أناشيدي
نشيد الأدهار
أيتها الغابات ردِّدي معي صدى أيامي على هذه الأوتار !
ويا أيتها البحار اسكتيني واسمعي ضربات قلبي المُنهار !
وأنت يا قفار... حتام لا يقرُ لروحي فوقك قرار ؟
وأنت أيتها الجنود والأغوار أصدقيني متى تحين ساعة الإنتصار ؟
وأنت يا زمان ! ... ردّد معي أناشيد الطموح والمجد والفخار
ويا جبابرة العناصر الرهيبة... إلى م أتأرجح بين ذراعي الأقدار ؟
داهش
أدب الحقيقة
بقلم الدكتور فوزي برجاس
إذا كان الأدب صورة عن الكاتب وانعكاسا لذاته ، فان الصفحات التي تحبِرها يراعة الأديب إنما هي تجسيد لخلجات نفسه وخفاياها، وأفق ترتسم فوقه طموحاتها واتجاهاتها. فلئن غيّب الثرى وجه ذلك الكاتب ، فإنه لن يقوى على صورته الملتصقة دوما بأدبه. حتى وإن جهلت المجتمعات حقيقة المُفكرين أو اضطهدتهم وهم على قيد الحياة، فإنَ هؤلاء المُفكرين قد عاشوا وخلدوا بسموً أفكارهم وكتاباتهم في ضمائر الأجيال اللاحقة.
والدكتور داهش هو المثل لتلك الحقيقة. بل إنَه المثل لمن شقَ الطريق الى المجد والخلود وهو بعد في الحياة رغم الاضطهاد ورغم الظلم الأرعن الذي أصابه، ورغم ما فاضت به نفسه الثائرة من فكر لا تتناول مجتمعا بشريا ضيقاً محدوداً ، وإنَما تهدف إلى تهديم الأسس المزيفة التي قام عليها المجتمع الإنساني بأكمله لتعلي على أنقاضها بنيان الحضارة الحقة على أسس من القيم الروحية الخالدة.
وأدب الدكتور داهش لا يعطي صورة واحدة لشخصيته، وإنما يعكس عنها مجموعة من الصور الرائعة المختلفة بوضعيتها وألوانها، والمتحدة لإبراز الصورة المُتكاملة للرجل الفذِ الذي شقّ دربا جديدة للحياة.
فالسبيل الى غزلياته يمر عبر حدائق وفراديس إلهية أبدعتها مخيلته الخصبة، فيظهر الدكتور داهش هناك وسط تلك الجنان وقد استحالت الطبيعة بأشجارها وأزهارها، وأثمارها واطيارها، ومروجها وغيطانها مرتعا لذلك الحب الغريب العجيب. ثم تهبط آلهة الأولمب وتطفر حريات النعيم فوق التلال الحالمة فيغدو ذلك الحب عرسا إلهياً يرعاه كيوبيد إله العاشقين ، وتسكب فيه خمرة السعادة الإلهية.
وحين تقرأ وصفة للطبيعة ، فإنك ترى من خلاله صورة رجل مبدع ينسج من خيوط فكره الخلاق بردة حيَةَ يلقيها فوق عناصر الطبيعة، فاذاها كائنات عاقلة مدركة. فالشلالات العظيمة تردد أنشودة الخلاق العظيم، والصحارى الشاسعة تسبح الله وتخشع لمهابته، والغيوم تتحول الى اجنحة أثيرية تحمل الانسان من عالم التعاسة والشقاء الى عوالم بعيدة سعيدة.
وفي فيض نفسه المثقلة بثمار الحكمة تنبجس ينابيع كوثرية غنية بماء الحياة تكفي لأن تروي ظمأ الأجيال المتعطشة الى نور الحقيقة المفقودة، وتقلب مفاهيم الحياة والموت، والسعادة والشقاء، والحب والبغض، وغيرها من الأسرار رأسا على عقب. ويظهر الدكتور داهش، وهو بعد في طراوة الشباب، أعظم من خبر طينة البشر، وغاص في أعماق الحياة ليقتلع جذورها الراسخة في مهاوي المادة، ويزرعها من جديد في تربة الروح النقيّة.
كما تبرز في معظم مراحل أدبه صورة المؤمن العظيم بعدالة السماء، والمتيقِن من تنفيذ أحكامها وإن عبر تقمصات عديدة تخضع لقوانينها جميع الكائنات. فتراه عبر قصصه ووجدانياته، وعبر جحيمه ونعيمه ومراثيه معلماً لأحكام تلك العدالة ونذيراً بالمسؤولية الروحية المترتبة على مفاسد البشر وشرورهم.
