أنشودة الشمس
من أقاصيص: زينة حداد
ترجمة: سمير الحداد
وتأتي العبقرية من لدن الله، ويولد من زمن إلى آخر كائنات خارقة على الأرض ممن خصتهم السماء بنعمٍ سماوية تبقى بعض الأحيان مُستترة. ويصبح بعض هذه الكائنات شهيراً بعد الممات، والى ذلك الحين تعيش مجهولة مهمَّشة وفي حالٍ من البؤس كبير، الا أنها تجد العزاء في رعايتها وتنميتها الفنون التي أخذت بها.
كانت شقراء، عيناها سوداوان شبيهتان بعيون المهى تضفيان عليها مسحة من اللطافة والنعومة، إلى فم صغير بنعومته العذبة ووجنتين أخذتا من الورود لونهما" وانتعشنا بعذوبتها ونضارتها، وغطى شعرها الطويل كتفيها وقامتها فغدت أشبه ما تكون بحورية تجسّدت من عالم ٍعلويٍّ سام.
بالرغم من كونها فتيةً وجميلةً، فقد كانت تعيش وحيدة فهي يتيمة فقيرة محبَّة للوحدة. غير أن لها عشقين الشمس والموسيقى اللتين كانتا تستأثران بكامل وقتها.
كانت ماهرة، ساحرة في فن الموسيقى، تحوّل بعبقريتها أي صوت من اصوات الطبيعة مهما كان ضئيلاً غلى نغمٍ جميل، إلى سمفونية، ولست أعلم ماذا غير ذلك. تداعب بأناملها أوتار أية آلة موسيقية، ومن يسمع موسيقاها يخال نفسه في الفردوس يحفّ به نسيم عذب. كان هذا سرَّ الغابة الذي يناديك أحيانًا آناء الليل، صدى مغارة خيالية يدندن بغموض، عدا عن الشلالات الجبلية التي تروي اسفارها، وأجمل من ذلك أحاديث الأشجار مع الطيور وزئير العاصفة وهدير الأعصار.
راحت الفتاة تفسر كل هذه الجمالات وتتحدَّث عنها بسحرٍ أخَّاذٍ لا أحد يجاريها في ذلك، حتى لا نكاد نميّز بينها وبين الطبيعة. هل هي ربّة وحيٍ من سلالة أورفيه؟ عشقها الثاني هو الشمس. الشمس التي تسكب ذهبها على الأرض شلالاً ما هو سوى أعجوبة تجترح كل يوم.
هل كان أبولون، إله الفنون واله الشمس، يزكي هذا العشق؟ أم أن حبَّ الفتاة لهذا النجم الساحر هو حبّ ولد عندها مع الحياة؟ إنهما حقاً سببان وجيهان، كلاهما صحيح، فالشمس هي مسقط راسها.
كانت الفتاة تستلقي على العشب الأخضر أو على تلال الرمل، يُداعب النسيم خصل شعرها المُتناثرة، وهي تمتّع نفسها بمنظر الشمس وهي ذاهبة إلى مغيبها عند الأفق أو بجلالها عند الشروق.
كم كانت ترغب برؤية أبولون وهو يجوب الآفاق بمركبته النورانية! غير أن هذا الإله كان خفيًّا عن الأنظار، غير أنه لم يكن خلال اسفاره ليشيح بأنظاره عنها بل كأله كان يقرأ أفكارها.
كانت تتخيل نفسها سابحة في الفضاء، إلى هذا العالم الساحر تعيش فيه بعيدًا عن شقاء الأرض، مُستبدلة ثوبها الرث القذر بلباسٍ نُسج من خيوط الشمس، وتتخيّل أنها بلغت ذلك الكوكب وتنظم انشودة ظفر تكريمًا له.
كان البؤس والفقر يتأكلان وجود هذه الموسيقية الجميلة، فقد انطفأت الأحلام على هذه الأرض. لكن لا! فذات يوم، اصبح الحلم حقيقة. فقد رثت الشمس لحالها ورقت لهذه الطفلة الجميلة ورأت أن تعود بها إلى موطنها الأصلي.
ألبستها ثوبًا كثوب أميرة، ولغتها بغيمة وردية ووهبتها جناحي ملاك ارتقت بهما شعاعًا من أشعة الشمس المقدسة.
وراحت خطواتها على هذا الشعاع النيّر توقع جملاً موسيقية تحاكي السحر بجمالها، وراح يتكون تحت قدميها الخفيفتين نشيد متوهج. هكذا كان دخولها إلى عالم هذا الكوكب بابتهالٍ احتفالي حار.
وتداعى جميع قاطني هذا العالم المقدَّس لتقديم واجب التكريم والاحترام لاختهم الصغيرة ولمشاركتها نشيدها.
دامت عبقرية هذه الصبية وأعمالها على الأرض زمنًا غير مديد وما برحت حتى أخذها النسيان في طياته. فقد ارتحلت من على الأرض نحو شمس أحلامها، فلا أحد على هذه الأرض كان يستأهل أن يتمتع بسماع ألحانها فقد كانت غاية في الجمال والإبداع ولا قدرة لأهل الأرض على استيعابها إذ أنها تنتمي إلى عالم روحي غيرهذه الأرض الحزينة.
وأضحت الفتاة تنعم في عالمها العلوي بغبطةٍ لا متناهية.