أنا أؤمن بأنه توجـد عدالة سماويّة, وأن جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدنيا من مُنغصات انَّ هـو الاّ جـزاءٌ وفاق لِما أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور.ولهـذا يجب علينا أن نستقبلَ كلّ مـا يحـلّ بنـا من آلامِ الحياةِ ومآسيها غير مُتبرّمين ولا متذمّرين , بل قانعين بعدالةِ السماء ونُظمها السامية.

Highlighter
أحبُّ الكُتُبَ حبَّ السُكارى للخمر , لكنَّني كلَّما أزددتُ منها شرباً, زادتني صَحوا
ليس مّنْ يكتُبُ للهو كمَن يكتُبُ للحقيقة
الجمالُ والعفّــة فـردوسٌ سماويّ .
لا معنى لحياةِ ألأنسان اذا لم يقم بعملٍ انسانيٍّ جليل .
اعمل الخير , وأعضد المساكين , تحصل على السعادة .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقـوم بأعمالِ الخير نحـو ألأنسانيّة .
الموتُ يقظةٌ جميلة ينشُدها كل مَنْ صَفَتْ نفسه وطَهرت روحه , ويخافها كلّ من ثقُلت أفكاره وزادت أوزاره .
ان أجسامنا الماديّة ستمتدّ اليها يـد ألأقـدار فتحطِّمها , ثمّ تعمل فيها أنامل الدهـر فتتَّغير معالمها , وتجعلها مهزلةً مرذولة . أمّا ألأعمال الصالحة وألأتجاهات النبيلة السّامية , فهي هي التي يتنسَّم ملائكة اللّه عبيرها الخالد .
نأتي إلى هذا العالمِ باكين مُعولين، و نغادره باكين مُعولين! فواهً لك يا عالمَ البكاء والعويل!
جميعنا مُغترٌّ مخدوعٌ ببعضه البعض.
العدلُ كلمة خُرافية مُضحكة.
أمجادُ هذا العالم وهمٌ باطل، و لونٌ حائل، و ظلٌّ زائل.
لا باركَ الله في تلك الساعة التي فتحتُ فيها عينيّ فإذا بي في مكانٍ يطلقون عليه اسم العالم .
أنا غريبٌ في هذا العالم، و كم احنُّ إلى تلك الساعة التي اعود فيها إلى وطني الحقيقيّ.
الحياةُ سفينةٌ عظيمة رائعة تمخرُ في بحرٍ، ماؤه الآثام البشريَّة الطافحة، و امواجه شهواتهم البهيميَّة الطامحة، و شطآنه نهايتهم المؤلمة الصادعة.
كلّنا ذلك الذئبُ المُفترس , يردع غيره عن اتيانِ الموبقاتِ وهو زعيمها وحامل لوائها , المُقوّض لصروح الفضيلة , ورافع أساس بناءِ الرذيلة .
الحياةُ سلسلة اضطراباتٍ وأهوال , والمرءُ يتقلَّب في أعماقها , حتى يأتيه داعي الموت, فيذهب الى المجهولِ الرهيب , وهو يجهلُ موته , كما كان يجهلُ حياته .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقومَ بأعمالِ الخير نحو الانسانيّة .
المالُ ميزان الشرِّ في هذا العالم .
السعادةُ ليست في المال , ولكن في هدوءِ البال .
كلُّ شيءٍ عظيمٍ في النفسِ العظيمة , أمّا في النفسِ الحقيرة فكلُّ شيءٍ حقير .
الرُّوح نسمةٌ يُرسلها الخالق لخلائقه لأجل , ثم تعودُ اليه بعجل .
الرُّوح نفثةٌ الهيَّة تحتلُّ الخلائق , وكل منها للعودة الى خالقها تائق .
الرُّوح سرٌّ الهيٌّ موصَدْ لا يعرفه الاّ خالق الأرواح بارادته , فمنه أتتْ واليه تعود .
أنا أؤمن بأنه توجـد عدالةٌ سماويّة , وأنَّ جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدُّنيا من مُنغِّصاتٍ وأكدارٍ انَّ هـو الاَّ جـزاء وفاق لمِا أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور . ولهـذا يجب علينا أن نستقبل كلَّ مـا يحـلُّ بنـا من آلام الحياة ومآسيها غير م
الحرّيةُ منحة من السماءِ لأبناءِ ألأرض .
الموتُ ملاكُ رحمةٍ سماويّ يعطف على البشر المُتألّمين , وبلمسةٍ سحريّة من أنامله اللطيفة يُنيلهم الهناء العلويّ .
ما أنقى من يتغلّب على ميولِ جسده الوضيع الفاني , ويتبع ما تُريده الرُّوح النقيّة .
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
الراحة التامّة مفقودة في هذا العالم , وكيفما بحثت عنها فأنت عائدٌ منها بصفقةِ الخاسر المَغبون .
ليس أللّــه مع الظالم بل مع الحقّ.
ان الصديق الحقيقي لا وجود له في هذا العالم الكاذب.
ما أكثر القائلين بالعطف على البائسين وغوث الملهوفين والحنو على القانطين , وما أقلَّ تنفيذهم القول.
يظنُّ بعض ألأنذال ألأدنياء أنّهم يُبيّضون صحائفهم بتسويدِ صحائف الأبرياء , غير عالمين بأنَّ الدوائر ستدور عليهم وتُشهّرهم.
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السَّلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
رهبة المجهول شقاء للبشرِ الجاهلين للأسرارِ الروحيَّة , وسعادة للذين تكشّفت لهم الحقائق السماويَّة .
الموتُ نهاية كل حيّ , ولكنه فترة انتقال : امّا الى نعيم , وامّا الى جحيم .
الحياةُ خير معلِّمٍ ومُؤدِّب , وخيرَ واقٍ للمرءِ من الأنزلاقِ الى مهاوي الحضيض .
حين تشكُّ بأقربِ المُقرَّبين اليك تبدأ في فهمِ حقائق هذا الكون .
مَنْ يكون ذلك القدّيس الذي لم تخطرُ المرأة في باله ؟ لو وجدَ هذا لشبَّهته بالآلهة .
المرأة هي إله هذه الأرض الواسع السُّلطان. و هي تحملُ بيدها سيفاً قاطعاً لو حاولَ رجالُ الأرض قاطبةً انتزاعه منها لباؤوا بالفشلِ و الخذلان .

