أنا أؤمن بأنه توجـد عدالة سماويّة, وأن جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدنيا من مُنغصات انَّ هـو الاّ جـزاءٌ وفاق لِما أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور.ولهـذا يجب علينا أن نستقبلَ كلّ مـا يحـلّ بنـا من آلامِ الحياةِ ومآسيها غير مُتبرّمين ولا متذمّرين , بل قانعين بعدالةِ السماء ونُظمها السامية.

Highlighter
أحبُّ الكُتُبَ حبَّ السُكارى للخمر , لكنَّني كلَّما أزددتُ منها شرباً, زادتني صَحوا
ليس مّنْ يكتُبُ للهو كمَن يكتُبُ للحقيقة
الجمالُ والعفّــة فـردوسٌ سماويّ .
لا معنى لحياةِ ألأنسان اذا لم يقم بعملٍ انسانيٍّ جليل .
اعمل الخير , وأعضد المساكين , تحصل على السعادة .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقـوم بأعمالِ الخير نحـو ألأنسانيّة .
الموتُ يقظةٌ جميلة ينشُدها كل مَنْ صَفَتْ نفسه وطَهرت روحه , ويخافها كلّ من ثقُلت أفكاره وزادت أوزاره .
ان أجسامنا الماديّة ستمتدّ اليها يـد ألأقـدار فتحطِّمها , ثمّ تعمل فيها أنامل الدهـر فتتَّغير معالمها , وتجعلها مهزلةً مرذولة . أمّا ألأعمال الصالحة وألأتجاهات النبيلة السّامية , فهي هي التي يتنسَّم ملائكة اللّه عبيرها الخالد .
نأتي إلى هذا العالمِ باكين مُعولين، و نغادره باكين مُعولين! فواهً لك يا عالمَ البكاء والعويل!
جميعنا مُغترٌّ مخدوعٌ ببعضه البعض.
العدلُ كلمة خُرافية مُضحكة.
أمجادُ هذا العالم وهمٌ باطل، و لونٌ حائل، و ظلٌّ زائل.
لا باركَ الله في تلك الساعة التي فتحتُ فيها عينيّ فإذا بي في مكانٍ يطلقون عليه اسم العالم .
أنا غريبٌ في هذا العالم، و كم احنُّ إلى تلك الساعة التي اعود فيها إلى وطني الحقيقيّ.
الحياةُ سفينةٌ عظيمة رائعة تمخرُ في بحرٍ، ماؤه الآثام البشريَّة الطافحة، و امواجه شهواتهم البهيميَّة الطامحة، و شطآنه نهايتهم المؤلمة الصادعة.
كلّنا ذلك الذئبُ المُفترس , يردع غيره عن اتيانِ الموبقاتِ وهو زعيمها وحامل لوائها , المُقوّض لصروح الفضيلة , ورافع أساس بناءِ الرذيلة .
الحياةُ سلسلة اضطراباتٍ وأهوال , والمرءُ يتقلَّب في أعماقها , حتى يأتيه داعي الموت, فيذهب الى المجهولِ الرهيب , وهو يجهلُ موته , كما كان يجهلُ حياته .
من العارِ أن تموتَ قبل أن تقومَ بأعمالِ الخير نحو الانسانيّة .
المالُ ميزان الشرِّ في هذا العالم .
السعادةُ ليست في المال , ولكن في هدوءِ البال .
كلُّ شيءٍ عظيمٍ في النفسِ العظيمة , أمّا في النفسِ الحقيرة فكلُّ شيءٍ حقير .
الرُّوح نسمةٌ يُرسلها الخالق لخلائقه لأجل , ثم تعودُ اليه بعجل .
الرُّوح نفثةٌ الهيَّة تحتلُّ الخلائق , وكل منها للعودة الى خالقها تائق .
الرُّوح سرٌّ الهيٌّ موصَدْ لا يعرفه الاّ خالق الأرواح بارادته , فمنه أتتْ واليه تعود .
أنا أؤمن بأنه توجـد عدالةٌ سماويّة , وأنَّ جميع ما يُصيبنا في الحياةِ الدُّنيا من مُنغِّصاتٍ وأكدارٍ انَّ هـو الاَّ جـزاء وفاق لمِا أجترحناه في أدوارنا السابقة من آثـامٍ وشـرور . ولهـذا يجب علينا أن نستقبل كلَّ مـا يحـلُّ بنـا من آلام الحياة ومآسيها غير م
الحرّيةُ منحة من السماءِ لأبناءِ ألأرض .
الموتُ ملاكُ رحمةٍ سماويّ يعطف على البشر المُتألّمين , وبلمسةٍ سحريّة من أنامله اللطيفة يُنيلهم الهناء العلويّ .
ما أنقى من يتغلّب على ميولِ جسده الوضيع الفاني , ويتبع ما تُريده الرُّوح النقيّة .
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
الراحة التامّة مفقودة في هذا العالم , وكيفما بحثت عنها فأنت عائدٌ منها بصفقةِ الخاسر المَغبون .
ليس أللّــه مع الظالم بل مع الحقّ.
ان الصديق الحقيقي لا وجود له في هذا العالم الكاذب.
ما أكثر القائلين بالعطف على البائسين وغوث الملهوفين والحنو على القانطين , وما أقلَّ تنفيذهم القول.
يظنُّ بعض ألأنذال ألأدنياء أنّهم يُبيّضون صحائفهم بتسويدِ صحائف الأبرياء , غير عالمين بأنَّ الدوائر ستدور عليهم وتُشهّرهم.
ما أبعدَ الطريق التي قطعتها سفينتي دون أن تبلغَ مرفأ السَّلام ومحطَّ الأماني والأحلام .
رهبة المجهول شقاء للبشرِ الجاهلين للأسرارِ الروحيَّة , وسعادة للذين تكشّفت لهم الحقائق السماويَّة .
الموتُ نهاية كل حيّ , ولكنه فترة انتقال : امّا الى نعيم , وامّا الى جحيم .
الحياةُ خير معلِّمٍ ومُؤدِّب , وخيرَ واقٍ للمرءِ من الأنزلاقِ الى مهاوي الحضيض .
حين تشكُّ بأقربِ المُقرَّبين اليك تبدأ في فهمِ حقائق هذا الكون .
مَنْ يكون ذلك القدّيس الذي لم تخطرُ المرأة في باله ؟ لو وجدَ هذا لشبَّهته بالآلهة .
المرأة هي إله هذه الأرض الواسع السُّلطان. و هي تحملُ بيدها سيفاً قاطعاً لو حاولَ رجالُ الأرض قاطبةً انتزاعه منها لباؤوا بالفشلِ و الخذلان .

 جحيم الدكتور داهش

          جحيم

 

                 الدكتور داهش بك

فاتحة

من شاء أن يرى مظهراً عجيباً من مظاهر الله في عباده . فلينظر إلى خطرات الفكر في الإنسان . إذا جال جولته ميادين البيان . فما الفكر إلاّ قبسٌ من روح الله العليّ بل لمعة من لمعات نوره الإلهيّ وما الكتب التي تنشرها المطابع وتكتحلُ بها العيون وتتغذّى بنتاجها العقول سوى مصابيح هداية للسارين في ظلمات هذه الحياة .

وكلّما كان المصباح منيراً زاد عدد المستنيرين وقلَّ عدد الضالين والمضلّلين . وكلّما توفّرت لأمّة من الأمم مصابيح الهداية حملت أمام أبناءها الراية . وبلغت الغاية . وكان مجدها في النهاية خيراً من البداية .

حول مؤلّف الجحيم

أمامنا الآن من الدكتور داهش بك خمسة مصابيح نورانيّة من كتبه الأدبيّة : أوّلها ضجعة الموت وآخرها عشتروت وأدونيس ... ثم (الجحيم) هذا . إلى أن يظهر سواهُ وسواهُ تباعاً بعون الله وهدايته .

وهذا المؤلّف الجديد يصدر اليوم بحلّة قشيبة . في فترة هائلة مرعبة من فترات الحرب الرهيبة . وسنقوم بتحليله بعد أن نحلّل سواه من الكتب التي ظهرت على شاكلته .

أمّا مؤلّف الجحيم هذا فهو مثابرٌ على نشر سلسلة كتبه تأديةً لرسالة أدبيّة روحيّة سامية سيزحزح الستار عنها عاماً فعاماً . والمستقبل كشّاف .

