الرحلات الداهشيَّة
حول الكرة الأرضيّة
مقدمة
هذه هي رحلةُ الدكتور داهش الخامسة، في سلسلة "الرحلات الداهشية حول الكُرة الأرضية". وهي، الحقيقة، رحلاتٌ ثلاث، في مواقيتَ غير موصولة، من عام واحد. بلغتْ، في تعداد أيامها، شهرًا أو قُرابَه. وشملتْ، على قِصَر زمانها، عَدَدًا غيرَ قليل من الدُّول الآسيوية، والإفريقية، والأوروبية: الشرقية والغربية.
والدكتور داهش، في رحلاته العالمية، ينهجُ نهجًا خاصًّا،
فَيُلِمُّ بمناحٍ شتَّى من بلدِ الرحلة: الاجتماعي منها، والثقافي، والاقتصادي... وهو لا يخرجُ، في هذه الرحلة، عمَّا اختطه لنفسه من نهج. فإذا به يشخصُ إلى المتاحف – هواه الأوَّل – والأمكنةِ الأثرية، والأسواق، والمحالِّ التجاريَّة، وحدائِق الحيوان، والملاهي، والقصور، والجوامع، والكنائس، والقبور، والفنادق الكبرى... يكاد لا يَدَعُ دقيقةً، من رحلته، تذهب هَدْرًا.
ولعلَّ أولَ ما يتسمُ به نهجُ الدكتور داهش، في أَدب الرحلة الدقة: الدقة في توقيت الحركات والسكنات، وسردِ الماجريات – وقد تغلو، فتختلطُ الرحلةُ، عِندَه، أحيانًا، باليوميات؛ والدقةُ في قدر الأشياء وتعدادها؛ والدقة في وصفِ ما تقعُ عليه عيناغه من طبيعةٍ، وبَشَرٍ، وعمران... حتى لتحسب نفسك رفيقه في السفر، والتأمُّل.
وما تلبثُ أن تنفذَ من السرد الذي يقتضيه أدبُ الرحلة إلى صفحاتٍ أدبيةٍ رائعة.
ويتسمُ نهجُ الدكتور داهش، أيضًا، بالموازنة بين ما يشهده في بلد الرحلة وما عايَنهُ في بلدان أخرى. ويغلبُ أن تكون اقتصادية.
وقد يعدوها إلى موازنةٍ "حضارية"، إذا جاز التعبير. وربما قابل مظهرًا راقيًا، في حضارةِ دولةٍ، بمظهر شائن فيها، كأنْ يعجب، في هذه الرحلة، لدولةٍ مثل النمسا كَفَتِ الوافدين إليها مؤونة الخضوع للتفتيش، وسَمحتْ، في الوقت نفسه، بقيامِ ملاهٍ متبذِّلةٍ على أرضها.
ولا تخلو الرحلةُ الداهشيةُ من حوادثَ طريفة تضفي عليها المتعة، والحيوية. منها، ههنا، ما وقع للمؤلف، في أثناء بحثه عن موقع "المتحف الوطني للفنون" في طهران، حتى ليسوغ إدراجُه في باب الأقصوصة؛ على أنه "أقصوصةٌ" تنطوي على غير دلالة!
والرحلةُ الداهشية حافلةٌ بالنقد العابر، والغمز اللطيف، والسُّخرية المُحبَّبة... كأنه ينبِّه المؤلفُ، في خلال الرحلة، إلى نقصٍ في فندق حلَّ به، أو صَغَر حديقةِ الحيوان في طهران بالإضافة إلى عظمتها؛ أو يُحجِمَ عن إصدار الحكم على حشودٍ الناس في بعض شوارع القاهرة، مُعولاً على نباهة القارئ؛ أو يفتش في سجل متحفِ زمبكيان، في بوخارست، عن تقويم أو عبارة إعجابٍ باللغة العربية، فلا يجدُ غير سطر واحدٍ مُبهمِ التوقيع؛ أو يخلص من محاورة "المسيح منومٌ مغناطيسي" إلى القول: "نِعم العصر، ونِعمَ المدرسة، ونِعْمَ الأساتذة العباقرة. عافاهم الله... وليحيَ النظام"... ولك، أيها القارئ، أن تخرج من ذلك كله بما تراه من مَعانٍ وعِبَر...