الرحلة الداهشية السادسة

 الرحلاتُ الداهشيَّةُ

حولَ الكُرَةِ الأَرضيَّة

                              

الرحلةُ السَّادسةُ - عَام 1972

                                         

                                    

أُشبِّهُ نفسي بسَفينةٍ صغيرةٍ

تتقاذفُهَا لُجَجُ المُحيطِ الثَّائِر الصَّاخب،

وهيَ وحيدةٌ بينَ أَمواجِهِ المُتلاطمَةِ الهَوجَاءِ

ترقُبُ فرجَ اللهِ العظِيم،

وتومِّلُ في اعجوبةٍ

تُنقذُهَا من ذلكَ العذابِ المُقيم،

وتبعدُ بهَا عن هاتيكِ الأَنواءِ العاصفةِ المُزمجْرَة،

ولكنْ بدون جَدوى.

 

                                                   داهشْ

                                                 من كِتابِ"كلمات"

 

 مقدِّمة

لأَدبِ الرحلةِ وجهٌ جذَّابٌ في الآدابِ العالميَّةِ. وقدْ تأَلَّقَتْ في فلَكِهِ أَسماءٌ كثيرةٌ في مختلفِ الشعوبِ والعُصورِ. لكنَّ اللغةَ العربيَّةَ لمْ تعهَدْ في القرنِ العشرين أَديباً وصفَ مُشاهداتِهِ وانطباعاتِهِ وصفاً صادقاً أَميناً، في رحلاتٍ واسعةِ الدوائرِ وشاملةِ الفوائد، كالدكتورِ داهش. فرحلاتُهُ تنبسطُ على حوالى ثلاثينَ مُجَلَّداً تُغطِّي القارَّاتِ الرئيسةَ بأَهمِّ حواضرِهَا ومعالمِهَا المُمَيَّزة.

وهذهِ الرحلةُ التي تؤلِّفُ الجزءَ السادسَ منْ سلسلةِ "الرحلات الداهشيَّة حولَ الكُرةِ الأَرضيَّةِ" استغرقَتْ 52 يوماً (من 15أيَّار إلى 6 تمُّوز 1972)، وشملَتْ كثيراً منَ المُدُنِ الأُروبيَّة.

 

أَ- عالمُ الفَنِّ

لا ريبَ في أَنَّ ولعَ مُؤَسِّس الداهشيَّة بالفنِّ دفعَهُ إلى البحثِ عنْ كنوزِهِ في مختلفِ أَرجاءِ العالَم، وكانَ منْ أَهَمِّ الحوافزِ لارتحالِهِ شبهِ الدائم مدَّةَ خمسةَ عشرَ عاماً. وإذا حصيلةُ أَسفارِه أُلوفٌ منَ القطعِ الفنيَّةِ الرائعةِ التي انتقاهَا بمحبَّةٍ وعنايةٍ كأَنَّهَا من جُملةِ مُختاريه، حتَّى كوَّنَ منْهَا مُتحفاً يُضاهي المتاحفَ العالميَّةَ.

وفي هذهِ الرحلةِ، كمَا في كثيرٍ غيرِهَا، ذِكرٌ لعشراتِ المتاحفِ التي زارَهَا المؤلِّفُ، وأَبدى رأيَهُ في معروضاتِهَا؛ وأَحكامُهُ مبنيَّةٌ على البحثِ والتجربةِ الطويلةِ. فإذا سمعتَهُ يقولُ، بعدَ أَنْ شاهدَ كنيسةَ وندسور حيثُ دُفِنَ الملوكُ وعظماءُ البريطانيِّين:" تلفُّكَ الروعةُ لمشاهداتِهَا، وتخشعُ للفنِّ العظيمِ الذي يبرزُ فيهَا من قمَّةِ رأسِهَا حتَّى أَخمصِ قَدمِهَا"، عِلماً بأَنَّ رأيَهُ هذا ينطبقُ على كثيرٍ منَ المتاحفِ التي زارَهَا، فإنَّكَ تسمعُهُ يقول، في موقفٍ آخر:" الشيءُ الذي يُطلقونَ عليهِ اسمَ "سريالزم" و"أَبْستره" هو تشويهٌ للفنِّ الحقيقيّ، وهو في حقيقةِ الأَمرِ تدجيلٌ رخيصٌ لا قيمةَ له على الإطلاقِ. والجُمهورُ الذي صدَّقَ بأَنَّ "السريالزم" هو فنٌّ إنَّمَا هو مخدوعٌ من قِمَّةِ رأسِهِ حتَّى أَخمص قدَمِهِ.

ومن تكاثر اللوحاتِ الفنِّيَّةِ الرديئةِ في المعارضِ والمتاحفِ والفنادقِ يَستخلصُ:" أنَّ الثقافةَ الفنِّيَّةَ معدومةٌ عندَ الرأيِ العامِّ حتَّى في العواصمِ الأمريكيَّةِ والأُوروبيَّة."

وغِبَّ زيارتهِ لبعضِ المتاحفِ الرائعةِ بمحتوياتِهَا، يتساءَلُ متأسِّفاً تساؤُلَ المُتجاهلِ العارف:" متى يُصبحُ للعربِ مُتْحفٌ فنِّيٌ متى؟ لكنَّ كلمةَ "متى" لا ولنْ تُعطي ثمارَهَا مُطلقاً."

وحُبُّ الدكتورِ داهش للفنِّ الرائع يتَّضحُ عمقُهُ وصدقُهُ في تتبُّعِهِ لروائعِهِ حيثُمَا وُجدَتْ، ليسَ في المتاحفِ فقطْ، بل في المزاداتِ العلَنيَّةِ التي يشتركُ فيهَا، وإنْ غلا الثَّمنُ، كمَا في المعارضِ والمتاجرِ والقصورِ والكنائس، بلْ حتَّى المقابر.

فقدْ زارَ مقبرةَ الكلابِ التي تبعدُ ثُلثَ ساعةٍ عن مونمارتر في فرنْسَا، ووصفَ لنَا ما رآهُ فيهَا من تماثيلَ رائعة، كمَا أَعربَ عنْ تأَثُّرِهِ منْ مشهدِ عشراتِ الرجالِ والنساءِ الذينَ يتوافدونَ إلى المقبرةِ حاملينَ أَضاميمَ منَ الزُهورِ، ليضعوهَا على قبورِ مَنْ فارقَهُم منَ الكلابِ والهِرَرةِ... وذكرَ عباراتِ الأَسى المؤَثِّرة التي نُقِشَتْ على حجارةِ الرموسِ الرخاميَّةِ التي اعتلتْهَا تماثيلُ الكلاب.

 

ب- معالمُ العُمرانِ.

إلى جانبِ روائعِ الفنِّ، كانتْ معالمُ العُمرانِ المتميَّزةِ تجتذبُ انتباهَه، وكذلكَ المخترعاتُ الحديثةُ والمصنوعاتُ التي تشهدُ على براعةِ أَصحابِهَا.