نظرةٌ إلى الوراء

إذا رجعنا بعين الفكر إلى الوراء وقلبنا صفحات التاريخ من حديث وقديم تبيّن لنا أن عدداً ليس بقليل من أدباء وشعراء حاولوا وصف (الجحيم).

فهنا (أبو العلاء المعرّي) الفيلسوف العربي في رسالة الغفران ورسالة الملائكة .

وهناك (دنتي) الشاعر الإيطالي في (روايته الإلهيّة)

وهناك (رسلان البني) في كتابه (يوم القيامة)

وهناك (الحارث بن أسد المحاسبي) في كتابه (التوهّم)

وهنالك الشاعر العراقي (جميل الزهاوي) في دواوينه الشعريّة . وعمر الخيام في بعض رباعيّاته المشهورة إلى ما هنالك من سلسلة أقوال وملاحم ومؤلّفات نثريّة وشعريّة كمشكاة المصابيح للمقريزي في باب الفتن ومصابيح السنة للبغوي والفصول والغايات لأبي العلاء والمهابرتا السنسكريتيّة وأمثالها من المؤلّفات القديمة والحديثة .

تعريف الجحيم

الجحيم في اللغة : النار الشديدة التأجّج وهي مرادف لكلمة جهنّم أي مكان الأشرار بعد الموت .

وتسمّى أيضاً سقر أو صقر ولظى والسعير والدرك الأسفل أو الدركات السفليّة .

وعرّفوا الجحيم بقولهم : إنّها مقرّ الخطأة الهالكين .

وقال آخرون : إنّها الهاوية البعيدة القعر من وقع فيها هلك .

وقال بعض العلماء : الجحيم أو (جهنّم) علمٌ لدار العقاب وهو في الأصل مرادف للنار .

وفي معاجم اللغة : كلُّ نار عظيمة في مهواة هي جحيم .

والجحيم كجهنّم دار العقاب الأبديّ بعد الموت وتسمّى أيضاً : (الهاوية) حيث يقاسي الهلكى العذابات الشديدة بعد انتقالهم من هذه الحياة الدنيا .

والجحيم نقيض النعيم أو الجنّة أو الفردوس أو جنان النعيم . أو دار الخلود ومقرّ الصالحين وديار المتّقين .

وجاء في دائرة المعارف : إذا تصوّر الناس أن الجنّة في السماء فوقنا والنور فيها دائم السطوع، فليتصوّروا أن (الجحيم) في مكان يقابلها أي في الأسفل حيث الظلمة لا تزول . وهذه الأماكن الُمظلمة عبارة عن سجون معدّة لمن يموتون بدون أن يتوبوا عن آثامهم .

وقد ورد ذكر (الجحيم) كثيراً في الكتب المقدّسة المنزلة وهكذا (النعيم).

آراء في الجحيم والنعيم

نشأ الناس من قديم الزمان وهم في شغل وتشوّق قاتل لمعرفة ما وراء الموت .

ولما كانوا يعتقدون بخلود النفس ويؤمنون بالحياة الآتية المعروفة بالآخرة كان من الطبيعي أن يتصوّروا أنّ هناك مكانين رئيسيّين :

الأوّل – لراحة الأبرار وثوابهم وهو (النعيم).

الثاني – لعذاب الأشرار وعقابهم وهو (الجحيم).

ومن راجع التاريخ في جميع أدواره ولا سيّما تاريخ الكلدان واليونان والرومان والمصريّين والفرس والهنود والصين والمجوس وسواهم من الأمم والشعوب تبيّن له أنّهم اهتمّوا كثيراً بالأرواح الشرّيرة والأرواح الصالحة .

خلود النفس والثواب والعقاب

وقد تنبّه الناس إلى خلود النفس وبقاء الأرواح ووجود الجحيم والنعيم بدليل مخاطبة شاول لروح صموئيل النبي إذ قالت له :

-         لماذا أزعجتني ؟

ونهى (موسى) عن استشارة الموتى وهذا أيضاً دليل وجودها في عالم الأرواح .

وفي المزامير يعبّر النبي داوود عن فرحه (لأنّ الله لم يترك نفسه في الهاوية) فقد بُشّر روحياً أن نفسه ارتفعت من هوّة الجحيم .

وكذلك قال سليمان الحكيم في بعض أسفاره :

" إنّ الجسد يرجع إلى الأرض التي أُخذ منها . أمّا الروح فترجع إلى الله الذي خلقها".

وهكذا تبيّن للمؤمنين من أقوال إشعياء النبي والسيّد المسيح أنّ في الجحيم (دوداً لا يموت وناراً لا تنطفئ).

وقال الربّ في التوراة :

إنّ النار تشبُّ بغضبي فتتوقّد إلى الهاوية (السفلى) وما الهاوية السفلى إلاّ مقرّ عذابات الجحيم .

وذكر كلمة (سُفلى) دليل واضح على وجود دركات عديدة في ذلك المكان الرهيب.

ومن راجع سفر أيّوب النبيّ تأكّد له وجود (الجحيم) حيث ذكر (مقرّ الأموات) وشبّهه بأرضٍ (يغشاها الظلام) وسمّى الهاوية بمحل شقاء مملوء من الأحزان الأبديّة .

وهكذا أشعياء النبي فقد جاء على ذكر الأشرار الذين يوبّخون ملك بابل في الجحيم ويهزأون به .

وهو الذي قال في سفره قبل السيّد المسيح أو دود الكفّار لا يموت ونارهم لا تُطفأ :

ومن راجع صفحات الكتب الصينيّة والهنديّة والمصريّة وسواها من قبل بوذا ولاوتزي وكونفوشيوس وبرهما والفراعنة قرأ أقوالاً خالدة تحوم حول النعيم والجحيم وفي القرآن الكريم كما في التوراة والإنجيل المقدّس آيات بيّنات في هذا الشأن فليراجعها طلاّب المعرفة وعشّاق الحقيقة .

آراء الفلاسفة والعلماء

وهناك فئة كبيرة من فلاسفة الزمان وعباقرة العصور تقول بوجود الآخرة وتعتقد بخلود النفس . وبالثواب والعقاب بعد الموت .

وقال شيشرون الفيلسوف الروماني :

"إذا كنّا نقبل تنبيهات الطبيعة ، وإذا كان الناس يُجمعون على وجود شيء بعد هذا الوجود ، فيجب علينا أن نقبلَ هذا المذهب المعقول ".

قال سينيكا الحكيم :

"أمّا في ما يتعلّق بخلود النفس فيجب أن نعتبره كأمر ذي أهميّة عظمى ويجب تسليم الأمم به ، ولا سيّما الذين يتفقون على الخوف من عذاب الجحيم "

وقد أجمع العلماء المفكّرون على أنّ وجود (الجحيم) إنّما هو أعظم رحمة للحائرين في صحراء هذه الحياة الفانية .

قال العلاّمة الإفرنسيّ فولتير :

" انزع عن الناس الرأي القائل بوجود إله يجازي ويعاقب ترى القاتل يلتذّ بالاستحمام بدم قتيله . وترى الابن يقتل أباه أو أمّه بطمأنينة وراحة "

آراء علماء النفس

وقد أجمع علماء النفس أنّ البشر عندما شكّوا بوجود الجحيم تهدّمت من بينهم أركان الاستقامة . وفسدت الأخلاق الصالحة . أصبحت الهيئة الاجتماعيّة فريسة الطمع والشهوات الدنية والرغبات الدنويّة .

ومن تعاليم الكنيسة الأوليّة أنّ السيّد المسيح الفادي نزل إلى الجحيم :

ومعنى ذلك أنّ نفسه حينما كان جسده في القبر نزلت إلى المكان الذي فيه نفوس الأبرار لتعزيهم وتبشّرهم بالخلاص . وقد وعد بالمجيء الثاني إلى الأرض . ولا ريب أنّه سيمسح بمنديل حنانه دموع أبناء هذه الفانية أو أبناءَ تلك الهاوية ...

الأساطير القديمة

وكثيراً ما جاء ذكر (الجحيم) في أساطير الأقدمين وميثولوجيا اليونانيين والرومانيين . فعرّفوا (الجحيم) أنّها المكان الذي تنزل إليه الأموات لتكفّر عن الذنوب التي ارتكبتها أثناء وجودها على الأرض .