***
على أن الرحلة الداهشية ليستْ نُقلةً في الجغرافيا، أو في بعض أنحاءِ التاريخ، فحسب؛ ولكنها، أيضًا، سَفَرٌ إلى عالمٍ أبعد وأعجبَ، إلى عالم تصطخبُ فيه شتى المشاعر والخواطر والمطامح... إلى عالم داهش، إلى أعماقِ نفسه. ولعلَّه، في النهاية، الرحلةُ الأجمل!
رحلةٌ تكتشفُ فيها غضبته عند اهتضام حقِّه، وعنادَه في استرداده؛ وَمَبْلغَ تعشُّقِه، بل تقديسه الفنَّ الحقيقيَّ الراقي...وما تلبثُ أن تكتشفَ، أيضًا، أحزانه الغامرة، وغربته الروحية على الأرض الزاخرة بكل ألوان الشرور والشقاء، ورغبته في الانعتاق منها، وحنينه الصَّاهر إلى الموت... وربما ساحَ بك في عوالمَ فردوسيةٍ حافلةٍ بالمُتَع العّذاب.
ولا بدَّ أن يستوقفك، في تلك "الرحلة" الغريبة، سُخْطُهُ المُجَلْجِل الهادر على التردّي الأخلاقيّ المُخيف، المُنْذر بحربٍ ذرِّيَّة لا تُبقي ولا تذَر. وكأنَّ الدكتور داهش ما قامَ برحلاته العالمية إلا ليكونَ شاهدًا لعصره... وشاهدًا عليه، أيضًا!
طوني شعشع
نيويورك، في 8/4/1988
السفرة الأولى
إلى إيران
11 آب 1971
التأهُّبُ للسفرِ إلى إيران
اليومَ هو الحادي عشر من آب عام 1971. لقد غادرتُ القاهرة، بعد ظهر السابع من أيار 1971، أي منذ ثلاثة أشهرٍ وأربعةِ أيام، فيكونُ قد مضى 97 يومًا على نهاية رحلتي السابقة.
نهضتُ صباحَ اليوم من رُقادي. وللفّوْر بادرتُ إلى ترتيب حقائبي، وفحصتُ جوازَ سَفَري، وشاهدتُ التأشيرة التي أخذتُها يوم أمسِ من سفارة إيران، بعد صُعوباتٍ وعرقلات، وحدّْث عنها ولا حَرَج!
وبدأ الإخوةُ والأخواتُ يتوافدونَ إلى منزلي لوداعي.
وما وافَتِ الساعةُ الرابعة حتى كان يحيطُ بي 35 أخًا وأختًا، بينهم الأخ شفيق المقدم الذي وصلَ ليلةَ البارحة من (كانو) بأفريقيا.
وفي الساعة الرابعة والثلث، توجهتُ بسيارة الأخ هادي إلى المطار، وتبعتنا ستُّ سياراتٍ تُقلُّ الإخوة والأخوات.
وصلنا إلى المطار، بعد عشر دقائق، وإذا بعَدد آخر من الإخوة والأخوات في انتظاري. فحييتُ الجميع، ثم أخِذَتْ لنا صُوَرٌ سينمائية وفوتغرافية.
ودَّعتُ الجميع فردًا فردًا، ثم ذهبتُ برفقة الأخوين سليم قمبرجي ونقولا ضاهر المسافرين معي إلى إيران، وهَبطْنا إلى الصالة، يُرافقنا كلٌّ من الأخت أوديت كارَّا والأخويْن غازي شاهين وإيليَّا حجَّار.
في الساعةِ الخامسة والثلث، وكنا قد أنهينا معاملات التأشير على جوازاتِ سفرنا، استدعينا للصعود للصعود إلى الطائرة، وهي طائرةٌ إنكليزَّية نفَّاثة.
فصعدْنا إليها. وفي تمام الساعة الخامسة والنصف، درَجَتْ بنا على أرض المطار، في سَيْرٍ مُعتدِل، ثم انطلقتْ بأقصى سُرعتها؛ وكان دّويُّها يُصدِّعُ الآذان.
وبعد نصف دقيقةٍ من انطلاقها على أقصى مَداها، ارتفعت في الفضاء. وإذا بالمذياع يُعلنُ أنَّ الطائرة متوجهة إلى عبادان الإيرانية، وأنها ستبلُغُها بعد ساعتين، وستسِيرُ بسُرعة 880 كيلومترًا في الساعة، كما أنَّها ستُحلِّقُ على ارتفاع 37 ألف قدم.
