غير، هي رسالة "جبروت الحق"، إن جاز مثل هذا التعبير. وتقوم هذه الرسالةُ على مفاهيمَ وقيم لعل ما أبرزها: "أساسية التطهُّر من الدنَس الإنساني" و"ضرورة القصاص والاقتصاص" سبيلاص لهذا التطهُّر. ولعل نظرةً عجلى على أيِّ واحدة من هذه القصص قد تكون من باب الإيضاح التطبيقي في هذا المجال، ولذا، فإن قصة "ساطعًا كالشمس" (الجزء الأول، ص 140 – 144) تفي بالمُراد.
تدورُ القصة حول ملاكٍ أناط به الإلهُن كما يقول راوي القصة، مهمة استقبال ارواحِ من انتهت أعمارهم من "الفُساق الشاذين عن الأوامر الإلهية السامية والنواهي الربانية العادلة". ويذكرُ الراوي أن هذا الملاك كان يُدهشُ من الأعداد الكبيرة الوافدة إليه من هؤلاء الناس الذين برروا أمامه مساراتهم الحياتية السيئة بأنها ناتجة عن عدم قدرتهم في السيطرة على ما أعطاهم الإله من شهوات ورغائب. وهنا، يبدأ البُعد الدراميّ في القصة؛ إذ يطلبُ الملاكُ من الإلهِ أن يُحيلَه إلى إنسانٍ يسري عليه "ما يسري على أبناء آدم،" ليؤكد لهم أنه "بالاستطاعة الامتناعُ عن التلوُّث بالمرأة، والإمساكِ عن وُلوج عالَمِ الشهوة التي تقود إلى عالَمٍ مظلم دُجنتُه أبديةٌ وحلكتُه سرمدية".
ويكون للملاك ما طلبه، فإذا به في دنيا الناس منفلتٌ وراءَ شهوةِ النساء وغريزةِ الشر، مُسببًا الخنى والعار والهلاك حتى لمَن أحسنَ إليه منهم ليموتَ، في نهاية المطاف، "هائمًا شريدًا في أروقة مدينة العذاب الأبديّ، الضاجةِ بالخوف السرمدي"،
تاركًا ذريةً طالحةً في عالم الأرض
"تسطو على النساء، معيدةً تمثيل الأدوارِ التي كان والدُها يُمثلها مع فتيات البشر بعد أن كان يوقعُهنَّ بشراكه التي لم تنجُ منها أيةُ امرأة".
من الواضح أن كلَّ ما في هذه القصة يقوم على أقصى ما في لتطرف في مجاله من آفاق. فالملاك، وهو أوّلُ شخصيةٍ يوردُها الراوي في النص، ينهض في أروع ما يمكن لملاكِ أن يكونَ وأصفى ما يستطيعثه التصويرُ لملاكٍ أن يُقدِّم:
"كان وجهُه ساطعًا كالشمس، متوهجًا كالكواكب، رائعًا يبعث الخشوعَ والورعَ لمشاهدته. وكان رداؤه أشعةً نيرةً تبهر رائيها".
أما الفُسَّاق، كما يذكرُهم الراوي، فهم، أيضًا، في أقصى التطرُّف من مجالات وجودهم؛ إذ هم "أوصلوا أرواحهم، بعد مفارقتها لأجسادهم، غلى عالمٍ تعسٍ تُعشش فيه المنغصات، وتتحكم فيه قسوةٌ بالغة؛ عالَمٍ ليلُه ثقيلٌ مدلهم، ابديُّ الهموم، وشقاؤه لا ينتهي، وفجرُه لا ينبثق، وافاعيه أبديةُ الالتفافِ على أعناق هؤلاءِ الفساقِ مثلما كانوا يتعانقون في دنياهم بطريق الحرام الذي نهى الخالقُ عنه. فضلاً عن لذعاتِ هذه الثعابين المؤلمة كل الألم، ولكن سُمَّها الناقع لا يُميتُ الفُسَّاق، فهم أبدًا أحياء يتعذبون عذابًا هائلاً".
ومن جهة أخرى، فإن الملاك يتحول، عند تلبُّسِه الرداء الإنسانيّ المتْرع بالشهوة الشريرة العارمة، الى شابٍّ في أقصى تطرُّفٍ يُمكن لانسانٍ شرير فاسق أن يكون فيه؛ كما إن مَن يتعاملُ معهم من الناس يتحولون من أقصى ما في الطهرِ من تطرُّفٍ إلى أقصى ما في العُهر من تطرُّف:
"كم م زوجٍ طلق زوجه! وكم من أخ دخل السجن بسبب أعوجاج سلوكِ شقيقته وارتكابها المحرمات مع هذا الشاب الذي عاث فسادًا بالغًا بسطوِه على أعراض المُحصَنات من السناء والفتيات اللواتي كنَّ قبل التقائهنَّ به متمسكاتٍ بشرفهنَّ، ففقدنَ هذا الشرف بعد تعرُّفهنَّ عليه".
إنَّ الرؤيا الرسالية التي تقوم عليها القصة يمكن أن تحدد بأن لا مصالحة على الإطلاق مع حُكمٍ الحق! وقد يمكن وضعُ اعتمادِ الخُطاطةِ التالية لتوضيح هذه الرؤيا ضمن سردياتِ النص القصصي:
لا مصالحة الملاك اقصى الجمال التجربة السقوط اقصى الخنى العقاب المر
مع
حكم الحق الفسَّاق أقصى الخنى العقاب المر
ولذا، فكل ما في السرد القصصي في النص يأتي خادمًا لهذه الرسالة الرؤيوية حول الحق؛ وكل الاحداثِ والشخصيات مسخرة من قبل الراوي، لتقحيق مضون هذه الرسالة وتأطيره.
أما الآفاق الملحمية فتبدو جليةً منذ المقطع الأول للقصة الذي يُظهرُ فيه الراوي ملاكًا جبارًا في طُهرِه وما أعُطيه من قوةٍ في آن، وأثناسًا ممعنون في جبروت غيهم لا يستطيعون منه فكاكًا أبدًا، ونهاياتٍم حتومةً لكل حدثٍ تصبُّ في بحر وجودٍ إنسانيٍّ شاملٍ يتجاوز كل مكانٍ وزمان. وبذا، يحقق الراوي بهذا السرد لأحداثِ القصة انتقالاً صاعقًا مؤكدًا من حدثٍ خاص، مع ملاكٍ وجماعةِ فساقن إلى حدثٍ عام يتناول حقيقة وجود جبروت الحق الإلهي ضد كل مخالفةٍ له، ايًا كان مرتكبها، وأيًّا كانت صفتُه أو بواعثُه ومراميه.
من جهة أُخرى، فإنَّ مَرويَّاتِ النص القصصيّ، ههنا، على ما فيها من إيحاءاتٍ أُسطورةية، تظلُّ حاضرةً ضمن ما هو واقعيٌّ من أشخاصٍ وأحداثٍ وطبيعةِ نتائج. ولا بدَّ، في هذا المجال، من تأكيد الإشارة إلى أنَّ كل اشخاصِ القصة وأحداثها تبقى رهن رواية راوي القصة، بل إنها تفقدُ كل وجودٍ لها خارجَ حضورِ الراوي الذي يحتكر لنفسه فقط حق تحريكِ الأحداث والأشخاص والنتائج. فالراوي هو البطل الرئيسيُّ والحقيقيُّ للقصة، بل لعلَّ لا مبالغة على الإطلاق، في أن هذا هذا الراوي، بالذات، هو إكسيرُ حياةِ النص القصصي ههنا. بيروت في 12/5/2009