أمّا الصينيّون والبرهميّون وأمثالهم فرأيهم أنّ مدّة العذاب ليست بدائمة . فكلّ شخص عندهم يعاقب أو يكافأ حسب أعماله فإمّا في درجات نعيم وإمّا في دركات شقاء مقيم . وهذا يطابق قول سيّد الأطهار :

(عند أبي منازل كثيرة )

أمّا (الصدّوقيّون) فينكرون وجود الجحيم والجنّة كأن أبا العلاء المعرّي من مذهبهم حين قال :

ما جاءنا أحدٌ يخبّر أنّه             في جنّة من مات أم في نار

التناسخ أو تقمّص الأرواح

وهناك آراء لفئة من الناس تعتقد اعتقاداً أكيداً أنّ (الآخرة) إنّما هي تتمّة لهذه الحياة الدنيا .

فالصاعد إلى السماء يكمل سيره صعوداً حسب أعماله الصالحة . والهابط إلى الهاوية إمّا يندم رويداً رويداً فيصعد . وإمّا يزداد انحداراً حسب أعماله الطالحة ...

وهناك فئة تقول بالتقمّص أو التناسخ وهو انتقال الروح من جسد إلى جسد آخر والذين يعتقدون ذلك يسمّون (التناسخيّة) وهم يقولون أنّ التقمّص هو الرحمة الوحيدة لبني البشر . إذ بعودتهم إلى الأرض مراراً تتطهّر أرواحهم وترتقي رويداً رويداً من الدركات إلى الدرجات .

وقد ورد ذكر التقمّص مراراً في الكتاب المقدّس دون أن ينتبه إليه أحد خصوصاً عندما كان السيّد المسيح مع تلامذته وسألوه عن (يوحنا المعمدان) فأجابهم أنّه (إيليّا النبي) أي أنّ روح إيليّا النبي متقمّصة بيوحنا المعمدان .

ومهما يكن من الأمر فإنّ الناس منذ تأسيس العالم إلى اليوم ما برحوا يتحدّثون عن الجحيم والنعيم وهم بين تحليل وتعليل وتأويل !

بل بين تحاليل وتعاليل وتآويل !

ولو هم انصفوا وعقلوا لآمنوا بوجود الاثنين .

بل آمنوا بالعالم الروحاني بعد هذا العالم الحقير الفاني

وعندئذ يبتعدون عن نيران الأوّل ويحنون إلى التمتّع بالثاني !

وقد قال لسان الدين الخطيب في إحدى مواعظه :

ولو أنا إذا متنا تُركنـا             لكـــان الموت راحة كـــلّ حيّ

ولكنّا إذا متنا بُعثنـــا              ونُسأل بعـده عن كــلّ شيء

رسالة الغفران لأبي العلاء

هي رسالة خالدة من عبقريّ زمانه أبي العلاء المعرّي بعث بها إلى صديق له يسمّى (ابن القارح) وقد أذاعها إلى الناس الأستاذ كامل كيلاني الموظّف في الأوقاف المصريّة وحللها ونقدها وقرّظها عدد من المفكرين بينهم الدكتور طه حسين ومحمّد فريد وجدي ومحمّد كرد علي وسليمان البستاني معرّب الإلياذة وجرجي زيدان مؤسّس الهلال والدكتور شبلي شميل . وجريدة الأهرام . وسيّد إبراهيم الساعي وجلد زهير وسواهم وقد خدم الأستاذ الكيلاني أبناء وطنه بنشرِ هذه الرسالة بحلّة قشيبة .

وقال عنها الدكتور طه حسين أنّها (آية الأدب العربي . كما أنّ صاحبها آية كتّاب العرب . وهي آية التفكير العربي . وآية الخيال العربي . وآية السخرية العربيّة . وآية الحريّة العربيّة . بل آية العرب في هذا كلّه )

وقال عنها أحد الأدباء (إنّ رسالة الغفران كوميديا إلهيّة مسرحها الجنّة والنار )!!

أبو العلاء وابن القارح !

متى ذُكرت (رسالة الغفران) لأبي العلاء المعرّي لا بدّ أن يتبادر إلى الذهن في الحال اسم (ابن القارح) ذلك لأنّ (رسالة الغفران) أرسلت إليه رداً على رسالة كتبها أوّلاً إلى (أبي العلاء) وفي ختامها ألحّ عليه أن يشرّفه بالردّ عليها .

فكانت (رسالة الغفران) صدى رسالة (ابن القارح) فكان له فضل المتقدّم .

وقد أطلق على (الرسالة) اسم (الغفران) لأنّ الفكرة الرئيسيّة في الرسالة هي مناقشة الذين فازوا بالمغفرة والذين حرموا منها في الدار الآخرة فيشرح له الصالح منهم الأسباب التي أدخلته إلى الفردوس وكيف يتمتّع به وينعم ببدائعه .

ويشرح له الطالح ما يقاسي من ألم وعذاب في الجحيم وروائعه .

حول رسالة الغفران

لرسالة الغفران فصول ستّة وعناوين عديدة

ففي الفصل الأوّل منها : الفردوس . وندامي الفردوس ، ونزهة ابن القارح ، وحديث الأعشى ، وزهير ابن أبي سلمى ، وعبيد ، وعديُّ بن زيد ، والهذلي ، والنابغتين ، ومجلس غناء ، وحديث لبيد وغناء الحور ، ومشاجرة الجعديّ والأعشى ، وحديث حسّان بن ثابت ، وعوران قيس ، وحكاية تميم بن أُبيّ .

وفي الفصل الثاني : يوم الموقف ، وحكاية ابن القارح ، وحديثه مع رضوان وزُقر وحمزة بن عبد المطّلب ، ومقابلة أبي علي الفارسي وحديثه مع علي بن أبي طالب وورودهُ الحوض ، وحديثه مع فاطمة والنبي وعبور الصراط ، وحواره مع رضوان ، ودخوله الجنّة .

أمّا القسم الثاني من رسالة الغفران فيحوم حول الردّ على رسالة ابن القارح وفيها وصف وفائه وذكر عدد كبير من الشعراء كأبي الطيّب المتنبّي وأبي نوّاس وبشار ابن برد والحلاّج ، وابن هانئ الأندلسي وابن الرومي وأبي تمّام .

أمّا الفصل الثالث فله عدّة عناوين كنعيم الفردوس وحديث ابن القارئ مع عدد من المشاهير مع وصف مأدبة في الجنّة ومجلس أنس وغناء وحدائق الحور .

وأمّا الفصل الرابع ففيه ذكر جنّة العفاريت وأشعار الجنّ ولغتهم وحديث بعض الشعراء

أمّا الفصل الخامس فيه (الجحيم) وحديث الخنساء وابن القارح مع بشار وامرئ القيس وعنترة وعلقمة وعمرو بن كلثوم والحارث اليشكري وطرفة واوس بن حجر وسواهم .

أمّا الفصل السادس ففيه العودة إلى الفردوس وحديثه مع آدم وذات الصفا والعودة إلى حوريّته وجنّة الرّجاز نعيم الخلد .

بلاغة أبي العلاء في رسالته

من راجع (رسالة الغفران) بتجرّد دُهش لتفوّق أبي العلاء في التفنّن بأساليب الكلام ونقده الرائع وهزئه اللاسع اللاذع وأدرك لأوّل وهلة أنّ هذا الضرير البصير إنّما يغرف من بحرٍ فيستخرج اللآلئ من مغاوصها .

وقد جاء على ذكر (الجحيم) بعباراتٍ بليغة بالغة فيتطرّق إلى وصف عذاب النار وآلام الخطأة ويأتي على ذكر منادي الحشر عندما يُسأل عن جبابرة الملوك فيقول :

" إنّ الزبانية تجذبهم إلى الجحيم "

" والنسوة ذوات التيجان يسرن بالسنةٍ من الوقود "

" فتأخذ الزبانيّة في فروعهنّ وأجسادهنّ "

"والشباب من أولاد الأكاسرة يتضاغون (يصيحون) في سلاسل النار "

إلى أن يقول لهم :

" أولم نعمركم ؟... ما يتذكّر فيه من تذكّر . وجاءكم النذير .

