برُوقٌ ورُعود
ضراعة
ربي...قوِّني واهدني و سدّد خطواتي نحو الفضيلة
إنزع من اعماقي الميول الوضيعة الدنيئة
و لا تدعني أسير الشهوات الدنيوية
نقِّ قلبي يا الله، و طهّر روحي، ودعني أسمو بنفسي الكئيبة
أقل عثرتي ، و لا تدعني فريسة للذنوب الرهيبة
طهّرني يا الله، ودعني اتفيأ جنانك الظليلة
داهش
صعاليك
عجبتُ لأولئك الأذلاّءِ الرَّعاديد الخاضعين الخانعين أمام حثالات البشر ونفايات الدُّنيا وزعانف المستنقعات ، أولئك الوُصُوليِّينَ الذين قادتْهُم الأقدار للجلوس على أرائك الأحكام وهم مهازلُ الأيَّام . أمَّا أنا ، فإنَّني أشمَخُ بأنفي على أنوفهم المُعفّرة ، وقريباً سأدعهم يتذلَّلون أمام قدميَّ وهم يطلبون منّي المغفرة لأنني لم أُبعثْ لأطيع بل لأطاع .
نعم لقد أُرسلتُ كي أُحَكِّمَ سيفي في رقابِ أعدائي الأنذال ، وسأنتقم منهم شدَّ انتقام ، بلا هوادةٍ ولا كلال ، ممَّا ستتحدَّثُ عنه الدُّنيا على توالي الأيام وكرُورِ الآجال .
المؤلِّف
مقدمة الكتاب في ترجمته الانكليزيّة
هذا الكتاب الفذّ " بروق ورعود " يتألف من مجموعة من المقطوعات الشعريّة الطّريفة المُترجمة عن العربية . وهي تعرض بلغةٍ حيّةٍ مشوِّقةٍ حدثان الحياة وقصّة تقلّباتها الغريبة ، وتصف بعباراتِ متوهِّجةٍ أفراح الهوى المُثيرة ، وأتراح الحبِّ الخائب .
وفي جميع المقطوعات تغزُرُ الصور الرّمزيّة والمجازيّة التي قد لا يروق بعضها جميع فئات القُرَّاء ، ولكنها مع ذلك تمتلك جاذبية هي نسيج وحدها ؛ وإنّها لجاذبيّة تبدو حيناً عذبةُ رقيقةً ، وحيناً آخر عنيفةً صاعقة .
ولو عانى أي انسان من المحن والتجارب ما عاناه مؤلِّف الكتاب الدكتور داهش ، حسبما يصف ذلك بإبداعٍ في مصنَّفهِ ، فإنَّه من العجبِ حقاً للمترجم أن يتصوّر ذلك الإنسان قد استطاع أن يجتاز محنتهُ بسلامة !
وقد يُدهشُ مُعظم قرّاء الانكليزيّة من جراء الطِّباع الشّرقية التي بوسع أصحابها أن يصمدوا بوجه الفواجع المزلزلة التي تضرب عواطفهم ، ويبقوا رغم ذلك قادرين على الاستمرار في الكتابة .
وتنتظم كتاب " بروق ورعود " حركةٌ وجدانيةٌ بارزةٌ في قوّتها ، مؤسية بسياق وقائعها ، خارقةٌ بمباهجها العارمة . والمؤلّف مُشبع بالأوصاف الدقيقة للملذات ، ومُفعم بثروةٍ من الألفاظ التي تصوِّر شرور المدنيّة الحاضرة ورياءها .
والكتاب ، في الواقع ، روايةٌ صادقةٌ لتجارب المؤلّف في الحياة . ولو كابد غيره ما كابد من صدود الحبّ الذي هو أقوى من الموت لكان فقد اتزانه العقلي ، وهُدِّد بأن يصبح ضجيج تارّمس الصّامت.
وهذا المُصنّف بليغ بصياغته الشّعرية ؛ ومعانيه تنبسط من أعمق أغوار اليأس الى أرقى عوالم السعادة والمجد . وبينما يقف المؤلف لحظاتٍ على مشارف الغبطة ، يعود ليغوصَ في بحر الكآبة السوداء ومرارة الشقاء ! وهو يتناول بوصفه مُجمل مفاسد البشر ، ورياء رجال الدّين المعاصرين المطبق المنكر ، لكنّه يحاكي ويمجِّدُ ربَات الجمال والمفاتن الأخّاذة بنشوةٍ عظمى .