لكن الصورة الألصق بشخصية الدكتور داهش وبنفسيته وبأدبه هي تلك التي رافقته في جميع مراحل حياته ، والتي يطل فيها على مواكب الأجيال والأمم إطلالة الشاهد على مسيرتها. فمن خلال نظّراته السوداء يرى حياة الأرض أشدَ قتاماً من سواد الليل، وأنّ حياة البشر مترعة بالآثام الجسام ، مترعرعة في تربة الإفك المرذول، ولا تنمو إلا على سماد البهتان والزور. وإذا الأرض في نظره دار شقاء وبلاء وجهالة لا تعرف ظلاً للحقيقة ولا يزورها طيف السعادة، بل إنه يرى فيها جحيماً متلظياً يكتوي البشر بآلامه.
ولأجل ذلك، يلعن الدكتور داهش الساعة التي فتح فيها عينيه على أرض الشقاء ، ولا يمنح ثقته لأي مخلوق تظلله ذكاء؛ وإنما يتجه بكلّيته نحو السماء ، نحو العوالم العلوية السعيدة، نحو النجوم والكواكب المغمورة بالنور والبهاء ، آملاً أن يجوس ربوعها، ويتنعّم بأنوارها.
ويروح الدكتور داهش في فيضٍ من أناشيده يرفع كفيه الى الله مصدر قوته كي يقيه عثرات الحياة ويقصّر حياته الأرضية ويعيده إلى جناته السرمدية. كما يرسل ضراعاته الى حبيبه الموت الذي لم يعد في نظره مصدر التعاسة بل الحبيب الوحيد والسمير الفريد ورسول الرحمة والخلاص، راجياً منه أن يجتثّ نبضات قلبه ويحلق به نحو عوالم أخرى مجهولة.
إنَ هذه الأناشيد هي صورة عجيبة لرجل غريب عجيب، غريب في حياته وأفكاره، غريب في مطامحه واتجاهاته؛ وهل كان العباقرة الأفذاذ إلا غرباء يعبرون وادي الحياة ويطلقون فيه صيحاتهم لتحفظها الأجيال وتردد أصداءها ألسنة الدهور ؟!
فوزي برجاس
الولايات المتحدة الأمريكية
في 26 – 12 – 1982
حياتي البائسة
أنّى لي أن أصف حياتي البائسة !
إني أشّبهها بزورق ، صغير ، جميل ،
يتهادى على صفحة البحر السحيق الغور ، البعيد القرار !
وفجأةً يتكاثف الضباب ، وتعصف الرياح ،
ويشمل الكون الظلام ،
فيضطرب البحر ، وتصطخب الأمواج ، وتتدافع كالأطواد ،
وتتلاعب بالزورق المسكين ، بغير ما رفقٍ أو لين ،
مُسيِرةً الى غير ما هدىً يرتجيه ، أو سلامٍ يبتغيه !
فتارةً تراه فوق متن موجةٍ مشمخرةٍ هادرة ، مزمجرةٍ ثائرة ،
وطوراً يهبط معها اللُجج متقلباً خائضاً ، فلا تتبيَنُهُ العين ،
ومن ثم يطفو ... ليعود فيغوص في أغوار الخضمِ السحيقة !
وإذا ما دنتْ ساعة المنيَة الرهيبة ،
لا تلبث مداعبة الأمواج إياه طويلاً ،
حتى تلفظه بعنفٍ وقسوةٍ الى أحد الصخور الصماء العاتية ،
فيتحطم من هول الإرتطام شرَ تحطيم !
ومن ثم يفغر البحر الثائر المهتاج فاه ،
ويبتلعهُ في طيَاته الآبدة حيث الجحيم !
فما أشبه حياتي بذلك الزورق الصغير المسكين ،
الذي حكم عليه القضاء ،
بالشقاء ، والتلاشي ، والفناء ! ..
القدس ، 25 نيسان 1933
العالم الفاني
كلُ ما في الكون يسير الى التلاشي ،
والفناء ، والعدم !
فالأطيار الصادحة التي طالما شدتْ مبتهجة !
والأزاهير التي كانت تكلِلُ هامة المروج ،
مختالةً بألوانها الزاهية ،
معبٍقة بأريجها الفواح ،
وهي تترنَح تيهاً وخيلاء ،
من تأثير مُداعبة النسيم العليل لها !
والشمس المُرسلة وهجها المُحيي
إلى جميع قاطني الأرض من إنسان وحيوان ! ..
والجداول ذات الأنغام الموسيقية المتناسقة !
والأنهار العظيمة وهي تهدر بجلال ،
بينما مياهها تسير مُسرعة ،
مُخترقة الآجام والغابات ، وهي تلتطم بالحصى !
والخضمُ العظيم ،
مبتلع عشرات الآلاف والملايين
من بني البشر المساكين !
والغابات في أدواحها الباسقة !
والسهول الموغلة في الإنبساط والاتساع !
والجبال الذاهبة صعودا في عرض الفضاء !
والأرض ...
بما حوتْ من إنسان وحيوان ،
وهوامَ ، وأزهارٍ ، وأطيار ،
وكلٍ ما تزخر به
من كلٍ ذي نسمة وحياة ...
سيكون نصيبها الأفول والفناء ،
والتلاشي والعفاء !...
فما أشقاك ... أيُها الإنسان !...