فذوقوا فما للظالمين من نصير "

" لقد جاءتكم الرسل في زمان بعد زمان "

" وبذلت لكم ما وكّد من الإيمان "

التعقيد في رسالة الغفران

على أنّ من قرأ صفحات رسالة الغفران صفحة ووضعها على مائدة التشريح الصحيح والنقد المجرّد تجمّعت له من خلال السطور الغرابة في الألفاظ إلى إباحيّة الفكر الجموح الطموح إلى السخريّة المتناهية إلى الجرأة العنيفة إلى التهديم والتحطيم إلى المبالغة في الخيال السحيق . إلى سجع مستحب متناسق كالجوهر . إلى سجعٍ نافرٍ مستنكر ، إلى نثرٍ مرسلٍ مُنسجم ، إلى نثرٍ مُعقّد ينبو عنه الطبع إلى ألفاظ وكلمات وعبارات يكاد لا يفهما الأعراب والأعاجم . ولو راجعت معانيها في بطون المعاجم ، ولذلك قال الأستاذ محمد فريد وجدي وهو في طليعة المُعجبين بأبي العلاء :

(فرسالة الغفران يصعب على الأكثرين قراءتها ومزاولتها والاستفادة ممّا حوته من آراء مسدّدة ....

(ولو أحصينا عدد من قرأ هذه الرسالة من جملة المتأدبين لما ألفيناهم يجاوزون العشرة في المئة . وهذا حرمان يألم منه طلاّب الأدب العالي )

مثالان من ذلك التعقيد !

على أنّ أبا العلاء بعث برسالته يومئذ إلى (ابن القارح) تلبية لرغبة صديقه

ولعلّه أراد الإغراب في القول المبهم والإعجاز في العبارات الغامضة التي لم تستخدمها الأقلام ولا أدركتها الأفهام . وإليك مثالاً من ذلك الكلام :

" هل علم الحبر الذي نسب إليه جبريل

وهو في كلّ الخيرات سبيل

إنّ في مسكني (حماطة) ما كانت قط (أفانية)

ولا (الفاكزة) بها غانية !....

وقال في مكان آخر ...

وإنّ في طمري (لحضباً ) وكلّ بأذاتي

لو نطق لذكر (شذاتي)

ما هو بساكن في (الشقاب)

ولا بمشرف على النقاب ....

فأين هذا من سلاسة (جحيم داهش) من المطلع حتى الختام (أنا الآن أسعى كالأفعى)؟

فليراجع المُطالع المؤلّفين . وليحكم بين الأسلوبين !!..

إنصاف

على أنّ ذلك لا يغضُّ من أهميّة (رسالة الغفران)

وكيف أثنى (أبو العلاء) على رسالة (ابن القارح) توصّلاً إلى مثله الأعلى .

فذكر الملائكة ترفع كلماتها الطيّبة إلى السماء

وذكر أشجار الجنّة وأنهارها وأطيارها وأزهارها .

وذكر ما هنالك من خمورٍ ومن غبطةٍ وحبور

ووصف (ابن القارح) يتنزّه بنعيم الجنان الخالد ويتعرّف بأهل الجنّة ويصف دخوله عليهم ودخول سواه من صالحين ومتقين .

ثم يذكر لك زيارته لأهل النار في (الجحيم) ويسألهم عن الأسباب التي جرّتهم إلى هذه العاقبة الوخيمة الأليمة

إلى آخر ما في الرسالة من أغراض لطيفة وأهداف بعيدة .

رسالة الملائكة

ولأبي العلاء رسالة أولى كتبها قبل (رسالة الغفران) بعث بها إلى مستفسرٍ عن بعض المسائل الصرفيّة ... فكان جوابه عليها (رسالة الملائكة).

على أنّ أبا العلاء لم يكتف بتلك المسائل الصرفية المُبتذلة بل استطرد منها إلى ما يناسبها من لقاء عزرائيل فمُحاسبة الملكين فنفخ الصور فدخول الجنّة .

وهذه الرسالة مُقتضبة بالنسبة إلى (رسالة الغفران)

ولعلّها كانت نواةً أو تمهيداً لرسالة الغفران

وقد وصفها الأستاذ الكيلاني وصفاً دقيقاً وقال عنها أنّها :

"فنٌّ من الأدبِ العالي لا يقلّ عن أجلِّ أثر أخرجه أكبر رأس غربي مفكّر "

إيمان المعرّي وكفره

لقد نسبوا إليه الكفر والإلحاد والزندقة في حين أنّ كثيرين رووا عنه ما يدلّ على عاطفة رقيقة وزهد في الحياة حتّى أنّه عاش أكثر من أربعين سنة لم يذق فيها حيوان أو طائر .

ويروى أنّه قبل وفاته بأم قليلة أشار عليه الطبيب بأكل (فروّج) فأبت نفسه أن يزهق روح حيّ .

ولكن أهله ذبحوا (الفرّوج) دون أن يعلم بذلك .

ولما قدّموه إليه أمسك به وأخذ يخاطبه قائلاً :

"مسكين أيُّها الفرّوج !

أمنوا شرّك فذبحوك

ولو كانوا خافوا بأسك لهابوك "

ثم رمى به ولم يتناول منه شيئاً .

                           ***

ورُوي عنه أيضاً أنّه مرض مرضاً شديداً فوصفوا له (الدجاج) فامتنع .

فألحّوا عليه حتى أظهر الرضى .

ولما قُدّم إليه ولمسه بيده جزع وقال :

"استضعفوك فوصفوك

هلاّ وصفوا لي شبل الأسد ؟"

ثم أبى أن يأكله وطرحه جانباً .

وهذا دليل على عطفه وحنانه . ورفقه بطيره وحيوانه .

فهل مثل هذا الإنسان ، يكون من أهل الكفر أم من أهل الإيمان ؟!....

هذا سؤال نترك الجواب عليه للأجيال !!...

رسالة أبي العلاء من عالم الأرواح

وكأنّ أبا العلاء – يرحمه الله – لم يكتف وهو على هذه الأرض الفانية أن يخاطبنا برسالة الملائكة ورسالة الغفران .

بل شاء اليوم وهو في عالم الأرواح أن يخاطبنا – بعد مرور ألف سنة على وفاته – رسالة روحيّة رهيبة ندوّنها في هذا المقام . على أنّ يُماط عنها اللثام ، وتكشف عن سرّ هبوطها الأيّام، فيعرف العالم كيف يكون الوحي وكيف يُستنزل الإلهام .

قال :

"أرحام تدفع وأرضٌ تبلع

وهاوية تتصدّع وتُفلع

فتهوي بها أرواح الهلكى وكلٌّ منها في دركه الداجي يقبع

وتهرع الشياطين إليهم وإذا بسياطها تُخفض وتُرفع

والهامات تُفلق بقوّة صارمة ... ثم تُقطع

وتهبُّ رياحُ السّموم على وجوههم وتروح لها تسفع وتلفع

هنا الصلاة ، والصيام ، والقعود ، والقيام ... لا ينفع

ولدى ربّهم لا يشفع

واستكانتهم لا تُبعد عنهم سيف الردى فاستحقاقاتهم الدنيويّة بكاملها تُدفع

صدى عويلهم ردّم ردهات الدركات وقوّضها تقويضاً ولكن ليس من يعي أو يسمع !...

ترى كلاًّ منهم قد استلّ قواضب جرائمه وراح يدفعها في جوفه بوحشيّة ولأفاعي آثامه جعل يبلع

الكلُّ يتسابقون حيث مستنقع الفضائح وليس من متخلّف ... فالكلّ يهرع هناك يخوضون في لجج النتانة يتقلّبون في غمراتها فتالله كم كرعوا منها وكم سيُكرع !...

ظلمات الدُّجى طبقاتٌ متكاثفة تتلوها طبقات رهيبة وليس من نجمٍ تراه في تلك النخاريب السحيقة ليلمع .

يزحفون في رهبةٍ مجهولة في ردهات الهاويات النخرة وكلّ بدوره يذرع آفاقها الكئيبة ويقطع .

ومن ولدته أمّه (مظلم العينين)!... يرجو الله من جحيمه أن يأذن له بأن يرى الفجر ينبلج ويطلع .

أمّا نفوس الأطهار الأبرار فأرواحهم النقيّة في أعلى درجات الكمال تسعد وترتع فاتعظوا !.. ثم عظوا !...

هبطت – بعد ظهر 15 شباط 1943 (أبو العلاء المعرّي)

رسالة الغفران وجحيم دنتي والفردوس المفقود

يقول بعض المؤرّخين المدقّقين أن الشاعر الإيطالي (دنتي) أخذ عن (المعرّي) من (رسالة الغفران).

وأنّه اقتبس من بعض المصادر العربيّة كقصّة المعراج وسواها من القصص التي نُسجت على منوالها .

ويقول سواهم أنّه من الصعب البتّ في هذه النظريّة الدقيقة . فهي نظريّة لا حقيقة والحقيقة بنت البحث والتفكير . لا بنت الجزم والتقرير .