وجديرٌ بالذكرِ أَنَّ مؤَسِّسَ الداهشيّةَ لمْ يكُنْ يكتفي بمَا يسمعُهُ أو يقرأُهُ منْ معلوماتٍ، بل كانَ أَيضاً يتحقَّقُ بعينيهِ وعقلهِ، ثمَّ يُرسلُ أَحكامَهُ؛ فيزورُ، مثلاً، مصنعَ البروسلينَ المشهورَ باسم "دِلْف"، في هولندا، ويُعاينُ بنفسِهِ كيفيَّةَ صُنعِ الأَواني الجميلة؛ ويُشاهدُ، في النروجِ، الطَّوفَ" كونتيكي" الذي عبرَ بهِ (هيار دال) المُحيطَ الهادئ عامَ 1947، فلاَ يقتصرُ على وصفهِ والإِدلاءِ بالمعلوماتِ التاريخيَّةِ عنْه، بل يستنتجُ أَنَّ نجاحَ الرحلةِ بذلكَ الطَّوفِ المصنوعِ منْ خشب "البالز" يُبرهنُ أَنَّهُ كانَ بإمكانِ شعوبِ أَمريكا الجنوبيَّةِ القديمةِ استعمالَ أَمثالِهِ لتقطعَ المُحيطَ وتصلَ إلى جزُرِ البولينيزيا.

وهو إذْ يُدلي بنبذاتٍ جغرافيَّةٍ عنْ البُلدانِ التي زارَهَا، يلتفتُ أَحياناً إلى التاريخِ موَضِّحاً ومُعَلِّلاً، فتعلم، مثلاً، أَنَّ هلسنكي اجتاحتْهَا النيرانُ عام 1818، فأَبادتْهَا، ثمَّ أُعيدَ تخطيطُهَا وبناؤُهَا، وأَنَّ مدينةَ أُوبسالا السويديَّةَ أُسِّسَتْ في القرنِ الحادي عشَر، وقطنَ فيهَا قديماً شعبُ الفايكنْغ الذين تعاطَوا التجارةَ معْ العربِ لفترةٍ منَ الزمنِ، فباعُوهَا الجُلودَ والفِراء.

وهو إذْ يصفُ أَهمَّ القُصورِ والمتاجرِ التي زارَهَا، يُزوِّدُكَ أَحياناً بمعلوماتٍ إِحصائيَّةٍ عنْهَا؛ فتعلَم، مثلاً، أَنَّ متجرَ هارودس، في لُنْدُن، يُعَدُّ الثاني في العالمِ منْ حيثُ الضخامةِ، وأَنَّهُ أُسِّسَ سنة 1849، وبلغَ عددُ العاملينَ فيه، عامَ 1967، 5500 شخص، كمَا بلغَ مبيعُهُ السنويّ 35 مليون جُنيه إسترلينيّ، وأَنَّ لهذا المتجرِ 240 فرعاً.

كذلكَ فهو لا يَكتَفي بأَنْ يُعطيكَ عددَ الجُسُورِ أَوْ الجُزُرِ أَو البُحيراتِ أَو المرافئ التي تمتازُ بهَا البلدانُ التي أَمَّهَا، بلْ يُعطيكَ أَحياناً نتائجَ اقتصاديَّةً لمَا يصفُهُ؛ فيدَعُكَ تعلم، مثلاً، أَنَّ السُّويد أَصبحَتْ مُصدِّرةً للأَخشابِ إلى مختلفِ أَنحاءِ العالَم، لأنَّ ستِّينَ بالمئةِ منْ مساحتِهَا مُغطَّاةٌ بالأَشجارِ.

 

ج- بدائعُ الطبيعة

فضلاً عنْ الروائعِ الفنيَّةِ والمعالمِ العُمرانيَّة، كانَ للبدائعِ الطبيعيَّةِ جاذبيَّةٌ شديدةٌ على الدكتور داهش. ولا عجَبْ، فهو يرىَ فيهَا ببصيرتِهِ الخارقةِ ما لا يراهُ غيرُهُ؛ فبينُهُ وبينَهَا مُشاركةٌ وجدانيَّةٌ، وتفاعلٌ نفسيٌّ واقعي، لا سيَّمَا أَنَّه شديدُ الحساسيَّة، رهيفُ الشُعورِ، مُنطلقُ الخيال، تستوقفُهُ أُمورٌ في الطبيعةِ قدْ لا تستوقفُ غيرَه.

فالغيومُ تتراءَى لهُ فيهَا رُؤًى عجيبة، والضبابُ يراهُ يرسمُ على صفحةِ السماءِ مشاهدَ غريبة!...

وتسترعي انتباهَهُ القواربُ وهي تتهادى على صفحةِ البحرِ الفيروزيّ، وفيهَا البحَّارةُ يَحْدونَ، كمَا القُرى المنتثرة منازلُهَا في السُّفوحِ والمُصّعَّدة نحوَ السماء، وطيورُ البحرِ التي تحطُّ على المياهِ ثمَّ تطيرُ وقدْ تلقَّفَتْ مناقيرُهَا أَسماكاً.

كذلكَ تجتذبُ نظرَهُ حدائقُ الزهورِ، والبُحيراتُ الرائعةُ يسبحُ البطُّ فيهَا، وتزيِّنُهَا النوافيرُ، وتزيدُهَا المصابيحُ الكهربائيَّةُ فتنةً... حتَّى إنَّ المؤلِّفَ، على حبِّه السرعة، يُفضِّلُ أَنْ يقطعَ المسافةَ بينَ ستوكهولم وأُوسلو بالقطارِ لمدَّةِ سبعِ ساعاتٍ، لكيْ يتسنَّى لهُ أَنْ يُشاهدَ الغاباتِ والمروجَ والبُحيراتِ الفاتنة.

وليسَتْ الطبيعةُ بمَا فيهَا منْ جبالٍ ومياهٍ ورياحينَ وأَشجارٍ غبياء هي التي تستأثرُ باهتمامِهِ فحسبْ، بلْ إنَّهُ يُبدي رغبةً شديدةً في مُشاهدةِ حدائقِ الحيوان أَيضاً حيثمَا وُجِدَتْ، فيصفُهَا ويُقارنُ بينَهَا.

 

د- عَالمُ البَشَر

بقدرِ ما يُشكِّلُ الفنُّ والعُمرانُ والطبيعةُ أَبعاداً مُضيئةً في رحلاتِ الدكتور داهش، يُشكِّلُ البشرُ بأَخلاقِهم وعاداتِهِم، إلاَّ أَقلَّهَا، بُعداً قاتماً.

