طَلَبُ الإنْعِتاق
أَيَّتها الأَيَّامُ الزاحفةُ عليَّ،
الجارفةُ كلَّ ما يعترضك في سَيْرِك الأَزَليّ،
الواهبةُ الحياة، ثمَّ السالبة إِيَّاها ممن وَهَبْتِها،
المُذْرِّفةُ الدموعَ من المآقي، والباعثةُ الأَحزانَ العميقة،
ثمَّ المانحةُ الطربَ في الأعطاف، والُمُرنِّحةُ الأفئدةَ بالنشوة،
القابضةُ بأَصابعكِ الدهريَّة على ناصية الكائنات،
السائدةُ مدى الأَجيال دون أن تعرفي كلالاً أو ملالاً،
المُشاهدةُ حقارتَنا وصغارتَنا،وحِطَّتنا ووضاعَتنا،
الباسمةُ عندما تنظرين إلى أَهدافنا السخيفة وتمنِّياتِنا العجفاءِ،
يا أُمَّ كلِّ كائن،
أَنبئيني عن يومك الذي ستأْتي فيه ساعتي الأَخيرة،
فقد أَصبحت روحي قَلِقَة حائرة في عالم الدنيا المُظلم،
وذبلتْ نفسي، إِذْ عافت مَرئيَّات هذه الدنيَّة القاتمة.
أَنظرُ إِلى كياني فأَجدني غريباً عن هذا العالم البعيد عن أهدافي.
أَسير في صحرائه منفرداً دون أن يكون لي رفيق
يشعرُ ما أَشعرُ به ويُحسُّ ما أُحسُّه في هذا الكون.
أُوَّاه! ليس ما يُطربني، وليس ما يُبهجني.
كلُّ ما أَراه يبعث في أَعماقي كآبةً خرساءَ قاتلة.
فالطبيعةُ تبدو أَمامي عابسة غضوباً!
والأَزهارُ أراها ذابلة تتساقطُ أَوراقها بمرارة عجيبة!
وصَدْحُ الأَطيار يصل إلى أُذُنَيَّ وكأَنَّه عويلُ المُعذَّبين في الهاوية الرهيبة!
والليلُ والنهارُ أراهما كمهزلةٍ مسرحيَّة،
ولكنْ طال عليها الستارُ دون أن تَسدلَه يدُ القدر العاتية!
والسعادةُ الوهميَّة تزورني لحظةً لأَعود فأَفقدها أبداً!
للهِ! شَدَّ ما بتُّ أَضرعُ إلى الله جلتْ قدرتُه
أَنْ يأْمر ويردَّني إليه،
وإذ ذاك تطربُ روحي المُعذَّبة،
وتبتهجُ نفسي الحزينة.
بيروت مساء 21 آب1944
أخجلُ أن أكونَ عربيَّاً
وانتمائي للعرب والعروبة مَحال
ما سأعلنه الآن , رهيبٌ للغاية, ومؤسفٌ الأسف كلّه. في نيويورك وبقية ولايات أمريكا ال49, أربعة ملايين عربيّ يعيشون في ربوع هذه القارة الشاسعة.
وقد أردتُ أن أطبع كتاباً عربيَّاً من مؤلَّفاتي, وبحثتُ عن مطبعة عربيَّة أستطيع أن أطبع فيها كتبي, عُدّتُ بصفة المغبون, اذ لم أعثر على مطبعة عربيَّة يمكنها طبع كتابٍ عربيّ.
أربعة ملايين عربي في أميركا ومع هذا لا يوجد, في طول البلاد وعرضها , مكتبةً واحدة تُباع فيها الكتب العربيَّة, أو مطبعة مُختصَّة بطبعِ الكُتب بلغة الضَّاد.
أنَّ هذه الحقيقة مُخيفة , وهي لطخةُ عارٍ تدمغ العرب والعروبة والعربيَّة.
من المُخجل أن يكون الجهل ضارباً أطنابه ومتمركزاً بقضِّه وقضيضه, وضارباً سرادقه على هذه الملايين الأربعة. انَّ هذه الحقيقة مُخجلة ومُعيبة, ومُحطَّة بالعرب والعروبة, فهي تدمغها بخاتم الجهل المُطبق, والأميَّة البادية للعيَّان, في عصر العلم والنور والأختراعات, وفي القرن
العشرين, فيا للعار العظيم, ويا للخجل المُهين, ويا للحقارة العُظمى !!
الجالية اليابانيَّة أسَّست مكتبات لا تباع فيها سوى الكتُب اليابانيَّة التي تبحث في الأدب والفن والشعر والفلسفة والأجتماع والحرب والسلم والصناعة والزراعة والقانون الخ الخ ...
وكذلك الجاليات الصينيَّة والفرنسيَّة والأيطاليَّة والأسبانيَّة والهنديَّة الخ الخ ...
جميع هذه الجاليات لديها صحفها التي تصدر بلغاتها, ومكتباتها عامرة بأنفي الكُتب المُتعدِّدة المواضيع.