ولكن هناك توارد عجيب في التخيّلات والخواطر بين شاعر وشاعر . ولذلك قيل (وقد يقع الخاطر على الخاطر . كما يقع الحافر على الحافر )

وممّا قوّى دليل القائلين بالاقتباس قول أحد المؤرّخين أنّ هناك تشابهاً عجيباً بين رسالة الغفران وجحيم دنتي وفردوس ملتون المفقود فضلاً عن أنّ المعرّي توفي عام (449) هجريّة ودنتي سنة (720)ه وملتون الإنكليزي سنة (1048)- هجريّة

غير أن الذي لا يمكن إنكاره هو أنّ (دنتي) اقتبس كثيراً من (فرجيل) الشاعر الروماني في ملحمته (الأناييد) Eneide

كما تأيد ذلك من أقوال الأدباء والنقّاد الذين درسوا الشاعرين وأمعنوا في التحقيق والمقابلة والتدقيق والمفاضلة .

اسم جحيم دنتي La Divina Commedia

هو من تسمية الكلّ باسم البعض

فبعض المترجمين أبقاها على أصلها فقال :

(الكوميديا الإلهيّة)

والبعض الآخر دعاها (الأغنية الإلهيّة) وآخرون قالوا (القصّة المقدّسة) وكان (فرجيل) رفيق دنتي ودليله ورائده في مؤلفه هذا . فخاض معه بالروح دركات (الجحيم) وفتّش في شعاب (المطهر) عن حبيبته (بياتريس) ثم في ظلال (النعيم) أو الفردوس . وقد أقرّ بلسان قلمه الفياض أنّ كتابه (الجحيم) كان أصعب ما ألّفه . حتى قال في إحدى مقدّماته القيّمة :

" الجحيم هو الكتاب الوحيد الذي جعلني عدّة أعوام عرضة للهزال والسقام"

وفي هذه الرحلة الخياليّة التي قام بها (دنتي) رأى نفسه في الممالك الإلهيّة الثلاث (جحيم-مطهر- نعيم) وقد خيّل له أنّه في قلب غابة غبياء تسودها الرهبة والظلماء وهي تعجُّ بأشرس الوحوش الضارية فينقذه (فرجيل) من الخطر الذي كان يهدّد حياته الثمينة فيسير به من دركات (الجحيم) السحيقة إلى (المطهر) وهو على زعمه فترة الانتقال من الجحيم إلى النعيم ثم ينتقل به إلى أبواب (الفردوس) حيث تكون (بياتريس) في انتظاره فتمضي به إلى جنان (النعيم) بعد أن يودع صديقه (فرجيل).

ويظهر أنّ الذين حلّلوا (دنتي) اتفقت كلمتهم على أنّه أجاد في قسم الجحيم أكثر من إجادته في قسم (النعيم).

ذلك لأنّ مواقف الرهبة وصور الألم تزيد الشاعر توسعاً في آفاق الخيال وعمق التفكير وحسن التصوير والتأثير .

وقد تصوّر الشاعر في كتابه أن (الجحيم) مخروطيُّ الشكل وأنّ قاعدته قلب الأرض . وذروة الجحيم مركزها الأصلي . ويقول أنّ الغابة المظلمة التي يصفها وصفاً رهيباً إنّما هي سطح الأرض التي تضلُّ فيها خطوات الشاعر .

وقد ذكر أن (الجحيم) تسعة دركات . وكلّ درك أشد عذاباً من الذي فوقه .

إلى أن يصل إلى القاع أي إلى الدرك التاسع الأخير حيث يقيم (لوسيفورس) رئيس الأبالسة وزعيم الشياطين .

دنتي اليغيري (1265-1321) Dante Alihieri

كان في الخامسة والثلاثين من عمره عندما نُفي وصودرت أملاكه ولسان حاله مع الشاعر العربي يقول :

ناءٍ عن الأهل صفرُ الكفّ منفردٌ             كالسيف عُرّي متناهُ عن الخلل

وهناك في منفاه تمخّضت روحه بالأغنية الخالدة .

وقبل أن يبدأ بكتاب (الجحيم) كتب في كتابه (الحياة الجديدة) عبارة لا يزال أدباء إيطاليا يردّدونها وهي قوله :

"أبتهل إلى الله القدير أن يمدّ بأجلي كي أكتب عن ملاكي (بياتريس) ما لم يكتبه أحد في امرأة قبلي ولا يكتب أحد مثلها بعدي .

وكم تكون روحي عندئذ سعيدة إذ تسبح في ملكوته الأعلى لتتزوّد نظرة من الحبيبة بياتريس"

وقد ألّف دنتي عدّة كتب قيّمة منها (الوليمة) و(الامبراطوريّة)

وقد روى أحد ثقات المؤرّخين أن (دنتي) كان من عشّاق شعر (فرجيل) حتى أنّه كان يستظهر الجزء السادس من كتابه الشعري (الأناييد) ويردّد أبياته على مسامع أصدقائه العديدين ورفاقه المخلصين .

وبقي في منفاه عشرين عاما كاملاً يعاني من الآلام ألواناً فدرك أسرار الحياة بما نظمه في كتابه الخالد . وصحّ فيه قول أحد شعراء العصر :

أدركتَ أسرار الوجود وجُزتَها             ترتاد أسرار الوجود الثاني

وما كاد يُكمل مُعجزته (الكوميديا الإلهيّة) حتى قضى في السادسة والخمسين من عمره ودفن في بلدة (رافينا)

وقد كُتب بالإيطاليّة على قبره ما تعريبه :

(هنا يرقد دنتي بعيداً عن وطنه ومسقط رأسه)

من هي بياتريس (1266-1290) Beatrice

هي المرأة التي هام (دنتي) بحبها وهما لم يتجاوزا العاشرة من عمرهما .

أسم والدها (فولكو بورتيناري) من عائلة شريفة من فيرنزه Firenze وهي مسقط رأس الشاعر من أعمال توسكانا (إيطاليا).

ولدت (بياتريس) عام 1266

وماتت في الرابعة والثلاثين من عمرها عام 1290 فتألّم الشاعر دنتي ألماً عميقاً لموتها في ربيع حياتها . وقضى بقيّة أيّامه محافظاً على حبّها في قلبه الشاعر الحساس .

ومن هذا الحب الطاهر وذلك الألم المذيب الصاهر تولّدت في مخيّلة الشاعر أفكار جديدة فريدة عبقريّة مبتكرة حتى قال أحد أدباء إيطاليا المفكّرين : (لولا هذا الحب وذلك الألم لما ظهرت الأغنية الإلهيّة إلى عالم الوجود)

وقد رافقته بياتريس في المرحلة الأخيرة من أغنيته ووصلت معه بالروح إلى دار النعيم !...

هل لدنتي هدف علويّ ؟

لقد شرح الأدباء والشعراء أغنية (دنتي) شروحاً عديدة . ونقلوها إلى لغات شتّى .

واختلفت الآراء والأقلام في معرفة (الهدف) الحقيقي الذي كان يرمي إليه في كتابه الخالد الذي أدهش به العالم بعد نفيه الطويل .

ولكنّهم أجمعوا على أهداف ثلاثة لا رابع لها :

الأوّل – حبّه لحبيبته (بياتريس) وألمه الشديد لموتها وهي في شرخ الصبى ونضارة الشباب .

الثاني – هدف خياليّ أدبيّ لإصلاح الميول الشريرة من قلوب البشر .

الثالث – هدفٌ خياليّ سياسي في عهد كانت فيه إيطاليا ذات أحزاب عديدة .

وأهواء شديدة . أهمّها نزع السلطة الزمنيّة من أيدي الباباوات والأحبار . وتسليم زمامها إلى حاكم مُطْلَق أو إمبراطور جبّار وكان للشاعر ككل بشريّ ميلٌ إلى شخصيّة فذّة وهدف معلوم وكان يعتقد أن إمبراطورا مصلحاً يستطيع أن ينهض بإيطاليا ويعيد إليها مجدها العظيم ورونقها القديم فجعل في وسط (النعيم) عرشاً رفيعاً في أعلاه تاج خالد وهو معدّ للإمبراطور (أريغو السابع دي لوسمبورج) وقد أُعجب العالم الأدبي بهذا الفتح العظيم الذي أحرزه هذا الشاعر العبقريّ الخالد .

جحيم الدكتور داهش بك !....