ومَنْ عرَفَ مُؤَسِّسَ الداهشيَّة عنْ كثَبٍ، واطَّلعَ على آرائِهِ في الناسِ منذُ شبابِهِ، لتأَكَّدَ له أَنَّ الرجلَ الذي وهبَهُ اللهُ قوَّةً روحيَّةً تنصاعُ لهَا قوانينُ الطبيعةِ وتتكشَّفُ الغيوبُ، ليسَ مُفتقراً إلى تعرُّفِ عاداتِ البشرِ وأَخلاقِهِم، ليقولَ كلمتَه فيهِم، لأَنَّهُ قبلَ ارتحالهِ بينَهُم، قدْ نفَذَ في ذواتِهِم، وسبرَ أَعماقَهُم، وتغلغلَ في أَفكارِهِم ورغباتِهِم؛ لكنْ منْ جُملةِ أَهدافِهِ في وَصْفِهِ أَحوال الناس وتصرَّفاتِهِم في الشوارعِ والمتاجرِ والملاهي... أَنْ يُقيمَ الحُجَّةَ ضدَّهُم، ويكونَ شاهداً عليهِم.

فالناسُ في روما رآهُم صورةً لمعظمِ الناسِ في هذا العالَم؛ والرذيلةُ التي تُعرضُ عاريةً فيهَا أو في أمستردام أو كوبنهاغن رآهَا بنتَ الرذيلةِ التي سادَتْ بومبيّي، قبلَ أنْ يُدمِّرَهَا "الفيزوف"، مثلمَا دُمِّرَتْ سدومُ وعمورة منْ قبل. فلا العلمُ الذي يُمجِّدُهُ المؤلِّفُ يراهُ لهُم نافعاً، ولا النصحُ يجدُهُ ناجعاً. ولذا كثيراً ما تسمعُ صوتَهُ راعِداً مُجَلْجِلاً يستنزلُ منْ سماءِ الروحِ غضَبَه عليْهِم:" الرذيلةُ قدْ سادتْ، والفضيلةُ قدْ بادتْ، والإِلحادُ قدْ طغى، والشرُّ قدْ بغى، فمُرْ، أَيُّهَا الخالقُ الجبَّارُ، أَنْ تُدَكَّ هذهِ الدُنيا وتنهار، فقدْ تعبتْ نفسي منْ انبثاقِ الليلِ وتعاقُبِ النهار."

وليستْ الدعارةُ المتفشَّيةُ وحدَهَا هي التي تستوقفُ المؤلِّفَ، بلْ تراهُ يُشيرُ هنَا وهُناكَ إلى رذائلِ ومعايبَ مُعَيَّنةً تتميَّزُ بهَا بعضُ الحواضرِ، كأنْ يُلمِّحَ إلى النشَّالين في بعضِ شوارعِ نابولي، وإلى الغشِّ والإحتيالِ في متاجرِهَا، أَو إلى حيَلِ السائقين في كوبنهاغن، أو تكاثُرِ السكارى في شوارعِ أُوسلو، أو إلى الإلحادِ والكذبِ في معظمِ الأَماكنِ التي جوَّلَ فيهَا.

لكنَّ هذا الجوَّ القاتم المُلبَّد بمَا اسودَّ منْ عاداتِ الناسِ وأَخلاقِهِم تتخلَّلُهُ أَحياناً قليلةً فُرجاتُ صحو؛ فيسترعي انتباهَ المؤلِّفَ، مثلاً، سكَّانُ قريةِ ماركن الهولنديَّة بأَحذيتِهِم الخشبيَّة الصَّلدة، وأَزيائِهِم الخاصَّة، ومصنوعاتِهِم الفنِّيَّة، كمَا بنظافةِ زرائبِ الأَبقارِ عندهُم وإِتقانِهِم، وتزيين شوارعهِم ونوافذ منازلهِم بالأَزهارِ؛ أو تراهُ يُشيرُ إلى أَنَّ منْ عاداتِ الهولنديِّين أَنَّهُم يلتقطون القِطَطَ الشادرةَ، ويضعونَهَا في قوارِب، قربَ الشاطئ، حيثُ يُقدِّمون لهَا الطعامَ والشرابَ؛ أَوْ تسمعُهُ ينقلُ عن الدليليةِ أَنَّ منْ عاداتِ الهولنديِّين أَيضاً أَنَّ النساءَ، إذا ما توغَّلَ رجالُهنَّ في البحرِ للصَّيد، يرتدينَ اللباسَ الأَسودَ، فلا يستبدلنَ بهِ الزاهي منَ الألوانِ إلاَّ بعدَ رجوعِ الصيَّادين.

على غِرارِ ذلكَ أيضاً في لُندن، حيثُ تستوقفُ المؤلِّفَ حديقةُ "هايد بارك" والخطباءُ فيهَا يخطبونَ بحريَّةٍ تامَّةٍ في أَيِّ موضوعٍ يشاؤون.

 

ه- عالَمُ الذات

إزاءَ الرحلةِ الخارجيَّةِ المتعدِّدةِ الأَبعاد، فَنًّا وعمراناً وطبيعةً وبشراً، كانَ الدكتور داهش يقومُ أَيضاً برحلةٍ داخليَّةٍ في عالَمِ ذاتِهِ.

وإنَّهُ لعالَمٌ غريبٌ في جرأَتِهِ وصدقِهِ وصراحتِهِ، مَهيبٌ بما يوحي إلى القارئ من سلطةٍ روحيَّةٍ يتمتَّعُ بهَا مؤسِّسُ الداهشيّة، غنيٌّ باستبطانِ الذاتِ واستكشافِ آلامِهَا منْ جرَّاءِ الشعورِ بالغُربةِ الروحيَّة، وسطَ عالَمٍ يشعرُ المؤلِّفُ أَنَّهُ لا يمتُّ إليهِ بأَيَّةِ صلَة في قيَمِهِ ورغباتِهِ ومطامحِه ومُثُلِه العُليا.

فهو يقفُ أَمامَ المواكبِ البشريّةِ التي استعرضَهَا في مُختلفِ البُلدانِ وِقفَةَ نوح قبلَ الطوفان يُنذِرُ بالفناءِ الشامل، ووِقفةَ لوطٍ على مشارفِ سَدومِ وعَمورة قبلَ أَنْ يُمطَرا بالكبريتِ والنارِ، ووِقفةَ المسيحِ أَمامَ هيكلِ سليمان يُنبئُ بتدميرِ أُورشليم وتشرُّدِ شعبِهَا. إنَّهُ سخطُ الأَنبياءِ والهُداةِ على الرذائل، وثورتُهُم على حقارةِ الإِنسانِ وصَمِّه أُذنَيْه عنْ تعاليمِ السماء، كمَا على إقامتِهِ معبوداتٍ باطلةٍ منْ دونِ الله...

