الدكتور داهش
ناثر وشاعر
الجزء الثالث
جبروت
أنا القويّ الجبّار والعنيف البتّار .
فمهما حاولت الأحداث أن تتغلّب عليّ ، أو تُخضعني لجبروتها .
فإنّها لن تعود إلاّ بصفقةِ الخاسر المغبون .
ولن تتمكّن من إماتة ما يجيش في نفسي من نزعاتٍ
تبغي الانطلاق من هذه القيود .
كلاّ ، أنا لن أتقاعس عن نيل أهدافي وبلوغ اتّجاهاتي
التي أطمح إليها .
وسأحقّق أمانيّ عاجلاً أم آجلاً .
وسأسحق ما يقف في طريقي من عقبات كأداء ،
وسأردّمها ترديماً .
وسأهزأ بالإنسان ، وبالطّبيعة ، وبالقدر ....
وسأبلغ آمالي ، وأحقّق أحلامي وأنف الحياة في الرّغام !
داهش
لقد هشّمت من اعتدى على حُرّيتي
ومزّقت شرفه وبعثرته ، ثمّ وطئته بقدميّ ،
وأخيراً عرضته بمخازيه أمام الرأي العامّ ،
فتمنّى لو بُترت يمينه ولم يعتد عليّ ...
ولكن سبق السّيف العذل ،
فاسمه البغيض قد سجّله التّاريخ بأحرفٍ من ناٍر مُبيدة .
داهش
شاعر متمرّد
قرأوا وقالــــوا : شاعــــر مُتمـــرّد صدقوا فشعري غضبـة تتجـدّد
من لــــم تهزّ العبقريّــــة شعـــــره هيهات تيهم في الخيـال ويُنجد
وإذا تمـــــــرّد شاعــــر فيراعـــــه يوم الجهاد على الرّقــاب مُهنّد
حطّمــــت أقـــلام السّـــلام لأنّنــــي جرّدت سيفاً بالجوانــح يُغمـــدُ
يــا أخت روحي لـــم أكــــن متمرّداً لولا مظالم في الحمى لا تُحمـد
أأكـــــون ظمآنـــاً ووحيك جدولـــي وهواك في قلبي يقوم ويقعــــد
أقسمت لن أُلقي اليراعة من يــــدي حتّى يُطلّ على الجموع الفرقد
أيُهـــــــان نابغـــة ويُسجن شاعـــر وأخو الجهالة في البلاد يُمجّـد
ضاقت بوجهي الأرض وهي رحيبة لمّــا رأيت المصلحين تشرّدوا
أمسيت في سجن الرّمــــال مُقيّـــداً لكـــنّ فِكــر الحرّ ليس يُقيّــــد
قولي لمن طرحـوا البريء مُكبّـــلاً يوم الجُناة كليل سجني أسـود
إن يسألوا يا أخت روحي من أنـــا قولي لهم : هو شاعـر متمرّد
حليم دمّوس
مقدّمة
بقلم ماجد مهدي
هذا الكتاب ضُمّة من الأزاهير الحالمة التي تزدان بها حديقة الأدب الداهشيّ . أزاهير فردوسيّة ضربت جذورها في تُربة ممراع ، وشمخت أفنانها تُعانق نسائم الحياة ، وتفتّحت أكمامها عن رنوة جريئة إلى وجه الشمس . فجاءت الكمال في الجمال ، والإبداع في تعدّد الأشكال والألوان ، والسّحر في الأفاويه التي تحكي عبق الجِنان .
ضُمّة اختارتها يد الدكتور داهش لتعهد بها إلى "بلبل المنابر"(1) الذي غدا في تلك الفترة مُستهاماً بتلك الحديقة الأدبيّة ، يتنقّل صادحاً على أفنانها ، ويغتذي بشهيّ ثمارها ، ويرشف من خمر كوثرها . فيستسلم ذلك الشاعر الغرّيد عروس شعره ، ويحوكُ لها من قوافيه وأوزانه بُردة جديدة ، فتغدو تلك الصفحات – الأزاهير مزدهية بحلّتين بهيّتين : حلّة النثر ، وحُلّة الشّعر .