هذا كتاب جديد يطلع علينا به الدكتور داهش بك وقد تسنّى لي أن أبيّض بقلمي فقراته الحِسان فإذا هي قطعُ حقيقة وإلهام . لا قطع خيال وأوهام . وهنا ما سيدوّنه التاريخ وتردّده ألسنة الأجيال والأيام .

                                   ***

ينقسم جحيم الدكتور داهش إلى ثلاثة أجزاء متساوية الفقرات والسطور

وكلُّ جزء يشتمل على خمسين دركاً مُظلماً من تلك الدركاتِ المُرهبة ، والعوالم السفليّة المُرعبة .

وكلُّ درك يحتوي على أربعة وعشرين سطراً مُسجّعة على أسلوب طريف مبتكر يدركه القارئ اللبيب بعد إطّلاعه على هذه المجموعة وقراءته إيّاها من الدفّة إلى الدفّة .

نظم الجحيم شعراً

ما كدت أنتهي من تبييض الجزء الأوّل من الجحيم حتى سمع به عدد كبير من العلماء الذين زاروا الدكتور داهش بك في عزلته الأدبيّة .

فكانوا يعجبون بما يرون من لمحات الأرواح العلويّة

ويطربون مثلي لما يسمعون عن نفحات الأسرار الإلهيّة

واجتمعنا مراراً بالصديق الحميم والعربيّ العبقري الصميم الشيخ عبد الله العلايلي وقرأنا على مسمعه في عدّة جلسات بعض قطع من هذا الجزء العجيب والأسلوب الغريب فأخذ مثلنا بما سمع فالتهم فقراته التهاما

وشعر أنّ في هذا النثر المُسجّع نظاماً بل الهاماً

فانبرى إلى نظمه شعراً عربيّاً لم ينسج شاعر على منواله

ولا جرى قلمٌ متقدّم على خياله أو متأخّرٌ على مثاله

حتى أنّ الألفاظ كادت تضيق أمامه مع الكلمات

بما وسّع خياله الرحب الخصب في دائرة الدركات

فجاء وصفاً دقيقاً بعيد الأغوار والآفاق سحيق الجنبات

فجاءت أبياته كأنها صور مُتحرّكة تبدو أشباحها ماثلة للعيان

وتجلّت حوادثها المتسلسلة الرهيبة بديعة المعاني عديدة الألوان

فكانت تلك الصور المبتكرة خليقة بمثل هذا الشعر وذلك البيان !

أرجوزة الجحيم

وقبل أن يشرع الأستاذ العلايلي في نظم (الجحيم) حاولت نظم أرجوزة شعريّة في وصف كلّ درك بثمانية أبيات لا غير . وها أنا أدوّن الدرك الأوّل على سبيل المثال .

الدرك المُظلم الأوّل

في الدرك الأوّل قمت أسعى                 كأنّني أنساب مثــــل الأفعى

في عالمٍ فيه الظــلام دامس                   وكــــلّ وجه كالــــح وعابس

وأسمع النحيب مثل الدمدمة                 وأسمع الوجيب مثل الهمهمه

حتى اخترقت طبقــات الأرض                 مُنقّبــاً في طولهـــا والعـــرض

واجتزت في أوديـــة عجيبــــة                 وطفتُ في أشباحهـــا الرهيبه

حيث أرى جمـراً على الرؤوس                يهوي على الخطـــاة بالفؤوس

فيصخـــب الجحيـــم بالضجيج                 والنـــاس بالهــــول وبالعجيـــج

ألقى رصاصاً فوقهم مصهـــوراً                 يبقى على انهمــــاره دهــوراً!!...

رسوم الجحيم

من راجع مؤلّفات الدكتور داهش بك لمس في أكثرها آيات الجمال والإتقان .

وعرف أنّ للمؤلّف رغبة شديدة في تشجيع رجال الفنّ الموهوبين .

فهذه (ضجعة الموت) وما فيها من رسومِ المصوّر (مورللي) وخطوط مشاهير الخطاطين في هذا العصر كالهواويني وحسني والسيد إبراهيم والشهابي وسواهم من أبناء الأقطار العربيّة وهذه (الإلهات الستّ) و(نشيد الأنشاد).

ففيهما ريشة قيصر الجميل وماري حدّاد وخطوط مكارم والعنداري والهواويني وأمثالهم من الفنّانين والفنّانات ، أمّا (عشتروت وأدونيس) فرسومها الثمانون مأخوذة من أشهر اللوحات الفنيّة الموجودة في المتاحف العالميّة .

وهكذا (الجحيم) اليوم فسيشترك فيه فنّ الخيال وفنّ الريشة . وفنّ الطباعة .

ترجمة الجحيم إلى اللغات الأجنبيّة

وما كدت أنتهي من تبييض هذا الجزء حتى رأيت أديبين أريبين قد تطوّعا لترجمته إلى لغتين من أشهر لغات العالم وأكثرها انتشاراً .

فنقله الأستاذ يوسف حجّار من أبناء حلب إلى الإفرنسيّة النقيّة الديباجة .

ونقله الأستاذ يوسف ملك صاحب جريدة أثرا إلى الإنكليزيّة البليغة الراقية (18).

وفي نيتهما ترجمة بقيّة الأجزاء حال طبعها في أصلها العربي .

وقد اطّلع أحد أساتذة الجامعة الأميركيّة على بعض الترجمات الإنكليزية فكتب رسالة إلى صديقه الحميم الدكتور مصطفى خالدي ختمها بقوله :

( ولا يمكنني أن أفكّر بوجود أيّ كان للقيام بعمل كهذا . بل يحتاج إلى من يتقن كلّ الإتقان أصول الشعر المنثور في العربيّة والإنكليزيّة معاً أمثال النابغة اللبناني جبران خليل جبران أو الشاعر الهندي الخالد رابندرانات طاغور أو الأستاذ المشهور أمين الريحاني )

كلمة المترجم

أمّا الأستاذ يوسف ملك فقد أنجز ترجمة (الجحيم) إلى اللغة الإنكليزيّة كما تقدّم وصدّر الكتاب بمقدّمة أنيقة . هذه ترجمتها :

ليس (الجحيم) الكتاب (الأوّل) التي تجرأت فترجمته للدكتور داهش من العربيّة إلى الإنكليزيّة . ولكن ينبغي أن أعترف أنّه كان من أصعب الكتب وأمتعها في الوقت نفسه .

وهذا ما دعاني إلى أن أميل للقيام بهذا العمل الشاق بطيبة خاطر وارتياح تامّ مع أنّ المؤلّف كان بوسعه أن يختار سواي ويودع كتابه إلى أدمغةٍ أنضج وأيادٍ أقوى

وعلى ما وصل إليه علمي حتى اليوم يمكنني القول أنّني لم أجد كاتباً في العربيّة استطاع أن يصف دركات (الجحيم) بهذا الشكل الواسع المُخيف الراهن .

وهذا ما يجب أن يحمل الناس على التفكير العميق قبل خرقهم قوانين الفضيلة .

إنّ الفقرات الواردة في الدرك الثامن والأربعين في وصف (رجال الدين) لمّما يُرعب ويُحزن ، في حين أن أعمالهم – ويا للأسف – تطابق الحقيقة إلى مدى بعيد .

ويظهر أنّ ما قاله السيّد المسيح منذ نحو من ألفيّ سنة قد تأيّد الآن بصورة قطعيّة لا بالنسبة إلى الوصف الدقيق الذي دبّجه قلم الدكتور داهش بل بالنسبة لأعمالهم الخاصّة .

لقد وصلنا إلى الزمن الذي أخذت فيه (المادّة) تسيطر على الأنظمة الاجتماعيّة .

وعلى الفضائل كافّة ، لذلك أصبحت الحاجة ملحّة إلى (عالمٍ روحيٍ إصلاحي) من أجل خير البشر ، إذ أنّه بدونه ستبقى الأحوال الفوضويّة محتلّة المركز الأوّل في حياة الإنسانيّة .

وبينما أنا أدوّن هذه الكلمة علمت أن الترتيبات والتدابير قائمة على قدم وساق لوضع خطّة عامّة لاضطهاد المؤلّف العبقريّ من أشخاص يظنّون أنّهم بتشهيره لأعمالهم يغرز مسماراً جديداً في نعشهم ."