ولا يدخلنَّ في بال القارئ أنَّ المؤلِّف قد اقتبس أيّة فكرة من سواه . فموضوعات الكتاب جميعها من إلهام الدكتور داهش . وهي مزيج من التأملات والوقائع المُثيرة المشوقة والمأساوية العنيفة . ونظرات المؤلف في الحياة مكتنفة ، أحياناً ، بإيقاعات حزينة ، وأحياناً أخرى، مغمورة بنشواتٍ من الغبطة . وسبب ذلك لا بدّ أن يكون حبّاً مُخيّباً ، تركتْ ثمارهُ في فم ذائقها مرارةً بعد حلاوة . وهكذا امتزجت الحسرات الباقيات بالآمال المُضيئة ، وتساوقت في الكتاب بصدقٍ عميقٍ سيجعل قلوب القرّاء ترتعش انفعالاً وتأثُّراً !
قال سليمان الحكيم : " الحبُّ قويٌّ كالموت ... مياهٌ كثيرةٌ لا تستطيع أن تروي ظمأ الحبّ ، ولا الفيضاناتُ يمكنها أن تغرقه . وإذا أراد امرؤٌ أن يهبَ كلُّ ثروة بيته لقاءَ الحبّ ، فإنّه يُحتقرُ احتقاراً. " هذه الحقيقة البديهية المشّعة كالماسة الصّافية تبقى صامدةً كواقعٍ أكَّدَتْهُ التّجارب والاختبارات الشخصية حسبما عبّر عنها أحكمُ إنسانٍ في العالم . وعلينا ألاَّ ننسى " أن سليمان كان له سبع مئةِ امرأةٍ وثلاثُ مئةِ سرِيَّة ، وأن نساءَهُ أملْنَ قلبه ! " ( سفر الملوك الأول ، الإصحاح 3:11 ) .
وحدها الآدابُ الإنسانية السَّمْحةُ يمكنها أن تقيمَ الجسر بين الشرق والغرب ،إذْ إنَّ الحقائق الخالدة يقبلها الجميع بدون طلاءٍ ولا ازدراء . وهذا الجسر الواصل ما زال ممكناً أن يقام ، رغم وقائع الماضي المحزنة، ورغم رأي كيلنغ القديم المعروف : " الشرق ُ هو الشرق ، والغربُ هو الغرب! والاثنان لن يجتمعا أبداً "
لكنّ الايقاع والحبّ الجريئين ما زالت لهما الزّعامة في عالم المشاعر والمغامرات البشرية . وبهما قد اندمج الشرق والغرب !
أخيراً ، لا بدَّ من الإشارة إلى أنَّ الإبداع الأدبي المتجلِّي في الكتاب لم يوف كلّ حقِّه في عملية التَّرجمة ، نظراً لاختلاف الاصطلاحات في اللغتين . زدْ إلى ذلك صعوبةً أخرى ناتجةً عن المُغالاة المُذهلة في استخدام التّشابيه والصور ، والتي تناسب الكتابة الشّعريّة الشّرقية ، وكذلك استحالة نقل الإيقاع والتسجيع العربيّين الى ما يماثلهما في الانكليزية .
يوسف مالك
مقدمة
هي بروقٌ نفسية ورعودٌ كلامية حاولت فيها شرح ما أشعر وأحسُّ به في مختلف شؤون هذه الحياة بصورةٍ مُوجزةٍ لا تتعدَّى السُّطور السِّتة لكلِّ قطعةٍ منها .
ومن يطالع الكتاب يظنَّني قد غلوت في بعض الآراء والمواضيع التي يحتويها . ولكنَّني أصارحه القول أن ما كتبته قد كتبته عن اعتقادٍ ويقينٍ صادقين ، وبالأخصِّ في ما يتعلق برجال الدين وبالعدالة والمال وبالمرأة وبكثيرٍ غيرها ممَّا له صلة بحياة الإنسان على هذه الأرض السَّقيمة .
هذا رأيي أُعلنه على رؤوس الأشهاد غير هيَّابٍ ولا وجلٍ من نقد النّاقدين وألسنة المُتخرِّصين المتطاولين والسَّلام .
بيروت ، شباط 1943
الدّكتور داهش
أطلالٌ وظلال
أين أحلام الشّباب الرّائعة ؟
وأين ثمارُ الصِّبا اليانعة ؟
وأين باقاتُ ورودي العطرة ؟
وأين آمالي العذبةُ النَّضرة ؟
سألتُ القدر العاتي : " زهرةُ عمري أين صارتْ ؟ "
أجابني ساخراً هازلاً : " أسفي عليها ، ذبُلتْ وتوارتْ . "
حسرة
لَهْفَ نفسي على الشباب يهوي كالشُّهُب !
يمضي ... وكأنَّه البرقُ قد وَمَضَ !
يا له من حلمٍ جميل راودني ثمَّ مضى !