- * *
إنّ أوّل ما يلفت في هذه الصفحات من الأدب الداهشيّ تلك الظاهرة التي تفرّد بها الدكتور داهش دون سواه من الأدباء ، والمتمثّلة في اهتمامه بنقل كامل تراثه الفكريّ إلى صيغة الشّعر . فهو يؤثّر الترافق بين النثر والشّعر ، رغم أنّ الكثير من كتاباته حفلت بالشّعر الموزون ، وبالكثير من الشّعر المنثور ، الموسيقيّ الجرس والإيقاع ، والذي لا مرية في أنّه من الشّعر الذي طلّق الوزن والقافية ، وتحرّر من قيودها .
هذا النهج الفريد لم يكن وليد السنوات المتأخّرة من حياة الدكتور داهش الأدبيّة ، بل جاء مواكباً ولادة ذلك الأدب ، بدءاً بباكورة كتبه المطبوعة "ضجعة الموت" الذي نظمه الشاعر الفلسطيني مُطلق عبد الخالق ، والذي صدرت نسختاه النثريّة والشعريّة متزامنتين . كما يستمرّ هذا النهج واضحاً في العشرات من مآثره الأدبيّة التي نظمها شعراء فيما بعد ؛ فينظم الشاعر صلاح الأسير كتاب (عشتروت وأدونيس)، والعلاّمة الشيخ عبد الله العلايلي كتاب (الجحيم)، وينظم حليم دمّوس العديد من تلك الكتب المتنوّعة المواضيع .
بعيد هذه النظرة الأولى ، تطلّ علينا مقتطفات من عشرة كتب مختلفة للدكتور داهش ، فنقرأ بعضاً من "مذكّرات يسوع الناصريّ" التي كشف فيها بإلهام روحيّ حقبة من حياة الناصريّ المجهولة ، " ونشيد الأنشاد" الذي يُعيد فيه إلى الأسماع صدى النشيد الخالد الذي أطلقه النبيّ سليمان الحكيم . كما نقرأ "ناقوس الأحزان أو مراثي إرميا" وأسطورة" عشتروت وأدونيس". وتطالعنا أيضاً قطعُهُ الوجدانيّة في كتاب "نبال ونصال" وكتاب "أوهام سرابيّة وتخيّلات ترابيّة"، ونخشع معه ونشاركه الضراعة في "ابتهالات خشوعيّة". كما نطلّ من خلال روايته الشهيرة "مذكّرات دينار" على واقع الحياة المأساويّ الذي تتخبّط فيه الشعوب والأمم . ونشعر بالأحزان الفيّاضة والآلام المُمضّة والثورة الجارفة تفيض من كتاب "من وحي السجن والتجريد والنفي والتشريد" الذي تضمّن وقائع المظلمة التي أنزلها به زبانيّة الظلام والشرّ . وبعد كلّ ذلك ننحني لوعة ونحن نستمع لمرثياته الخالدة في " روح تنوح" والتي فاض بها قلمه الموجع المفجوع بزهرة الداهشيّة (ماجدا حدّاد) التي استُشهدت في سبيل مبدإها ودفاعاً عن البريء المظلوم داهش .
* * *
أما ما يُشدُّ للوهلة الأولى في شعر حليم دمّوس ، ومن خلال تأريخه لتلك القصائد ، فهو سرعته وعفويّته في النظم التي تحكي سرعة الطائر في تنقّله على الأفنان وعفويّته في صداحه وإنشاده . والذين عرفوا الحليم يشهدون بأنّ سرعته في النظم تماثل سرعته في كتابه النثر ، وأنّ له في نظمه سلاسة الجدول الرقراق المُنساب بسلامٍ واطمئنان على بساطِ الطبيعة النشوى.