هم يزعمون أنّه (كافر) بينما هو يدّعي (الإلهام)

وإنْ هم اضطهدوه دون أن يستطيعوا إقامة أيّة بيّنة قاطعة ملموسة ضدّه إذن فلا يمكن أن يكون في العالمِ شيء أحطّ من هذا العمل الشائن . إذ أنّ ذلك لا يكون له سوى نتيجة واحدة هي انتشار شهرته وزيادة عدد أتباعه كما نلاحظ ذلك في كلّ يوم .

لذلك ننصح أعداءه وخصومه أن يقابلوه علناً ثمّ يصدروا حكمهم إذا كان هدفهم (خدمة الحقيقة) والسلام .

أجزاء النعيم الثلاثة

لا بدّ لنا قبل كلمة الختام إلاّ أن نأتي هنا على ذكر كتاب (النعيم) وهو وصف الدرجات العلويّة وكواكب الأحياء النورانيّة التي يتمتّع بها الأبرار الأطهار .

فالنعيم كالجحيم ذو ثلاثة أجزاء وكلُّ جزءٍ من أجزاء (النعيم) يشتمل على وصف خمسين كوكباً علويّاً على أسلوب (الجحيم) ونسقه وقطعه السّداسيّة المُسجّعة .

وجميع هذه القطع كنت من شاهدي كتابتها ومراجعي أصولها وفصولها .

فكان المؤلّف يضع أمامه عدّة ورقات بيضاء ولا يلبث أن يكتب الورقة إثر الورقة بخطّ سريع عجيب غامض تعوّدت فك رموزه وحروفه ثمّ لا ألبث أن أختار دفتراً جديداً فأبيّض في كلّ يوم ما يكون قد أنشأه في ذلك اليوم بسرعة لا يتصوّرها فكر بشري فكأنّها مستمدّة من الإلهام لا من أطراف الأقلام .

مدخل كتاب النعيم

وهناك مدخل (للنعيم) كمدخل (الجحيم) سيرد ذكره في كتاب (نزوات قلب ) ويرد مفصلا في الجزء الأوّل من (النعيم) وهذا مثال منه :

جلست محزون الفؤاد موجعــــــاً                    معتمداً رأسي بكفيّ معــــاً

كدوحــــــــــة زاهيـــــة الأزهـــار                    مُثقلــــة الأفنــان بالأثمــــار

وهمتُ في تخيّــــلات شاسعـــه                   وفي فيافي ذكريات واسعـه

وانطلقت روحي إلــى السّمــــاك                  وبلغـــت حتـــــى ذرى الأفــلاك

إذا مـــلاك النـــور قــــــد حيّانـــي                  برقّــــــة رفّ لهــــــــا جنانــــي

وقال : يا ابن الأرض سر دون وجل                  فأرضكم ستنطوي على عجـــل

فسر معــي حيث النجوم النيّـــره                   من قبل أن تهوي الرجوم بالكُرَه(19)

فطرت في الحــــال مع المـــــلاك                   لأجتلي محاسن الأفـــــلاك !!...

أمثلة من درجات النعيم

وهنا نختم كلمتنا بأمثلة ثلاثة من وصف درجات النعيم ثمّ يدخل القارئ بالفكر إلى دركاتِ الجحيم ليرى الفرق بين الثواب والعقاب . والعذوبة والعذاب .

الكوكب العلويّ الأوّل

في الكوكب الأوّل صوتٌ عذب               يقول طوبى للألى تعذّبوا

قد ناضلوا وبشّروا كثيراً                    وسبّحوا المهيمن القديرا

هناك رهطٌ يرتدون حُللاً                     شفّافة والنّور فيها اكتملا

هم ينشدون أطيب الألحان                     وحولهم ملائك الرحمان

وهكذا الأطفال وهي الطاهرة                 تشدو أغاريد هناك ساحره

هنا السماء انشطرت شطرين                 ولمعت في النجم كلّ عين

أرواح طهور في حمى السّعادة               ظمأى إلى الصلاة والعبادة

ومكثت مغمورة بالبشرِ                       سعيدة بالرّوح طول الدّهر

الكوكب العلويّ الثاني

في الكوكب الثاني أرى الأطفال             أزاهراً تكلّل التلالا

لم يغرقوا في لجّة المعاصي                 وفي بحار الإثم للنواصي

أزاهر جميلة البراعم                       ترفّ في النعيم كالحمام

ها هم يخوضون مياه الكوثر               فلا يموتون طوال الأدهر

أرواحهم تسري بها الأفراح                 وتمّحي هنالك الأتراح

والشفق الدامي وهامي الطلّ                 ينسكبان كالحيا المنهلّ

ومن هنا تبتسم الأزهار                     ومن هناك تلمع الأنهار

هنالك الأطفال يمرحونا                     في خلدهم ملائكاً قروناً ....

الكوكب العلويّ الثالث

في الكوكب الثالث حوريّات               بحسنهنّ الغضّ فاتنات

يقلن لي : يا فاتن الغواني                 انظر إلى جمالنا الفتّان

وأدخل إلى فردوسنا الجميل               من بعد هذا السفر الطويل

                               ***

لبيّت حالاً دعوة الحسان                  وسرتُ في حدائق الجنان

وإنّني – من بعد أن لبيّت                 دعوتهنّ مرحاً – بكيت

أحببتُ أن أعيش طول عمري             في قلب فردوس شهيّ سحريّ

                               ***

وهكذا عشنا هناك دهراً                   نعبث ليلاً ثمّ نجني الزهرا

ودّعتهنّ وبقلبي وجد                   لكوكب آخر حيث المجد !..

                                 *

                           إهداء الكتاب

تقرأ في سكون الليل البهيم بصوت هادئ خافت على نور ضوء ضئيل

إلى ربّ الهاوية القاطن في أعماقها السحيقة .

هناك حيث تجد الأهوال دوماً به مُحيقة .

إلى الخائض في محيط لجب من الظلمات المُدلهمّة

حيث تنحلّ الأعصاب وتخور العزيمة ، وتفتر الهمّة

إلى الهائم في عباب أودية الهول والرعب والهلع .

والقاطن مع الطيوف الحائرة ، والأشباح الدائمة القلق والجزع .

هناك في تلك النخاريب التي تبعث الذعر في النفوس الأبديّة الاضطراب .

وحيث تتجوّل الأبالسة المروّعة ، وترتع الشياطين المعوّلة بضجيجها السرمدي .

هناك حيث تزحف مجموعات مخيفة من أرعب الأفاعي الخالدة في جهنّمها .

ومن عقارب الظلام في تلك الأروقة الدهريّة المتدفّقة بالأهوال .

فالغيلان الهائمة تختلط بالتوابع وهم يذرعون تلك الأعماق اللانهائيّة .

بينما يرسلون صيحات مُنكرة تهتزّ منها قلوب الهلكى فتنخلع من هولها .

ويطلقون ولولة هائلة ترجعها تلك الردهات المُخيفة بجبروتٍ جارف .

إلى سيّد الظلمات ... وربّ الآثام ... ومُؤدّب الطغام .

إلى الهازئ بالنعيم ... القاطن في أعماق أعماق الجحيم .

والمُخلّد في أتونه السرمديّ من جيلٍ إلى جيل .

حتى انقضاء الأعمار والأدهار

أرفع (جحيمي) هذا .

                             30 ت1 1944

أنا القويّ الجبّار ، والعنيف البتّار !

فمهما حاولت الأحداث أن تتغلّب عليّ أو تخضعني لجبروتها

فإنّها لن تعود إلاّ بصفقة الخاسر المغبون .

ولن تتمكّن من إماتة ما يجيش في نفسي من نزعات

تبغي الانطلاق من هذه القيود

كلاّ!... أنا لن أتقاعس عن نيل أهدافي وبلوغ

اتجاهاتي التي أطمح إليها

وسأحقّق أمانيّ عاجلاً أم آجلاً

وسأسحق من يقف في طريقي من عقبات كأداء

وسأردّمها ترديماً

وسأهزأ بالإنسان ، وبالطبيعة ، وبالقدر !

وسأبلغ آمالي ، وأحقّق أحلامي !...

وأنف الحياة في الرّغام !....

                                 - المؤلّف-

مقدّمة المؤلّف

هذا (الجحيم ) الذي يطالعك بأرهب أنواع العذاب وأروعها أراه برداً وسلاماً !

بل نعيماً مُقيماً لأولئك المعذّبين !

فلو وكّل الأمر لي ، وفوّض القول الفصل لإرادتي ... لأنزلت بهؤلاء البشر الكفّار أروع العذابات الهائلة التي لو خطر شبحها لهم – حتى في عالم الأحلام – لأصيبوا بالشلل والسّقم . والبكم والصمم ، ولقضوا حياتهم في وجلٍ هائل . وخبلٍ عنيفٍ بتّار .