فالشعوبُ المختلفةُ في أَنظمتِهَا وقوانينِهَا وأَساليبِ معيشتِهَا توحَّدتْ في عبادةٍ واحدةٍ هي عبادةُ المال، هذا السلاحُ الذي اخترعَهُ الشيطانُ ليُحاربَ بهِ اللهَ عزَّ وجلَّ، وليسيطرَ على الجنسِ البشريّ.

وسيتعجَّبُ القارئُ منَ الحُزنِ الشديد المُهَيْمِن على المؤلِّف، رغمَ ما يُحيطُهُ منْ أَسبابِ التسليةِ في البُلدانِ التي يجولُ فيهَا. إسمَعْه يقولُ، بعدَ أَنْ استيقظَ باكراً فوجدَ رفيقَ رحلتِهِ – وهو في عُنفوانِ شبابِهِ- ما يزالُ يغطُّ في نومِهِ العميق:" فلأَدَعْه يتمتَّعُ بعالمِ الأَحلامِ الجميل، لأَنَّهُ عندمَا يستيقظُ، ستصدمُهُ مرارةُ الحياةِ وأَشجانُهَا وآلامُهَا الرهيبة.".

وسيزدادُ عجبُ القارئُ، حينمَا يقولُ المؤلِّفُ وقدْ حلَّتْ ذكرى مولدِه:" في مثلِ هذا اليوم أَبصرتُ نورَ العالَم، بلْ قُلْ شاهدتُ ظلامَ هذا الكونِ المُخيف... وشاهدتُ الجميعَ يتكالبونَ على المادَّةِ تكالُبَ الضباعِ على الجِيَفِ المُنتِنَةِ!."

وإذْ يستفظعُ الدكتور داهش ما وصلَ البشرُ إليهِ منْ دناءةٍ في بلادٍ يُقالُ عنْهَا إنَّهَا بلغَتْ ذروةَ الحضارةِ، يُرسلُ رسالتَين غريبَتَين :"إلى ابنتي في عالَمِ الغيب"و" إلى وَلَدي في عالمِهِ المجهول"، مُتمنِّياً أَنْ لا يهبطَ أَيٌّ منْهُما إلى عالمِ الفسادِ والشقاءِ.

ويتذكَّرُ اغتيالَ غاندي رَجُلَ الحبِّ والسلامِ والنقاء، فيستعجلُ الموتَ ليُلاقيَه؛ ذلكَ بأَنَّ السعادةَ في الأَرضِ حلمٌ جميلٌ لنْ تُحقِّقَهُ الأَيَّامُ، والفضيلةُ "لا يُمكنُ أَنْ تحيا في أرضِ الشرِّ والجريمةِ."

وإذا امتلأَتْ الأَرضُ بالويلاتِ والشقاء، فعلى البشرِ أَلاَّ يتذمَّروا ممَّا يُصيبُهُم، لأَنَّ أَعمالَ الإنسانِ سَبَبُ بلاياه. يقولُ، بعدَ أَنْ شاهدَ امرأَةً عهِدَهَا حسناءَ فاتنةً منذُ أَربعينَ سنة، فإذا هي، وقدْ تقدَّمَ العُمرُ بِهَا، قبيحةٌ شوهاء:"اللَّهُمَّ، إنَّني مؤمنٌ بأَنَّنَا لو لمْ نستحقُّ المجيءَ إلى هذا العالَمِ المُرعب لمَا أَتيْنَاه. ولكنَّنَا اجتُرحْنَا منَ الذُنوب، واقترفْنَا من العُبوبِ ما جعلَنَا نأَتي إلى هذا العالَمِ الرهيبِ الذي لا تحيَا فيهِ إلاَّ المُنغِّصاتُ الرهيبةُ."

وفي موضعٍ آخرَ من نفثاتِهِ الوجدانيَّة التي تُرصِّعُ رحلتَه، يقولُ:"ليصمُتْ الجميعُ وليخرسوا، وليجترُّوا آلامَهُم التي أَوصلوا أَنفسَهُم إليهَا عنْ جدارةٍ واستحقاقٍ. فعاصِرُ العنقودِ شاربُهُ، وطابخُ السُمِّ آكلُه".

ويُحاول الدكتور داهش أَنْ ينسى أَحزانَه، تارةً بالاسترسال في أَحلامٍ فتَّانةٍ تزهو فيهَا الحوريَّاتُ بقصورهنَّ المُرجانيَّة، وطوراً بتصعيدهِ في تأَمُّلاتِهِ إلى العوالِمِ العُلويَّة؛ أَوْ هو يلوذُ بالطبيعةِ حيناً، فيصفُهَا بأُسلوبٍ ولا أَجمل، أَوْ يلتفتُ إلى الماضي، حيناً آخرَ، مُتذكراً شقيقَ روحِهِ وجهادَه الدكتور جورج خبصا، فيُرثيهِ ويبكيهِ في قِطَعٍ كثيرةٍ تتخلَّلُ صفحاتِ الرحلةِ كقطراتٍ منَ الدموعِ الساخنة!

 

و- أُسلوبُ الدكتور داهش

إنَّ أُسلوبَ الدكتور داهش، في رحلاتِهِ، يُنبئُكَ عنْ كثيرٍ منْ صِفاتِهِ النفسيَّة:

فهو أُسلوبُ الواثِقِ منْ حُسنِ جوهرِهِ وسُمُوِّهِ، ينسابُ رقراقاً شفَّافاً، على يُسْرٍ ودونَمَا ابتذال. جمالُهُ في تنوُّعِ أَنغامِه، وفي جاذبيَّةِ بساطتِهِ التي لهَا منَ الطبْعيَة والعَفْويَّة نِقابُ حسن؛ فلا لَعِبُ الأَلفاظ يهمُّهَا، ولا بهلوانيّاتُ البيانِ تستمدُّ منْهَا تبرُّجاً رقيعاً.

وهو أُسلوبُ نفسٍ تُواجهُ العالَمَ بجُرأَةٍ وصراحةٍ سافرة؛ تفقأُ الدُّمَّلَ حيثُ تراه، وتُرسلُ أَحكامَهَا قولاً فصْلاً يحسمُ كمَا السيف. وهو أُسلوبُ مُتحَرٍّ، ناقِدٍ، مُحلِّل، يُقارنُ بينَ الأَشياءِ فنادقَ كانتْ أم متاحفَ أَمْ مخازِن، لوحاتٍ فنيَّةٍ كانتْ أم سِلَعاً عاديَّة، أَم أُجوراً، أَم غيرَ ذلك...