وانطلقَ هذا الماردُ الجبَّار يَنهبُ الفضاءَ بسُرعةٍ مُخيفة
نظرتُ إلى أسفَل، فإذا بي أُشاهِدُ البحرُ بزُرقته الفيروزية.
وبعد دقائق، كنا نطيرُ فوق اليابسة؛ وكانت تضاريسُ الصخور تبدو جليَّةً لنظري. واستمرتِ الطائرةُ في الارتفاع، حتى كنتُ أرى المباني وكأنها لُعَبُ أطفالٍ، من هذا العلو الشاهق!
يا لله! في أيِّ عصرٍ نحنُ اليوم! إنه عَصرُ الذرَّة! عصرُ العِلْم! عصرُ انطلاق المارد من قُمقُمه الذي كان سجينًا فيه طوال قُرُون!
في الساعة السابعة إلا رُبعًا، كان الظلامُ قد خيَّمَ على الأرجاء، والتهب الأُفُقُ بلونٍ جَمْريٍّ عجيب، عَلاهُ مُباشرةً لونٌ بُرتقاليٌّ ذو بريقٍ جذَّاب. وكشفتْ أنوارُهُ المتلألئة لونَ السماءِ الزرقاء، فضلاً عن ألوانٍ قُزحيةٍ رائعة؛ فغذا بهذه الألوان تبدُو في الظلام المخيِّم كأنها فردوسٌ عجيبٌ بأنواره السحرية الغريبة!
وقُدِّمَ لنا العشاءُ طعامًا دَسِمًا. وكَسَرتُ بصلةً سعوديةً حملُتها معي لهذه المناسبة، فكانت لذيذة المذاق، رائعةَ الطعم، وقد استمتعنا بها، أنا والأخوان سليم ونقولا.
في عَبَادَان
في تمام الساعة السابعة والنصف، حطت بنا الطائرةُ في عَبادان. وقبل أن نهبطَ، بدتْ لنا المدينةُ من عَلُ، وهي مفروشةُ ببساطٍ عظيم الاتساع من "البرلَنْتِ" المُشِعِّ بأنوارِهِ المُذهلة؛ إذْ كانت عشراتُ الآلاف من المصابيح الكهربائية تملأ سَهلاً يرتدُّ عنه النظر، وهي تتلألأُ بأنوارها العجيبة.
وفورَ هُبوطنا من الطائرة، ذهبنا إلى قاعة الجُمرك؛ ففُحِصتُ حقائُبنا بسُرعة، وأُشِّرَ على جوازاتنا؛ وقد استغرقَ ذلك نصفَ ساعة.
بعدئذٍ، أوصلنا تكسي إلى "عبادان أُوتل"، بعشر دقائق. والفندقُ فَخم، رَدَهاتُهُ فسيحة، وغُرفُهُ مُريحة؛ ولكن أسرتهُ ضيقةٌ ومُتعبة حينَ النوم؛ وهذا نقصٌ يجبُ أن تتلافاهُ إدارةُ الفندق.
كانت الساعةُ تشير إلى الثامنة والنصف، حينما ارتديتُ (بيجامتي) استعدادًا للنوم؛ وبتوقيت بيروت تكونُ الساعةُ العاشرةَ ليلاً.
وقد نَزلَ الأخوان سليم ونقولا في غرفةٍ واحدة، بينما استقلَّيْتُ أنا بغُرفةٍ أخرى. وما لبثتُ أن أويتُ إلى فراشي، طلبًا للنوم، بعد أتعاب النهار الآفل.
12 آب 1971
إلى الأهوازِ أو الجحيم المُتلظية
بعد أن دوَّنتُ حوادثَ الأمس، صباحَ هذا اليوم، وافاني الأخوان سليمٍ ونقولا. فهبطنا إلى قاعة الطعام، وتناولنا الفطور؛ ثم استقلينا تكسيًا إلى المدينة، وكانت الساعةُ التاسعة صباحًا.
وعند وصولنا إلى السوق الرئيسيّ في عبادان، انتقلنا أنا والأخ نقولا ضاهر بتكسي آخر إلى موقفٍ مختصٍّ بنقل المسافرين إلى مدينة الأهواز.
وانطلقت بنا السيارةُ تَنهبُ الأرضَ نهْبًا، بعدما تقاضى منَّا سائقُها 10 تومان عن كلِّ شخص، أيْ ما يُعادِلُ أربَعَ ليراتٍ لبنانيَّة ورُبعَ الليرة تقريبًا.