بئر السبع ، في 6 كانون الأول 1933
يا نفسي
لا تدعي غرور الحياة ومباهجها الزائفة ،
وأطايبها السريعة الأفول ... تتملَكُك ! ...
وإذا لم تستطيعي لها ردعاً ...
_ ساعتذاك _ إعرضي في مخيلتك :
كم من ملايين البشر طواهم العدم ،
فأصبحوا في خبر كان ... لا نعرف عنهم شيئاً !
وذلك منذ عهد السيد المسيح .
كم من ملوك ذهبوا !
كم من قواد فنوا !
كم من عروش قوّضت !
كم من نجوم هوتْ !
كم من حسناء ذوتْ !
كم من شعوب قد بادتْ !
كم من عصورٍ قد توارتْ !
كم من آجالٍ قد انقضتْ !
وكم منها سيمضي بعد أن يأتي ؟!...
إذن لم هذا العُجْبُ بالنفس والغطرسةُ الكاذبة ؟
ولم تشمخُ بأنفك ؟
أيُها القائد المعجب بجنودك البواسل المتراصّين كالبنيان !
لا تشمخْ بأنفك ،
ولا تغترّ بمن سجدوا أمامك ؛
فعما قليل ! ... تطوى جنودك في ثنايا العدم ! ...
وتتناسى الأجيال القادمة أعمالك !
ويصبح اسمك أثراً بعد عين !...
كما عفت آثار أسلافك من قبلك !
كلُ ما في الكون :
من اصطخاب وحياة ، وضجيج وحركة ،
سيؤولُ إلى السكون التام ، والخنوع الرهيب !
وسيخلد الى الهدوء ، والاستكانة الأبدية !
بعد أن تنتهي أوقاته المحدودة ،
فيذهب الى غير ما رجعة !...
فواه للحياة هذه !
ويا للانسان من مسكين جاهل!...
القدس 1933
حياة الانسان
أرايت الطيف عندما يظهر فجأةً ،
ثم يتلاشى بسرعة البرق ؟
أوتذكر حلم حالم وسرعة عفائه ؟ ...
أم رأيت الغيوم المتلبّدة ، وسرعة تبددها ،
بعد هبوب الريح العاتية ،
وهي تسوقها أمامها ، وتعصف بها عصفاً ؟!
أم قرأت عن الذين يتيهون
في البوادي الشاسعة الأطراف ،
بعد أن يفقدوا كل قطرةٍ ماءٍ عندهم ؟!
وعندما تكاد الروح منهم تبلغ التراقي ،
يرون المياه البلّورية من بُعْد...
تدعوهم إلى الإسراع لارتشافها ،
فيسرعون إليها ... وبعد مسيرٍ شاقّ ،
يبلغون النقطة التي رأوها عن بُعْد ...
تجري فيها المياه الصافية !
وإذا بهم يُصدمون لدى الحقيقة :
إذْ إنهم يرون _ عوضاً عن الماء _
رمالاً مُحرقة ... تتوهج تحت أشعة الشمس ...
لأنّها سراب !
ثم !
هل رأيت الأيام ... وسرعة مضيّها ؟!
والسنين ... وسرعة كرورها ؟!
والقرون ... وكثرة مرورها ؟!
والدهور ... وكم منها بدا وانقضى ؟!
والعصور ... وكم منها أتى ومضى ؟!
هكذا هي :
حياة الإنسان المسكين ... تتلاشى !...
وإذا به :
مفقودٌ ، غيرُ موجود ! ...
القدس ، 1933
أضحوكة الحياة
ما الحياة غير وهمٍ باطلٍ سوف يزول !
فالدراري سوف تخبو بعد وقت لا يطول !
وذكاء سوف تفنى بعد ذياك الشمول !
والليالي ستولّي عندما يأتي الأفول !
وقصور عامرات سوف تغدو كالطلول !
وشعوب الأرض طرّاً دوَلٌ سوف تدول !
وملوك الأرض جمعاً حكمهم سوف يحول !
ويجول الخوف في _ هذي البرايا ويصول !
كل ما فيها قريباً سوف يعروه الذبول !
يا له من يوم رعبٍ إنّه يوم مهول !
والطيور الحائمات والصروح العاليات سوف تهوى !
والمروج العامرات والورود الناضرات سوف تذوى !
والجبال الشامخات والصخور الراسيات سوف تعفى !
والبوادي الشاسعات والصحارى الواسعات سوف تمحى !
ودموع العاشقات وحنين الوالهات سوف ينسى !
والغواني الفاتنات واللحاظ الفاتكات سوف تسلى !
والعيون الناعسات والشعور الحالكات سوف تبلى !
والخطوب الطاغيات وغرور الماضيات سوف يفنى !
والدراري اللامعات والنجوم الساطعات سوف تطفا !
والمياه الساقطات والبحار الهائجات سوف تطغى !
وأضاحيك الحياة وسخافات الممات سوف تطوى !
القدس ، في 29 كانون الثاني 1934