وهو أُسلوبُ الصادقِ الأَمين، يُدوِّنُ الوقائعَ تدويناً فوريّاً، مُتَسلسلَ الأَحداث، ساعةً فساعة، بل دقيقةً فدقيقة، ويصفُ الأَشياءَ وصفاً واقعيّاً. وهو أُسلوبُ الدقيقِ في أَعمالِهِ وأَحكامِه، يُحصي الأَدراجَ التي يصعدُهَا، والمسافرينَ الذين يُرافقُهُم، واللوحاتِ التي يُشاهدُهَا... ويُسجِّلُ المسافاتِ التي يقطعُهَا، والأَوقاتِ التي تستغرقُهَا... وهو أُسلوبُ الذهن النبيهِ الفَطِن الدقيقِ الملاحظةِ الذي لا تفوتُهُ شاردةٌ أو واردة. يُلاحظُ في فيِينَّا "أَنَّ طريقَ الأُوتوستراد الممتدِّ حتّى جبالِ الأَلب السامقة قدْ فُرِشَتْ بمادةٍ بيضاءَ غيرَ المادَّةِ الزفتيّة المعروفة، فكانتْ أَشبهَ ببلاطِ البيوتِ، تسيرُ عليْهَا السيَّاراتُ بسرعةٍ فائقةٍ لملاستِهَا." وإذْ يقومُ بنزهةٍ في القاربِ البُخاريّ في أَمستردام، ينتبهُ للأَشجارِ الغضَّةِ القائمةِ على الشواطئ وقدْ تدلَّتْ أَغصانُهَا حتَّى لامسَتْ الماءَ، فيرى أَنَّ هذهِ الأَشجارَ قدْ اختيرَتْ دونَ سواهَا، لأَنَّ جذورَهَا تتغلغلُ في العُمقِ ولا تتشعَّبُ، فتَقي جدرانَ القنال منَ التشقُّقِ. وبعدَ أَنْ جرَّبَ الانتقالَ في طائراتِ "الكرافيل" القديمةِ يقول:" يجب على الشركةِ أَنْ لا تُسَيِّرَ أَمثالَهَا، إذْ ربَّمَا تُشكِّلُ خطراً على حياةِ الرُكَّابِ والربابنة. ومعْ أَنَّ الحياةَ والموتَ بيدِ الخالق، دونمَا رَيْب، فالأَفضلُ أَنْ تُستبدَلَ بهذهِ الطائراتِ القديمةِ طائراتٌ حديثة."

وهو أخيراً، أُسلوبُ النفسِ المُحبَّة للفُكاهةِ والظَّرف، التي تُغالبُ حزنَهَا بالتطلُّعِ إلى الطرائفِ في الأَشياء. فكثيرةٌ هي الأَحداثُ الطريفةُ التي يذكرُهَا، فتنتزعُ الابتسامةَ بل الضحكةَ منْ فمِكَ انتزاعاً!

إنَّ رحلاتِ الدكتور داهش تمدُّ القارئَ بفوائدَ سياحيَّة جغرافيّة وتاريخيّة واقتصاديّة واجتماعيّة، كما تمدُّهُ بفوائدَ نفسيَّة ودينيَّة وفنيَّة.

وهي بقدرِ ما تُفيدُ القارئَ عنْ البُلدانِ والشُعوبِ التي زارَهَا، تُفيدُهُ عنْ شخصيّة المؤلِّف الفذَّة، وفلسفتِهِ الروحيّة، ونمَطَه في العَيشِ والمُعاطاةِ مع الناس.

ولا ريبَ بأَنَّ سلسلةَ رحلاتِهِ حولَ الكُرَةِ الأَرضيَّة ستبقى منْ أَعظمِ ما ولَّدَهُ أَدبُ الرحلةِ في اللغاتِ جمعاء، كمَا ستبقى مَنْهلاً ثرًّا يستقي منْهُ العِطاشُ إلى الثقافةِ العامَّة، ولا سيَّمَا الجوانب الفنيَّة منْهَا، مثلمَا ينهلُ ويعلُّ منهُ التائقون إلى التعمُّقِ في فَهمِ شخصيَّةِ الدكتور داهش العجيبة.

 

                                                         د. غازي براكس

 

في 15 أَيَّار 1972

 التأَهُّب للسَّفر

نهضتُ اليومَ باكراً لأَنَّني سأُسافرُ إلى رومَا في الساعةِ التاسعةِ والنصفِ صباحاً. ويرافقُني بسَفْرَتي هذهِ العزيزُ إِيليّا حجَّار الداهشيّ.

وابتداءً من الساعةِ السابعة، أَخذَ الإِخوةُ والأَخواتُ يتوافدونَ لتَوْديعي. وقدْ عاوَنُوني بترتيبِ حقائبي الأَربع.

وفي تمامِ الساعةِ الثامنةِ والنصف، استقلَّيتُ السيَّارةَ، يتبعُني رَتْلٌ منْ سيَّاراتِ الإِخوةِ والأَخَوات.

وصلْنَا إلى المطارِ في الساعةِ التاسعةِ إلاَّ رُبعاً، وإذا بعددٍ كبيرٍ من الإِخوةِ والأَخوات قدْ سبقونَا إليه، وهُم ينتظرونَ وُصُولَنَا.

فترجَّلْتُ وحيَّيْتُهم فرداً فَرداً. ثمَّ أَنْجزْنَا معاملاتِ السفَرِ المعروفة. وبعدَ أَنْ أُخذتْ لنَا بضعُ صُوَرٍ سينمائيَّةٍ وفوتغرافيَّة، ودَّعتُ الإِخوةَ والأَخوات، وهبَطْنَا إلى صالونِ الإنتظار، ثمَّ خرجْنَا إلى باحةِ المطار، واستقلَّيْنَا الأُوتوبيسَ الذي أَوْصلَنَا إلى الطائرةِ الجاثمة بأرضِ المطار، وهي تخصُّ شركةَ "أَليطاليا".

وقدْ رافقَنَا في الأُوتوبيس كلٌّ من الإخوةِ: نقولا ضاهر، حسن بَلْطَجي، الدكتور فريد أَبو سليمان، والأُخت أُوديت كارَّا.

