أسرار الآلهة
أملاك أم شيطان
وغادة اقتطفت من الجنة رُمانتين خبأتهما في صدرها الناهد
وعندما زارت الروض سرقت من الوردة الجورية احمرارها
ومن الزنبقة شدة نصوعها وبياضها وازدهارها
ومن الغصن الأملود جمال قده
ومن الياسمين عبقهُ وملاسة خدّه
فأقسمتُ أن أطوي حياتي وأنا عن سواها زاهد
الدكتور داهش
من كتاب "بروق ورعود"
حياتي البائسة
أنى لي أن اصف حياتي البائسة!
إني أشبهها بزورقٍ، صغير، جميل،
يتهادى على صفحة البحر السحيق الغور، البعيد القرار!
***
وفجأة يتكاثف الضباب، وتعصف الرياح،
ويشمل الكون الظلام،
فيضطرب البحر، وتصطخب الأمواج، وتتدافع كالأطواد، وتتلاعب بالزورق المسكين، بغير ما رفق أو لين،
مسيرةً إياهُ غلى غير هدى يرتجيه، أو سلام يبتغيه!
***
فتارةً تراهُ فوق متن موجةٍ مشمخرة هادرة، مزمجرة ثائرة،
وطورًا يهبط معها اللجج متقلبًا خائضًا، فلا تتبينه العين، ومن ثم يطفو... ليعود فيغوص في خضم الأغوار السحيفة!
***
وإذا ما دنت ساعة المنية الرهيبة،
لا تلبث مداعبةُ الأمواج ايّاهُ طويلاً،
حتى تلفظه بعنفٍ وقسوة إلى أحد الصخور الصماء العاتية،
فيتحطم من هول الارتطام شر تحطيم!
ومن ثم يفغر البحر الثائر المهتاج فاهُ
ويبتلعه في طياته الآبدة حيث الجحيم!
***
فما أشبه حياتي بذلك الزورق الصغير المسكين،
الذي حكم عليه القضاء،
بالشقاء، والتلاشي، والفناء!...
القدس، 25 نيسان 1933
الأمل يحدوني للحياة
-1-
غيومُ السماء المتلبدة لا تبقى طويلاً على صفحتها،
بل تبدِّدها ريح الجنوب بعد هبوبها،
فتتلاشى... وكأنها لم تكن!
وتعود السماءُ لزرقتها،
بعد صفائها وتبديد الرياح للغيوم الجائبة في طباق الفضاء،
فتبرز الغزالةُ منيرة جنبات الكون الوسيع،
فتبتهج الأطيار، وتنتقل على أغصان البان،
مرددة أنغامًا لا تملها الأسماع لعذوبتها،
ويمتلئ المارة بالنشاط،
فينشد كل ما يطيب له من الأنغام والألحان...
فابتهجي، يانفسي المنسحقة،
ولا تياسي!
-2-
ها إنني أسير في صحراء مترامية الأطراف محرقة الرمال!
وأنا حافي القدمين،
وليس ما أستر به رأسي من هجير الشمس المحرقة!
وها أنَّ الرمال متكاثفة في طريقي، ولا دليل يهديني!
وها قد ولَّى النهار بالذهاب،
وتوكّأ الليل على عصاهُ مصمّمًا على الإياب!
وها إنَّ أعاصير الطبيعة ابتدأت بالانطلاق،
فهبَّت الرياح تسفي الرمال على وجهي فتؤلمهُ المَ السياط!
وابتدأت أشباحُ الليل حارسةُ الصحراء تخيفني بظهورها،
وتُرعبني بحركاتها الغريبة!
ولكني سيولِّي الليل عما قريب،
وستشرق الغزالة،
كعادتها منذ ملايين السنين!
وعند ذاك فقط سأهدى السبيل!
فابتهجي يا نفسي! ولا تقنطي!
ولا تستسلمي إلى الحزن العميق!
-3-
ولَّى فصلُ الصيف، وتبعهُ الخريف،
وحلَّ الشتاءً القارسُ القاسي،
ولا ما أستْر بهِ جسدي من لباس!
وها اني أهيمُ في الطرقات، ولا من يهمه أمري!