كما يتأكّد ذلك من غزارة مؤلّفاته التي تركها في الفترة القصيرة من حياته التي أعقبت اعتناقه للداهشيّة . ولربّما أخذ عليه عدم إعادة النظر في شعره وعدم اختياره لما هو أصلح ، بيد أنّ الأولويّة في رأي حليم كانت للصدق في التعبير دون الإغراق في أساليب البديع والبيان .
والملفت أيضاً هو دقّته في النقل ومحافظته على الأصل النثريّ روحاً وشكلاً . ومردّ ذلك إلى قوّة إبداع وخلق تميّز بها الشاعر ، وإلى الرابط الفكريّ والروحيّ الذي يربطه بالناثر .
فالتقاء حليم دمّوس بالدكتور داهش ، وتعرّفه إليه ، واعتناقه لعقيدته الروحيّة ، وإعجابه المُطلق بأدبه وفكره كان نقطة تحوّل في حياة حليم الشعريّة فصلت بين ماضٍ شعريّ هزيل رهين المناسبات ، ومستقبل منفتح على الآفاق الداهشيّة الغنيّة بالمعاني الروحيّة والقيم السامية . حتى الشاعر نفسه يعترف بهذا الانقلاب العظيم في حياته وشعره ، فيأسف على الماضي الذي انطوى، ويُخاطب قلمه في اعتذار التائه الذي اهتدى :
إنّــــي لمعتــــذرٌ والله مـــــن قلــــم يجري على الطّرس مثل العارض الهتن
فكــــم مدحت به قومـــاً بــلا خلـــق فكنت أنثر أزهــــاري علــــى الدّمـــــن
شربت من كأسهم صاب العذاب ولم أجــــد صديقاً لــــدى البأســـــاء يعرفني
فيـــا يراعي بحــــقّ الحبّ معـــذرة فقـــد ندمت على ما فـــــات من زمــــن
إنّي اهتديت لـــروح الناس قاطبـــة وكلّ أرض غدت بين الـــورى وطنـــي
فإذا كان أدب الدكتور داهش بالنسبة للشاعر يشكّل فعل إيمان ، فلا عجب أن يأتي ذلك الشّعر وكأنّه تعبير عمّا يجول في خاطر الشاعر دون الوقوع في متاهاتِ النقل . فالقارئ لقصائده التي تضمّنتها " مقتطفات من وحي السجن والتجريد والنفي والتشريد" سيرى بجلاء أنّ الأحزان والآلام التي عبّر عنها المؤلّف متدفّقة في الشعر كما في النثر . ومردّ ذلك إلى أنّ اضطهاد المؤلّف وسجنه ونفيه وتشرّده كانت جميعها سبباً في آلام الشاعر وأحزانه في تلك الحقبة المريرة .
وكذلك الحال في "روح تنوح" إذ إنّ الشعور بالمرارة يفيض من القصائد بقدر ما يفيض من القطع النثريّة .
هذه الوحدة الشعوريّة بين الناثر والشاعر هي عامل أساس في إبداع حليم الشعريّ .... فإذا رقّ الناثر في غزليّاته ترى قيثارة الحليم قد شفّت ، وإذا ثار ثارت ، وإذا ابتهل خشعت وتضرّعت ....
* * *
ختاماً ، فإنّ (ناثر وشاعر) بأجزائه الثلاثة قد أضاف أفقاً جديداً لعالم الأدب يستمدُّ ألوانه من امتزاج رائع بين فنّي النثر والشّعر ، كما إنّه يتيح المجال للإطّلاع السريع على أدب الدكتور داهش الذي تصعب الإحاطة السريعة بمجمله لما اتّصف به من غزارة وغنىً وشمول .
ماجد مهدي
بيروت ، 20 تمّوز 1983
مقتطفات
من كتاب
مذكّرات يسوع النّاصريّ
استسلام
هذه هي إرادة أبي السماويّ ، وإلاّ ما كنت لأحيا الآن في عالمِ الرياء .