 

 في الطائرة

صعِدْتُ درجَاتِ الطائرةِ وعددتُهَا فكانتْ أَربعاً وعشرينَ درجةً. دخلتُ الطائرةَ وبرفقَتي الأَخ إِيليَّا، فإذا هي طائرةٌ ضخمةٌ تحتوي على ثلاثةٍ وعشرينَ صفّاً من المقاعدِ في كلِّ جهةٍ، وكلُّ صفٍّ فيهِ ثلاثُ كراسيّ، مجموعُهَا تسعةٌ وستُّونَ مقْعداً من الناحيةِ اليُمنى، والناحيةُ اليُسرى أَيضاً تسعةٌ وستُّون مقْعداً. فيكونُ مجموعُهَا مئةً وثمانيةً وثلاثينَ مقْعداً. هذه هي الدرجةُ السياحيَّةُ، وتليها الدرجةُ الأُولى- وهي تحتوي على ستَّةَ عشرَ مقعداً فخماً- وبعدَ بضعةِ أَمتار، يوجدُ مقعدان أَيضاً؛ فيكون مجموعُ المقاعد مئةً وستَّةً وخمسين مقعداً. حقّاً إِنَّهَا سفينةٌ طائرةٌ تستطيعُ أَنْ تضمَّ في جَوفِهَا 156 مسافراً، فضلاً عنْ طاقَمِ الملاَّحين والقبطانِ والمضيفات. ولْيَحْيَ العلمُ الذي اختَصَر لنَا المسافاتِ، وطواهَا طيًّا.

 

              المسافرون ثلاثةٌ وأَربعون شخصاً

عَدَدْنَا المسافرين فإذا هُم ثلاثةٌ وأَربعون شخصاً، أَيْ حوالي رُبْعِ ما تسْتَوْعبُهُ الطائرةُ. وهذه هي المرَّةُ الأُولى التي أُسافرُ فيهَا جوًّا، فيكون العددُ هكذا ضئيلاً. وأَظنُّ أَنَّ الخوفَ مِنْ خطْفِ الطائراتِ هو الذي جعلَ الكثيرينَ يَعْدلونَ عنْ السَّفرِ في الأَيَّامِ الأَخيرة، وخصوصاً أَنَّ حادثةَ خطفِ الطائرةِ من قِبَلِ الفدائيِّين التي حصَلَتْ منذُ أُسبوعٍ والتي ذهبوا بهَا إلى (تل أَبيب) إِسْرَائيل، هي التي أَدْخَلَتْ الخوفَ إلى قلوبِ الكثيرين، فجعَلَتْهُم يرتدعون عنْ السَّفرِ خوفاً منْ حدوثِ ما لا تُحْمَدُ عُقْباه.

 

      وحلَّقَتْ بنَا القلعةُ الجبَّارةُ

جلَسْنَا في مقاعدِنَا، وكانتْ الساعةُ التاسعةَ والربعَ صباحاً. وفي تمامِ التاسعةِ والنصف، اشْتَغَلَتْ محرِّكاتُ الطائرة، وسارَتْ بنَا الهُويْنَا لمدَّةِ خمسِ دقائق. ثمَّ علا ضوضاءُ المحرِّكاتِ الجبَّارة، وانْطلَقَتْ الطائرةُ بأَقصى مداهَا؛ وكانتْ الساعةُ آنذاك التاسعةَ و(35) دقيقة. ومكثَتْ بسَيْرِهَا على الأَرضِ تُسابقُ الريحَ لمدَّةِ نصفِ دقيقة، ثمَّ ارْتفعَتْ في الجوِّ، وهي تئزُّ أَزيزاً قويًّا وتشُقُّ الفضاءَ، مترنِّحةً ذاتَ اليمين وذاتَ اليسار. وما لبِثَتْ دقيقَتَيْن حتَّى دخَلَتْ البحرَ مخلِّفةً اليَابِسَةَ وراءَنَا.

 

    ماءٌ فغيومٌ ففضاء

نظَرْتُ منَ النافذةِ، فإذا بنَا نُحلِّقُ فوقَ الغيومِ البيضاءِ السَّابحةِ في أُوقيانوسَاتِ الفضاءِ اللامتناهي. إذاً تحْتَنَا الماء، وفوقَ الماءِ الغيوم، وفوقَ الغيومِ الفضاء، ونحنُ نمخرُ في متاهةِ الفضاءِ الذي أَوجدَهُ اللهُ منَ العدَمِ.

 

  نحنُ فوقَ نيقوسيا(1)

في تمامِ الساعةِ العاشرةِ أُذيعَ بالميكروفون أَنَّنَا نطيرُ الآنَ فوقَ نيقوسيَا؛ فنكونُ قدْ بلَغْنَاهَا في (25) دقيقة.

 

                                                        نُحلِّقُ الآنَ فوقَ رودس(2)

في تمامِ الساعةِ العاشرةِ والنصف، أُذيعَ أَنَّنَا نُحلِّقُ الآنَ فوقَ رودس؛ وأَكْمَلَ المذيعُ قائلاً:" أَمَّا سرعةُ الطائرةِ الآنَ فهي 250 كيلومتراً بالسَّاعة". فدُهشْتُ منْ هذهِ السرعةِ البطيئةِ، إذْ إنَّ الطائرةَ النفَّاثةَ تطيرُ بسرعةِ 1000 كيلومتر بالسَّاعة، وبأَبسطِ الحالاتِ تجري بسرعةِ 700أَو 750 كيلومتراً. فِلمَ الآنَ سرعتُهَا 250 كيلومتراً؟ هذا ما لستُ أَدريه.

 

                                                 فوقَ جزيرةِ كريت(3)

في تمامِ الساعةِ الحاديةَ عَشرةَ إلاَّ رُبعاً أُذيعَ على المسافرين أَنَّ الطائرةَ تُحلِّقُ الآنَ فوقَ جزيرة كريت.

 

                                                          جيوبٌ هوائيَّةٌ

في الساعةِ الحاديةَ عشرةَ ابتدأَتْ الطائرةُ تتأَرْجَحُ متأَثِّرةً بجيوبٍ هوائيَّةٍ ممَّا جعَلَهَا تقفزُ في الهواء. وقدْ طُلِبَ إلى الرُكَّابِ أَنْ يضَعوا الأَحزمةَ على وسَطِهِم ويُقْفِلونَهَا؛ ففعَلنَا ما طُلِبَ مِنَّا القيامُ به. وحتَّى الساعة 12 إلاَّ 10 دقائق كانتْ الطائرةُ ما تزالُ مُضْطَربةً.

