العصفور ال: قوس قزح
أو
عصفور الفردوس
من أقاصيص: زينة حداد
ترجمة: سمير الحداد
أيها الماضي، كم تخفي في طيّاتك من الأسرار! أيها البعيد الصعب المنال أتأخذ بك الغيرة فتحجب في طياتك الاسرار الغابرة.
أروِ لي قصة أيها الماضي، فأنا مُصغية لك بكل رصانة. أستجب لرغبتي، فكم أحبُّ أن أسمع صوتك وأنا مُغمضة العينين!
الماضي الذي لا حد له يخبئ اللانهاية في حناياه، ويحتال كالمارد. أما أنا فلست سوى جزيئة من حبّة غبار، وأخشى ألاّ أكون بادية للعيان. لكن لا، فهذا المارد لا عدّ ولا حصر لعيونه وهو بنظرةٍ من إحداها يستطيع النفاذ إلى أعماق فؤادي، وها صوته الجهوري يصدّع مسامعي.
"أجل، قال لي، أنا قرأت أفكارك وسأرضي رغبتك وحشريتك. أنا أحفظ في خزائني العديد من الألغاز والاسرار التي تعود إلى العالم الآخر. سأروي لك قصّة عصفور الفردوس أو العصفور ال: قوس قزح.
ذات يوم، كان في قبّة الفلك عصفور أسود صغير يهيمُ على غير هدى في الأوقيانوس السماوي. كان وحيدًا، دائم الحزن، فعليه الاستمرار ومُتابعة أسفاره الأبدية لأنه غجريّ الآفاق السحيقة التي لا نهاية لها، كان يرغب أحيانًا أن يريح جناحيه المُتعبين، وبسبب عدم وجود اشجار، أراد أن يريحهما على سطح احدى النجوم. لكن جميع الكواكب كانت تطرده، فلم تكن ترغب اطلاقاً برؤية هذا الطائر القبيح. كان تعبه يتزايد لكنه كان مجبرًا على متابعة سفره طالباً ملجأً في الغيوم التي هي أيضاً كانت ترفض تحقيق رغبته فتكون ملجأ له وملاذًا.
وتمر أعوامٌ وتنصرم أعوام، وقرون تلو قرون، وما على الطائر المسكين غير التحليق والطيران في هذه المتسعات السماوية الشاسعة. ممنوعة عليه الراحة، ودأبة تحمل الصعاب الهائلة، وأخطار النيازك وشهابها الناريّة. ولم تكن البروق والرعود لتراعي وضعه على الإطلاق فتحيد عنه، وكانت ريشاته غالباً طعمة لنيران عناصر السماء.
كان الطائر كعادته في كل يوم يهبّ إلى مسيرته المعتادة وقد بات قريباً من جسيم مُنير هائل. دفعت به الرغبة إلى الاقتراب منه أكثر فأكثر للتمتّع بجمالهن فهو حلية سماوية، وهذا ما فعل كان جناحاه الصغيران يخفقان بقوة من بعيد عندما أبصر كتلة من نارٍ هائلة الكبر تتقدم نحو النجم. إنها نار من نوع فريد فهي لا تشبه بشيء أبدًا سواها من لهب النار العاديّة، بل كانت لهيبًا غريباً يحصد ويلتهم كل شيء على مساره.
أدرك الطائر الصغير الخطر الذي يتهدّد الكوكب الذي أوشك هو أن يصل إليه فانتابه حزنٌ عامر فهذا الكوكب هو موطنه الأصلي. ما العمل والنيران السماوية تقترب أكثر فأكثر وهي تكاد تلتهم النجم؟ يبسط الطائر الصغير جناحيه الصغيرين ليكونا سدًّا يحول دون وصول النيران إلى موطنه.
"أيها الطائر الصغير، قال العصفور لنفسه، الست تدرك كم أنت ضعف وهزيل؟ ماذا تستطيع أن تفعل حيال قوّة وهول هذا اللهيب النّهم؟،
ويجيب الطائر نفسه باحساس هزيل، "لا أدري" وفجأة راح يكبرو يكبر متحولاً إلى درع هائلة الضخامة، حجبت خلفها وجه الكوكب ولم تستطع النيران المتأججة أن تخترق جسم هذا الطائر الذي أصبح سدًّا منيعًا لا يمكن النفاذ من خلاله. لقد أنقذ هذا الطائر كوكبه، موطنه الأصلي من الخطر المحدق به بشجاعته. وتعاظمت بطولته وشجاعته فغدا طائراً هائل الكبر حتى لم تعد تعرف أنه العصفور الصغير نفسه. وراحت جواهر السماء تبشر باصوات الأبواق بعيدٍ كبير. وضفرت السماوات المتعددة الألوان جميعها تاجًا كبيراً وجعلت شلالات الضوء الرائعة تتفجّر وتتدفّق، وحلَّ الطائرُ البطل ضيفًا في هذا العيد.
وأنشدت السماوات بجوقٍ متكامل أناشيد الحبور وقدمت كل منها هدية من بلادها الساحرة لهذا الطائرة شعاعًا بلون كل سماء.
وتلونت ريشات الطائر بتلك الألوان حتى باتت تحاكي قوس قزح منير وبات جناحاه لا حد لهما.
هكذا كانت ولادة طائر الفردوس، وطائرنا الأرضي ليس سوى صورة هزيلة لطائر العالم الآخر. وراحت النجوم تتنافس على استضافة هذا الطائر في جنّات عدنها دون غيرها.
غير أن العصفور البطل اختار الإقامة في موطنه الأصلي حيث ما يزال مُكرّمًا حتى يومنا هذا.
وبهذا وصل الماضي إلى نهاية قصته وعاد ليكمل تحليقه في الفضاء تاركًا إياي وحيدة في هذا الليل.