كان الحرُّ مُميتًا، والهواءُ يَلفَحُ وجهنا كأنَّهُ قطعةٌ من السَّعير المُلتَهِب؛ فأسرعتُ بإغلاق زُجاج النافذة، وأنا أستعيذُ بالله العلي.
وطالت المسافةُ في مَتَاهة هذه الصحراءِ الممتدَّة، واشتدَّ أُوارُ الحرارة الرهيبة، وكأننا في جوفِ أتُّونٍ متَّقدٍ بالنيران المتأججة.
والأنكى أنَّكَ لا تَرى طوال ساعتين كاملتين أي نزلٍ أو مقهى تستطيعُ أن تلجا إليه، لتُبرِّدَ جوفَكَ بزُجاجةِ مُرَطبات، تخفيفًا لِمَا أصابكَ من عَنتٍ وإرهاقٍ هائلين.
وصلنا إلى الأهواز بعد سير ساعتين كاملتين، وكانت الساعةُ قد بلغت الحادية عشرة والنصف، والشمسُ بأشدِّ توهُّجها، وأَرْهبِ تأَجُّججها، فهي تسلقُ المارة بحرارةها غير المحتملة.
وقد جُلْنا في شوارع هذه المدينة، والتعبُ قد أخذَ منا، ونالنا بما يريد. وقد شربتُ زُجاجتي كوكا كولا مثلجتين.
والأهوازُ بُنيتْ متاجرُها تحت قناطر، كي يستطيع السائرُ الاحتماءَ بواسطتها من حرِّ الهجير المُرعب.
وعندما نالنا التعبُ، دَخلنا إلى مطعم، لا لنتناول الطعام
- فالحرُّ الشديدُ يمنعُ الشهية – بل لطلب المُرطبات.
وقد طلبنا من النادِل بطيخًا أصفر؛ فأجابنا أن ليس في المطعم منه. فكلَّفناهُ أن يبتاعَ لنا بطيخةً صفراء؛ ففعل، وقطعها، ووضعها في صحيفةٍ أمامنا، دونَ أن يَضَعَ معها بعض قِطعٍ من الثلج ليُبردها.
تناولناها، فإذا هي بلا حلاوة، فمنظرُها الخارجيُّ الجذاب غيرُ مخبرِها الداخليّ.
إلى عَبَادان
ويا للرِّحلةِ الجَهَنمية!
توجَّهنا بسيارةٍ إلى عبادان، في الساعةِ الواحدة والنصف بعد الظهر. فانطلقتْ بنا بأقصى سُرعتها، وكانت الحرارةُ قد بلغَتْ أقصاها.
وضَعتُ يدي على المقعد الأماميّ، وسحبتُها بسُرعةٍ فائقة، إذْ إنَّني شعرتُ وكأنني قد أمسكتُ بجمرةٍ من النار المُتَّقِد، وذلك لتأثير الشمس في المقعد المغلف بالنابلون. وكان الهواءُ الجهنميُّ يُلفحُ وجهي، فأستعيذُ بالله من حرارتهِ الشيطانية.
وأَيمُ الحقّ، لقد ضاقت أنفاسي، وشعرتُ بخفقانٍ شديدٍ في قلبي. أُريدُ قطرةً من الماء المثلج، لأدفعَ بعضَ ما بي. ساعةٌ كاملةٌ مضتْ، والضيقُ آخذٌ بخناقي.
وفجأةً شاهدنا جمهرةً من السيارات؛ فأوقفَ السائقُ سيارتَهُ، وإذا بكاراجٍ وقد تجمهرَ فيه الناس، وكلهم قد ضاقْت أنفاسُهم لشدَّة الحرارة، فدخلوا إليه. ولحُسن الحظّ، كانَ فيه وعاءٌ كبيرٌ مملوءٌ بالثلج، وتسبحُ فيه زُجاجاتٌ من الكوكاكولا؛ فاختطفتُ زُجاجتين. وشربتهما بشهوةٍ قوية؛ وكذلك فعل الأخ نقولا.
ثمَّ أخذتُ قطعةً كبيرةً من الثلج بيدي، وعُدنا إلى السيارة التي انطلقتْ على مداها تُريدُ الوصولَ إلى عبادان.
كنتُ أُمرِّرُ قطعةَ الثلج على وجهي وعنقي ورأسي وزندي، طوال ربعِ ساعة، ذابَتْ بعدها، ولم يبق لها أيُّ أثَر. وقد نفعتني.