 

                                                        تناولْنَا طعامَ الغداء

في الساعةِ الحاديةَ عشرَةَ والثلث، قُدِّمَ لنَا الطعامُ. وما استقرَّ بهِ المقامُ أَمامي حتَّى فتحتُ حقيبتي اليدويَّة، وأَخرجتُ منْهَا بصلةً ضخمةً- كان هادي حجَّار، شقيقُ رفيقي في هذهِ السَّفرةِ إِيليَّا حجَّار، قدْ أَحْضرَهَا من (تايوان) الصِّين- وكسَرتُهَا وتناوَلْتُ منْهَا، فإذا هي حلوةُ المذاق، لذيذةُ الطَّعم. وشاركَني بهَا إِيليَّا، فلمْ نُبْقِ منْهَا شيئاً لحلاوَتِهَا وطيبِ مَذاقِهَا.

 

                                               فوقَ مدينةِ مونتي كاسينو

في الساعةِ الثانيةَ عشرةَ ظُهراً أُذيعَ أَنَّنَا نُحلِّقُ الآنَ فوقَ مدينةِ مونتي كاسينو الإِيطاليَّة.

 

                                                وأخيراً وصَلْنَا إلى مطارِ روما

في تمامِ الساعةِ الثانيةَ عشرةَ والرُبع بعدَ الظُهرِ هبطَتْ بنَا الطائرةُ في مطارِ روما برفقٍ وتُؤدَة. وما استقرَّتْ على الأَرضِ حتَّى راحتْ تسيرُ بأَقصى قوَّتِهَا، ثمَّ جعلَتْ تُخفِّفُ سرعتَهَا شيئاً فشيئاً حتَّى توقَّفَتْ عنْ السَّيرِ أَمامَ مبنى المطار.

 

                                                  سُجِنَّا بالطائرةِ 45 دقيقة

أُذيعَ بالميكروفون أَنَّه يقومُ إِضرابٌ عامٌّ لعُمَّالِ المطارِ. وعليهِ، يجبُ على المسافرين أَنْ يهْتمُّوا بحقائبِهِم بأَنفُسِهِم. وبمَا أَنَّهُ لا يوجدُ عُمَّالٌ ليُحضروا السُلَّمَ ويضعُوهَا على الطائرةِ، جلَسْنَا في مقاعدِنَا ننتظرُ الفرجَ منَ الرحمان الرحيم.

وطالَ انتظارُنَا 45 دقيقةً كاملةً حتَّى قُيِّضَ لهُم أَخيراً مَنْ أَحضرَ السُلَّمَ، وأَلصقَهَا بالطائرة. فخرجْنَا ونحنُ نتنفَّسُ الصُّعداء.

 

                                                 كتاب "الغُصنُ الذهبيّ"

عندَ خروجي منَ الطائرة، كنتُ قدْ قرأْتُ مئةَ صحفةٍ وصفحَتين منْ كتاب "الغصن الذهبيّ"، وهو دراسةٌ في السِّحْر والدِّينِ منْ تأليفِ (سير جيمس فريزر) وترجمةُ الدكتور أَحمد أَبو زيد. حقّاً إنَّ هذا الكتابَ نفيسٌ، وترجمتَه كانتْ واجبةً كيْ يَطَّلعَ عليهِ كلّ مَنْ لا يُتْقِنُ اللغةَ التي كُتِبَ فيهَا.

 

                                                       إِيليَّا مُثقَلٌ بالحقائب

كانتْ حقائبي خمساً، منْهَا حقيبةُ الآلةِ السينمائيَّةِ التي أَصْحَبُها معي في أَسفاري لأُسجِّلَ بهَا مشاهدَ الرحلة. وإِيليَّا حجَّار أَخذَ معه حقيبتَه؛ فأَصبحَ الجميعُ ستَّ حقائب. وبما أَنَّه لا يوجدُ عمَّالٌ لنَدَعَهُم ينقلون أَمتِعَتَنا، اضْطُرَّ إِيليَّا لأَنْ يحملَ أَربعَ حقائب، ناءَ تحتَ ثِقَلِها، وأَنَا حمَلْتُ حقيبتَيْن. وسرْنَا بحقائبِنَا مسافةً طويلةً كنَّا نستريحُ بأَثنائِهَا. وكانَ جميعُ المسافرينَ في جميعِ الطائراتِ يحملونَ حقائبَهُم مثلَنَا. وأَخيراً وصلْنَا أَمامَ مبنى الأَمنِ العامِّ حيثُ وضَعْنَا الحقائب.

 

                                             تأشيرُ وصولنَا على جوازاتِنَا

وأَشِّرَ لنَا موظَّفُ الأَمنِ على جوازَيْنَا، وكانتْ الساعةُ إذْ ذاكَ الواحدةَ والنصفَ بعدَ الظُهر، وكُنَّا مُرْهَقَيْن حقًّا.

 

                                               إلى فُندقِ الهلتون HILTON

استقلَّيْنَا سيَّارةَ فُندقِ الهلتون؛ وكانتْ الساعةُ حينئذٍ الثانيةَ وخمساً وثلاثينَ دقيقة، بعدَ الظُهر. فبلغْنَا الفُندقَ في تمامِ الساعةِ الثالثةِ والثلثِ بتوقيتِ بيروت- أَمَّا ساعةُ روما فكانتْ، إذْ ذاكَ، الثانيةَ والثلث- أَي استَغْرَقَتْ المسافةُ منَ المطارِ للفُندقِ ساعةً إلاَّ ربعاً تماماً.

 

                                                     فندق الهلتون فخم

أَمَّا فُندقُ الهلتون في روما فهو خارجَ البلَد، وقدْ بُنيَ على تلَّةٍ مُرتَفعةٍ منْ تلالِ روما(4)، وهو يبعدُ عنْ المدينةِ ثُلثَ ساعةٍ بالسيَّارة. والفندقُ فخمٌ، فيهِ صالوناتٌ رائعةٌ وقاعةٌ فسيحةٌ فيهَا كلُّ ما يَحتاجُ إِليه المسافرُ منْ وسائلِ الراحة. كمَا في الفُندقِ حديقةٌ غنَّاءُ ذاتُ أَشجارٍ باسقةٍ يحلو للمرءِ الجلوسُ تحتَ أَفيائِهَا الظليلة. كمَا فيهِ متاجرٌ عديدةٌ يمكنُ للمسافرينَ أَنْ يَبْتاعوا ما شاءَتْ لهُم رغباتُهم وميولُهم.

وقدْ أُعطينَا غرفةً في الطابقِ الثالث رقمُهَا 328، وفيهَا سريران وتلفون، وهي غرفةٌ فخمةٌ ذاتُ شُرفةٍ تُطلُّ على الخارج. وعندَ وصولِنَا إلى الفُندق، كانتْ السماءُ تُمطرُ مدينةَ رومَا رذاذاً.

Developed by Houssam Ballout        Copyright 2019 This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.nfo All Right Reseved This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.