لقد تعبت نفسي من كلّ شيء ، وعافت روحي هؤلاء البشر الأدنياء .
إنّ التعاليم السماويّة لا تُجدي فيهم نفعاً ، ولا المواعظ التي تُلقى عليهم بوحي من السماء .
الفقراء والبؤساء والمُصابون هم وحدهم يُصغون لي ؛ أمّا الأغنياء فإنّهم يعبدون المال وحده.
فالويل لهم عندما تدقّ ساعة حسابهم الرهيبة !
ها قد قطعت اثنتي عشرة مرحلة من مراحل حياتي وأنا لا أصطدم إلاّ بكلِّ نقيصةٍ وكلِّ رذيلة!
ليس من صالحٍ واحد ! نعم ، ليس من يعمل صلاحاً سوى الله جلّ اسمه .
أمّا أنا فقد قطعت على نفسي عهداً بأن أسيرَ على طريقِ الحقّ والحقيقة !
بيروت ، 1943
هـذي إرادة أبي بـاري الـــورى بأن أعيش زمناً فـــوق الثّرى
قـــــد تعبت نفسي مـن الأيّــــام وعافت الـــروح بني الآثـــام
كـــــم من تعاليـم مـن السمــــاء لم تُجدِ نفعاً ساكني الغبــــراء !
فالأغنيـــاء يعبــــدون المــــــالا والفقــــراء يشتكون الحــــالا !
يا ويلهــم من ساعــة الحســـاب في موقف العقاب والثــــواب !
قطعت من مراحلي الثاني عشر ولستُ ألقى صالحاً بين البشر
لا لا ، فليس بينهم من صالـــح ولا ترى عيناي غير الطالـح
عاهـــدت نفسي نصرة الحقيقة بعـــون ربّي خالـــق الخليقة
بيروت ، آب 1943
454- قافلة الحياة تجري
ها أنا في مدينة (القدس) أتجوّل في أسواقها وأتخلّل دروبها الضيّقة .
وليس من يسير معي ؛ إذ إنّني وحيد فريد في ميولي واتّجاهاتي .
لقد كلّت قدماي من كثرةِ السّير ، وأشعر بالجوعِ يقرص أمعائي والسّغب (2)يُحرق أحشائي.
وإذا بعين نقّادة تلمحني هي عين شيخٍ هرم ينظر إليّ أمام أحد أبواب الهيكل بعطفٍ وحنان .
لا شكّ بأنّك غريب ، يا بُنيّ ، وأراك جائعاً ، فهل لك أن تُشاركني في الطعام ؟
فأخرج من كيسه قبضة من الزيتون الأخضر ، وقطعةً من الجبن وبصلة شهيّة ....
كان هذا الشيخ (يونا) والد بطرس الذي سيكون صخرة راسخة لدينٍ صحيح .
فرفعت صلاة شُكرٍ حارّة لله أبي وأبي البرايا !....
بيروت ، 1943
ها أنا في القــــدس أسير وحـــــدي في ضيّق الأســواق بين الحشد
أنا وحيــــد في ميــــول فكـــــــري وفي اتّجاهاتــي بهــــذا العصر
وقدمــــــاي كلّتــــا مـــن التعـــــب ولهب الجـــوع وشـــدّة السّغب
لكـــــــنّ عينـــا لمحتنـــي حائــــراً وضائعـــاً وجائعـــاً وخائـــــراً
عين لشيخ قـــال لي :" يـــا ولـــدي أنت غريب ههنــــا في البلــــد
هيّــا لنأكــل ، صـــاح ، فالطّعــــام جبن وزيتــون ، همــــا الإدام "
قد كان (يونا) الشيخ ذاك المصطفى ووالد الرسول بطرس الصّفــا
شكرت مـــــولاي أبــــــا البرايــــا ومُنقــــذي في ساعة البلايــــا
بيروت ، آب 1943