فوالهف نفسي على ما وصلت إليه حالتي من بؤس!
ويا لهولِ تلك الرياح التي تعصف، والرعود التي تقصف!
والبروقِ التي تومض، والأمطار التي تتساقط!
إذ ليس ليس من ملجإٍ أستكين إليه!
ها قد زلت بي قدمي
إلى حفرةٍ ملأى بالمياه الراكدة،
والأوحالُ حولي متراكمة...
ولكن! لن تطول الأيام حتى تصحو السماء،
ولا تعود فتغيم!
وتحنو عليَّ الطبيعة بعد قسوتها،
فتغمرني بحنانها، ومحبتها!
إذن، ابتهجي يا نفسي!
ولا تكتئبي!
ولا تأملي بغير الله!
-4-
ليتني أنام، فلا استيقظ!
فأريح نفسي المثقلة بآلامها...
وليتَ الصباح لا يأتي لعدة سنين!
وليت الأماني التي انشدُها تسمعها الآلهة وتجيبها!
إذ عند ذاك فقط... يهدأ قلبي المهتاج!
ويشرق محياي بنورٍ، سطوعه دائمٌ لا يزول!
وينفرج ثغري عن ابتسامةٍ لا تفارقه!
ولكن آلامي فوق ما أستطيع احتماله...
ومرارة الموت أهونُ علي!َ تجرعها!
وليتها لا تعود!
وليتني أستطيع نسيانها، فلا أذكرها...
ولكن إلهامًا خفيًا ينبئني بأن هذه الآلام ستزول!
وسيعفو أثرها، بعد حين لن يطول!...
إذن، تعزي يا نفسي لهذه البشرى!
وابتهجي!
وإياكِ أن تبتئسي!
وثقي بصدق هذا الإلهام!
-5-
حياتي؟!
سلسلة آلام...
مرتبطة... متكاتفة!
وأشباحُ الأحزان محيطة بي!
وبؤس الحياة؟!
أثقلُ من أن أتحملهُ!
وتذكارُ الأيام السعيدة...
يقضُّ مضجعي!
ولكنّ الأمل
هو خيرُ هادٍ لي في وحدتي!
وخير مؤنسٍ لي في وحشتي!
-6-
وعندما تضيق بي الدنيا على رحبها!
وأشعر بأصابع الحدثان تمتد إليّ لتريحني!
وتثقل عيناي وتقفلان!
ولا تعود أذناي تسمعان!
عندها يتجسم لي الأمل بشكلٍ جميل بهي!!
ويضع البلسم على جراح قلبي المتكاثرة!
وفي تلك اللحظة فقط،
أشعر بالهدوء والاطمئنان!
فابتهجي يا نفسي المنسحقة!
ولا تيأسي!
فالدهور الطويلة قد مضت وتوارت...
وإن قدرت لك السعادة بعد حين... فستأتي!
فبالله يا إكسير الآلهة الساحر!
متى تؤمّلني، وتبهجني بتقريب مدة أوبتي
إلى التي اصطفتها لي الآلهة؟!
ومتى أستطيع لقياها،
لأعزف لها أناشيد هواي،
وأغاريدَ لوعتي وجواي؟!
أوّاه! يا ترياق الآلهة الغير المنظور،
الذي لا تتذوقك غير أرواحنا الظامئة اليك في كل آن!
بشرني أيها الأمل! بشرني!
أَوّاه! ايها السيال المستور!
أيُّها الكامن في كل من بني البشر!
ويا حاملَ آلامهم، وأتعابهم!
يا ابن السماء! ويا رسول الله!
ولولاك!... لما كانت الحياة إلا ظلامًا دامسًا!
ولولاك!.. لما دارتِ الأرضُ!... ولتلاشت!
ولولاكَ!... لاستعرت نيرانُ الجحيم في كلِّ مكان!
أنتَ الينبوع الحيّ!... فأحيني!
إمتزج بي!... وواسِني!...
كي أستطيع أن أتناساها!
حتى تأزفَ ساعةُ لقائي بها!
وإلا.... يُقضى عليَّ!...
أنتَ! أيها الأمل!
احرسني...
القدس، في شهر نيسان 1933