إنّ البشريّة المُجرمة الأفّاكة لا تترعرع إلاّ في تربة الأفك المرذول ولا تنمو إلاّ على سمادِ البهتان والزور .

ولا يهمّ هؤلاء الرّعناء سوى أتباع ميولهم الوضيعة ورغبات قلوبهم الدنيئة !

تجتمع بأحدهم فإذا به شامخ الأنف مشمخرّ الرأس ، وقد دفع بصدره إلى الأمام كأنّه ديك يصول ويجول على مزبلة قديمة ، فهو يظنُّ بنفسه أنّه الفرد الأوحد الذي لا يشقّ له غبار في أيّ مضمار .

فهو من ناحية الفلسفة فيلسوف عريق ، ومن ناحية الحسب يرجع إلى أنبل الجدود وأرفعها جاهاً ومقاماً وصولة واقتداراً وفي العلوم والمعارف فهو الجهبذ الخطير والعالم النحرير .

وهكذا في كافة المناحي والنواحي .

أمّا حقيقته الصادقة فهو ذئب ضار شنيع ، في ثوبِ حملٍ وديع .

وهو جاهل من أغبى الأغبياء في جسم أرعن دعيّ لم يغرف من بحر المعرفة الغراء إلاّ وشلاً من أقذر المياه الكدراء .

ألا لحي الله هذه البشرية المذنبة الغارقة في محيطات شهواتها الذليلة . لهذا ... وبعد أن اختبرتُ أمور العالم وحلبتُ من الدّهر شطريه وذقت شهده وحنظله .

وبعد أن عاشرت الألوف من أبناء هذه الغبراء

وبلوتُ منها ومنهم أنواع البلاء .

ودرست أخلاقهم ونفسيّاتهم .

وعرفت سوء ضمائرهم ونيّاتهم .

واكتشفت ما يطمحون إليه من شرور طامحة وآثام طافحة ...

انثنيت عنهم وأنا أستمطرهم لعنات خالدات .

وأشحتُ بوجهي عن مرآهم وما عدت لأستطيب لقياهم

وأقسمت أن أذيقهم أشنع العذاب ، عندما تدنو ساعة الحساب .

هذا هو (اعترافي) أدوّنه ليبقى (شاهداً) عليّ في الأجيال القادمة الزاحفة فأنني لا أثق بأيّ بشريّ كائناً من كان !...

هذا ما أكّده لي اختباري الطويل في الكون ومن يدبّ عليه من حشرات أطلق عليها اسم (كائنات عاقلة).

نعم ، لقد ضقت ذرعاً بهؤلاء البشر الملاعين !

فأحببتُ أن ألقيهم في (جحيمي) هذا آخذاً بعضهم برقاب بعض ، علّني أبرّد غليلي . وأشفي أوامي عندما أشاهدهم يتقلبون على جمر الغضا ، والأبالسة يسوطونهم بسياطهم الافعوانيّة !...

حتى إذا ما دنت ساعة الانتقام الحقيقيّة لا الكلاميّة ...

إذ ذاك يرى هؤلاء (الأجلاف) ما سأذيقهم إيّاه من بلاء مرعب بطّاش !...

وسأنكّل بهم تنكيلاً رهيباً ، علّهم بعد ذلك عن كبريائهم وادّعاءاتهم يرعوون ....

وإلى صوابهم ورشدهم يثوبون ، فالألم خير مطهّر للأجساد والأرواح لو يعلمون !...

                               مدخل الجحيم

وعندما انتصف الليل وارتدى الكون حلّته القاتمة المُحيقة

طرق أُذنيّ عويل مُخيف خيّم على بطاح الفانية برهبوت

ودمدمت شفاه غير منظورة : عفوك إلهنا ارحمنا ودعنا نموت

إذ ما عدنا لنستطيع أن نحتمل هذه الآلام العنيفة

وها نحن نقرّ أمامك بأنّ أرواحنا في الدنيا لم تكن عفيفة

لهذا قذفت بنا بعد انطلاقنا إلى هذه الدركات السحيقة !

وبرز أمامي شيطان كثيف الشعر وهو يقذف النار من عينيه

وينفث الدّخان المتواصل من فتحتي أنفه المتري (20)

وهو يسير دافعاً صدره إلى الأمام مُقلّداً ذلك المثري

وعندما بلغ إلى الدركِ المطلوب هاجمَ أحد الهلكى البائسين

وللحال لعلعت صيحات مدويّة خرجت من صدورِ وحناجر اليائسين

فأطبق على المطلوب واقتلع عينيه وصلم أذنيه ثمّ جرّد من اللحم وجنتيه !

دهشت بل ذعرت لهذا المشهد البطَّاش

فقد شاهدت المسكين المُردّم المُحطّم يهرق من مآقيه الدم

والشيطان ما فتئ يمثّل به ثم ينحني عليه بالتقريع وبالذمّ

وشاهدت الأرواح الوجلة الحائرة تندفع طافرة بجنون

بينما تصيح : رحماكم رحماكم أو ليس من قلبٍ عطوف حنون ؟

واستغاثت : أنجدوه أنقذوه ! ولكن المُعذّب كان سهمه قد خابَ وطاش !

                             ***

تقدّمت بوجلٍ وسألت الشيطان الرجيم أن يترك الهالك المسكين وعنه يتحوّل .

واستفسرته ما الداعي لهذا الإرهاب واستلعمته عن السبب ؟

فنظر إليّ بغيظٍ وهو يكاد يلتهمني التهاماً من العجبِ ومن شدّة الغضب

وأجابني : سر في ركابي وتشبّث جيّداً بجلبابي لأريك من الخطاة أدناهم

إذ سأهبط بك إلى دركات الجحيم كي تشاهد كيف يتعذّب من كفروا أو فسقوا في دنياهم

وامتطيتُ عنقه الكريه النجس فاخترق بي طبقات الأرض وإذا بنا في الدرك الأوّل !

                           الدرك المظلم الأوّل

الولوج إلى موطن الظلام الدامس

النحيب العظيم يملأ الأرجاء المظلمة الكئيبة

عجوز دهريّة تولول وتضج فيرجّع الصدى عويلها المخيف

أنا الآن أسعى كالأفعى

في عالم الظلام الدامس

وها إني أمرّ بوجه كئيب عابس

وأسمع النحيب العنيف

وهمهمة الوجيب المخيف

وها عجوز دهريّة (21) تولول وهي تقعى (22)

دهاليز عجيبة ومناظر رهيبة غريبة

أشباح مُزعجة تطوف في أودية الليل البهيم

تنقيبها في مملكة الظلام أجيالاً طويلة

اخترقتُ كافة طبقات الأرض

واجتزت دهاليزها العجيبة

فإذا بمناظرها هائلة وأشباحها رهيبة

تطوّف في أودية الليل الثقيل

وتبقى في تطوافها من جيلٍ إلى جيل

مُنقّبة بصبرٍ غريب في الطول وفي العرض !

صياحٌ دامٍ ودمدمة كدرآء شنعاء !

جمرٌ خالد يسكب دون حساب على رؤوسِ الخطاة !

هولٌ وضجيج يملأن رحاب هذا الدرك المرعب !!

إستقبلني صياحٌ دام وصخب وضجيج

وشاهدت الجمر الخالد يُسكب على الرؤوس

وتهوي عليها الأيدي حاملة الفؤوس

ثم يفغر (23) الجحيم فاه فتختلط الأجسام بالجمرات

فيرتفع النحيب من سكّان هذا المكان وتهمي العبرات

ويضجّ الجحيم بالهولِ والعجيج .

أفاع تخرج من قبور بالية عميقة !

زواحف هائلة تغادر مستنقعاتها !

السماء تمطر الخطاة رصاصاً مصهوراً فيا للأهوال المنقضّة !!..

وتخرج الأفاعي من ظلماتِ القبور

وتزحف الزواحف من مستنقعاتها

لتضيف إلى عذابهم أهوالاً من لسعات حماتها (24)

وتمطرهم السماء رصاصاً مصهوراً (25)

وتبقى على انهمارها (26) أعواماً ودهوراً

فيخلُدُ الخطاة في عذابهم حتى يوم النشور (27)

Developed by Houssam Ballout        Copyright 2019 This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.nfo All Right Reseved This email address is being protected from spambots. You need JavaScript enabled to view it.