يا لبردة الشبّاب القشيبة وقد غابتْ !
يا لأناقتها الفتَّانة وقد ذابتْ !
لقد مرَّتْ وتلاشتْ كتلاشي السُّحُب ! ...
تفاهة الحياة
ويلي من حياةٍ أراها عبئاً ثقيلاً !
وَوَيحي من الدُّنيا بما فيها من أرضٍ وسماء !
وكذلك البشرُ فإنّهم في حقيقتهم أدنياء
بل قلْ : إنّهم أفكة مُراؤون
بلْ قلْ : إنّهم أثمةُ مُداجون
رحماكَ ربّي ... أبعدهم عني ، ولا تدعني ذليلا !
لوعة
أيتها الشمس ، ابزغي واملإي البطاح نوراً ساطعاً
وابعثي النشاط في قلوب الكسالى السكارى
وارقبي من أعاليك أعمال أولئك المساكين الحيارى
ثم أرسلي خيوطك الذّهبية على جدث فيه سرٌّ رهيب
فهناك ترقد الصّبيّةُ التي علا منّي لأجلها النّحيب
إذْ إنَّ الموتَ احتفظ بها وأقام بيننا بُعداً شاسعاً !
ليتني
ليتني كالطّير الشادي على أفنان الشجرْ
في فجر شبابٍ زاهٍ يُتَوِّجُهُ الزَّهر !
ليتني كالأثير الرقيق يعبثُ بالقمرْ
صاعداً هابطاً في دعابةٍ وسمرْ
غائصاً في اليمِّ ... حيثُ أبلُغُ أغلى الدُّررْ
باقياً حتّى النِّهاية حيثُ لا يحيا الكدرْ ! ...
ذئابٌ مفترسة
رجالُ الدّين أبالسةُ الدّنيا ، بل وقودُ الجحيم في العالم الثاني !
إنّهم كذبةٌ مُراؤون ، بل أثمةٌ مُداجون
يدَّعون أنّهم لِخُطُوات السّيّد المسيح يترسّمون
وخُطُواتُه الطّاهرة بريئةٌ من أضاليلهم المُنكرة
هم يقطنونَ القُصُور الشامخة يُسمُّونها " أديرة "
ولم يكن لفاديهم مكانٌ ليُسنِدَ إليه رأسَهُ في العالم الفاني !
العدالة الموْءُودة
يا أعواد المشانق ، كم لك من ضحايا بريئة شريفة !
وكم من أثمةٍ لم يتأرجحوا بحبالك القويّة !
ولؤماء لم تطلهمْ يدُ الأحكام العدليّة !
إنَّ دموع الآباء والأبناءِ تشُقُّ الفضاء
وصرخاتهم العميقة تخترقُ السّحاب فالسّماء
لا كنتِ يا أحكام ! وتباً لك أيتّها القوانين السّخيفة !
فناء
ها إنَّ الأعوام الزّاحفة الهاربة مرَّ أمامي موكبُها
والحلمُ الذي كان يُراودُ نفسي قد اضمحلَّ
ونجْمُ أملي الذي كان يُحبِّبُ إليَّ الحياة قد أَفل
وهذا الشباب الجميل الطّروب قد عفت آثارُه
وشبحُ المشيب الرهيب قد بدتْ أخبارُه
ربّاهُ !... وهل بعد هذا من أمنيةٍ سوى المنيّة ترقُبُني وأرقُبُها ؟
كافرة
هي شعرةٌ بيضاء لمحتها ، فاضطربت لها روحي وارتعش رأسي !
رأيتها بغتةً ، فتملّكني الجزعُ ، وطارت نفسي شعاعا !
يا رسولة الشؤمِ ، ومُثيرة كوامني حزناً والتياعا
قبحاً لكِ ! أنت تهبطين علينا وأنفُ الدّهر راغم
ولا نستطيعُ ، يا رمز الكفن ، اقتلاع جذورك من هذه المعالم
لله ! كم لك من أخواتٍ هبطْن عليَّ ، فوهتْ قواي وتقطّعت أمراسي !
رسولاتُ الغواية
المرأة الجميلة التي رأتها عيناي هي كانت فتنتي
بحثتُ عنها كثيراً ، فامتلكتُها ، ولم يكن في غيرها غبطتي
نساءٌ كثيراتٌ من مختلف الأعمار على وجه هذه البريّة
من شتّى الأجناس والمهن ، ومن مختلف الشعوب البشريّة
لقد خضتُ بحارهُنَّ ، فتاهَ رُشدي ، وضاعت حيلتي
وفي النهاية ، وقد دنا المشيبُ ، عرفتُ خطإي بجعلهنَّ قِبلَتي ومُنيتي