فقط الجالية العربيَّة لا يوجد لديها أيَّة مكتبة, فهي والحالة هذه مثار السخرية من جميع الجاليَّات , حتى ومن الشعب الأمريكي المضياف نفسه.
بأسفٍ عظيم أذكر هذا الأمر, فالحقيقة يجب أنْ تُقال, والحقُّ أحقَّ أنْ يُتبع.
سألت كثيراً وبحثتُ كثيراً , واتَّصلتُ بمراجع رسميَّة, وبمؤسَّسات عديدة, سائلاً مُنقِّباً عن مكتبةٍ ما مُختصَّة ببيع الكُتب العربيَّة, ولكن ام أفز بطائل, وعُدْتُ بصفقة المغبون..
وبعد اللتيا والتي قيل لي يمكنُك العثور على مكتبةٍ عربيَّة ببروكلين, اذ يوجد فيها جالية عربية كُبرى, وشددتُ الرحال اليها, وفلحتها فلحاً لأعثر على هذه المكتبة المزعومة. وبعد مجهودٍ شاقّ وجدتُ حُطام دكَّان , وفيها بعض أعداد من الصُّحف التي تقادم عليها العهد, وبعض الكُتب التافهة, وهي تُعدُّ على أصابع اليد, وقد حُشِرت بين أكياس الحبوب كالعدس والأرز والذرة والحمُّص والفول, وقد أُصيبت برشاش الزيوت, فالدكَّان هي دكَّان سمانة.
هذا ما استطعت العثور عليه بعد تنقيب عام ونصف العام. فها أُلام اذا ناديت بالويل والثبور وعظائم الأمور؟ انَّ الصُّحف العربيَّة في الشرق تنشر في صفحاتها الأولى, وبالخطّ العريض الملفت للأنظار قائلةً:
انَّ العرب هم من علَّم الغرب الأدب والفنون, والعرب هم من أيقظ الأمَّم الغربيَّة من غفلة الجهل المُطبق, فلولا العرب لم تظهر ثقافة غربيَّة, ولبقيت في عالم النسيان الخ الخ ...
هذا التبجُّح ما هو الاَّ للأستهلاك المحلّي, فالعرب عامهون في عوالم الجها المُطبق, غارقون في دياميس مُظلمة, لا يدخلها بصيص من نور ليبدِّدَ جهالتهم, ومع هذا مزَّقوا آذان السماء بادعاءاتهم الوهميَّة الصارخة.
وأُعطيِتُ عنوان رجلٍ اسمه الدكتور شوريز, وهو عراقي ويصدر جريدة الأصلاح بنيويورك. وقيل لي انَّه كاهن, وهو مُقيمٌ في نيويورك منذُ عام 1934, فاتَّصلتُ به تليفونياً , وسألته اذا كان بالأمكان طبع كتابٍ عربي بمطبعته, فأجابني بأنَّه يُحرِّر جريدته مستعيناً بصحفٍ عربيَّة ينقل عنها ما يروقه من أخبار, وجريدته تصدر في مطلع كلّ شهرٍ, وهو بمفرده يصفَّ أحرفها , ويبوّبها , ويستغرق عمله شهراً كاملاً تصدر بنهايته.
مساكين العرب بأمريكا, وتعيسة الجاليات العربية العامهة بجهالة القرون السحيقة بقِدمِها.
تالله, ألا يوجد بين الملايين الأربعة من يهمَّه مُطالعة الكُتب وأقتناؤها, وهل أجدبت ألأمَّة العربيَّة لهذا الحدّ المُخجل, والمؤسف معاً؟!
انَّ المُصيبة كبرى, والبليَّة عُظمى, والطَّامة شاملة عامَّة.
لهذا يؤسفني أنْ أقول دونما خجلٍ أو وجلٍ بأنَّني من العار أنْ أكونَ عربيَّاً.
ملاحظة: اذا قال بعض القرَّاء بأنَّه توجد صُحفٌ عربيَّة في المهجر, فهي صُحفٌ تعيسة تعيش على هامش الحياة, وهي تحتضر . وقد لاقى العديد منها حتفه رغمَ أنفه, اذ لا يوجد قرَّاء يعينونها على البقاء حيَّة, فاندبوها.
نيويورك, الساعة 8 الاَّ ربعاً من صباح
9\12\1977
رسولة الله
يا فاتنة الآلهة،
ومثيرة الغيرة في قلب فينوس الصناع!
أيتها المُذلّة لجبابرة الأولمب!
يا من وهبك الخالق جمالاً خلاباً يصعق القلوب!
أيتها المغناج الفردوسية المحاسن!
إن بهاءك لا يضارعه بهاء،
ورواءك يُذهل عقول الفلاسفة والحكماء.
إنني أحني هامتي أمام مفاتنك،
وأخضع لقوة تأثيرك المُطلق،
وأجثو مطأطئاً رأسي لعظمتك،
أنت يا من أحيا لأجلك،
وأموت في سبيلك،
يا رسولة الخالق للخلائق!
لأنك روح الحقّ الازليّ!
الولايات المتحدة الأميركية
الساعة 10 وربع من ليل
28/12/1977